الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سلمان الفارسي

سيـــــرة

سلمان الفارسي

أمير الزهد والورع والحكمة

إنِ استطعت أن تأكل من التراب فكُل منه
ولا تكنــــنَّ أمــيراً على إثنين

سلمان الورع الزاهد نأى بنفسه عن الفتنة
وآثر حياة الزهد والخلوة في المدائن

أمر أبو الدرداء بالاعتدال في العبادة
فعلق الرسول(ص) بالقول: «صدق سلمان»

المهاجر إلى الله
تعتبر حياة الصحابي الجليل سلمان الفارسي لغزاً يحار المرء في فهم أبعاده وخفاياه، ليس فقط بسبب المسار الطويل والشاق الذي اتخذه في البحث المضني عن الحقيقة وليس أيضاً بسبب الظروف العجيبة التي جمعته بأعظم أنبياء البشر وجعلته من المقربين إليه، بل في حياة الزهد والبساطة التي احتفظ بها وجعلت منه مثلاً حياً على رسالة الإسلام ومدرسة في التواضع والورع نهلت منها الأجيال. وبالنظر لمكانته الرفيعة في العصر الأول للإسلام وحب الرسول له إلى حد إدخاله وهو الفارسي في صلب بيته، قال عنه الرسول (ص): سلمان من أهل البيت ( شهد له الرسول بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة)، وقالت عنه عائشة: كان لسلمان مجلس مع رسول الله (ص) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على الرسول (ص).
وفي حديث عن الرسول(ص): «اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم».

ترك أهله ودياره وهاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي غير مبالٍ بكل ما ناله من أهوال وصعوبات

حياة زهد وورع
عاش سلمان الفارسي بعد إسلامه حياة تقشف وزهد، وحتى عندما كان أميراً على المدائن، كان يعيش فيها حياة ينفق خلالها كل مخصصاته على الناس ويعمل بيديه في حياكة سعف النخيل أو دباغة الجلد من أجل كسب عيشه. بل أن المعروف أن سلمان الفارسي لم يكن له بيت يملكه بل كان يتفيأ ظل الأشجار وأنه رفض مراراً عرض بعض المحيطين به والمحبين أن يبنوا له منزلاً يقيه حر الصيف أو برد الشتاء، وهو سيمضي بقية حياته على هذا النحو البسيط حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
نبدأ بهذه المقدمة للتأكيد على أهمية التعرّف على سلمان الفارسي الرجل والصحابي والمنارة الروحية التي شع نورها في سماء الإسلام والبشرية، بل يمكننا القول إن من أشد أشكال الافتئات على هذا العملاق الروحي أن يحجب التلهي ببعض الروايات وصغائر الخلافات المغزى الكبير لمعراجه الروحي الفريد وحياته المليئة بالعبر والدروس لجميع أهل الأزمان.
ولهذا السبب، فإننا في هذه المقالة سنحاول وبالإستناد إلى المصادر التاريخية والروايات الحسنة الإسناد تقديم صور وأمثلة عن الحياة التي عاشها سلمان الفارسي (ر) وعن سيرته وخصاله، وهذا مع العلم أن حياة الزهد والابتعاد عن الأضواء التي عاشها هي في حد ذاتها أحد أهم الأسباب في الكم القليل من الأخبار والأقوال التي رويت عنه، كما أن الرجل عاش بالفعل حياة الفقراء، حتى أن إيفاده للعمل كأمير على المدائن لم يبدّل إطلاقاً في أسلوب عيشه المتقشف والبسيط.

من هو سلمان الفارسي
تتفق معظم الروايات على أن سلمان هو الاسم الذي أعطاه الرسول (ص) لهذا الصحابي الجليل بعد إسلامه في المدينة، وأن الاسم الذي ولد عليه هو روزبه أما مولده فكان في بلدة يقال لها «جي»، والبعض يقول كازرون في جنوب ما يُعرف اليوم بإيران. وتتفق أكثر الروايات على أن روزبه ولد في أسرة وجيهة إذ كان والده دهقان بلدته، أي شيخ المزارعين فيها، وكان قوياً وذا نفوذ وكان يكن لولده حباً شديداً جعله يهتم بتنشئته وفق التقاليد والمعتقدات التي كانت تدين بها الأسرة ومعظم بلاد فارس. وتشير الروايات إلى أن روزبه فتح عينيه فجأة على دين مختلف بعد مروره بكنيسة واستماعه إلى خطبة الكاهن، فتراءت له على الفور حقائق أسمى جعلته يقرر هجر معتقد الأسرة والتعرّف على النصرانية التي كانت قد انتشرت في عدد من بلدان المشرق العربي وفي جنوب إيران المحاذية لبلاد ما بين النهرين، بل أن هذه الحادثة، تؤكد أن سلمان الفارسي لم يكن مجوسياً، كما أن التطورات اللاحقة في حياته تؤكد أنه لم يتبنَّ النصرانية كدين بقدر ما اطمأن إلى أولئك المرشدين والرهبان الزهاد الذين عمل في خدمتهم طمعاً في الاستزادة من المعرفة والترقي في دروب السلوك والتحقق الروحي، وقد كان عطش سلمان للمعرفة من القوة بحيث لم يكن مبالياً في أي مكان أو صومعة يجلس وأي مرشد أو مسلّك يتبع، وفي جميع الحالات لم تكن مراحل ترقي سلمان الفارسي نتيجة اختيارات منه، إذ أن مساره المتعرج والذي استغرق سنوات طويلة بدا مساراً مرسوماً له بعناية تامة. فكانت كل محطة تقود إلى التالية من دون أن يقوم سلمان بأي مبادرة من عنده وهو ما يظهر قدراً كبيراً من التوكل ومن التسليم التام ليد العناية.
لكن من المؤكد أن اندفاع سلمان في مجرى الأقدار إلى حد هجر دياره ومنزله ووالديه وركوب مخاطر السفر والسياحة في الأرض كان مدفوعاً بقوة أكبر بكثير وبنداء في القلب يجعله يحث السير نحو الجزيرة العربية. كانت تلك القوة ولا شك قوة خفيّة جمعت الرسول العربي وسلمان الفارسي في المدينة المنورة.
كانت معجزة سلمان الفارسي أنه هاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي وليس بسبب دعوته إلى الإسلام من قبل النبي (ص) أو أصحابه من مهاجرين وأنصار. وعلى عكس الصحابة الذين هاجروا مع النبي (ص) أو التحقوا به في ما بعد في المدينة أو حتى الذين أسلموا على يديه من قبائل الجزيرة، فإن سلمان كان فارسياً أي غريباً عن بيئة الجزيرة وعصبياتها وروابطها القبلية وأنسابها، كما أنه كان يعيش في بلاد بعيدة عن مهد الدعوة، ومع ذلك فقد قرر ترك كل شيء خلفه وحث السير نحو ما كان يشعر به في قرارة نفسه أنه حدث عظيم اقترب أو أنه نداء يدعوه. ولم يكن مع سلمان (ر) في رحلته الطويلة من فارس إلى جزيرة العرب سوى زاد الطلب الحار والشوق وفي ما عدا ذلك لم يكن هذا المهاجر الكبير ليبالي بكل ما تعرض له في رحلة البحث القلق عن الحقيقة من مصاعب ومجاهدات وأهوال.
من أعجب المسائل التي رويت عن لقاء سلمان والرسول العربي (ص) الطريقة التي لجأ إليها هذا الغريب المهاجر إلى الله للتأكد من أنه فعلاً يقف وجهاً لوجه أمام النبي الذي كانت الناس في انتظاره لعقود طويلة، وقد ذكرت الروايات أن سلمان كان على دراية بأن النبي الذي هاجر إليه لديه دلائل واضحة على نبوته بما في ذلك خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه (ص). وبالطبع تظهر تلك الحادثة الجدية التامة التي تعامل بها سلمان مع مسألة النبوة، فهو وعلى الرغم من كل ما شهده من خضوع المهاجرين والأنصار للرسول محمد (ص) لم يجد حرجاً في التحقق وبأدب شديد من علامات النبوة وقد أراد سلمان أن يطمئن قلبه لنيله الغاية بعد كل المشاق والمخاطر التي لاقاها فعمد إلى البحث في دلائل النبوة ولم يتردد في اختبار صدقة التمر وتقديم الهدية للرسول العربي.
يجب القول، أخيراً، إن قصة هجرة سلمان من أقاصي فارس إلى الإسلام لا مثيل لها في تاريخ الرسالة ولا حتى في العهود اللاحقة، وهناك الكثير من الرمزية في هجرته الفريدة إلى الإسلام عبر تدرج يشبه تدرج أدوار التوحيد ونمو فكرته وإشراق حقيقته عبر العهود، بل إن حياة سلمان نفسها تتضمن الكثير من الحقائق الجوهرية للتوحيد، أما الذين آذوا المسلمين وتآمروا عليهم مع أحزاب الشرك في مكة وغيرها فقد آذوا سلمان أيضاً استرقاقاً وسوء معاملة، لكن التدبير الرباني قضى أخيراً بأن يسارع النبي (ص) والصحابة الكرام بعد قليل من دخول سلمان في الإسلام للعمل على عتقه بدفع مبلغ كبير من الذهب وتقديم نحو ثلاثمائة نخله للمالك اليهودي. وسيعيش سلمان (ر) بعد ذلك في الدائرة المقربة من الرسول (ص) حتى وفاته ثم يرسل أميراً على المدائن حيث عاش فيها فقيراً زاهداً حتى وفاته.

مكانته وعلمه
احتل سلمان الفارسي (ر) مكانة رفيعة بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولدى الرسول (ص) الذي كان أظهر له حباً خاصاً جعله يضمه إلى الدائرة الأقرب منه، وذلك عندما صرّح في يوم الخندق بقوله الشهير (سلمان منا آل البيت)، وروى أنس عن رسول الله (ص) قوله: «السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة».
ولم تكن المكانة التي احتلها سلمان الفارسي بين الصحابة الأوائل ناجمة عمّا عرف عن قصته العجيبة وخصاله وجهاده وزهده وتواضعه بل ناجمة أيضاً عمّا عرف عنه من حكمة وتفقه واسع في الدين وبصيرة وسداد رأي، وقد جعل ذلك منه مرشداً يُلجأ إليه لجلاء ما بطن من معاني الدين أو لطلب المعونة والنصح من أهل زمانه على اختلافهم، وأحد الأمثلة على المكانة التي كان يحتلها سلمان الفارسي (ر) بين الصحابة الأوائل رضي الله عنهم ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب (ر) عندما جاء سلمان الفارسي (ر) المدينة زائراً ، إذ صنع هذا الخليفة ما لا يعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبداً،إذ جمع أصحابه وقال لهم:
«هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان».!!وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
ومن الأدلة على مكانته الرفيعة تعظيم علي بن أبي طالب (ر) له إذ لقّبه بـلقمان الحكيم، وذلك عندما سئل عنه بعد موته فقال: «ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟ أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف».
ومن الأمثلة الكثيرة التي نقلت إلينا عن علم سلمان الفارسي (ر) وشجاعته في الحق ما وقع بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب (ر) في أحد الأيام، إذ جاء الخليفة عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوباً ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟! فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد الله؟! قال إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر، فقال لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان: الآن نسمع. إننا نجد سلمان الفارسي (ر) وقد اعترض بشجاعة على الخليفة عندما ظن أنه ميز نفسه عن أصحابه بارتدائه حلة من ثوبين بينما قسم لكل من الآخرين ثوباً واحداً. لكن الخليفة أوضح بأن الثوب الآخر يعود لولده عبد الله بن عمر الذي كان حاضراً في المجلس، وعندها رفع سلمان اعتراضه. ولم يكن الهدف من اعتراض سلمان الخليفة عمر نفسه بل كان خشيته الشديدة من أن تؤدي الثروات التي بدأت تتدفق على المسلمين نتيجة للفتوحات إلى انتشار فتنة الدنيا والتهالك عليها بين المسلمين مع ما يتبع ذلك من تسرب الوهن إلى الإيمان وانصراف الناس عن الدين إلى الدنيا واقتتالهم في سبيلها.
لكن كما أن سلمان كان شديد التمسك بمبادئ الفقر والانصراف عن فتنة الدنيا فإنه كان حكيماً في نظرته إلى العبادة وآدابها، كما تشير قصته مع أخيه في الإسلام أبو الدرداء إذ زاره يوماً فرأى زوجته أم الدرداء متبذِّلة (أي تاركة لزينتها ومهملة لنفسها) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة في الدنيا. فجاء سلمان إلى أبي الدرداء فصنع له طعاماً فقال ابو الدرداء لسلمان: كُل أنت فإني صائم. قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل أبو الدرداء. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال له سلمان نَم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له سلمان مجدداً: نَم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قُم الآن، فصليّا، فقال سلمان له: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقّ حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي (ص) وذكر ذلك له، فقال النبي (ص): «صدق سلمان». وتشير هذه الحادثة إلى أن سلمان الفارسي (ر) كان مدركاً لجوهر الدين ولحقيقة الإسلام كدين يسر، كما تشير إلى مكانته وهيبته حتى عند كبار الصحابة إذ نجد أبو الدرداء ينصاع لطلب سلمان منه في إتباع سبيل اليسر والاعتدال في العبادة ، وهو أمر شهد له الرسول (ص) بالقول المختصر البليغ: «صدق سلمان».
وجاء في الحلية أيضاً أن سلمان خاطب حذيفة (ر) بالقول: يا أخا بني عبس، إن العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانِه. وفي الحلية أيضاً أن سلمان صحب رجلاً من بني عبس وكانا يمران بمحاذاة دجلة: فشرب الرجل شربة، فقال له سلمان: عُد فاشرب، قال: قد رويت، قال: أترى شربتك هذه هل نقص النهر بسببها؟ كذلك العلم لا ينقص، فخذ من العلم ما ينفعك.
وفي كلتا الحادثتين نجد بوضوح تركيز سلمان الفارسي (ر)على طريق اليسر ونصحه الناس بأخذ ما يحتاجونه من العلم، أي ما ينفعهم في تصويب سلوكهم وعبادتهم وعدم المبالغة في إنفاق العمر على الانشغال بما لا طائلة تحته، وفي هذا الموقف إيحاء واضح بأن المهم هو تصويب السلوك ومراقبة النفس بهدف الارتقاء بها في دروب القربات وليس الاشتغال بظاهر العبادات في حد ذاتها.
وفي الحلية عن أبي ليلى الكندي قال: أقبل سلمان رضي الله عنه في ثلاثة عشر راكباً – أو اثني عشر راكباً- من أصحاب محمد (ص)، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدم يا أبا عبد الله، قال: إنا (أي الفرس) لا نؤمّكم ولا ننكح نساءكم، إن الله تعالى هدانا بكم. قال فتقدم رجل من القوم فصلى أربع ركعات، فلما سلّم قال سلمان: ما لنا وللمربعة ، إنما يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج، قال عبد الرزاق: يعني بذلك قَـصرَ الصّلاة في السفر. وهذا مثال آخر يوضح نهج سلمان الفارسي (ر) في النظر إلى العبادة بعين الحكمة والتواضع والبعد عن الرياء.
وفي الحلية عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما: أَن هلمَّ إلى الأرض المقدّسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تُقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جُعلت طبيباً (أي قاضياً)، فإن كنت تبرئ (أي تقضي بالحق) فنِعِمّا لك، وإن كنت متطبباً (أي تتعاطى القضاء دون معرفة جيدة) فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار. فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه، نظر إليهما وقال: متطبب والله، ارجعا إليّ أعيدا قصتكما. وتشير هذه القصة إلى حذر سلمان الفارسي (ر) الشديد من تبوؤ المناصب ولا سيما القضاء بسبب ورعه، وقد أخذ أبو الدرداء تحذير سلمان على محمل الجد فبات يتفكر كثيراً ويمحص الأمور قبل أن يقضي بين اثنين.

العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه

لم يكن له بيت فكان يستظل بالفيء حيثما دار وكان يعمل بدرهم ويعيش بدرهم ويتصدق بدرهم

الأمير الزاهد
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عطية بن عمر قوله: رأيت سلمان الفارسي رضي الله عنه أُكره على طعام يأكله فقال: حسبي، حسبي (أي يكفيني) فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. وفي الحلية عن الحسن قال: كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف درهم وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب في الناس بعباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه (أي أنفقه على الناس) ويأكل من سفيف يده. (أي مما تصنعه يداه من نسيج سعف النخل)
وذكر ابن سعد عن مالك بن أنس قوله أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت. فقال له رجل: ألا أبني لك بيتاً تستظل به من الحرّ وتسكن فيه من البرد؟ فقال له سلمان : نعم. فلما أدبر صاح به سلمان وسأله: كيف تبنيه؟ فقال: إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك، فقال سلمان: نعم
أخرج ابن سعد عن النعمان بن حُميد أنه قال: دخلت مع خالي على سلمان رضي الله عنه بالمدائن وهو يعمل الخوص (يحيك سعف النخل) فسمعته يقول: أشتري خوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت. وعنه أيضاً عن أبي عثمان النهدي أن سلمان الفارسي قال: إني لأُحب أن آكل من كدِّ يدي.

مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه
تعكس المواعظ المروية عن سلمان الفارسي (ر) بوضوح تام روح الإسلام الزهدي الأول الذي كان سلمان علماً من أعلامه مع صحابة كبار مثل أبي ذر الغفاري والمقداد. هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ومالهم وراحتهم في سبيل الله ونشر كلمة الحق والدفاع عنها كانوا يحتقرون الدنيا بل ويفرون منها كما تفر الطريدة من الضواري، وكان سلمان (ر) إمام الزهد والورع وكانت كل كلماته ومواعظه مفعمة بالحث على ترك الدنيا وعدم الوقوع في حبائلها.
وقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن سلمان الفارسي كان يقول: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمُسخِط ٌ ربّه أم مُرضيه. وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المَطـلع عند غَمَرات الموت، والوقوف بين يدي ربّ العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: إن الله إذا أراد بعبد شراً أو هَلَكة نزع منه الحياء فلم تره إلا مقيتاً مُمَقّتاً، (أي مبغوضاً). فإذ كان مقيتاً مُمَقّتاً نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظّـاً غليظاً، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة فلم تلقه إلا خائناً مُخوّنـاً، فإذا كان كذلك نزعت منه رِبقة الإسلام (أي عروته) عن عنقه فأصبح لعيناً مُلعّنـاً.

وقوله أيضاً: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي علم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال: لا تقربه، فإن أصبته أهلكك، ولا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما فُضِّل به غيره من العيش، فيمنعه الله إياه ويحجزه عنه حتى يتوفّاه فيُدخِله الجنة.
وعن جرير قال: قال سلمان: يا جرير، تواضع لله عز وجل فإنه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، قال: ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه بين إصبعيه، قال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.
وعن أبي البختري عن سلمان قال: مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد قال المقعد إني أرى تمرة ولا أستطيع أن أقوم إليها فاحملني فحمله فأكل وأطعمه.
وعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال أوصِني، قال: لا تتَكَلَّم، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: إنه ليغشاني مالاً أملكه، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك، قال: زدني، قال لا تلابس الناس، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم، قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأدِّ الأمانة.
وعن أبي عثمان عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء فدعا قالت الملائكة صوت معروف من آدمي ضعيف فيشفعون له، وإذا كان لا يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة صوت منكَر من آدمي ضعيف فلا يشفعون له.
وعن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده فقال له سلمان: إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفّارة لما مضى فيُستعتب فيما بقي، وإن الله عز وجل يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه.

لا تتكلم، وإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، ولا تغضب وإن غضبت فامسك لسانك ويدك، ولا تخالط الناس وإن خالطتهم فاصدق الحديث وأدّ الأمانة

صور من تواضعه(ر)
كان سلمان الخير اذا سئل عن اسمه قال: عبد الله، وعن نسبه قال: ابن الاسلام،عن فخره قال: سلمان منا. عن لباسه قال: التواضع،عن طعامه قال: الجوع، عن شرابه قال: الدموع،عن وسادته قال: السهر، وعن قصده قال: وجه الله عز وجلّ.
في الحلية عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له قُدامة، فقال لي: أحب أن ألقى سلمان الفارسي رضي الله عنه فأسلِّم عليه. فخرجنا إليه فوجدناه في المدائن وهو يومئذٍ على عشرين ألفاً، ووجدناه على سرير يسف الخوص، فسلمنا عليه، قلت: يا أبا عبد الله، هذا ابن أخت لي قدم عليّ من البادية فأحب أن يسلّم عليك. قال: وعليه السلام ورحمة الله. قلت: يزعم أنه يحبك، قال: أحبّه الله.
وأخرج ابن عساكر عن الحارث بن عميرة، قال: قدمت على سلمان رضي الله عنه في المدائن فوجدته في مدبغة يعرك إهاباً (أي جِلداً) بكَفّيه، فلما سلمت عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قلت: والله ما أراك تعرفني، قال: بلى، قد عرِفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجَنّدة فما تعارف منها في الله ائتلف وما كان في غير الله اختلف.
وفي الحلية عن أبي قلابة أن رجلاً دخل على سلمان رضي الله عنه وهو يعجن فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل وكرهنا أن نجمع عليه عملين – أو قال: صنعتين- ثم قال: فلان يقرئك السلام، قال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال فقال سلمان(ر) أما أنك لو لم تؤدِّها كانت أمانة لم تؤدِّها.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن بُريدة رضي الله عنه أن سلمان رضي الله عنه كان يعمل بيديه وإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً – أو سمكاً- ثم يدعو المُجذّمين (أي المصابين بمرض البرص) فيأكلون معه.

بكى عند الوفاة عندما انتبه إلى أنه يفارق الدنيا تاركاً خلفه من حطام الدنيا إناء ومطهرة.

ترغيبه في الصلاة والذكر
أخرج عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إن العبد إذا قام إلى الصلاة وُضِعت خطاياه على رأسه، فلا يفرغ من صلاته حتى تتفرق عنه كما تتفرق عذوق النخلة تساقط يميناً وشمالاً. وعن ابن زنجويهعنه قوله: إذا صلّى العبد اجتمعت خطاياه فوق رأسه، فإذا سجد تحاثِّت كما يتحاثّ ورق الشجر .
وعنده أيضاً عن طارق بن شهاب انه بات عند سلمان ينظر اجتهاده، فقام يصلّي من آخر الليل قال سلمان : حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفّارات لهذه الجراحات ما لم يصب المقتلة، فإذا أمسى الناس كانوا على ثلاث منازل: فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه. فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي حتى أصبح فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه ولا له، ورجل صلّى العشاء ونام فذلك لا له ولا عليه.
وعن حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: ما من مسلم يكون بفيء من الأرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذّن ويقيم إلا أمَّ جنودًا من الملائكة لا يرى طرْفهم أو قال طرفاهم.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: لو بات رجل يعطي البِيض القيان (أي يهب الإماء ويخرج الكثير من ماله ) وبات آخر يتلو كتاب الله عز وجل ويذكر الله تعالى فإن الذي يذكر الله أفضل.
وفي الحلية أن أهل المدائن سمعوا بأن سلمان رضي الله عنه في المسجد فأتوه حتى اجتمع عليه نحو من ألف، فدعاهم سلمان (ر) بالقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا فتح سورة يوسف يقرأها، فجعلوا يتصدعون (أي يتفرقون) ويذهبون حتى بقي في المسجد نحو من مئة فغضب وقال: الزخرف من القول أردتم! ثم قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم!!

كان ينفق ما يخصص له كأمير للمدائن على الناس وأبى أن يعيش إلا من عمله في حياكة سعف النخيل

وفاته رضي الله عنه
تقدم اللحظات الأخيرة من حياة سلمان الفارسي رضي الله عنه صورة بليغة عن زهده وتركه للدنيا وقد روي أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك، قال عهد عهده إلينا رسول الله إذ قال: ليكن بلاغ (أي متاع) أحدكم كزاد الراكب (أي أن سلمان الفارسي جزع عند الموت بأن يفارق الدنيا وحوله أكثر مما ينبغي من أغراضها) قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته سوى وعاء ومطهرة لا يساويان أكثر من عشرين درهماً، ووري جسده الطاهر الثرى في مدينة المدائن.

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading