مقدمة:
أ. د. محمد شيّا
إذا كان «وعْدُ بلفور»، كما قيل فيه، «وَعْدُ من لا يملك إلى من لا حقَّ له»، هو فضيحة بريطانيا مطلع القرن العشرين، فإنَّ «صفقة الرئيس ترامب» التي أُعلنَ عنها في كانون الثاني 2020 هي بلا أدنى شكّ فضيحة الولايات المتّحدة مطلع القرن هذا. إلّا أنَّ المفارقة الصارخة هنا هي أنّه لم يكن مطلع القرن العشرين من ‘هيئة أُمم متَّحدة’ ولا «مجلس لحقوق الإنسان». ولا كان هناك أكثر من قرار للأمم المتحدة بدولة فلسطينيَّة مستقلّة في حدود 4 حزيران 1967. ولا كانت هناك أكثرية ساحقة في الأمم المتحدة تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه الوطنية والتاريخية، وبمنظّمة التحرير الفلسطينية ثم بالسلطة الفلسطينية ممثّلاً شرعياً للشعب الفلسطيني. وعليه، فإعلان ترامب، بل صُهرِه، لمُقتَرح سخيف يقوم على رَشوة الفلسطينيين ببضعة مليارات من الدولارات مقابل بيعهم لحقوقهم الوطنية مخالف لأبسط حقوق الإنسان، في حق كل إنسان، وكل شعب، أن يكون له وطن. وهو مخالف أيضاً لسلسلة طويلة من القرارات والتوصيات الدّولية بحق الفلسطينيين بدولة مستقلّة على كامل أراضي ما قبل حزيران 67.
لا يملك ترامب، ولا سواه، حقّ التصرّف بأرض لها هُوِّيَّة تاريخيّة، ومقوّمات وطنية، ينطبق عليها منطوق القانون الدّولي.
ولا تملك إسرائيل أن تتصرّف بالأرض الفلسطينية، تمزيقاً وتقطيعاً، فهي دولة تحتلُّ هذه الأراضي بالقوة العسكرية، وغير مسموح لها وفق القانون الدولي التصرّف بحدود الأراضي، وسكانها، بتأثير القوة العسكرية للاحتلال.
ولا يملك أيٌّ كان في العالم الحقَّ بالتفاوض على الحقّ الفلسطينيّ ومستقبل الأرض الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني، أو التصرّف بالثوابت تلك، نيابة عن أصحاب الأرض – الفلسطينيون ممثَّلين بسلطتهم الشرعية.
أكثر من ذلك، ربّما لا يملك الفلسطينيون أنفسُهم – وهم لن يفعلوا – أن يتخلَّوا عن حقوقهم الشرعية التاريخية بكامل أرضهم، وعن إقامة دولتهم المستقلّة، وتطبيق حق العودة للّذين هُجِّروا قَسراً من ديارهم.
قضيَّة الشعب الفلسطيني المُحِقَّة، في امتلاك أرضه الوطنية، وإقامة دولته المستقلَّة، وعودة اللاجئين، هي بكل دقة قضية إنسانية تخص الفلسطينيين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بالدرجة الأولى، وتخصّ أيضاً كلَّ الشعوب والجماعات التي يُراد لها أن تستسلم لمنطق القوّة والاحتلال والعَسف المتمادي..
هذا هو المنطق الذي يحكم مُقترح ترامب في ما أسماه «صفقة القرن»، وهي ليست في الحقيقة إلا «مؤامرة بداية القرن».
لن تنجح القوَّة ألأميركية الاقتصادية الطاغية اليوم، ولن تنجح الغلبة العسكرية الإسرائيلية في ميزان القوى الراهن، في إجبار الشعب الفلسطيني والشعوب العربيه معاً على التخلِّي عن أبسط الحقوق الفلسطينية، أو في تحويل مفاعيل الاحتلال إلى وقائع سياسية وحقوقية (فالاحتلال باطل وما ينشأ عنه باطلٌ بالتالي).
والأكثر إلفاتاً، أيضاً، هو أنَّ مُقتَرح ترامب الخطير هو إهانة لشعوب العالم الأخرى، ويعيد إلى الواجهة دعاوى الاستعمار الغربي في احتلال مناطق العالم وشعوبها، ونهب ثرواتها، وإعادة توزيع سكّانها، دونما أي سند قانوني أو حتى تاريخي – خلا الاستناد إلى منطق القوة والغلَبَة المادية (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية).
ويحقُّ لنا أخيراً التساؤل: هل هذه نهاية الطّريق لما بَشّر به هانتنجتون وفوكوياما وغيرهما من غُلاة العنصرية الأمريكية نهاية القرن المُنصرم؟ أم أنّه مجرد نزوع سياسي اقتصادي أمريكي مجنون لا يراعي حقيقة مواقف الأمريكيين أنفسهم، ولا يخدم على المدى البعيد مصالحهم لدى الفلسطينيين والعرب وسائر الشعوب الحُرّة؟
هوذا ما تحاول الإجابة عليه مُداخلات الملف الذي تفتحه الضّحى اليوم وربما نتابعه في أعداد لاحقة ايضاً.
صفقة القرن تداعياتها ومستقبلها
السفير حسّان أبي عكر
بدأ الإعلان عن صفقة القرن منذ ما يزيد عن نصف سنة وتمَّ تأجيلها غير مرّة، تارة بحجّة الاكتمال وطوراً بحجة إيجاد الفرصة المناسبة لعرض مشروع جلل بهذا القدر.
والوجه الأوّل لهذه الصفقة أو الصفحة الأولى منها أن جاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب اليهودي ومستشاره للشرق الأوسط هو المسؤول عنها، وبمساعدة مسؤولين مكتومين من إدارة الرئيس ترامب، هم المخطّطون الرئيسيون فعلاً لهذه الصفقة بينهم مستشاران يقيمان داخل المستوطنات غير الشرعيّة في ضواحي مدينة القدس.
وحين أعلن عن الصفقة منذ أكثر من شهرين بدأت الصفحات أو المقومات الأولى تنكشف وارتبطت بالظروف الملائمة لكلّ من ترامب ونتنياهو. فالرئيس ترامب بدأ معركة التجديد لرئاسته الثانية وما يلزمها من مشاريع ووعود للناخبين وللهيئات الأميركية اليمينية واليهودية وللجمهوريّة المتطرفين.
أما نتنياهو الذي يعاند وما زال يقاتل للبقاء في رئاسة الحكومة والتخلص من ملاحقات القضاء الإسرائيلي له بتهمة الفساد واستغلال السلطة، وهو لا شك كان مطلعاً على الصفقة، فرأى في الإعلان مناسبة جديدة له للفوز بالانتخابات والالتزام بوعوده القديمة لليمين اليهودي، شريكه في حكومة الليكود.
وإذا كانت الصفقة قد تأخّر إعلانها تحضيراً للوقت المناسب المذكور سابقاً فقد بدأت المقدمات أو الصفحات الأولى تتوالى. فقد اعترف الرئيس ترامب بإلحاق هضبة الجولان بالكيان الإسرائيلي في مخالفة واضحة للسياسات الأميركية السابقة ولكامل مقررات الشرعية الدوليّة. ثمّ تبعه الاعتراف اللاحق باعتبار مدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. وكل هذا انتهاك لقرارات الأمم المتحدة ودون أي اعتبار لأصدقاء الولايات المتحدة وخاصّة دول الخليج العربي.
وبات من الواضح أن سياسة الرئيس ترامب منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة كان يضع الأولويّة في سياسته في الشرق الأوسط الوفاء بوعوده للّوبي الأميركي – اليهودي واليمين الأميركي الذي لا يرى صديقاً أو حليفاً في الشرق الأوسط إلا إسرائيل، ولا يشيطنّ إلا دولة إيران وتوابعها.
وكعادة دولة إسرائيل بانتهاز السياسات والفرص الأميركية في أوقات حرجة ومفصليّة لابتزاز المرشحين الرئاسيين عبر اللوبيات المتنوعة، فكيف إذا أضفنا إلى كل هذا انقسام إسرائيلي كان واضحاً في موسم انتخابي لعبت فيه الكتلتان المتنافستان كل أوراقهما للفوز بانتخابات ثالثة، تحدّد موقع رئاسة الحكومة أو تودي ببنيامين نتنياهو السجن وربما إلى إنهاء حياته السياسية كما حصل مع رئيس الوزراء السابق يهود أولمرت. ولكن يبدو أن الحبل قد ابتعد عن عنقه مؤقتاً.
وقبل إيجاز البنود التي تضمنتها هذه الصفقة الفريدة لا بد من تذكر عمليّة الإعلان التهريجية والتمثيليّة والتي وزع فيها ترامب الهدايا والتقدير والشكر لمنجزي هذا المشروع النبيل والمبارك. فما هي أهم بنود هذه الصفقة؟
– تتحول «دولة» فلسطين إلى خمس كانتونات أو غيتوات وتتصل بقطاع غزة بنفق طوله 56 كلم. ويبقى حوالي 400 ألف من سكان المستوطنات في أماكنهم، ليتحول صاحب الأرض إلى السجين.
– لا حاجة للسلاح لهذه الدولة إلا سلاح الشرطة، إذ ليس لها عدو!
– يبقى غور الأردن التابع للضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية لأسباب استراتيجية.
– يخصص مبلغ ستين مليار دولار للمشاريع الاقتصادية والتنموية لتتحول هذه «الدولة» إلى نموذج اقتصادي عالمي. (الصين خصّصت أكثر من هذا المبلغ لمكافحة وباء كورونا). ويخصص كذلك قسم من هذه المساعدات أو المليارات لدول المنطقة المجاورة كمشاريع ومساعدات مقابل إبقاء الفلسطينيين اللاجئين حيث هم موجودون، أي بتوطينهم (منها 6 مليارات للبنان أي أقل من هدر الكهرباء لثلاث سنوات!)
– هكذا تباع الأوطان! بتاريخها وحجرها وبشرها وبالجوار كذلك!
تداعيات صفقة القرن:
عبّر الطرفان الفلسطينيان عن رفضهما، القاطع للصفقة (وأطلق عليها لقب الصفعة) كل على طريقته:
– رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أعلن رفض منظمة التحرير للخطة وندد بالتنازلات الأميركية وبمخالفة كل مقررات الشرعيّة الدولية وتمسّك بالقدس الشرقيّة عاصمة لفلسطين وبحل الدولتين.
– منظمتا حماس والجهاد الإسلامي في غزّة حرّكتا الجماهير في تظاهرات رفضٍ إلى الحدود مع إسرائيل وانتهت بعدد من الضحايا. واعتبر الفريقان الفلسطينيان أن الرد العربي لم يكن كافياً رغم الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية الذي تمسَّك بمقررات المبادرة العربية لعام 2002 وحلّ الدولتين والقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين…
– غير أن هذا الرفض الكلامي قد تعوّدت عليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وأخطر ما في الأمر أن الصفقة قد دفنت حل الدولتين وكل المقومات السكانية والاقتصادية والسياسية لقيام أية دولة أو دويلة في المستقبل: إذ بالإضافة إلى تفتيت الضفة الغربية إلى أربعة تجمعات سكانية بات عدد البؤر الاستيطانية اليهودية يزيد عن أربعمئة ألف نسمة كما أسلفنا، وإذا نصّ أحد بنود الصفقة عن مرحلة انتقالية للتنفيذ تمتد إلى أربع سنوات فإن عدد المستوطنات سيزداد في هذه الفترة وهذا يذكرنا باتفاقات أوسلو والمراحل ألف وباء وجيم وقضم الأراضي. وها هو نتنياهو وقبل الانتخابات وقبل الانتخابات لم يتأخر عن توقيع قرار جديد ببناء مستوطنات جديدة.
– وإذا اعتبرت الأطراف الفلسطينية والعربية أن الصفقة ولدت ميتة فلا يعني أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي سيتركانها بلا توظيف أو تطبيق. فالطرف الإسرائيلي سيستغل الرفض الفلسطيني ليتّهم كل الأطراف بالسلبية والتطرّف والإرهاب واعتماد العنف.
أما الإدارة الأميركية فستواصل سعيها لعزل الفلسطينيين وحرمانهم من المساعدات الدولية والضغط على الدول وعلى المنظمات لتقليص المساعدات نتيجة عدم التجاوب. لا بل ستزداد استجابةً لتحقيق مطالب المنظمات الصهيونية في موسم الانتخابات القادمة.
نظرة إلى المستقبل:
أما وان الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لم تغيّر في السياسة العامة الاسرائيليّة في المستقبل المنظور، وأن التنافس الانتخابي بين الرئيس ترامب والديمقراطيين سيتم على الأرجح في أحد وجوهه على إغداق الوعود على اللوبي اليهودي، أو على معاقبة الفلسطينيين لعدم رضوخهم لصفقة القرن فيمكن مقاربة مستقبل القضية الفلسطينية من خلال الاعتبارات أو التساؤلات الصريحة التالية:
1- لم يعد حل الدولتين قائماً على الأرجح نتيجة بنود الصفقة وتغيّر الوضع الديمغرافي في الضفة كما أسلفنا – ولم تعد نتيجة لذلك المبادرة العربية لعام 2002 القائمة على حل الدولتين وعلى اعتبار القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، لم تعد فعلياً قابلة للعرض أو المفاوضات. وإذا لم يتم احترام مقررات الأمم المتحدة ولا الأخذ بعين الاعتبار المجتمع الدولي، فما بالنا بمبادرة السلام العربية.
وفي أتون الصراعات العربية والفوضى واهتزاز أسس وكيانات بعض الدول العربية، هل من مجال لاجتماع عربي أو لقيام مشروع يحظى بالإجماع العربي ليكون أساساً للتفاوض؟
2- في زمن مضى طرح مشروع لدولة واحدة في شعبين. فهل يعود هذا المشروع للتداول كواقع يُفرض على الفلسطينيين المحاصرين في الضفّة الغربية؟ إن ما يسمّى بالديمقراطية في الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان وتشكّل خمس السكان: وقد نجحت هذه الأقليّة بإيصال 16 نائباً ونائبة في انتخابات شهر آذار الفائت (بينهم 5 نساء إحداهنّ درزيّة). أي أنها أصبحت القائمة الثالثة من حيث العدد في الكنيست الإسرائيلي. وقد تتحوّل إلى قائمة المعارضة الرسمية إذا ما تشكّلت حكومة اتحاد وطني. هل هذا يشجّع النخب الفلسطينيّة في الضفّة أو بعض الأحزاب في السير بمشروع دولة واحدة بشعبين كأمرٍ واقع؟ ورغم أن وضعت إسرائيل سابقاً شرطاً باعتبار إسرائيل وطناً يهودياً، فهل هذا الأمر ومنع حق العودة يعرقل السير في مشروع دولة واحدة بشعبين؟
3- بالمقابل وكلّما زاد الانفصال الأيديولوجي بين الضفّة وقيادة منظمة التحرير يصبح من الصعب توحيد مطالب القضيّة ويزيد من ابتعاد كوادر قطاع غزّة عن المجموعة العربية وعن مصر.
فهل من بوادر لمصالحة فلسطينية ترأب الصدع وتنطلق إلى حلول تجابه الحالة المأساوية القائمة؟
أخيراً تعيش منطقة الشرق الأوسط حالياً على أتون من الحرائق أو على فوهة مجموعة من البراكين تجعل أثار الدمار هائلة وواسعة وطويلة التأثير أو الاستيعاب.
فالدول العربية تترنّح وتتقاذف شعوبها الأمواج العاتية: دول ما زالت تحترق وتتآكلها ألسنة النيران، ودول تعالج نكباتها أو تستعد لنكبات آتية.
والصراع الأميركي-الإسرائيلي من جهة والإيراني من جهة يزيد من اصطفاف دول المنطقة ومن العقوبات عليها وعلى أتباعها في دول أخرى، مع احتدام الاشتباك الإقليمي في سوريا، كل هذا المناخ المقلق، بالإضافة ما زاد عليه فيروس كورونا من مصائب وانخفاض أسعار النفط – يجعل من الصفقة لصانعيها في أكثر الظروف ملاءمة، ولا يهم إن لم يتوفر شريك ثانٍ للصفقة – حتى أن الظروف التاريخية والاستراتيجية التي أوجدت وعد بلفور بعد الحرب العالمية الأولى ليست أسوأ أبداً من الظروف الحالية. ولا يخطئ البعض إذا ما خطر له أن يصف الصفقة بالمرحلة التالية المكمّلة لوعد بلفور.
وحتى لا يكون المشهد مأساوياً إلى مرحلة اليأس أو الاستسلام يبقى خيار التمسّك بالأرض والبقاء والصمود والمقاومة بكل الأساليب الممكنة الحل الأوحد، بانتظار تبدل الظروف وتغيير موازين القوى على امتداد المنطقة.
صفقةُ القرن في مُواجهة القانون الدَّوْليّ
في الثّامن والعشرين من كانون الثاني / يناير 2020، وفي احتفال أُقيم في البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطّته المُنتظَرة للسلام في الشرق الأوسط المُسمّاة بـ «صفقة القرن» “Deal of the Century”، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو، وعدم حضور أيّ ممثّل للفلسطينيين.
تناولت هذه الخطة معظم المسائل المتعلّقة بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، مُقْتَرِحة مرحلةً انتقاليةً لمدّة أربع سنوات، وتعطي إسرائيل السيطرة على 30 % من الضفة الغربية وسيادتها على المستوطنات، وبقاء القدس مُوَحّدة كعاصمة لإسرائيل، وتشكيل دولة فلسطينية (رمزيّة)، وغير ذلك…
رفض الفلسطينيون بأجمعهم هذه الخطّة، وكذلك فعلت الجامعة العربية، وعارضها العديد من دول العالم والمنظّمات الدّولية، ومعظم منظمات حقوق الإنسان في العالم وحتى داخل الولايات المتحدة وداخل إسرائيل. وليس أدلّ على ذلك سوى ما صرّح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس تعليقاً على خطة ترامب: نريد اتّفاق سلام ثنائيّاً مبنيّاً على قرارات الأمم المتحدة، ووفقاً للقانون الدَّولي. ومنظمة السلام الإسرائيلية “B’Tselem” اعتُبرت الخطّة شكلاً من الفصل العنصري Apartheid.
أمّا في التقييم الأوّلي لخطّة صفقة القرن، فيمكن القول أنّها مخالفة بالكامل لمبادئ القانون الدّوْلي وللقرارات الدَّولية. وبسبب عدم استنادها إلى المعايير القانونية الدولية المستقرّة لحلّ النزاعات، فهي ليست وثيقة قانونية صالحة لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي المُمْتَد لسبعة عقود خلت من الزمن، والذي صدرت بشأنه عشرات القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الفلسطينيين بإنشاء دولتهم المستقلّة وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم، مقابل عدم الاعتراف بكلّ الإجراءات الإسرائيليّة، وخاصّة رفض احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وتغيير معالم القدس، ورفض حركة الاستيطان الإسرائيلي، وغير ذلك من تداعيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أمّا أهم المعايير القانونية التي خالفتها خطة صفقة القرن فسنعرض لها بالاختصار، وهي التالية:
أوّلاً – عدم الاعتبار لحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير:
إنّ الحق بتقرير المصير (Right to Self-Determination) هو من المبادئ الأساسيّة في القانون الدّوْلي، سيّما وقد تصدَّرَ الاتفاقيّات الرئيسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان الصادرة عام 1966 التي اعترفت بها جميع دول العالم، وقد تكرّس هذا المبدأ في كثير من القرارات الدّولية. وفي معرض الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، اعترفت الجمعية العامّة للأمم المتحدة بصورة علنيّة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، وفي ما يلي عيّنة من هذه القرارات. القرار رقم 2649 تاريخ 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، والقرار رقم 2672 تاريخ 8 كانون الأول / ديسمبر 1970، وفي القرار 3089 تاريخ 7 كانون الأول / ديسمبر 1973، وكذلك في القرار 3236 تاريخ 17 كانون الأول / ديسمبر 1974، وغيرها من القرارات.
وإذا كان المظهر الأوّل لحقِّ الشّعوب بتقرير المصير هو في الاستقلال وفي السيادة على أرض الدّولة وعلى كامل مقدّراتها السياسيّة والاقتصادية ومواردها وثرواتها الوطنية، فإنّ الخطة التي أعلنها ترامب تجرّد الشعب الفلسطيني من كل ما يؤمّن حقه بتقرير مصيره، وقد وضعت جميع مقدراته تحت السيطرة الإسرائيلية.
ثانياً – دولة فلسطينيّة منزوعة السيادة:
نصّت صفقة القرن على إنشاء دولة فلسطينيّة بعد أربع سنوات، عند نهاية الفترة الانتقالية، إذا وافق الفلسطينيون على الصفقة كاملة. تقوم هذه الدولة في القسم المتبقّي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد إلحاق المستوطنات وغور الأردن بإسرائيل والبالغة مساحتها أكثر من 30% من مساحة الضفّة. وعدا تقطيع أوصال هذه الدّولة من خلال المستوطنات القائمة التي تجاوز عددها الـ 140 مستوطنة، ما جعلها مُفكَّكة وغير مترابطة، فإنّ الخطّة تنصّ على أن تكون الدولة مُجرّدة من السلاح، وتتعهد بجمع السلاح من أيدي الفلسطينيين. فأيّة دولة فلسطينية هذه يجري الحديث عنها، وكيف ستمارس سلطتها مع تجريدها من جميع عناصر القوّة التي تحتاجها لبسط سلطتها وحماية أمنها الداخلي والخارجي؟
إنّ السيادة هي الركن الأساس لوجود الدولة، كما هو مُتعارف عليه في القانون الدولي منذ أبصر النور بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 مرتكزاً على احترام سيادة الدولة. وعليه، كيف ستتمتّع الدولة الفلسطينية الموعودة هذه بكامل سيادتها؟ إنّها ستكون دولة رمزيّة فاقدة السيادة، لا حول ولا قوّة تستعين بها سوى بجارتها القوية – إسرائيل التي صادرت سيادتها.
يضاف إلى ما ذُكِر أعلاه أمرٌ هام آخر، وهو أنّ تجريد الدولة الفلسطينية الموعودة من سيادتها يجعل مِنْ «حلّ الدولتين» غير ذي قيمة. فهذا الحل قد جرى تأسيسه بقرار الأمم المتحدة رقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، لتعتمده لاحقاً جميع مبادرات السلام في الشرق الأوسط وقَبِل به المُجتمعان الدَّولي والعربي (وحتى الفلسطيني) والقوى المؤيّدة للسّلام في إسرائيل.
ثالثاً – تشريعُ الاحتلال:
منحت صفقة القرن إسرائيل الشرعية لاحتلالها الضفة الغربية من فلسطين بالقوّة خلال حرب حزيران / يونيو 1967، والتي كانت يومها تحت السيادة الأردنية، وذلك في مخالفة صريحة للقانون الدَّولي الإنساني وللقرارات الدَّولية. فخضوع أجزاء الضفّة الغربية التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية المُجردة من سيادتها، أي وجودها باستمرار تحت السيادة الإسرائيليّة، يعني أنّ احتلال إسرائيل لتلك الأراضي، والمرفوض من القانون الدولي، قد أصبح شرعيّاً.
إنّ المادة 42 من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 تعلن بوضوح: «تُعتَبر أرض الدولة واقعة تحت الاحتلال عندما تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو..». وكذلك قرار مجلس الأمن الرقم 242 تاريخ 22/11/1967، الذي يؤكّد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب، ولم يعترف بالاحتلال الإسرائيلي، بل يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأرضي العربية المحتلّة، ومن بينها الضفة الغربية والقدس الشرقية، وذلك كمقدَّمة لإحلال السلام الدائم في الشرق الأوسط.
إنّ الاحتلال كان وسيبقى أمراً مرفوضاً ومُغايراً للقوانين والأعراف الدَّوليّة، ولا يمكن تصوّر قبول أي حلّ للصراع القائم والمُستمر دون انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية والفلسطينية إلى حدود حزيران 1967.
رابعاً – مسألة عودة اللاجئين:
تنص خطة الصفقة على إمكانية عودة بعض اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومنع عودتهم إلى دولة إسرائيل نهائياً. إنّ هذا التدبير مُخالف بالكامل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194 تاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 1948 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي تركوها بسبب حرب العام 1948. وأهميّة هذا القرار هي باستمرار تمسّك الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهذه العودة. فقد جرى التذكير به في مُختلف قرارات الأمم المتحدة وأقسامها وهيئاتها لدى مناقشة المسائل المتعلّقة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إلّا أنّ الأهمية القصوى التي علقتها الأمم المتحدة على هذا القرار تكمن في إدراكها بصعوبة حل الصراع دون عودة اللاجئين إلى ديارهم. وللتدليل أكثر على هذه الأهمية، فإنّ الأمم المتحدة لم توافق على قبول عضوية إسرائيل لديها (في القرار 273 تاريخ 11/5/1949) دون اشتراط قبول إسرائيل بالقرار 194 المُشار إليه وبالقرار ذي الرّقم 181 تاريخ 29/11/1947 المتعلّق بتقسيم فلسطين الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية. لكن قبولها بتلك الشروط لم يُترجَم فعليّاً، بل عملت على تناسيه كليّاً بوجود غطاء أميركي مستمر.
إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أخذت مجموعة كبيرة من القرارات التي تؤكد على ضرورة إعادة اللاجئين إلى أرضهم واعتبار ذلك من الحقوق غير القابلة للتصرّف. وعلى سبيل المثال، القرارات 394 (1950)، 2052 (1965)، القرار 2253 (1967) وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس الأمن الذي أكّد بقراره الرّقم 237 تاريخ 14 حزيران / يونيو 1967 مطالبة إسرائيل بتسهيل عودة إسكان الذين فَرّوا بسبب العمليّات الحربيّة.
وبرغم جميع تلك القرارات الدوليّة المتعلقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين، جاءت صفقة القرن اليوم لتدير لها ظهرها، ولتوافق إسرائيل على سلوكها المستمر منذ البداية بعدم السماح لهؤلاء بالعودة.
خامساً – التغيير الديمُغرافي:
لم تكتفِ الخطة بعدم قبول عودة اللاجئين فقط، بل أضافت إلى ذلك مسألة نقل السكان من منطقة طولكرم وجنين التي عُرِفَت بالمثلَّث. إنّ هذه المسألة هي مخالَفة صريحة للقانون الإنساني الدَّولي، إذ إنَّ معاهدة جنيف الرابعة للعام 1949 المتعلقة بحماية السكان، تحظر تغيير الطابع الديمغرافي والمركز القانوني للأراضي المحتلّة. فالمادة 49 من هذه المعاهدة تحرّم النقل أو الإخلاء الجبري الفردي أو الجماعي لسكان الأراضي المحتلّة مهما كانت الأسباب.
سادساً – تشريعُ المُستوطنات:
على الرّغم من الموقف المعارض لإقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الذي دأبت عليه الإدارات الأميركية المختلفة، وعلى الرّغم من معارضة المجتمع الدولي لإقامتها أيضاً، جاءت صفقة قرن الرئيس ترامب تنصّ على تشريع الاستيطان الإسرائيلي بنصِّها على أنّ إسرائيل غير مُلْزَمة باقتلاع أيّة مستوطنة، وستقوم بضم تلك المستوطنات إلى الأراضي الإسرائيلية المجاورة. وإذا كانت إسرائيل قد قامت بإحلال المستوطنين في الأراضي العائدة للفلسطينيين، فإنّ المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدَّولية الصادر في روما عام 1988 تعتبر قيام دولة الاحتلال بنقل جزء من سكّانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلُّها هو بمثابة جريمة حرب. كما نصّ القرار 465 (1980) الصادر عن مجلس الأمن الدولي على «أنّ سياسة إسرائيل وأعمالها لتوطين قسم من سكّانها ومن المهاجرين الجدد في الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية المحتلة منذ 1967 بما فيها القدس تشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جينيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، كما أنّها تشكل عقبة جديّة أمام تحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط، ودعا القرار إسرائيل لتفكيك المُستوطَنات القائمة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وفي ذات التوجّه، تبنت الأمم المتحدة في 20 كانون الأول / ديسمبر 1971 القرار رقم 2851 الذي يطالب إسرائيل بشدّة بإلغاء الإجراءات لضمّ أو استيطان الأراضي المحتلّة.
هذا يدل على استخفاف صفقة القرن بالقانون الدَّولي والقرارات الدَّولية وعدم الاكتراث بها.
سابعاً – قضيّة القدس:
إنّ قضية القدس كانت ولا تزال واحدة من مُرتكزات القضية الفلسطينية الرئيسة. فمع الإجراءات التي واظبت إسرائيل على ممارستها لتهويد هذه المدينة وتكريسها عاصمة لها، جاءت خطّة صفقة القرن لتكرّس وحدة المدينة وعدم تقسيمها والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. والصفقة في ذلك خالفت رؤية الأمم المتّحدة وقراراتها بهذا الشأن، منذ البداية، التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للقدس الشرقية التي تضم الأماكن المقدسة، واعتبارها جزءاً من الضفة الغربية.
فقد رفض مجلس الأمن في القرار رقم 252 تاريخ 21 أيار / مايو 1968 الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، ورفض مصادرة إسرائيل للأملاك والأراضي في القدس، ودعاها إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع المدينة، واعتبر تلك الإجراءات باطلة. وكذلك في قراره رقم267 الذي يشجب بشدّة جميع الإجراءات المُتّخَذة لتغيير وضع مدينة القدس، ويدعو إسرائيل مُجدَّداً إلى إلغاء هذه الاجراءات. وفي القرار رقم 271 تاريخ 15 أيلول / سبتمبر 1969 أدان مجلس الأمن إسرائيل لتدنيسها المسجد الأقصى ودعوتها إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.
من جهتها، رفضت الجمعية العامّة للأُمم المتحدة الإجراءات الإسرائيلية في القدس، أسوةً بمجلس الأمن، في القرارين 2253 و2254 بتاريخ 4 و14 تموز 1967 وأدان كلَّ التدابير والإجراءات الإسرائيلية التي تغيّر وضع القدس.
هذه أهم مخالفات صفقة القرن لمبادئ القانون الدَّولي وللقرارات الدَّولية الكثيرة بشأن مسألة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبتناول الصفقة لمُعظم عناصر هذا الصّراع وتبنّي وجهة النظر الإسرائيلية فيها، فإنّ خطورتها تكمن في سعيها إلى تصفية القضية الفلسطينية وتكريس غَلَبَة إسرائيل والمحافظة على أمنها ومكتسباتها، وإجبار الفلسطينيين على قبولها.
هل سيُكتَب النّجاح لهذه الخطّة، أم ستنتصر إرادة أصحاب الحقِّ الرافضين لها، وينتصر معها القانون الدَّولي والشرعيَّة الدَّوْليّة؟.
صفقةُ القرن وضياع القدس مسؤولية من؟
جاءت اتفاقية صفقة القرن المبرمة مؤخراً بين الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ورئيس وزراء الكيان الصهيوني (بنيامين نتنياهو) والمتضمنة جعل القدس عاصمة موحدة لدولة اسرائيل، لتكون من منظور التسوية السياسية الأمريكية، بمثابة الحل النهائي للصراع العربي – الإسرائيلي ، دون أي ردة فعل جديّة من قبل الأطراف المتضررة من فقدها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين ، وكنيسة القيامة عند المسيحيين ، والمتوقع صدورها عن الشعوب أو الدول الإسلامية أو العربية أو السلطة الفلسطينية، إما بسبب عجزها عن الفعل وهي الغارقة في أوحال حروب أهلية لا تنقطع منذ عشرة سنوات، أو إنّه يؤكد صحة ما صرح به (بنيامين نتنياهو) في مؤتمر لرؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية في القدس الغربية الذي عقد في شهر شباط من العام الحالي : إنه كل الدول العربية قد طبعت علاقاتها مع إسرائيل إمّا علناً أو سراً باستثناء ثلاثة دول .
ولمعرفة الأسباب العميقة لذلك التخلي عن الحق عند الأطراف المفترض أنها متضررة من صفقة القرن، لابد لنا من ذكر بعض التفاصيل حولها:
أولاً: تفكك النظام الإقليمي العربي وضياع بوصلة الهدف:
منذ إطلاق وعد بلفور المتضمن إقامة كيان لليهود في فلسطين، توحدت كلمة العرب على القول: إنّ الدفاع عن عروبة فلسطين قضية مركزية للعرب أجمعين، وتعمق ذلك الخط الرافض للسياسة الغربية الكولونيالية في أعقاب نيل الأقطار العربية استقلالها ودخوله في سلسلة مواجهات عسكرية كبرى مع الكيان الغاصب لفلسطين، حيث تأكد خطرها على شعوب المنطقة، وأن وظيفة ذلك الكيان تتمثل بمنع نهضتها وتقدمها الحضاري.
واستمر ذلك الخط الاستراتيجي تقريباً إلى حين قيام حرب الخليج الثانية في ١٩٩٠، حيث تبين للعالم أجمع بحسب بنيامين نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس): (اختفاء العداء الأساسي المتجذر مع إسرائيل من مراكز هامة في العالم العربي في الوقت الذي تحول التناقض الرئيسي بين العرب أنفسهم) (1).
إن النتيجة التي ترتبت عن تلك الحرب كانت تفكك النظام الإقليمي العربي، ذلك التفكك الذي بدأ مع زيارة أنور السادات للقدس وانتهى بوقائع غزو العراق للكويت، وما نتج عنه من فقدان الحاضنة العربية لمشروع المقاومة الفلسطينية ممثلاً في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي أعلن قيام دولة فلسطين في عام ١٩٨٨ بالجزائر، وتبني البرنامج المرحلي في إقامة الكيان الفلسطيني النهائي.
وعزز ذلك الانهيار العربي في مواجهة مشروع التسوية الأمريكية الصهيونية في المنطقة تزامنه مع انهيار مشروع آخر لعب دور السّند الداعم للنظام العربي والحق الفلسطيني المستباح دولياً، هو تفكك الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١، وما ترتب عنه من استباحة أمريكية وتفرد بقيادة العالم. ومن ضمنها استئناف مسار التسوية السياسية في مؤتمر مدريد برعاية أمريكية فعلية وسوفيتية شكلية.
ثانياً: بدء تفكك المشروع الفلسطيني المقاوم:
إن بروز هذين المتغيرين دفع منظمة التحرير الفلسطينية ، التي كانت الطرف الخاسر الأكبر في حرب الخليج الثانية بخروج العراق أولا من المعركة، ونتيجة اصطفافها معه في حربه على الكويت ثانيا ، للقبول بالتخلي عن مشروعها الوطني بالكفاح المسلح والانخراط بمسار علني في مدريد وسري في أوسلو كمسار فلسطيني مستقل عن سائر مسارات التفاوض مع العدو الإسرائيلي، والتوصل إلى اتفاق منفرد في أوسلو عام ١٩٩٣ ، حيث بموجب ذلك الاتفاق قبلت منظمة التحرير بالتخلي عن مشروع الدولة الفلسطينية ، وبسلطة حكم ذاتي في غزة وأريحا أي على مساحة تقدر ٣% من أرض فلسطين التاريخية ، وإبقاء مسار التفاوض حول مشروع الدولة الفلسطينية ( الحدود ، واللاجئين ، ومصير القدس) مؤجّلا لحين مفاوضات الحل النهائي المفتوحة الزمن ، والتنازل عن إدارة ملفي العلاقات الخارجية والأمن الخارجي والمستوطنات وإدارة ٩٧% من الأرض الفلسطينية لإسرائيل. وكل ذلك مقابل سلام متخيل أصبح مع رفض اسرائيل استئناف التفاوض على الحل النهائي مع الفلسطينيين، نتيجة فقد أوراق القوة في التفاوض وغياب الرعاية الدولية الجادة والمنصفة إلى مجرد وهم.
أمام سلطة فلسطينية منقسمة موزعة بين حركتي حماس في غزة وسلطة حركة فتح في أريحا المفصولتين جغرافيا بقوات الاحتلال، تتنازعان على سلطة مثلومة الحد، زاد في عجزها التناقض الإقليمي الحاد، ظروف كلها منعت الفلسطينيين من النهوض مجددا من وحل التسوية المجحفة. أما التنظيمات الفلسطينية التي تمسكت بخيار المقاومة الفلسطينية المسلحة وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية لعام ١٩٨٨، ورفضت اتفاق أوسلو، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، فقد جرى احتجاز تطورها وتعذر عليها العمل بخط سياسي منفصل عن مسار التسوية في أوسلو، خياراً ثالثاً ضعيفاً بين مشروعين متنازعين ومسيطرين.
وبذلك نجد أن ضياع القدس هي مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى وعربية بالدرجة الثانية وإسلامية بالدرجة الثالثة، وضياع القدس بات أمراً شبه مؤكد في ضوء ميزان القوى المختل بين طرفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
ثالثاً: الحل الديمقراطي العلماني في فلسطين وحال الأمة العربية
من ينظر لحال الأمة العربية والإسلامية اليوم، وهي تعاني من ضياع ثورات الربيع العربي بحثاً عن ديمقراطية مرجوّة تعيد لنضال الشعوب دورها واعتبارها، والغرق بدلاً من ذلك في أوحال الصراع المذهبي والانقسام الحاد بين السنة والشيعة، واستنقاذ الطاقات وتدميرها، في حين أعداؤها ينتجون ويتقدمون، سيجد أن ذلك الواقع هو من أعطى الفرصة التاريخية التي انتظرتها إسرائيل طويلاً، لإعلان القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل دون الخشية من أية عواقب نتيجة المؤامرة.
ولكن حال الأمة هذا لا يعني نهاية الصراع التاريخي في المنطقة وقبول الفلسطينيين إبقاء الكولونيالية الصهيونية في فلسطين إلى الأبد، وإنّ الطرف الصهيوني بات عدواً لا يقهر، ومشروعه بخير وخالٍ من الثغرات ولا يعاني من المصاعب!!.
إن قوة اسرائيل متأتية من ضعف العرب أنفسهم، فمشروع الدولة اليهودية وإقامة جدار الفصل العنصري في فلسطين سيحميها مؤقتا من الغرق ديموغرافيا في البحر الفلسطيني ، ولكنه طالما هي غير قادرة على التفاعل حضاريا مع شعوب المنطقة وبالدرجة الأولى مع الشعب الفلسطيني، هذا سيبقي مشروعها غير قابل للحياة إلا بتحويله من مشروع غاصب لحق شعب بالحياة إلى مشروع ديمقراطي علماني ، يقبل بالتعدد الاثني إلى جانب التعدد السياسي وبحل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية، بينما مشروع الدولة اليهودية الراهن ، يضعها في خانة التطرف الديني الأصولي ، ويدخلها في نفق الصراع الأهلي الدائر بين السنة والشيعة في المنطقة . ومشروع الدولة اليهودية النقية قد يكسبها التجانس على مستوى العقيدة الدينية، ولكنه لا يلغي التمييز العرقي والطبقي داخلها. لذلك نزعة التطرف والتمييز العنصري بين اليهود ستقف عائقاً أمام تطورها في المستقبل، مما يبطل قوتها كمثال حضاري جاذب لليهود المنتشرين في العالم، خصوصاً بعد توقف خزان الهجرة اليهودية من روسيا ودول أوروبا الشرقية إليها، والتي صاحبت انهيار المعسكر الاشتراكي في عام (١٩٨٩- ١٩٩١) وكانت حدثاً استثنائياً، حيث من المرجح أن تكون موجة الهجرة اليهودية تلك هي الأخيرة للاحتلال، نتيجة ميل يهود العالم نحو الاندماج في المجتمعات الغربية، وتجريم سياسة معاداة السامية دولياً. كما أن مشروع الدولة اليهودية يحصر دورها في المنطقة بالوظيفة الأمنية التي لن تنتهي إلا بإبادة جميع العرب الرافضين التطبيع معها. في حين أن الحل الديمقراطي العلماني، سوف يحولها إلى مشروع قابل للحياة وقادر على التفاعل الإيجابي أو على الأقل غير متعادٍ مع المحيط.
صفقةُ القرن وتداعياتُها على لبنان
يبدو أنّ لبنان سيكون أحدَ البلدان المُستَهدَفة بما يُعرف بـ « صفقة القرن» ، ذلك أنّ الصفقة لا تستهدف تصفية قضية فلسطين فقط، وإنّما إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين المحتلّة بما يتوافق مع المصالح الأميركية – الإسرائيلية المشتركة.
إنّ أجندة إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين إنّما تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقطع الطريق على أيّة نهضة حضارية في المنطقة، وبما يعيد توجيه بوصلة الصراع من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع عربي – عربي، وصراع طائفي – مذهبي – عرقي. وبالتالي يُدخِل لبنان دائرة الاستهداف، باعتباره أحد البلدان المقاومة للمطامع الإسرائيلية، بما يضمن إفقاده فعاليته في معارضة «الصفقة»، وكذلك حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضه؛ سواء بتسهيل هجرتهم أو بتوطينهم من خلال منحهم الجنسية اللبنانية.
بعد تولِّيه سُدّة الرئاسة الأميركية أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه التوصل إلى صفقة نهاية للصراع العربي الاسرائيلي زاعماً بأنّه سيحقق ما فشل أسلافه عن تحقيقه مستنداً إلى قدرته كرجل أعمال على المناورة وعقد الصفقات. وهو ما طرح مؤشّرات كانت تستوجب القلق والحذر الفلسطيني والعربي والدولي من هذه الخطة التي تتضمن بشكل واضح وأحادي الجانب المصالح الإسرائيلية، وتأخذ بالكاد مطالب الفلسطينيين بعين الاعتبار، حتى الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون سيادتها محدودة، فالصفقة كانت مجرد تبنٍّ من الإدارة الأميركية لمصالح «إسرائيل» بالكامل، وتجاهل لمطالب الفلسطينيين ،وبالتالي لن تؤدي إلى إحلال السلام، بعد أن جعلت من القضية الفلسطينية مجرّد قالب حلوى تحصل «إسرائيل» على القطعة الأكبر منه فيما لا يحصل الفلسطينيون إلّا على بعض الفُتات. إنّ صفقة القرن ليست صفقة؛ لأنّه لم يحصل تشاور مع الفلسطينيين حولها، بل هي خطّة إسرائيلية تبنّاها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وتتضمَّن إقامة دولة فلسطينية في صورة «أرخبيل» تربطه جسور وأنفاق، وعاصمتها «في أجزاء من القدس الشرقية»، مع جعل مدينة القدس المحتلَّة عاصمة مزعومة لإسرائيل، وحل قضية اللاجئين خارج حدود إسرائيل.
إنّ صفقة القرن» هذه، كما يُنظر إليها من واشنطن، تنطلق من الفكرة القائلة بأنّ الزمن (26 عاما مرّت على اتفاقية أوسلو للسلام) أثبت أنه لا يُمكن توقع التوصل إلى أيّ حل وسط في المدى المنظور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. تبعاً لذلك، فقد حان الوقت لفرض حل أحادي الجانب.. حتى وإن انتُهكت مبادئ القانون الدولي.. وحتى وإن قُدّم تبرير لكل المقتنعين بأن القوة الأميركية تنتهي بفرض قانونها في نهاية المطاف. وهذا يعني بالتأكيد أنَّ صفقة القرن لن تؤدي إلى إحلال السلام في المنطقة، بل ربّما تجلب توتُّراً جديداً وتقود إلى إشعال انتفاضة الشعب الفلسطيني لا سيّما وأنَّ هذه الصفقة كان قد سبقها اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة «لإسرائيل»، وهو ما يجعل المرء يعتقد بأنّ ما قام به ترامب كان الهدف منه ليس تحقيق السلام وإنّما دعم حليفه نتنياهو الذي يُواجه في داخل بلاده هجوماً عنيفاً نتيجة فضائح فساد، ويصارع بكل قواه من أجل الظفر بفترة حكم جديدة، كما أن ترامب حرص «على مساندة الرئيس الذي يُمارس عليه هذا الضغط من خلال إطلاق تصريحات مؤيدة للكيان الغاصب، حيث إنّ اتفاق سلام من هذا القبيل يحقق أحلى أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف بالنظر إلى الوضع الحرج الذي يمر به حاسماً هذه المرّة.
واللّافت في هذا الأمر أيضاً هو ردود الأفعال على خطّة ترامب الذي اعتبر أنَّ «القادة العرب لا يخشون اليوم إسرائيل بل إيران، حيث تمثّل فلسطين اليوم بالنسبة لهم حملاً زائداً»، فمن خلال إجراء مقارنة ولكن ما يثير القلق هي ردود فعل الدّول العربية المتواضعة اليوم على خطاب ترامب الذي يملي على الفلسطينيين ّ «اسرائيل» للسلام، في حين اكتفت جامعة الدول العربية بالدعوة إلى عقد اجتماع طارئ على المستوى الوزاري فقط.
لا شك بأن ردود الأفعال المتواضعة على صفقة القرن إنَّما تعود إلى أوضاع البلدان العربية الضعيفة من الناحيتين العسكرية والاقتصاديّة وذلك بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي الذي كان يصدّر الأسلحة لمصر وسوريا ما تسبّب باندلاع الحروب السابقة مع «إسرائيل» في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتراجع اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على النفط،، وانتشار ظاهرة «الربيع العربي» التي أدّت إلى الإطاحة بعدد من الرؤساء العرب عن سدّة الحكم والتي تزامن مع ظهور «الجماعات التكفيرية المسلّحة» أو ما بات يُعرَف «بالإرهاب التّكفيري».
لقد باتت صفقة القرن حديث الموسم إقليميّاً وعالميّاً، إذ إنّ هذه الصفقة ليست نزاعاً إسرائيلياً- فلسطينياً وحسب، بل تغييراً جدّيّاً في خريطة وكيانات الشرق الأوسط، وقد تطال هذه التأثيرات لبنان الذي يُعتَبر في واجهة الصراع مع «إسرائيل»، ومع قيام الإدارة الأميركيّة بإنشاء صندوق استثمار عالمي لدعم اقتصادات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة ولبنان هو من بين هذه الدّول والذي يستضيف ما يزيد على الـ400 ألف لاجئ فلسطيني حيث يعيش 174 ألفا و422 لاجئا فلسطينيا في 12 مخيّما و156 تجمُّعًا في محافظات لبنان الخمسة، – حسب إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية – والذي يرفض لبنان توطينهم وهو الذي استضافهم نحو 70عاماً.
لكن المفارقة أنّ تأثيرات صفقة القرن وتداعياتها على لبنان ستكون خطيرة على مستوى التغيير الجغرافي وترسيم الحدود مع «إسرائيل» في ظل الضغط الاميركي على لبنان بالقبول بخطّ « هوف» الذي يقتطع ثلث المنطقة الإقليميّة اللبنانيّة الغنيّة بالنّفط والغاز لمصلحة «إسرائيل»، كما سيواجه لبنان تغييرا ديموغرافيّاً ملحوظا وبتعديل في التوازن الطائفي الذي يقوم عليه النظام اللبناني نتيجة توطين نصف مليون لاجئ فلسطيني مقيمٍ في لبنان حالياً، مع العلم بأنه في حال موافقة لبنان على صفقة القرن، – وهذا أمر مستبعد – فأوّل هذه التّأثيرات سيكون جغرافياً، حيث سيتمّ زيادة مساحات الأراضي اللبنانية وذلك بـ «ضم أجزاء من سوريا»، بحسب خريطة المشروع. أمّا اقتصاديّاً، فسوف تتزايد الاستثمارات العربيّة والأجنبيّة على أراضيه، بحسب ما زعم به ترامب عن مشاريع استثماريّة في الدّول العربيّة المشاركة بخمسين مليار دولار أميركي، ما من شأنه أن يعزّز وضع البلاد في كافة المجالات الحيويّة، إضافةً إلى تفعيل المرافئ البحريّة بناءً على ترسيم الحدود البحريّة فالصفقة تستخدم المدخل الاقتصادي والمالي كمدخل للدفع باتجاهها؛ حيث إن المعاناة الهائلة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وتصاعد الدَّين القومي، والعجز الضّخم في الميزانية، والإشكالات المعيشية المزمنة في الكهرباء وغيرها. كلّها يمكن أن تجد حلاًّ بدعم أمريكي وغربي؛ إذا ما أعطت الأطراف اللبنانية الفاعلة أو معظمها ضوءاً أخضر باتّجاه متطلّبات الصفقة، وهو ما ينطبق على إمكانية حل إشكالية التنقيب عن الغاز في الساحل اللبناني واستثماره وتصديره، دون اعتراضات أو عراقيل إسرائيلية.
في انتظار مرحلة التّصعيد القادمة، يمكن القول بأن صفقة القرن لا تعني أن «إسرائيل» وصلت برّ الأمان، فحتى الآن لم يكن السلام ممكناً إلّا مع دولتين عربيتين، مصر والأردن. فليست المشاعر العربية تجاه «إسرائيل» هي التي تغيّرت، بل الظروف التاريخية والتبعيات والأولويات الوطنية، وهذه يمكن أن تتغير مرّة أخرى مستقبلا بنفس السرعة التي تمت بها في الماضي، فيما يبقى أنّ الأمر متوقف الآن على وحدة الصف الفلسطيني، ووحدة الصف اللبناني، في مواجهة الصفقة الجائرة المقترحة. كما سيتعيّن على الدول العربية أيضًا إظهار موقفها التاريخي بمواصلة التمسك بالقضية الفلسطينية والمقدّسات، مع التعويل على دور لدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين للحد من الغلو الأمريكي وعدم جعل الفلسطينيين يشعرون بالعزلة.
هل سيجد العرب أنفسهم مجدّدًا منقسمين أمام القرارات والآراء المتضاربة، ولتدخل المنطقة العربية مرحلة جديدة بين الرّفض والقبول؟ لا يسعنا سوى الانتظار. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لبنان والشرق الأوسط كلّه «في عين العاصفة».