الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سُمُوُّ الرّوح في تقاسيم سناء البنّا

لا تملُّ الشاعرة سناء من إعلان استحالة العيش بلا شِعر. هو ذا ما تشعر به وأنت تطوي الصّفحة الأخيرة من ديوان سناء الجديد. من يستطيع أن يحيا حياةً لا يحبها؟ من يستطيع أن يعلن الانتصار على ليلٍ أسودَ أسدل كلّ الستائر المُمْكنة؟ من يستطيع أن يعيش بلا جسد؟ وحدها سناء تفعلُ ذلك بامتياز، وكما لم أقرأ لأحد من قبل، أمّا سلاحها فبسيط وهو: الشِّعر. هل رأيتَ جسداً لا يخصّ صاحبه! تلك هي علاقة الشاعرة سناء البنّا بجسدها، علاقةٌ لو طُلِب إلي أن أصفها لقلت إنّها «الرّفقة المُستحيلة». الجسد قناع، لا بدّ لنا به. أكثر من ذلك، لا نريدُه، لا نرغبُ به. كلّما امتطينا عربة الشِّعر واقتربنا منه، فرَّ منّا. لا شيء يستطيع أن يميّز بين الجسد – المقدّس، والجسد – القناع مثل الشِّعر… وهو ما تفعله سناء. هي تُسقط بالشِّعر الجسد – القناع وتلتصق أكثر بالجسد – المقدّس. هي ذي قوة الشِّعر، وتفرُّده. فلنقرأ سناء:

«لم أجدْ غير جسدي يفلتُ من بين ذراعيك هارباً،
حين خلعتُ القناع،
بادرني وجهي بالسؤال:
لمن ترسمين النّهاية المُباغتة؟
يا امرأةَ الفرارِ الطّاعنِ
كم أنتِ خائبة!» (ص 131)

تُظهرُ مجموعة سناء البنّا الجديدة هذه أشياء كثيرة، منها أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، ما يخصّ الشاعرة بالذات، وهو أمر طبيعي، إذ لا يمكن فصل الشاعر عن شعره، حتى إن لم يتقصّد ذلك، وأحياناً لا يريده. وهو مدار هذا الكلام، وسأعود إلى هذه النقطة إلماحاً فقط، إذ المقام مقام احتفاء واحتفال وليس التحليل والتفصيل كما نفعل عادة حين نكتب مطارحاتنا النقديّة. إلّا أنَّ ما أودُّ لفت النّظر إليه، هو أنَّ مجموعة الصديقة سناء الجديدة تُظهر بوضوح قوّة الشعر عند سناء، وقوة حاجتها إليه، بل والدرجة العالية التي يحتلّها وإلى الحد الذي لا يستطيع أيّ نوع أدبي آخر أن يقوم مقامه أو يأخذ وظيفته ودوره في تجربة سناء. أليس ذلك ربّما ما دفع هيجل، أعظم الفلاسفة بعد أفلاطون وأرسطو، إلى القول: إنّ الشّعراء الحقيقييِّن هم أنصاف آلهة. وسأشرح فكرتي.

لا أعتقد أنّ أي نوع أدبي، عدا الرّواية، أصعب الأنواع الأدبية ربّما، كان قادراً أن يحمل بأمانة ودقّة طوفان مشاعر سناء الجيّاشة: أنينها، حنينها، إحساساتها المُعلنة، رغباتها المستحيلة والمكبوتة، انفعالاتها الغاضبة، زفراتُها الحَرّة، ذكرياتها المُرّة، بل ما تحت ذلك من أحاسيس قد لا تجد الكلمات المناسبة المقابلة لها أو القادرة على نقلها أو وصفها.

مرَّة ثانية، هو ذا ما يفعله الشعر، أكان عموديّاً أم حُرّا، فصيحاً أم عامياً، لا فرق. فالشعر الحقيقيُّ شعرٌ أيّاً كان شكله، والشعر غير الحقيقي، المُصطنع والمُفتعل، شعر ركيك، بل لا شعر، وكيفما انتظم عقده – وقد دلَّلتُ على ذلك في كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ما يقرب من أربعين عاماً، حيث أظهرتُ بالتّحليل والدليل أنّ أضعف شعر جبران خليل جبران (مثلاً) هو قصيدته المواكب (رغم غناها بالأفكار المُهمّة، لكنّ الأفكار لا تصنع وحدها الشعر). وبيّنت من ثمّة أنَّ معظم ما خطّه قلمه أو ريشته كان شعراً في الحقيقة وتجاوز بكثير قصيدة «المواكب». وهي أيضاً خصوصيّة جماليته غير المُبتذلة أو السّطحية أو الظاهرة افتعالاً: فبعض قوّة الشعر هي حين يُلمِح لا حين يُفصِح، وحين يدعوك إلى وليمته «السرّية»، لا حين يقدّم لك أطباقاً جاهزة، مُعلّبة، مكرورة، وقد شاهدتها وذقتها ألفَ مرّة. قوّة الشِّعر في عُذريّة صُورِه حين لا شيء يشبهُها، لا صورَ أُخرى تشبهُها، بل حين لا صورةٌ تشبه صورةً أُخرى.

ربما يُفاجأ البعض حين أختم كلمتي الاحتفائية هذه بالقول: إنّ سناء فعلت ذلك كلَّه، وإنّ شعرها كان بالفعل ذلك كلّه، وربما هي نفسُها لم تنتبه لذلك. في شعر سناء، وبمعزل عن الأفكار، وشعرها لا يقع في باب شعر الأفكار، ستجد من الأحاسيس والطقوس والمشاعر والأسرار ما لا يُعبَّر عنه إلّا بالشعر. لحظةُ سناء الشعريّة غنيّة على نحو غير اعتيادي، ومشحونةٌ بكثافة حِسيّة أو «مَلمسيّة» قلَّ نظيرُها، ولنقل بالغة الغنى والتّعقيد. ولا تخدعنّك نبرتها الخافتة. نبرةُ سناء الخافتة هو الإغواءُ كيما تدخل إلى عالمها، ولتكتشفَ من ثمّة مدى ثراء عالمها الدّاخلي وتفرّده.

أكتفي من بين عشرات فقرات هذه المجموعة بأن أقرأ لسناء قطعتَها اللّافتة، رقم 30، ص 27، تكتب سناء:
«وكان أن دعاني إلى وليمة،
كان المذبح مُمَدَّداً
كأنّه المطافْ
آخر الخطايا…
والحطامُ مُغطى على كرسي الاعتراف،
طَوفٌ وطَواف…
وليس لي غير قدمين حافيتين
تتعانقان في نسج خطوات خائفة…
في مخبوء الهيكل مدفنٌ، وعينٌ راصدة، وتُرَّهات….
زاخرةٌ بأدوات الصّلاة الأوّلية،
زيْتٌ وبخور فوق الجمر…
ويدا راهبٍ خفيّ ترسم المكان بأجراس شَبِقَة،….
أسكرني عِطرُ يَديه،
أوهمتني أصابِعُه أنّ الجسدَ رداء،
فخلعتُه…

ومارسنا الصّلاة في الخبايا
كلٌّ على وسادة،
على طقس فوق أوثان العبادة…..
في حضرة الجسد
تتقمّص روح الأنبياء…» (ص 28-29)

إذا كنتُ أفهمُ الأمورَ جيّداً فاللّوحة أعلاه لا ينقصها شيءٌ لتكونَ لوحةً سرياليّة خاصة بسناء…. ولن يجلو سرَّها إلّا سناء. وكذا في تساؤلاتها الكونيّة العميقة، اِقرأ معي في الفقرة 31، ص 30، بعضاً من نصٍّ طويل، تقول:

«حين اعتراني إحساسُ وجودي،
دخلتْ دوائرُ الصّمت من ردهة المعنى
كما زقاقٌ على بوابة كونيّة….
كأنّي امتلكتُ نفسي على يابسة شاسعة…
فهمتُ أنّي لستُ وحدي حليفةَ الفراغ المُمْتلئ وجوهاً
وحكايا وانشطارات…» ص 30

هذه عيّناتٌ فقط رغبتُ أن أُظْهِر من خلالها قوّة شعر سناء وعمقه، والفكرة تغدو جليَّة كلّما تقدّمنا أكثر في مجموعتها… ولن ينفعَ الإلقاء في شعر سناء، فهو شعرٌ جُعِلَ ليُقرأَ مرّتين وثلاثاً لِسَبر غورِه وإخراجِ ما استَتَر في قاعه السّحيق من انفعالات وذكريات وأحاسيس أقرب إلى اللّاوعي منها إلى الوعي. وفي كلّ الأحوال، وَبِثقة أقول، شعرُ سناء هو سناء بجسدها وروحها، بحُلوها ومُرّها، بانكساراتها الكثيرة ونجاحاتها القليلة، باندهاشها وخوفها، بحزنها وفرحها، وإنْ بدا كما قلتُ أقرب إلى لا وعيٍ لا سلطان لها هي نفسها عليه. مبروكٌ جديدُك سناء البنّا، وفي انتظار المزيد.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي