نُشِرَتِ الكثيرُ من المقالات والأبحاث والكُتب عن الرّؤساء الرّوحيِّين للموحّدين (الدّروز)، وعن سائر كبار شيوخهم الدينيِّن، فيها عرض لِسِيَرِهم ومناقبهم ومآثرهم. لكنّها خلَت من الحديث عن شيوخهم الدِّينييِّن قبل الأمير السّيد عبد الله (قدّس الله سرّه)، في المرحلة الواقعة بين القرن الحادي عشر للميلاد، والقرن الخامس عشر. وبناءً على هذا ساد الاعتقاد عند البعض أنّه ما من شيوخ في هذه المرحلة، كما رأى البعض الآخر أنّ وجودهم فيها أمرٌ طبيعيّ لِتَسيير الشؤون الدينيّة، لكنَّ أسماءهم وأعمالهم غابت لعدم تدوينها، أو لِفُقدان المُدوَّنات عنهم جرّاء الحروب بين القوى الإسلاميّة المتصارعة على النّفوذ في المشرق العربي ومصر، والحروب بين هذه القوى والرُّوم البيزنطييِّن، ثم الفرنجة (الصّليبييِّن)، والتَّتار (المغول).
كان لنا شرف المُساهمة في الكتابة عن الرِّئاسة الروحيّة ومُتسلِّميها بمقالات عدّة، وبكتبنا الأربعة التالية: جبل العرب، صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، الصادر سنة 1985، ومشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015، والشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين الدّروز، الصادر سنة 2017، والمجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان الصادر سنة 2018. وكُنّا في كتابنا الثاني، أي مشيخة عقل الموحِّدين، أوّل من تحدّث عن الشيوخ السابقين للأمير السّيد عبد الله، لكن حديثنا كان موجَزًا، لذا نرى التوسُّع فيه بهذا البحث الذي نُمهِّد له بالتكلّم عن الرِّئاسة الروحيّة وألقاب الرئيس الرّوحي، والأمير السّيد عبد الله، وذلك من قَبيل إلقاء المزيد من الأضواء عليه.
الرِّئاسة الروحيّة عند الموحِّدين (الدروز)
الرِّئاسة الروحيّة للموحِّدين (الدروز) هي، كَكُلِّ رئاسة دينيّة لأيّة طائفة، أحد رموز كيانيّتهم وشخصيّتهم المعنوية بين الطوائف الأخرى، واستقلالهم في إدارة شؤونهم المذهبيّة. ولمُتسلِّمها صلاحيّات التّمثيل الديني للموحِّدين إزاء الآخرين، وتسيير الشؤون الدينيّة وفق التعاليم الموضوعة، والإشراف على الأوقاف، وفق الأعراف والشّرع الإسلامي، ثمّ في لبنان وفق الأنظمة والقوانين التي وُضعت لتنظيمها، وتولّي القضاء الذي كان من وجوهه في لبنان الاستمرار في رئاسة المحكمة المذهبيّة العليا إلى حين تنظيم القضاء المذهبي وإنشاء هذه المحكمة وتحديد قضاة مُخَصّصين لها في سنة 1967. ودوره لا يقتصر على الصّعيدَين: الاجتماعي والديني، بل يتعدّاهما إلى الصّعيد الزمني السياسي حيث يشارك في اتِّخاذ القرارات، وتحديد المواقف من الأطروحات التي تهمُّ الطائفة والبلاد، وبات له أيضًا في لبنان دور نهضويّ وتنمويّ ورِعائي لمؤسّسات المُوحّدين ونشاطاتهم من خلال الصلاحيّات التي نصَّ عليها قانون انتخاب شيخ العقل الموضوع في 12 أيار 1962، ثم قانون تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدروز الموضوع في 9 أيار 2006.
والرّؤساء الروحيّون مُعتَبَرون مع سائر كبار رجال الدين «حِرْز الطائفة»، لأنّهم يصونونها بالحكمة وحُسن الرأي والتدبير وإسداء النُّصح وإعطاء البركة للأشخاص والأعمال، فيما القادة الزّمنيّون مُعْتبَرون «سياج الطائفة»، لأنّهم يحمونها بالسيف وبالسياسة، ويدافعون عن الأرض والعِرض والكرامة. وأعمال القيادتين: الدينية والزمنية، مُتكاملة لتحقيق مصالح الموحّدين، والحفاظ على مصيرهم ووجودهم، وتعزيز شأنهم، وإبراز دورهم. وقد رأى كمال جنبلاط أنّ الرِّئاسة الروحيّة ليست زعامة بالمفهوم الزّمني السياسي السّلطوي، بل هي زعامة بالمفهوم التوحيدي الأصيل، وعرّفها بأنّها امتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة، فقال: «أمَّا الزعامة الروحيّة في المعنى المعروف الشائع فإنّها لا تنطبق على المفهوم التوحيدي الدرزي الأصيل، بل إنّ الزّعامة الروحيّة الحقيقيّة هي نقيض الزعامة الوجاهيّة في القصد الزمني العادي المُنطوي على فكرة الرِّئاسة والمؤسَّس على السلطة والجاه. هذه الزّعامة الرّوحية الأصيلة هي اشتقاق معنوي وامتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة أي الرّشادة والحكمة وسُلطة التّوجيه والتقويم لمن تكون له من ذاته ومن تحقّقه وعرفانه مُكنة التوجيه وحقه واستحقاقه»(1).
وبالرّغم من وحدة المُعتقَد لم يكن للموحِّدين (الدروز)، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشّام، رئاسة دينية واحدة، لأنّه ليس لهم نظام ديني إكليريكي، كما عند المسيحيِّين، يُحدِّد المناصب وتسلسلها ومسؤولياتها وصلاحياتها، ولأنّهم لم يعيشوا عبر العصور في كيانيّة سياسيّة أو إداريّة واحدة، ممّا أدى إلى تعدُّد الرئاسات لتعدّد البلدان والمناطق، وبُعد بعضها عن البعض الآخر، وأدّى إلى تعدُّدِها حتى ضمن المنطقة الواحدة، مع بروز شيخ أكبر أحيانًا بفضل نَسَبِه ونفوذِه، أو بفضل تقواه وتديُّنه وامتلاكه لِقَدْر من المعلومات أكثر من إخوانه. يُضاف إلى ما ذُكر من العوامل التي أدّت إلى تعدُّدية الرئاسة عاملُ الغَرَضِيّة أو الحزبيّة كما كان الحال في جبل لبنان، وعامِلَا العشائريّة والمناطقيّة كما كان الحال ولا يزال في جبل العرب في الجمهوريّة السوريّة.
ألقابُ الرِّئيس الروحيّ
أُطلق على الرّئيس الرّوحي للموحّدين (الدروز) لقب «الشيخ» قديمًا، مُقتَرِناً أحياناً بصفة تميّزه. وأُطلق عليه منذ القرن الثامن عشر لقب «شيخ العُقّال» «شيخ العقل»، الذي هو حاليًّا اللّقب الرّسمي المُعتمَد في لبنان، والوارد في القوانين فيما لا يزال لقب الرئيس الرّوحي مُعْتَمَدًا عند الموحِّدين في فلسطين على صعيد رسمي. أما في سوريا، فيعتمد آل الهجري هذا اللّقب.
لَقَب الشّيخ: هو أوّل لقب أُعطي للرّئيس الرّوحي عند الموحِّدين، وأُضيف إليه صفة أو أكثر تُحدِّد مكانته وأهمّيّته، وعُمِّم مؤخَّرًا، فصار يُطلَق على أيّ رجل دين منهم. ولِلَفظة «الشيخ» مدلول تَقَدُّم المرء في العمر وبلوغِه مرحلة ما بعد الكهولة. وهي أيضًا لقب رئاسة زمنيّة على عشيرة أو قبيلة أو قرية، أو حيٍّ، أو منطقة، وكان لقب رؤساء طوائف الحِرَف والصنائع، وحاليًّا لقب الحكَّام والمسؤولين في بعض إمارات ودول الخليج العربي، كما أنّه لقب رئاسة دينية عند المسلمين في قرية أو مدينة أو منطقة أو بلاد، ولقب رؤساء المذاهب الإسلامية والعلماء، والفقهاء والمُفْتِين، ولقب مؤسِّس أو رئيس إحدى الطُّرق الإسلاميّة الصوفيّة، ولقب المسؤول أو الخطيب في أحد الجوامع والمساجد.
وردت لفظة «الشيخ» في أدَبيَّات الموحّدين (الدروز) لقبًا للدُّعاة ولمُساعديهم من قادة الجيوش والأعيان وشيوخ العشائر والمناطق وحتى للأُمراء، مُضافًا إليها عند معظمهم صفة تُميِّز أحدهم عن الآخَر(٢).
وُصِف البارزون من رجال الدين، ومنهم رؤساء روحيّون وشيوخ زمانهم، بما يتّصفون به، وذلك في معرض الحديث عنهم، أو في النقش والكتابة على أضرحتهم، مثل المقرّ الأشرف، والصّدر الأجلّ، والسيّد، والفضيل، والفاضل، والجليل، والطاهر، والورِع الديّان، والزاهد العابد، والورِع التقيّ، وعين الأعيان، وصفوة الأقران، وزين الخلّان، وبهجة العصر والزمان، والعالِم العامِل، والعالِم العلّامة، والعُمدة الفهّامة، وخليفة الأجواد، والدّاعي إلى سبيل الرّشاد، والعَلم المُنير الزّاهر، ورئيس المُدقِّقين، وقدوة المتّقِين، والثِّقة الأمين، والدّيَّان الفطين، ومحلّ الوقار والدين… إلى آخر ما هنالك من الألفاظ والتعابير الحسَنة في الأدبيات الدرزية. أمّا هؤلاء البارزون، فإنَّهم يذكرون أنفسهم بلفظتَيّ الحقير والفقير من قَبيل التواضع.
وأُعطي للأبرز بين شيوخ بلاده أو زمنه لقب شيخ المشايخ، وشيخ العصر، وشيخ البلاد، وشيخ البلدان. وهذه الصفات أعطِيَت لمن تميَّزوا بكثرة التّقوى والتعبُّد والزّهد والتصوّف، أو نبغوا في العلوم الدينية، أو تعدَّت شُهرتهم منطقتَهم. فلقب «شيخ المشايخ»، مثلًا، أُعطي للشيخ بدر الدين حسن العنداريّ المُعاصِر للأمير فخر الدين المَعنِيّ الثاني. ولَقَب «شيخ العصر» أُعطي أوّلًا للأمير السيّد عبد الله(ق) الذي يصحُّ أن يُلقَّب أيضًا بشيخ جميع العصور. وقد وصفه الشيخ صلاح الدين الحلبي بواحد العصر، وذلك عندما جاءه مُسْرعًا بثياب العمل من حلب إلى اعبيه حين علم أنّه مُتكدِّر عليه لقصيدة قالها، فأنشد أمامه قصيدة امتدحه فيها، ومنها البيت التالي:
ولـــي حـــــاجةٌ أرجو من الله تنقضــي | على يدِكَ البيضاءِ يا واحدَ العصر |
لقبا «شيخُ العقال» و» شيخُ العقل»: يعود هذان اللّقبان إلى القرن الثامن عشر. وقد جانَب الموضوعيّة كلُّ مَن أعطاهما لشيوخ ما قبل القرن المذكور، إذ في هذا إسقاط للحاضر على الماضي. وكما هناك خطأ في ذلك، هناك أيضًا خطأ في تفسير البعض للقب «شيخ العقل» اعتمادًا على أحد المعنيَيْن التاليِيَن لِلَفظة «العقل»:
- العقل بمعنى العقل الأدنَى أو العقل البشريّ الذي يقود الإنسان إلى استكشاف العقل الأرفع وإدراك الحقيقة.
- العقل بمعنى عقل الأُمور، أي فهْمها وحلّها وربطها.
والتفسير الحقيقي للقب «شيخ العقل» هو أنّه تصحيف للقب «شيخ العُقَّال»، الذي نشأ بعد نشوء مُصطلح «العاقِل». مؤنّثُه العاقلة، وجمْعُه «العُقّال» الذين هم رجال الدين، أو الأجاويد، أو الأجواد، أو الروحانيون، ويقابله مُصطلح «الجاهِل» وجمْعُه «الجُهَّال» وهم رجال الزّمن أو الجسمانيّون. والعاقل هنا هو مَن عقل الأمور الدينية وفهِمَها وعمل بموجبها، فاهتمَّ بخلاص نفسه، وأقام الصلوات وعالج الأمور بالحكمة، وتحلّى بالصفات الحميدة وأوّلها الصّدق، وراقب ذاته قولًا وعملًا، والتزم الوقار فامتنع عن شرب المسْكِرات والمُنْكَرات، وعن اللّهو، وكلّ ما يُسيء إلى السُّمعة. والجاهل هو من لم ينضمَّ إلى سِلْك الديّن ويفهم الأمور الدينيّة، ومَن يقوم ببعض أو بكلّ ما يَمتنع عنه رجل الدين (العاقل). ولا يُعلم بالضّبط متى نشأ مُصطلَحَا «العاقل»، و»الجاهل»، إلّا أنّ أدبيّات الموحِّدين بدأت تتضمّنهما منذ أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. ولرُبّما كان هذا وليد النّهضة الدينية التي أحدثها الأمير السيد عبد الله(ق)، والتي وصفها تلميذه الشيخ أبو علي مرعي (…- 1494م) بالقول: «كانت البلاد في ذلك الزمان – القرن الخامس عشر الميلادي – لا يُسمع فيها إلّا هذا حَفِظ، وهذا عَلِمَ، وهذا فَهِم، والدّنيا كلُّها مَجاني سعادة، والخير يافعٌ مُقبِل والشرُّ مغلوب مُدبِر»(٣). كما أنّ الشيخ أبا علي مرعي ذكر لفظتَي العاقل والجاهل، كما سنرى.
وردَت عبارة «المشايخ العقّال»، بمعنى رجال الدين، في تاريخ الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني للشيخ أحمد الخالدي الصّفدي المُتوَفَّى سنة 1624، الذي ذكر أنَّ الأميرة نسب التنوخيّة، والدة الأمير فخر الدين، حضَرَت لمقابلة والي دمشق أحمد الحافظ باشا «ومعها من المشايخ العُقّال نحو ثلاثين رجلًا»(٤). وورَد عند المُحبِّي المتوفَّى سنة 1699 أنّ مشايخ الدروز يُدْعَون: «العُقّال»(٥). ولا يُعلم بالضبط متى نشأ لقب «شيخ العقّال» بمعنى الرئيس الرّوحي، إلّا أنّه ورد لأوّل مرة في النصوص، مُصَحّفاً أي شيخ عقل في معرض حديث حيدر الشهابي عن حوادث سنة 1762، حيث ذكر اسم حامله، وهو الشيخ إسماعيل أبو حمزة.
وردت الإشارة إلى أنّ أصل لقب» شيخ العقل» هو «شيخ العُقّال» وذلك بتصحيف لفظة «العقّال» التي غدت « العقل». وقد بدأ مع العُمّال الأتراك حسبما يذكر الضّليع في تاريخ الدروز «عارف النَّكَدي» عن هذين اللّقبين اللّذين عاشا معاً حِقبة من الزمن. فهو يقول في مقالة له عن مشيخة العقل في الصفحة 288 من مجلّة «الضّحى» (السنة 1954) ما يلي: «كان اللّقب الصحيح الذي يُطلق على صاحب هذا المنصب «شيخ العقال» لا «شيخ العقل» غير أنّ الأتراك لِما كانوا لا يَجمعون عقل على عقّال فكان بعض عمّالهم يستعملون «شيخ عقل» وعلى هذا غلب الاستعمال وجرى الناس عليه.
إنّ المؤرِّخ حيدر الشهابي (1760-1834) – وبعد أن ذكر الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، المتوفَّى في حدود سنة 1635، بلقب «شيخ مشايخ الدروز» – ذَكر الشيوخ الدينييِّن في جبل لبنان بلقب «شيخ العقل» بدءًا بالشيخ إسماعيل أبو حمزة المُتوفَّى سنة 1798، فجاءت عنده عبارة «شيخ العقل» عشر مرات، وعبارة «شيخ العقّال» مرّة واحدة(٦). ووردَت عبارة «مشايخ العقل» مرّتين، وعبارة «شيخ العقل» مرّة واحدة عند حنانيّا المنيّر (1756-1823)(٧). كما وردت عبارات «شيخ عقّال الدروز» و «مشايخ عقّال الدروز «عند طنّوس الشّدياق المتوفَّى سنة 1861(٨). ووردت عبارتا «شيخ العقل» و «مشايخ العقل» عند قنصل فرنسا هنري غيز الذي أقام في بيروت ولبنان في الرّبع الأوّل من القرن التاسع عشر(٩). وردت عبارة «شيخ العقل» 6 مرّات في المراسيم المُرسَلة من الولاة العثمانيِّين بدءًا بسنة 1790، ممّا يدلّ على أنها باتت مُتداوَلة على الصّعيد الرّسمي كما على الصعيد الشعبي، كما أنّ تداولها رسميًّا وشعبيًّا ظلّ يجري مترافقًا مع تداول لقب «شيخ العقّال» حتى أوائل القرن العشرين، بدليل أنّ مضبطة انتخاب الشيخ حسين حمادة شيخ عقل، في سنة 1915، تضمَّنَت عبارة «شيخ العقَّال» ثلاث مرّات(١٠). ولم تتضّمن عبارة «شيخ العقل» فيما تضمّنت مضبطة انتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 عبارة «شيخ العقل» مرّتين ولم تتضمّن عبارة «شيخ العقال».
بعد عرض بعض وجوه تداول لقَبَيّ المشيخة، نخلُص إلى القول: إنّ لقب «شيخ العقل» الناتج من التّصحيف ترافق ذكره مع لقب «شيخ العقّال» ثم أخذ يحلُّ مكانه تدريجاً إلى أن أصبح أخيراً الاسم الرّسمي. وفي رأينا أنّه ليس للمؤرّخين أي دور في إيجاد تسمية «شيخ العقل» كما يرى البعض، وإنّما تداولوها فقط كما تداولوا تسمية «شيخ العقّال» أُسوة بسائر الناس. وبناءً على ما ورد يمكن تقسيم زمن الرّئاسة الروحيّة إلى مرحلتين، وذلك تجنُّبًا لسحب لقب «شيخ العقّال» أو «شيخ العقل» على زمن لم يكن مُتداوَلًا فيه، وهاتان المرحلتان هما:
الأولى: مرحلة الشّيوخ، وهي اثنتان أيضًا هما مرحلة شيوخ ما قبل الأمير السيّد(ق) أي شيوخ البلدان، والمرحلة التي تبدأ بالأمير السيّد وتنتهي بسنة 1763، وسِمَتُها كَثرة شيوخ العصر والعلماء.
المرحلة الثانية: مرحلة شيوخ العقّال أو شيوخ العقل التي تبدأ بسنة 1763، ولا تزال مستمرّة حتى اليوم.
الأمير السيِّد عبد الله(ق)
الأمير السيّد عبد الله(ق) (…-1479 م) هو الأمير جمال الدين عبد الله التّنوخي، المُتَحدِّر من الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة المُتعارف عليها باسم الإمارة التنوخيّة، المتَحدِّر بدوره من الأمير تنوخ أحد أحفاد الملوك المناذرة اللَّخميِّين. لم يكن الأمير السيِّد من البيت البحتري الحاكم في زمنه، ولا من الأمراء البحترييِّن الكبار كالأمراء الأربعة الكبار وهم: الأمير جمال الدّين حِجى الثاني، وأخوه الأمير سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين، لكنّه كان أميرًا كبيرًا في المجال الدِّيني، وغدا أشهر من مشاهير الأسرة البحتريّة، ووُصِف بأمير الأمراء النّجباء، وجمال الدين والدنيا، إضافة إلى ست عشرة صفة منها صفة «الإمام»(١١) عند وجوده في الشّام.
لسنا الآن في معرض الحديث عن سيرة الأمير السيّد وتعاليمه ونهجه ومؤلَّفاته وتلاميذه وأعماله وتأثيره، إذ لا موجب لذلك هنا، لأنّ كلّ من كتب عن الرِّئاسة الرُّوحية للموحِّدين (الدروز) تحدَّث عنه وعنها، ولأنّه صدرَت باسمه أبحاث وكتب، منها: «دُرّة التاج وسلَّم المعراج» لتلميذه الشيخ سليمان بن نصر، و «وليٌّ من لبنان» للمؤرِّخ يوسف إبراهيم يزبك، و»سيرة التّنوخي الأمير السيِّد وآداب الشيخ الفاضل» للمؤرِّخ عجاج نويهض، و «الأمير السيّد» للدكتور فؤاد أبو زكي. كما أنّنا تحدّثنا عنه في كتابنا: «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)». لذا سيقتصر حديثنا عنه على النواحي الثلاث التالية:
إنّ الأمير السيِّد عبد الله(ق) هو أشهر الشيوخ أو الرؤساء الرُّوحيِّين عند الموحِّدين (الدروز)، وأشهر أوليائهم وأشهر وأقدم علمائهم الدِّينييِّن. وقد انفرد بلقب «السيِّد» الذي لم يُعْطَ لأيّ رئيس روحيّ غيره، وإنْ كان قد شاع مؤخّرًا وشمل بعض الشيوخ التُّقاة، وأصبح لقبًا دينيًّا يناديهم إخوانهم به في مآتمهم، أو يذكرهم به الناس في أحاديثهم، فيقولون: «سيّدنا الشيخ فلان». إلّا أنّه لم يُكرَّم أحدٌ غيره بعبارة: «قَدَّس الله سرَّه» أو عبارة: «قدّس الله روحه»، وذلك عند ذكره لفظًا أو كتابة. ومن وجوه تكريمه زيارة مقامه في اعبيه والنّذر له للتبرُّك، وإقامة احتفال في مقامه بتاريخ 4/9/1979 بمناسبة مرور خمسمائة سنة على وفاته، وإنشاء معهد باسمه على وَقْفِه الذي وقَفَه في قريته اعبيه، هو «معهد الأمير السيِّد للعلوم التوحيديّة». الذي أصبح بعد التّرخيص له كُلِّيَّة.
وضعَ الأمير السيِّد(ق) الكثير من التّعاليم موضع التطبيق، وأوجد نهجاً خاصًّا أحدَث تحوُّلًا ونهضة دينيّة عند الموحِّدين بعد مرورهم في مرحلة من الانحطاط الديني الذي برز أكثر ما يكون في «بلاد الغرب» في أواخر القرن الرابع عشر والمُنتصف الأوّل للقرن الخامس عشر، ذلك أنّ الأمراء التنوخييِّن انصرفوا إلى الحياة الدنيويّة، وتشبّهوا بالملوك في البذخ والتّرَف واللّهو، والاستعانة بالجنود والخدم حتى آلَ الأمرُ في بداية زمن الأمير السيِّد إلى الوضع الذي وصفه تلميذه الشيخ أبو عليّ مرعي، بما يلي:
«إنّ الأمور كانت انطمسَت وفَسدت، وكاد يَبطُل حلالُها وحرامُها، وأمرُها ونهيُها، وعَمهَت البصائر، وقلّ تفكُّر الناس في أمور دينهم، وفي خلق الخليقة والبعث والنّشور والحساب والعقاب، …وبات لا يُميَّز العاقل من الجاهل، والفاضل من المفضول، وكثُرت الشُّبُهات، واتَّصلَت أشكال بغير أشكالها، ولم يحافَظ في الأمور على حدودها، كما تَعاطَى الناس الرِّبا كأنّه من الحلال»(١٢). وما قاله الشيخ أبو عليّ مرعي يتضمَّن لفظَتَي العاقل والجاهل اللَّتَين وردت الإشارة إليهما عند تفسير لقب «شيخ العقال».
لاقى النّهج الذي أحدثَه الأمير السيّد معارضة ممّن سمّاهم تلميذه الشيخ سليمان بن نصر «الأشرار والغَفَلة المُتَمرِّحين في ميادين وسع المهلة»(١٣)، فاضطُرّ الأمير للرّحيل إلى دمشق حيث عاش فيها 12 سنة عاد بعدها إلى قريته اعبيه تلبية لطلب أهل البلاد، الذين امتثل معظمُهم لأوامره واتّبع تعاليمَه. لكنَّ المعارضة لنهجه ستستمرّ بعد وفاته بدليل قتل أمير الأمراء في «الغرب» مع أربعين رجلًا من رجاله للأمير ناصر الدين محمّد التنوخي الذي تمشَّى على نهجه. وللدّلالة على أهميّة هذا النهج، ودوره المستمرّ في تحديد سلوك رجال الدين نذكر ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل رضي الله عنه الذي بلغ منزلة كبيرة، لِمَا ظهر منه وبان من السلوك الدّقيق والهمّة العالية والآراء السديدة والعزائم الشديدة»(١٤). أمّا ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل المعروفة بآداب الشيخ الفاضل، فهو ما يلي:
«ومن آدابه رَحِمَه الله تعالى مع كتابات الأمير السيِّد قدّس الله روحه أنّه كان واقفًا على جليلها وحقيرها، مُلتزمًا حدودَها، حاضًّا على العمل بها وانتهاج نهجها. وكنا نسمعه يقول: كلّ ما رآه الإخوان من أمور تشابهَت والتبسَت، ودواخل تغيَّرَت سببُه عدم ملازمتهم كتابات السيّد الأمير قدّس الله روحه. وكان يقول: كتابات السيِّد الأمير أمامنا، وهي أوّل ما يحاسبنا الله فيه يوم القيامة، لأنّها واضحة موضّحة، ما تركَتْنا في شُبهة ولا أبقتنا في حَيْرة، وفيها كفايتُنا وما نريد عِلمًا وعملًا»(١٥).
يُعتبر الأمير السيِّد المؤسِّس الفعلي للرّئاسة الروحيّة عند الموحّدين، بمعنى أنّه أوّل من وضع النّهج والقواعد التي تمشَّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده لتسيير الشؤون الدينية. وتُعتَبر مرحلته محطّة رئيسة فاصلة في تاريخها، الأمر الذي جعل الكثير من المؤلِّفين يبدؤون سلسلة الشيوخ به لهذا السبب ولضبابيّة المرحلة السابقة له، وانطباع المرحلة اللّاحقة بطابَعه. وإذا كانت معظم تفاصيل المرحلة اللّاحقة معروفة، فإنّ المرحلة السابقة تقتضي إلقاء الضوء عليها، وتبديد ضبابيّتها.
شيوخُ البلدان
من الطّبيعي أن يكون للموحّدين (الدروز) شيوخ قبل الأمير السيِّد، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشام، يهتمُّون بشؤونهم المذهبيّة، ويشكّلون مرجعيات دينية لهم في فَهم المُعتقد، وممارسة طقوس العبادة، والزواج والموت. وممّا يعزِّز ذلك وجود تفسيرات لنصوص قديمة، تَوارَثها الموحّدون في جميع مناطقهم، أصحابها مجهولون، ومن المُعتَقد أنّها لشيوخ علماء من المنطقي أن يكون لهم موقعهم الديني ومكانتهم المرموقة. وممّا يعزِّز ذلك أيضًا مَن سنذكرهم اعتمادًا على المؤرِّخين: صالح بن يحيى وابن سباط، إضافة إلى وجود الشيخ زهر الدين ريدان زمن الأمير السيِّد، ووجود معارضين بارزين لأُطروحاته.
كان في كلّ منطقة أو «بلاد» شيخ، وفي أكثر الأحيان بضعة شيوخ، هم الأكبر والأعلم بين رجال الدين. والبلاد مُصطَلح جغرافي يُطلق على منطقة ما، كما يُطلق على دولة. وقد وردت لفظتها في النصوص العائدة للعهد المملوكي. وهي، على العموم، مفصولة عن غيرها بحدود طبيعيّة كالنّهر والجبل. والبلدان التي توَطَّنها الموحِّدون (الدروز) هي:
في لبنان
كَسروان التي كانت حدودها الجنوبيَّة تمتدّ إلى نهر الجعماني الذي يشكِّل مع نهر حمَّانا نهر بيروت، والمتن والجرد والغرب والشُّوف وجِزِّين وراشيّا وحاصبيّا ومرجعيون والبقاع الغربي.
في سورية
حلب، وجبل السُّمَّاق الواقع حاليًّا في محافظة إدلب، والذي انحصر وجود الموحِّدين فيه بعد أن كانوا موجودين في جهات حلب وأنطاكية، يُضاف إليهما دمشق، والغوطة، والجَولان الذي يشمل إقليم البلّان ووادي العجم. أمَّا جبل حوران، فوجود الموحّدين فيه حديث يعود إلى سنة 1685 م.
في فلسطين
صفد، وكانت مملكة تشتمل على شمال فلسطين وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني، حسبما حدَّدَها المؤرِّخ العُمري(١٦). وهي تضمُّ فيما تضمّ النواحي التالية المأهولة بالموحّدين (الدروز) اليوم: ساحل عكّا والشّاغور والجليل والكرمل.
إنّ شيوخ البلدان أو المناطق المذكورة مجهولون في مرحلة ما قبل الأمير السيِّد، لأنّه ما من كاتب تحدّث عنهم، وما مِن نَصٍّ قديم أشار إليهم، باستثناء ما جاء في تاريخَي صالح بن يحيى وآخر هو ابن سباط اللَّذَين يمكن الاستدلال على بعض شيوخ «بلاد الغرب» من خلال ما ورد فيهما، ومن خلال الاستنتاجات. فلولا هذَين المؤرِّخَين، وخصوصًا صالح بن يحيى، لضاع معظم تاريخ الإمارة البحتريَّة التنوخيَّة، وضاع بالتالي معظم المعلومات عن أعلامها الزمنيِّين والدينيّين.
بلاد الغرب
الغرب، في اللّغة، مكان غروب الشمس والجهة المعاكسة للجهة التي تشرق منها (الشرق). وبلاد الغرب تسمية أطلقتها القبائل العربيَّة، التي توطَّنَت جبل لبنان بعد الفتح العربي، على المنطقة المُطِلَّة على ثغر بيروت وساحلها الجنوبي، لأنّ هذه القبائل اتّجهت إليها غربًا، ولأنّها واقعة إلى الغرب من منطقتَين أُخرَيَين نزلت فيهما، هما الجُرد والمَتن. تمتدّ «بلاد الغرب» من نهر بيروت شمالًا، إلى نهر الدّامور جنوبًا، ومن منطقة «الجُرد» شرقًا إلى الساحل غربًا، وقد أسّس المناذرة اللخميُّون الذين توطَّنوها إمارة دُعِيت «إمارة الغرب»، ودُعِي أميرها منذ سنة 866 م «أمير الغرب» بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وبحسب ما جاء بعد ثلاثة قرون ونيّف من هذه السنة في تاريخ صالح بن يحيى. بدأَت هذه الإمارات بالإمارة الأرسلانيّة، وانتهت بالإمارة البحترية التنوخية التي استمرّت بضعة قرون، لكنّها ضعُفت في نهاية عهد المماليك، وبداية عهد الأتراك العثمانيين، ممّا أدّى مع أسباب أخرى لانتقال النفوذ إلى الأمراء المَعنيِّين الذين أسَّسُوا إمارتهم في الشّوف الواقع إلى جنوب منطقة «الغرب».
وممّا يجدر ذِكره هو أنّ بعض أمراء «الغرب» أُقطِعوا قرى في المناطق أو البلدان التالية المأهولة بالموحّدين: الجُرد والشُّوف ووادي التَّيم وصفد. وكانت قواعدهم الكبرى في عهد الإمارة البحتريّة: عرَمون واعبيه.
شيوخ بلقب الأمير في “بلاد الغرب”
من الشيوخ الأمراء الأوائل في «بلاد الغرب» الشيوخ الذين وردَت أسماؤهم في أدبيّات الموحّدين (الدروز) عن القرن الحادي عشر الميلادي، ومنهم الأمير أبو إسحق إبراهيم جدّ والد الأمير بحتر الذي يتحدَّر منه الأمير السيِّد عبد الله.
يُعتَبر الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة وذلك منذ أن تَسلَّم منشورًا في عهد الأتابكة بإقطاعه في «بلاد الغرب» بتاريخ محرّم 542هـ (أيار 1147م). وتَوالى بعده الأمراء من ذرّيّته إقطاع هذه البلاد لبضعة قرون، وحافظوا في منطقتهم الجبليّة الحصينة على إمارتهم وعلى وجود الموحِّدين فيها، وتميّزوا بالتقيُّد بتعاليم معتقد التوحيد، ومنها الاكتفاء بزوجة واحدة. وممّا يُؤْثَر عنهم «عدم الزواج إلّا من أقاربهم وبنات ألزامهم ذوي الأصول»، واهتمامهم ببناء المساجد ورعايتهم للموحّدين وخصوصًا للأجواد أو الأجاويد منهم، وانصراف بعضهم إلى الزّهد والتعبُّد والتقوى وحِفظ الكتاب العزيز.
ذَكر صالح بن يحيى ونَقل عنه ابن سباط سِيَر سبعة أمراء تنوخييِّن يصحُّ تلقيبهم أيضًا بالشيوخ، هم الأمير جمال الدين حِجى الثاني وابنه الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير عماد الدين موسى، والأمير صلاح الدين يوسف، والأمير سيف الدين غلَّاب الرمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين الثاني. وسنتكلّم عنهم بالتفصيل.
الأمير جمال الدين حِجى الثاني
وُلد الأمير جمال الدين حِجى الثاني المعروف بجمال الدين الكبير في 24 جمادى الآخر 633هـ (آذار 1236م)، وتوفِّي في 12 شوّال 697هـ (تمّوز 1298م). وهو ابن الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر. أقام في طردلا الواقعة إلى الشمال الغربي من قرية اعبيه قبل انتقاله إلى هذه القرية. كان أمير «الغرب» وأُقطِع بعض قرى الجرد. وبلغ إقطاعه من الملِك الناصر صلاح الدين يوسف (سلطان دمشق) 12 قرية، ومن السلطان الظاهر بيبرس 20 قرية. حافظ على إمارة «الغرب» بتأييده للقائد المغولي كتبُغا، حاكم دمشق من قِبَل الفاتح المغولي هولاكو، فيما أيّد ابنُ عمّه الأمير زين الدين صالح المماليكَ، تداوَل أربع دول لحكم بلاد الشّام في سنة واحدة، هي الدولة الأيُّوبيّة بقيادة الملك الناصر يوسف، ودولة المماليك البحريّة بقيادة السلطان قُطز، ودولة المماليك البحرية بقيادة السلطان الظاهر بيبرس، ودولة التّتار (المغول). سجنه السلطان بيبرس في مصر بين سبع وتسع سنوات، وأُفرج عنه في عهد ابنه السلطان السعيد بركة في سنة 677هـ (1278م).
إنّ ما ورد ذِكره عن الأمير جمال الدين حِجى الثاني يفيد أنه كان رجل زمن، وأميرًا على قومه، وقائدًا مَيْدانيًّا. وما سيرِدُ ذِكره يُظهر أنّه رجل دين بارز أيضًا، إذ قال عنه صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجل دين خَيِّر لم يوجد في زمانه مثله وكانوا يُعدُّونه من الأولياء الكبار. لزم القناعة والزّهد في آخر عمره. ولمّا استرجعوا (أقاربه) الإقطاعات والأملاك قَنِع منها بعد الكثير بالقليل وهي عين درافيل ومزرعة شمشوم ومزرعة مرتغون وإشكارة قرطبا، عطيَّة من أقاربه بخطوطهم من غير منشور وذلك في سنة أربعة وتسعين وستماية»(١٧). وهذا التاريخ يوافق سنة 1294 م، ويسبق تاريخ وفاته بثلاث سنوات ونيِّف. أمّا تاريخ استرجاع أقاربه لإقطاعهم، فكان بعد انضمامهم إلى جُند الحلَقة في عهد الملك الأشرف خليل. وشأن الأمير جمال الدين حِجى في الجمع بين الزّعامة الزمنيّة والرِّئاسة الدينية هو، مثلًا، كشأن الشيخ عليّ جنبلاط (1690-1778) الذي كان أكبر الشيوخ الزمنيِّين في جبل لبنان، وصار من شيوخ العقل بعد انضمامه إلى سلك رجال الدين.
هناك دليل آخر يُثبت صلاح الأمير جمال الدين حِجى الثاني وتديُّنه، وهو طرده لابنه نجم الدين محمّد من اعبيه لأنّه كان عاقًّا له ولا يرضيه سلوكه. وقد اتّفق مع أقاربه على سجنه في بيروت. وحين أطلعه هؤلاء على نيّتهم الفتك به بعد الإفراج عنه، قال: «أنا لا أُطالب بدمه لأحد من خلق الله، ولكن لا يسعني عند الله أن آمُر بقتله»(١٨).
الأمير شُجاع الدّين عبد الرّحمن
الأمير شجاع الدين عبد الرحمن هو ابن الأمير جمال الدين حِجى الكبير. تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو في 4 جماد أول 749هـ (1348م). لم يرِث إمارة «الغرب» بعد أبيه لأنّها انتقلت إلى الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر الذي قطن عرمون. قال عنه صالح بن يحيى، ونَقل عنه ابن سباط، ما يلي:
«كان راغب فيما عند الله زاهد فيما عند الناس. أوفا بالخلافة لأبيه وسلك طريقته في المسالك الحميدة والزّهد والقناعة والعبادة. وكان عنده رياضة النّفس ووطأة الخلق. كان بين الصغار كأحدهم وبين الكبار أكبرهم. فاق أهل زمانه بالعلم والعقل والحلم والآداب. وقد ذكره محمّد الغزّي – شاعر الأمراء البحتريِّين – بأنّه واسطة عقدهم، ومحكّ نقدهم، وبركة عشيرتهم، ورأس مشورتهم، قُطب فلك المعارف، قدوة كل مُحقِّق وعارف». وقال فيه شعرًا وصفه فيه من جملة ما وصفه بالإمام:
شجــــــاع الديــــــــن خيرُ بنـــــي أبيــــــه
تعَبَّـــد خَشْـيـــــة الرّحــمـــــــن طوبــــــى
إمـــــــــــــامٌ زاد في دنيــــــــــــــاهُ زُهــــــدًا
لِحُرٍّ قــــد أتــــــى الرّحــمـــــــــنَ عبْــــدًا
كان الأمير شجاع الدين يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز سَرْدًا على ظهر خاطره، وكان يتلوه في نهار واحد، وله قصائد عديدة أكثرها في الزهد والورع والاعتقادات الجيّدة ومحبّة الإخوان والأصدقاء.
وفيما كان الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، الذي سنتحدّث عنه مشهورًا بقوّة النفس والحِدّة والغلظة في الحق مع سيادة ورئاسة، كان الأمير شجاع الدين مشهورًا بالتواضع ولين الجانب وكَثرة الحلم والكرم. وحين جرى عِتاب على أمر كان بينهما قال له علم الدين: ما أحوجَك إلى حرارة في العقل، فأجابه شجاع الدين: أنت أحوج منّي إلى برودة في الحلم.
وبناءً على اتِّصاف الأمير شجاع الدين بما ذُكر، وتديُّنه وتقواهُ، وتلقيبه بالإمام، وتمشِّيه على خُطى والده المُعتبر من الأولياء الكبار، كان له المركز الأوّل عند «أمير الغرب» ناصر الدين الحُسين، إذ كان يُجلسه عن يمينه لأنّه أبرز الأمراء بعده(١٩)، مع الإشارة إلى أنّه لم يُقطع قرى، ولم يكن رجل دنيا، كالأمير علم الدين سليمان الرمطوني الذي كان الأمير ناصر الدين الحسين يُجلسه عن يساره.
الأمير علم الدّين سُليمان الرّمطوني
الأمير علم الدين سليمان هو أصلًا من آل عبد الله، أبناء عمّ التنوخييِّن، لكنَّ صالح بن يحيى ألحقه وألحقَ ذرِّيته بالتنوخيِّين، بناءً على المصاهرة المُتبادلة بين الأسرتَين. وُلد في 19 محرّم 673هـ (تموز 1274م) وتوفِّي في 7 رجب 746هـ (تشرين الأول 1345م)، عُرف بـ «الرمطوني» لإقامته في رمطون التي هي اليوم قرية دارسة واقعة إلى الجنوب من كفَرْمتّى، وعُرف بعَلم الدين الكبير لأنّه أشهر وأبرز أمراء آل علم الدين الذين نُسبوا إليه، والذين عُرفوا لاحقًا بآل علم الدين اليمنييِّن، لترؤُّسهم الغرضيَّة اليمنيّة. قال عنه صالح بن يحيى في تاريخه:
«هو رجل جليل القدر، عظّمه الناس ونظروه بعين الوقار، وكان مشهورًا بقوّة النفس والحدّة بالحقّ والغلاظة على الباطل. وكان ناصر الدين الحسين – أمير الغرب – مَعنِيّ به غاية العناية، إذا قعد في مجلس يجتمع فيه الناس لم يقدّم أحدًا على شجاع الدين عبد الرحمن ابن عمه وعلى علم الدين المذكور فكان يُقْعد شجاع الدين عن يمينه ويُقعد علم الدين عن شماله وأقاربه تحتهم كلٌّ منهم في منزلته».
وتقديم صالح بن يحيى كلامه عن شجاع الدين على كلامه عن علم الدين في الوقت الذي يتكلّم عن علم الدين، وتقديم الأمير ناصر الدين الحسين له على قريبه بالمصاهرة (علم الدين) دليلان على تقدّم مركزه على مركز علم الدين. وجاء عند صالح بن يحيى أيضًا أنّه كان للأمير علم الدين شِعر رقيق يدلُّ على الزُّهد والتعبُّد، ذَكر منه خمس قصائد اختار منها أربعين بيتًا، نقتطف منها ما يدلُّ على تديُّنه:
يــــــــــــــــــا ســـــــــــــــــيِّدي وإلـــهـــــــــــــي
يــــــــــــــــــا مَــــن إلــيـــــــــــه مَصـيـــــــري
اِرحــــــــــمْ لضَـعــفِـــــــــيَ وَأرْثِــــــــــــــــــي
أنـــــــتَ العــلــيـــــــــــــــــمُ بحـــــــــالـــــــــي
ومَــــــــــــن عليــــــــــــــه اتِّكــــــــــالــــــــــــي
لِـــــــــــذلّـتــــــــي وانـــتـــحـــــــــالــــــــــــــــي
* * *
قنعتُ مـــــن ربِّــــــي بحُســـــن العمــــــل
إنْ قَلّــــــت الدنيـــــــــا وقــــــــلَّ العنـــــــــا
يــــــــــا معشـــــــر النّـــــــــاس فلا تَغفلوا
واستـيـقــظـــوا قبــــــل حلول القضـــــــا
واستدركوا فـــــــارطَ مـــــــــا قد مضى
تســــــــابَقوا للطــــــاعــــــات قبل الجَزا
من قبــــــــل يوم كــــــمِ امرِئ منــــكــــــم
هـــــــــــذا هو الـقــصـــــــد وكلُّ الأمــــل
فـالأصـــــل عند الله خيــرُ الـعــمــــــــل
فـــــــالـمـوتُ والعَرضُ يجيـــــكــم عجَل
واستعملوا الخوف وكــثــــــــر الوجَــــــل
مـــــن ســــــــــوء نيّــــــــــــاتٍ وكثر الخَلل
واستعملوا الخيرات قبــــل الخـــجـــــل
يعــــضُّ كفَّيه علــــــــــى مـــــــــــا فعل(20)
إنّ في صفات الأمير علم الدين، وفي مناجاته لله وشعره الزّهدي والحِكَمي، ونُصحه للناس بالقيام بخير العمل، وبطاعة الله، واستدراك ما قصّروا به قبل حلول الأجل، وقبل أن يأتي يوم الحساب: إنّ في هذه الأمور دلائل على تديُّنه وتَقْوَاه واطّلاعه على الحقائق واكتسابه قدرًا من الثّقافة الدينيّة يجعله في موقع النَّاهي والنّاصح، وهذه منزلة دينيّة إضافة إلى منزلته الزمنيَّة الناتجة من دخوله جُند الحلقة في عهد المماليك وإقطاعهم له بضعة قرى. ومن الدلائل على منزلته الدينيّة هو أنّه حين كان يعطس في رمطون كان الشيخ العَلم، المقيم في كفرفاقود المواجهة لرمطون، يقف له تعظيمًا لقدره وإجلالًا له.
الأمير عماد الدين موسى
الأمير عماد الدين موسى هو ابن الأمير بدر الدين يوسف بن زين الدين صالح بن عليّ بن بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو 24 جماد الأول 768هـ (كانون الثاني 1367 م). جاء عنه في تاريخَي صالح بن يحيى وابن سباط ما يلي: «كان رجلًا ديِّنًا خَيِّرًا محمود السيرة مشهورًا بالجَودة والدِّيانة»(٢١).
الأمير صلاح الدين يوسف
الأمير صلاح الدين يوسف هو ابن الأمير سعد الدين خضر المعروف بسعد الدين الكبير، المُتَحدِّر من الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى الأوّل بن الأمير بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته هو الثامن من شهر شوال 696هـ (تموز 1297 م) وتاريخ وفاته مجهول. إنّه جَدّ والد الأمير السيِّد عبد الله(ق). جاء عنه في تاريخ صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجلًا دَيِّنًا خَيِّرًا ذا عقل وافر نافذ الكلمة مُبَجّلًا مُوقَّرًا عند أقاربه وعند الناس، رَيِّض النّفس، حسن الخلقة والأخلاق، وكانوا أقاربه من بعد أخيه ناصر الدين (الكبير) مُقتدين به سامعين لأمره»(٢٢).
الأمير سيف الدين غلَّاب
الأمير سيف الدين غلّاب هو ابن الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني الذي ورد الحديث عنه. تاريخ ولادته هو 5 ربيع الآخر 701هـ (تشرين الثاني 1301 م) وتاريخ وفاته مجهول. جاء عنه أنّه «كان جيِّدًا خَيِّرًا ذا عقل ودين محبّ لأهل الخير»(٢٣).
الأمير ناصر الدين الحُسين الثاني
الأمير ناصر الدين الحسين الثاني هو ابن الأمير تقيّ الدين إبراهيم بن الأمير ناصر الدين الحسين الكبير. تاريخ ولادته مجهول، وتاريخ وفاته هو 15 جمادى الآخر 801هـ (شباط 1399م). جاء عنه أنّه «كان من أهل الخير والدين والثقة، كثير الدرس للعلوم، صادق اللهجة، مقبول القول، متمسّكًا بالكتاب والسُّنّة، وَدُودًا لأصحابه، كثير الشّفقة والحُنُوِّ عليهم، مُحبًّا لأهل الخير يُؤْثِر مجالستهم ومحادثتهم»(٢٤).
شيوخ من أصل أمراء في بلاد الغرب
توَطَّن الأمراء المناذرة اللّخميُّون عند قدومهم إلى لبنان «بلاد الغرب»، وأسَّسوا فيها إمارة توَلّاها أوّلًا الأرسلانيون، وتلاهُم أمير واحد من بني فوارس، فأمير واحد من آل عبد الله، بحسب ما جاء في السجلّ الأرسلاني(25). وبعده تَسلَّمها الأمراء البحتريُّون التنوخيّون ابتداءً من أواسط القرن الثاني عشر الميلادي. وفيما احتفظ معظم أفراد هذه الأُسَر، مع الأيّام، بلقب أمير، أو بلقب مُقدَّم، أخذ بعضهم ممّن دخل في سلك رجال الدين لقب «الشيخ»، كما أخذ آخرون لقب «القاضي» لتسلُّمهم شؤون نيابة القضاء في عهد الإمارة التنوخيّة، فكان منهم القضاة الأوائل وأشهر قدمائهم الأمير عماد الدين حسن الذي بنى جسرًا على نهر الصّفا عُرف باسمه (جسر القاضي).
أعاد أمين آل ناصر الدين الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، «الذي كان شيخ مشايخ الدروز في جبل لبنان زمن الأمير فخر الدين»(26)، إلى الأمير القاضي عماد الدين حسن، وذكر أنّه جَدّ فروع آل القاضي الأربعة في دير القمر وبيصور واعبيه وكفرمتى(27). وهذا مع ما ذُكر أعلاه يشير إلى الْتِماس بين ألقاب الأمير والشيخ والقاضي، كما يشير إلى التماس بين مراكزهم، ويؤكِّد أنّ هناك شيوخًا وقضاة من أصل أمراء.
وممّا يجدر ذِكره هو أنّ كثيرين مِمَّن حملوا لقب «الشيخ» وكان أسلافهم يحملون لقب «الأمير» لم يتدنَّ شأنُهم الاجتماعي، وأنَّ كثيرين ممّن حملوا لقب الأمير ما كان شأنهم ونفوذهم أعلى من شأن ونفوذ الشيوخ والقضاة. ومِمّا يجدرُ ذكره أيضًا أنّ بعضَ الأُسَرِ التي كان رجالها أمراء انتهت بأحفادهم شيوخًا مثل الشيخ أحمد العينابي الذي هو من سلالة الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن ومن نسل الأمير جمال الدين حِجى الثاني. وفي ما يلي سنتكلّم عن ثلاثة شيوخ من أصل الأمراء.
الشيخ رشيد الكدواني
ذكر صالح بن يحيى حاشية بلغَت في تاريخه المُحقَّق نصف صفحة(٢٨)، ومفادها أنّ الأمير جمال الدين حِجى الكبير والأمير زين الدين بن علي بن بحتر دوَّنَا معًا على ورقة بتاريخ شهر ذي القعدة 655هـ (تشرين الثاني 1257 م) إشهادهما على نفسيهما بإعطاء الشيخ أبو الهدى رشيد بن الظاهر الكدواني، عند حضوره مع عائلته إلى «الغرب»، ثلاث غراير غلّة كلّ سنة، وبيتًا من بيوتهما، أو تعمير بيت له في أيّة قرية يختار السكن فيها، وزادَ الأمير زين الدين على ذلك كرْمًا وبستانًا. وما يعنينا من هذا هو الأمور التّالية:
صفات الشّيخ رشيد:
ذُكر الشيخ رشيد بـ «الشيخ الأجلّ الكبير»، ووُصِف بـ «أبو الهدى». وهذا ممّا يدلّ على تَقوَاه وتديُّنه، وموقعه الديني البارز المُتقدّم بين الشيوخ. أمّا تلقيبه بالكدواني فإنّنا لم نجد له تفسيرًا…
نسب الشيخ رشيد الكدواني:
إنّه من سلالة الأمراء الأرسلانيين، وقد غلب عليه لقب «الشيخ» لأنّه، أو لأنّ سلفه، من كبار رجال الدين. وقد ورد في نهاية حاشية صالح بن يحيى عنه أنّه ابن أبو الظاهر فيما صالح بن يحيى وغيره. ذُكر في أوّلها أنه ابن الظاهر الكدواني، والأُولى هي الأصحّ لأنّ نهاية الحاشية تشتمل على اسم ابنه وهو أبو الظاهر المسمَّى باسم جَدّه. كما ورد في نهاية الحاشية أنّ الشيخ رشيد هو من بني سعدان. والمعلوم أنّ هؤلاء فرع من أبي الجيش الأرسلانيِّين الذين سكنوا في عرمون. فسعدان هو ابن مفرّج بن أبي الجيش، لكنّه لم يُذكر في السِّجلّ الأرسلاني(29)، بل أُسقط منه اسمه وأسماء ذُرِّيّته كما أُسقِطت بعض أسماء فرع ثانٍ من أبي الجيش(30).
سكنُ الشيخ رشيد الكدواني:
يبدو من النّص أنّ الشيخ رشيد كان يسكن خارج «الغرب» بعيدًا عن أقاربه بني سعدان الذين كانوا يقيمون في عرمون. كما يبدو منه أنّه حضر إلى «الغرب» وأقام في كفرمتى في بيت بناه له على الأرجح الأميران جمال الدين وزين الدين، أو أحدهما، تنفيذًا لما جاء في إشهادهما على نفسَيهما.
مدلول وهب الأميرَين التنوخيَّيْن للشيخ رشيد الكدواني:
نجد في العديد من الأماكن من تاريخ صالح بن يحيى إشارات عدّة إلى آل أبي الجيش، ومنافستهم وبغضهم وخصومتهم للأمراء البحترييِّن التنوخييِّن، ووشاياتهم الكاذبة عنهم عند الحكّام، التي سبَّبَت لهم السجن والأذى والمتاعب(31). ومع هذا نرى أميرَين بحتريَّيْن يكرّمان الشيخ رشيد الكدواني ويهبانِهِ بيتًا يسكنه وغلالًا وأراضيَ يعتاش منها، وهذا يعود إلى السّببَيْن التاليَيْن:
1- وجود مُصاهرة ما.
2- تمشِّي الأميرَيْن جمال الدين حجى وزين الدين بن عليّ على نهج المسلمين، ومنهم: الموحِّدون بوَقْف بعض أملاكهم للعلماء والشيوخ والصالحين الأتقياء،
وهذا هو السبب الأهمّ، وفيه دليل على صلاح الشيخ رشيد وتَقوَاه.


الشيخ العَلم
الشيخ العَلم هو علم الدين علم بن سابق بن حسّان بن طارق، من أصول آل عبد الله الذين هم أبناء عمّ البحترييِّن التنوخييِّن. أمُّه تنوخيّة. نشأ في طردلا وانتقل منها إلى كفرفاقود حيث سكن في إلف قرابته الأمير فارس الدين معضاد بن عزّ الدين فضايل بن معضاد «الذي كان أميرًا ومُقدّمًا على الأشواف» بحسب ما جاء عند صالح بن يحيى الذي أضاف قائلًا عن الشيخ العَلم إنّه «رُزِق دين ودنيا واسعة وحُرمة وافرة وكان مشكورًا عند أهل زمانه». وممَّا يُذكر عنه أنه سيَّر الماعز في كفرفاقود لتمحوَ آثار أهل «الغرب» الهاربين من عسكر الحملة المملوكيّة التي غزَت «الغرب» سنة 677هـ (1278 م)، والتي أنزلت فيه ما لم تُنْزله أيّة حملة غيرها(32).
في كلام صالح بن يحيى عن الشيخ العَلم ما يفيد أنّه رجل دين ودنيا، وأنّه ذو مكانة في زمنه تجاوزَت «الغرب» إلى الشُّوف الذي يشتمل على قرية كفرفاقود.
الشيخ زهر الدّين ريدان
آل ريدان أسرة عريقة النَّسب. جاء عنها في تعريف الشيخ أبي علي مرعي، كاتب سيرة الأمير السيد(ق)، للشيخ رشيد علم الدين سليمان ريدان ما يلي: «وكان في بلاد الغرب في القديم أنساب وأحساب ذات تواريخ تُذكر، ونفَرٌ من لهاميم العرب لهم سابق أثر وحسن خبر ونظر في مصالح النفس وتعلُّق بالعلوم الإلهية يُدعَون بيت ريدان»(٣٣).
عاش الشيخ أبو مرعي زهر الدين ريدان في قرية الفساقين (البساتين حاليًّا) من «بلاد الغرب» وله ضريح فيها، ومن المتداول اقتران اسمه بإدخال الأمير السيِّد عبد الله في سلك رجال الدين حسب القواعد المألوفة. وقد اعتمد المؤلّف فؤاد أبو زكي على ذلك وعلى النبوغ المُبكّر للأمير السيّد وصيرورته الرئيس الرُّوحي الأوّل للموحّدين الدروز في عصره، ليقول إنّ الأمير تسلّم مشيخة مشايخ العصر من الشيخ زهر الدين الذي كان، في رأيه، «شيخ مشايخ العصر»(٣٤). وفي رأينا أنّ مشيخة مشايخ العصر هي للأمير السيِّد لا للشيخ زهر الدين الذي هو أحد شيوخ «بلاد الغرب» فقط. عاصَر الأمير سيف الدين يحيى التنوخي المُلقّب بكاتب الدارَين وشاعر الدارَين وصايغ الدارين، الشيخ زهر الدين، وامتدحه بقصيدة وجدانية تصف عواطفه إزاءه، وتمتدح مناقبه، لكنّه ليس فيها ما يدلُّ على منزلته، وهي مؤلّفة من 124 بيتًا، وتُعرف بالقصيدة الزهريّة، نقتطف منها الأبيات الخمسة التالية(٣٥):
رويدَك قد تــــــاقت إليــــــــك الجوارحُ
وستُّ جهــــــات الجسم ثمّ حواسُّــــــــه
وإنّي إذا مــــــا رُمتُ وصفك لــــم أجد
وشــــاع لك الذِّكر الجميلُ فلــــــم يزل
فـــلا زائــــد فيـــــه بــــــلاغة مــــــــــادح
وحسبُك أنّ القــلــــب نـحــــوك جــامحُ
وأعضــــــــاؤه كــلٌّ بـحـبّــــك نــــــــــاضحُ
لـــــه غــــــايــةً يسري بهــــا قول مـــادح
بحسن الثّنــــا بيـــن الــبـــريَّة طـــــــافح
ولا نـــــــاقص فيه مقــــالـــــة كــــــــاشح.
خلاصة
اعتمادًا على ما ورد ذكره عن الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن السّبعة، وعن الشيوخ الثلاثة، يمكن استنتاج ما يلي:
- إنّ الأمراء السّبعة ذُكروا بلقب «الأمير» الذي لا يمكن أن يُذكروا إلّا به، لكنّهم شيوخ دين أتقياء لهم، بالإضافة إلى النفوذ الزمني، نفوذ في الوسط الديني، وأحدهم – وهو الأمير جمال الدين حِجى ــ كان أمير «الغرب». وقد ميّزهم انشغالهم بالعبادة عن سائر الأمراء التنوخييِّن الذين ترجم صالح بن يحيى لِما يزيد عن الستِّين منهم اهتمّ مُعظمهم بالشؤون الدنيوية، ولم يصفهم بما وصف به الأمراء السبّعة.
- إنّ الخبير بتاريخ الموحّدين (الدروز) الاجتماعي، وأدبيَّاتهم الدينية ومُصطلحاتها، يعرف مدلولات الأوصاف التي أُطلَق بعضها على كل من الأمراء السّبعة، وهي: ديِّن – خيِّر – جيد (وجمعها أجواد وأجاويد) – لا يوجد في زمانه مثله – إمام – وليّ كبير – زاهد – جليل القدر – مُبجَّل – مُوقَّر – ذو عقل ودين – مشهور بالجودة والديانة – مُتعبِّد – لا يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز – من أهل الخير والدين – مُحبّ لأهل الخير – مُتَمسّك بالكتاب والسُّنّة. وهذه صفات يتحلَّى بها الشيوخ الدينيُّون.
وممَّا يجدر ذِكره هو أنّ الشيخ أبا صالح فرحان العريضي – وهو من الشيوخ الثقات ومعاصر لنا – اعتبَر الأمراء السّبعة من كبار رجال الدين الذين وصفهم بالأعيان. وهو لم يكتب إلّا عن شيوخ رجال الدين في كتبه الثلاثة، بعنوان «مناقب الأعيان»
إنّ الرِّئاسة الرُّوحيّة للموحّدين (الدّروز) لم تَظهر إلى العلن إبّان تشدّد الدول الإسلامية السُّنّيَّة الحاكمة مع أتباع المذاهب الأخرى، بالرّغم من أنَّ الموحِّدين كانوا في «بلاد الغرب» أكبر تجمُّع درزي في الشَّام، ولهم كيانيّة إدارية ناتجة من إقطاع الحكّام لأمرائهم قرى هذه البلاد، وبعض القرى خارجها، وهذه الرّئاسة غير المُعلَنة لا بدّ أن تتمثّل داخليًّا في مُجتمعهم الإقطاعي بِنُخبهم وأعيانهم وأكابرهم.
وفي حال اعتبرنا أبرز الأمراء والشيوخ الذين ذكرناهم رؤساء روحييِّن، تبدو لنا تعدُّدية الرِّئاسة الروحيّة من خلال معاصرة الأمير جمال الدين حجى والشيخ رشيد الكدواني لبعضهما، مع تقديم الأمير جمال الدين حجى واعتباره الرئيس الرُّوحي الأوّل الجامع بين الدين والدنيا، والمُعْتَبر من الأولياء الكبار. كما تبدو لنا هذه التعدُّديّة واضحة مع الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علَم الدين سليمان والشيخ العَلم، المعاصرين لبعضهم، مع تقديم الأمير شجاع الدين، لأنّه سلك طريقة أبيهِ الأمير جمال الدين حجى، وكان مقدَّرًا من الأمير ناصر الدين الحسين، ومقدّمًا على غيره من الأمراء.
المراجع
- مقدّمة كمال جنبلاط لكتاب سامي مكارم: أضواء على مسلك التوحيد، دار صادر، بيروت 1966، ص19-20.
- للمزيد من المعلومات انظر كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين الدروز في لبنان وسورية وفلسطين، تاريخها وتطوّرها من الأعراف إلى التنظيم، دار معن 2015، ص23-25.
- مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي عن الأمير السيد عبد الله.
- أحمد الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين، تحقيق الدكتورَين أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1969، ص23.
- المُحِبّي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، تحقيق محمّد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت 2006، المجلد الثالث ص259.
- تاريخ حيدر الشّهابي، دار الآثار، بيروت 1980، ص789، 807،866، 873، 892، 910، 947، 953، 967، 970، 1011.
- حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت 1984، ص 30،69،156
- طنّوس الشّدياق: كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت 1970، الجزء الثاني، ص325،405،434.
- هنري غيز: إقامة في بيروت ولبنان
- أوردنا نص المضبطة كاملًا في كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)، ص119-121.
- يوسف إبراهيم يزبك: وليّ من لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1960، ص95.
- مخطوطة الشيخ أبي عليّ مرعي عن الأمير السيّد عبد الله.
- سليمان بن حسين بن نصر: درة التاج وسلّم المعراج، تحقيق اللجنة الثقافيّة في مؤسَّسة العرفان التوحيديّة. لا تاريخ، ص18.
- عجاج نويهض: التنوخي، آداب الشيخ الفاضل، دار الصحافة، بيروت 1963، ص120.
- المرجع نفسه، ص83.
- العمري: التعريف بالمصطلح الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت 1988، ص236-237.
- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرف، بيروت 1967، ص55.
- المصدر نفسه، ص150. وللمزيد من المعلومات عن الأمير جمال الدين حجى، انظر المصدر المذكور، ص51-55، وصفحات أخرى. وتاريخ ابن سباط، تحقيق عبد السلام تدمري، جرّوس برس، طرابلس- لبنان 1993، الجزء الأول ص340، 363، 395، 396، 404، 459، 460، 463، 483، 484.
- انظر عن الأمير شجاع الدين عبد الرحمن: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص151-156. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص825-827.
- انظر عن الأمير علم الدين سليمان: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص167-171.
- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص164. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص817.
- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص146.
- المصدر نفسه ص172. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص857-858.
- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص202. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص834.
- السجل الأرسلاني إثبات سنة 1061م، ص88-89، وإثبات سنة 1179م، ص105.
- تاريخ حيدر الشهابي، ص600.
- انظر أمين آل ناصر الدين: الأمراء آل تنوخ، مجلة أوراق لبنانية، المجلد الثاني، ص354، 451، 592، والمجلد الثالث ص51.
- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54.
- انظر السجل الأرسلاني.
- انظر جدول الأسماء المسقطة من السجل الأرسلاني: نديم حمزة: التنوخيّون، ص32.
- انظر عن هذه الأمور صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54، 63، 65، 67.
- المصدر نفسه، ص57، 68.
- مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي. أيضًا عجاج نويهض: التنوخي. سيرة الأمير السيد، ص30.
- فؤاد أبو زكي: الأمير السيد. سيرته. أدبه، طبعة 1997، ص180-181.
- انظر القصيدة كاملة عند فرحان العريضي: مناقب الأعيان، الجزء الثاني، ص301، 313.