الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

شيخ المكارم الشيخ أبو مؤيّد سلمان عامر

الشيخ أبو مؤيد سلمان عامر ، شيخ قرية المتونة في عصره، رجل نبيل من أسرة معروفيّة كريمة؛ ولد عام 1871، وقد عُرِف بكرمه وتواضُعه ومحبّته للنّاس وترفُّعه عن المظاهر الدّنيويّة الزّائفة كما تميّز بتسامُحِه وِبَذلِه حتّى في سنوات الشِّحِّ والجفاف، ونقص محاصيل الأرض إلى درجة أنْ لقَّبه أهلُ زمانه بـ «السّلطان حسن»(1) و «شيخ الشباب» إذ كان بيته مقصداً للضّيوف والمُحتاجين.

هو شيخ قرية المتونه في فترة أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، (تقع المتونة الأولى على مسافة نحو ثلاثين كيلومتراً شمال مدينة السويداء على الحافة اليسرى لوادي اللوى الذي يصدر من سفوح المرتفعات الشمالية لجبل حوران ويصب في سهلة براق جنوب شرق دمشق التي كانت عبارة عن بحيرة في مطلع الألف الأول للميلاد) ولم تَزل مضافته ومقعدها إلى اليوم تحافظ على ألَقِها القديم، فهي مبنيّة فوق عقد من الرّيش تم بناؤه على أيدي بنّائين مَهَرة جرى استقدامهم من ظهور الشّوير في لبنان ويعود بناؤها لأكثر من مئة عام.

كَرَمٌ في موضع الاختبار!

كان الشَّيخ سلمان يملك مساحات واسعة من الأراضي ونحو ألف رأس من الأغنام والماعز وغيرها، وفي أواخر الرّبيع عندما تكون مواليدها من الخِراف والجِداء قد نَمَت وكبرت فإنّه يبيع نِصف تلك المواليد لتأمين حاجات دارته من موادّ غذائيّة وغيرها، أمّا ذكور تلك المواليد فلا يبيعُها، بل هو يستبقيها كذبائح إلى حين يأتيه الأضياف، وذات مرّة قال له الخَوْلي الموكل بالإشراف على أرزاقه: هل من العدل أن تأخذ لِبَيْتِك النّصف وتبقي النّصف الآخر للضّيوف؟

أجابه الشَّيخ: وماذا أفعل لك إن كنتُ لا أُجيد القسمة!
وبهذا ذاع صيت الشّيخ سلمان عامر بين الحَضَر والبوادي، وفي ذات يوم دخل إلى دارته بدويٌّ مُتواضع المظهر رَثُّ الثّياب، فرحّب به الشّيخ واستقبله في مضافته باحترام جَمّ تميّز به بنو معروف، وأمرَ أحد رجاله أنْ «أَوْلِموا للضّيف»، فقال الرّجل مُستَهيناً بمظهر الضّيف «كمان هذا بَدّو ذَبيحة؟»، أجابه الشّيخ بلهجة قاطعة: «اِذبحوا خَروف ولا تتأخّروا بالزّاد». دخل الشّيخ المضافة وجلس إلى جانب الضّيف يلاطفه ويسأله عن أحواله دون أن يطلب منه التعريف عن اسمه أو عشيرته..

كانت بساطة مظهر الضيف ورثاثة ثيابه قد لفتت انتباه الشيخ، فقال له:
ــ يا ضَيف إن كُنتَ بحاجة إلى حلال (أي المواشي من أغنام وماعز) أعطيناك وإن كنت بحاجة إلى المال ساعدناك، قُلْ ولا تَخْجل.
أجاب الرّجل: «لا يا طويل العمر، إنَّما أنا عابر سبيل أردت أن أرتاح عندكم بعض الوقت».
ولم يمضِ وقت طويل حتّى كان المنسف بالذبيحة المطبوخة أمام الضّيف.
بعد أن تناول الضّيف طعامه قال:
ــ يا شَيخ أنت لم تسألني عَمّن أكون وَتَكَرّمت وتكلّفت.
قال الشّيخ: «يا ضيف؛ نحن ما تعوّدنا نسأل ضيفنا قبل ثلاثة أيام، وأنت شرّفتنا اليوم، فأهلاً وسهلاً بك».
قال البَدوي، «يا شيخ أبو مؤيّد؛ أنا شيخ من قبيلة اِعْنِزِة، لكن جئتك كما تراني، لأختبر سمعتك وكَرَمَك (كانت مثل هذه الأساليب في اختبار كَرَم الرّجال دارجة في مجتمعات القبائل والبوادي في ذلك الزمن) وعِزّ لله إنّك تستأهل لَقَبَك: شيخ الشّباب؛ وارتجل من فطرته يقول:
دارٍ تْجـــود بْزادهـــــا للضّيـف
بعطر الخزامى والهيل مْخَضَّبٍ بابَهْ
شيخٍ كريم ومقعدَهْ بْكَرَم مسقوفْ
في جَـنّة الفــــردوس يلـــقى ثَوابَـــهْ
ثمّ أضاف: يا شيخ سلمان: أنت كريم والله يحب كلّ كريم، ثمّ ودّعه حامداً شاكراً حُسن الضِّيافة.

وبالشيخ سلمان عامر اشتُهِرَت قرية المتونة في بَوادي البِلاد وحواضرِها، فكان إذا حَلَّ رجل من أهلها في مكان ما ويسأله النّاس من أي مكان هو، فيقول من المتونة، فيقولون له: والنّعم؛ بلد الشيخ أبو مؤيّد سلمان عامر! جَلّاب الضّيوف، اَلسّلطان حسن، راعي (أي صاحب) مِسحاب(2) ابن عامر…، وعلى هذا فإنّهم يزيدون من تكريمه لما له من أيادٍ سابقة وسمعة طيّبة لديهم.

المتونة محطّة للقوافل العابرة

في ذلك الزّمان من القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت قوافل الجمال والخيول والدّواب وسيلة النقل للمُتاجرة بين البوادي والأرياف من جهة و دمشق، عاصمة ولاية الشام؛ من جهة أُخرى، ولمّا كانت تلك القرية تقع على خطّ القوافل بين قُرى الجبل إلى الجنوب منها وحتى بادية الأردنّ وبين العاصمة، وبسبب من وجود مَنْهَل ماء كبير فيها هو مطخ القريَة بأبعاده 60متراً بطول 90 وعمق بضعة أمتار فقد كانت تحطُّ فيها القوافل طلباً للماء والرّاحة، وإلى دارة الشّيخ العامري ومضافته كان يُعَرِّجُ الرّجال فيبيتون ويولَمُ لهم بلا مِنّة ولا حساب، وقد ينقطع الطّريق بهم أيّاماً بسبب ثلوج الشّتاء، حتى دُعِيَت مضافة الشّيخ سلمان عامر بـ: مِسْحاب ابن رشيد، وهذا كان أمير نجد قبل أن يقضي على إمارتها آل سعود وتصبح نَجْد جزءاً من المملكة العربيّة السّعوديّة وقد اشتُهر ابن رشيد بِكَرَمه.

مضافة بمثابة نجمة الصُّبح

ذات ليلة من أيّام الشّيخ سلمان عامر وكان قد صعد بُعَيْد منتصف اللّيل إلى مضافته يتفقّد ضيفاً ينام فيها، فوجده قد أطفأ مِصباح الكاز، فأعاد إضاءته ونبّه الضّيف ألّا يطفئ النّور ثانية فالنّور مقصود في اللّيالي لعابري السبيل الذين يطلبون المأوى أو الرّاحة أو الطعام …
وهكذا أنشد أحد شعراء زمنه يقول فيه:
ديـــوانـــك نَجْمِ الصّبحْ
مْشَرَّعْ أبوابهْ للصُّبحْ
كَوكَبْ عالي عا صَرِحْ
مِهْبـاجو ينـادي علينا
وقد لقّبه النَّاس حينها بـ: شَيخ نجمة الصُّبح.

مضافة الشيخ ابو مؤيد في قرية المتونة الملقبة في زمانها بنجمة الصبح قبل نحو مئة عام من زمننا هذا

السّلطان حَسن مَلْفى نازحي مجاعة السّفر برلك عام 1914

في تلك الأيام العصيبة من أيام الحرب العالميّة الأولى لجأ الكثيرون ممن أصابتهم المجاعة في لبنان إلى جبل الدّروز وكانت حِصّة دار الشّيخ سلمان حصّة كبيرة من النّازحين من رجال ونساء نزلوا ضيوفاً في دارته ومقعده، وكان الشّيخ يواسي أضيافه ويُرَحّب بهم ويقدّم لهم واجبات الضّيافة والتكريم كمألوف عادته وبوجه مُشرق يخفف معاناتهم…

ذات يوم كان الشّيخ في مضافته وعنده زُوّار من القرية، وضيوف وافدون من لبنان ترافقهم أُسرهم، وكانوا يشعرون بالضّيق لطول إقامتهم، ولم يلبث أن قَدِمَ ثلاثة رجال من ديار الأردنّ وبعد مضي بعض الوقت جرى تقديم منسف عليه ذبيحة، وكان الشّيخ يرحّب بهم: «تفضّلوا على ما قسم الله» فقال أحد الضّيوف مُتَعَجّباً: «ماشاء الله ياشيخ زادك جاهز غبّ الطّلب!
فأردف أحد الجُلساء في المقعد «من أجل هذا لقّبوه بالسّلطان حسن».

ومن مآثره في تلك الأيام العصيبة أن وصلت جماعة من مهاجري السفر برلك الجوعى القادمين إلى أطراف المتونة وكان الوقت صيفاً، فنزلوا على بيادر القرية وأخذوا يأكلون بِنَهَم من حبوب الجلبان المكومة على أرض البيدر، وغيرها من الحصائد، فرآهم رجل من أهل المتونة ونهاهم عن ذلك لكونها تضرُّ بهم، ومن ثمّ سار بهم إلى دارة الشيخ العامري الذي شكره بدوره، واستقبل القادمين كضيوف مُرَحّب بهم وقدّم لهم الطعام وأكرمهم إلى أن عبرت تلك المرحلة العسيرة من حياة الناس آنذاك.

تواضُع الكريم

ومن تواضعه انّه كان يستقبل الزُّوَّار والأضياف ببشاشته المعهودة في كل يوم وحدث أن قَدِمَ إليه رجل من قرية مجاورة. بعد تناول القهوة أحبّ الرّجل أن يدعو الشّيخ العامري لزيارته في قريته إذ للشيخ أيادٍ سالفة وفضل سابق. قَبِلَ الشّيخ الدّعوة….
في اليوم التالي ذهب الشّيخ ملبِّياً دعوة الزّيارة برفقة أصحاب له، وبالفعل رحّب المُضيف بالشّيخ ومن معه بكلّ حفاوة واحترام، وقدّم لهم ما تيسّر لديه من الزّاد، وبعد الزيارة عادوا الى المتونة شاكرين مُضيفَهم. في طريق العودة قال أحدهم للشّيخ سلمان: «أشوف مُضيفنا لم يَقُم بواجب الضِّيافة بشكل يليق بكم»، فأجابه الشّيخ «مَهْلُكَ يا أخي، هذه قدرته وإمكانيّته، أنا أشعر بأنني مُقَصِّر إن قدّمت لِضَيفي جَزوراً (أي جَمَلاً ذَبيحة)، وعندما أكون ضَيفاً فإنّي أشعر بالرّضا حتى لو قَدَّم لي مُضيفي رأساً من البصل، فالمادّيّات لاتهمّني.

الله لن ينسى أولادي من بعدي!

في سنوات الأربعينيّات من القرن العشرين مرّت سنوات عجاف على قرى وادي اللّوى وهي سلسلة من قرى بني معروف إلى الشّمال من مدينة شهبا، والمتونة واحدة منها، إذ قد شحّت الأمطار وهلك الزرع وجفّ الضّرع، وساءت أحوال النّاس المعيشيّة، وأخذوا يغادرون الدّيار إلى دمشق ولبنان وغيرها طلباً للعمل والرّزق. لكن الشّيخ أبا مؤيد بقي على دَيْدَنِه من الكَرم فقال له أحد أقاربه مرّةً: يا شيخ أَلَا تترك لأولادك شيئاً من بعدك؟

فأجابه قائلاً: أنا أُقَدّم واجبي لضيوف الله، ومن خيرِ الله، أمّا أولادي؛ فإنَّ الله لن ينساهم من بعدي، وكما رَزَقني فهو سيرزقهم بقدر ما يستحقون، وإنّما يثبت الرّجال بمواقفهم في الظّروف الصّعبة…

وممّا يجدر ذكره أنّ عدد من يحملون الإجازات الجامعيّة اليوم من مختلف الاختصاصات العلميّة من أحفاد هذا الرّجل الكريم.يبلغ أربعة وعشرين جامعيّاً من الذكور والإناث في يومنا هذا

وفاته والاحتفاء به

تُوُفِّيَ ذلك الرّجل الكريم عام 1954 عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في حياة نبيلة تميّزت بالكَرَم والتّواضع والسّماحة ورجاحة العقل، وقد قال فيه الشّاعر فَوْزي حمشو واصفاً كرمه يقول:

سلمان أبو مؤيد يا أسخى السّلاطيــــن
بكلّ الوفا والجُود والطِّيب مَطْـراك(3)
بـــدار السّويــدا كُنت عَـوْدِ السَّـــخِييِّن
ويــــا ما جِياع تْجمّعوا دوم بِحماك(4)
دار الكَرَم دارك وصِيتك غــــدا ويـن
تشـهد إلك طيب الفعايــل ما نِنساك
زادك وبَـــذْلَك للمناسف بَقُـوا سْــنيـن
تِعْبوا المناسف وانت مــا كَلّْ يمناك(5)
سُلطان حسن سَمّوك من قبل والحين
والكُلّ يشـــهد لك وزادت عطـــاياك
وفيه قال الشاعر مُؤَبِّناً:
أيا راحلاً هل نلقى بعدك باذِلاً
إذا ما اسْتَبَدَّ القَحْطُ والرُّزْءُ هائلُ(6)
فَمَقْعـدُكَ الميمونُ مـا زالَ شامِخاً
شُموخَ القُليبِ بالمكارم حافلُ(7)
فَيَــدْفَــأُ مَقـــرُوْرٌ وَيَمْتـــَنُّ طارِقٌ
وَيَهْدَأُ مَـكْرُوبٌ وًيَفْرَحُ سـائلُ(8)
فَهَلْ ضَمَّتِ الأكفانُ خَيْراً مِنِ امْرِئٍ
أقـــامَ على ما شـيّدَتْهُ الأوائِل
بِصَبْــرٍ وَإيــْمانٍ وَعَـــزْمٍ وَحِكْمَـــةٍ
وَمَنْ كان هذا دربُه لايُطاوَلُ
فَمـــا عابَــــهُ إلّا ســماحـــةُ كَفِّــــهِ
وَزَيَّنَهُ التَّوحيدُ بالقلبِ ماثِـــلُ
وهـاهم بنوك الصِّيدُ قد سار رَكْبُهُمْ
تَبارَوْا على ما كان قلبُكَ آمِلُ


المراجع

1- السّلطان حسن: هو كبير قادة بني هلال المشهرين في التاريخ وقد اشتُهر بِكَرَمه…
2- بيت من الشَّعر متعدّد الأعمدة وهذا كناية على كرم صاحبه.
3- مَطْراك: ذكرك. ويشبّهونه بالسلطان حسن لكرمه وجوده
4- عَوْد السّخييِّن: أي كبير الكُرماء، والعَود: المهمّ في جماعته وقومه.(مصطلح بدوي).
5- كناية عن كرمه
6- الرّزء: المصاب الجَلل.
7- القليب: تل شاهق مشرف على جبل العرب من جهة الغرب.
8- المقرور: الذي أنهكه البرد. والمكروب: المصاب بهمٍّ كبير.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي