الموحِّدُ مسؤول، بمعنى أنَّهُ يُسأل عن أعمالِه وعن مكنونات صدره أمام الله تعالى. والعبْد دون إحساسٍ قلبيّ صادق بالمسؤوليَّةِ التي في عنُقه يُصبحُ ويُمسي وهو عُرضة لأهواء النّفس تأخذُ به كما تشاء مُبتعدةً عن نورِ العقل الذي لم يعدم غذاءَه بالمعرفةِ التوحيديَّة. وهذا أمر بالغ الخطورة يحذِّرُ منه الأميرُ السيِّد قدَّس الله سرَّه باعتباره «استدراج إلى غير الرِّضى»، أي إلى غضب الله عزَّ وجلَّ.
يقول السيِّد الأمير(ق) ان العبد مطالب بثلاث… نَفَسٌ(1) يمضيه بغير محل الرضى، ولحظٌ(2) يلحظه في غير اعتبار في تصاريف القضا، ونطقٌ(3) ينطق به في غير سبيل الرضى.
والـمسؤوليَّةُ التَّوحيديَّةُ دقيقة وجليلة يحملُها المرءُ في ذاتِه كلّ وفق المستطاع مع الحذر الشديد من الغفلة والإهمال واستسهال الأمر. وشيوخُنا من السَّلف الصَّالح جعلوا من ميزان الخوف والرَّجاء قاعدةً جوهريَّةً من قواعد المسلك. وقيل في الصوفيَّةِ القديمة: «إنْ غلبَ الرَّجاءُ على الخوْفِ فسد الزَّمان»، وقيل في المأثور التوحيدي: «مثَلُ الخوْف والرَّجاء مَثَل جناحين إن ضعفَ أحدُهُما سقَطَ المريدُ كما يقع الطَّيْرُ أرضاً عاجزاً عن التَّحليق».
الثَّمر الحقيقي هو نعمة شعور النّفس بالرِّضى حين تُدركُ بكينونتها الجوانيَّة معنى السَّعادة والاغتباط الرُّوحي.
ويعتبر الأمير ناصر الدين التنوخي: «ان المعترف بذنبه ازكى لديه من المدّل بعلمه عليه». ويحث السيد الأمير(ق) على الخوف والرجاء والاستحياء فيقول: «لا يَخَافَنَّ أَحَدُكُمْ إِلا ذَنْبَهُ، وَلا يَرْجُوَنَّ إِلا رَبَّهُ، ولا يستحي إذا لم يعلم الشيء ان يتعلمه، ولا يستحي إذا سُئل عما لا يعلم ان يقول لا اعلم».
العودةُ إلى مواجهة النّفس بالحقائق هي السَّبيل إلى استدراكِ الأمر. عودةٌ تكونُ فيها المعرفةُ المرسومةُ من صاحب الحقِّ «مرآةً وعلماً»، أي نواجهُ النّفسَ بميزان الحقّ وأوَّله قواعد الأمر والنَّهي. وهي قواعد من شأنها حماية الجوارح وصوْنها من كل أشكال التلوُّث المحيطة بنا. صفاءُ النيَّة في القلب، ويتبين من مواعظ الشيخ الفاضل(ر) أنّ القلب يشمل العقل، والبصيرة، والنيّة الطيبة، وجاء من مختصر اقواله بهذا المعنى:
«فعليك بحفظ القلب وإصلاحه وتطهيره وبذل المجهود في ذلك، وأذكر أربعة أشياء، الأولُ قوله تعالى: «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، وقوله تعالى: «يعلم ما في قلوبهم». والثاني قول النبيِّ(ص)، إن الله لا ينظر الى صوركم وابشاركم وإنما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم، فالقلب إذاً موضع نظر رب العالمين. الثالث ان القلب هو الأصل والمركز، والجوارح كلها تبع له، وإذا صَلُحَ المتبوع صَلُحَ التابعُ. والرابع إنَّ القلب خزانة كل جوهر نفيس للعبد، أولها العقلُ واجلها معرفة الله تَعَالَى التي هي سببُ السعادة في الدارين، ثُمَّ البصيرة الشفافة التي تُدرِكُ الأشياء وبها التقدم والوجاهة عندَ الله تَعَالَى، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها يكون ثواب الأبد».
نقاءُ العيْن بحجبها عن كلِّ ما يُـبطِلُ الحياء، والتزام اللسان أوَّل الخصال وأعظمها وهو الصّدق، واجتنابُ الإنصات إلى كلِّ لغْوٍ أو غيبة أو نميمة أو لجْلجة، وصدق اللسان التزامه بترك الكلام فيما لا يعني(٤)، قال بعضهم، الكلام أربعة أقسام: قسم ضرر محض، وقسم نفع محض، وقسم فيه منفعة وضرر، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أما الذي فيه ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، أما الذي لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، فلا يبقى الا القسم الرابع وهذا الربع لا يخلو من خطر عدم الدقّة.
وتطهير الجوف من كلِّ حرام، وقيل: «إن باب الجنة له مفتاح والمفتاح كلمة التوحيد. وله أسنان أربع لا ينفتح الباب الا بالمفتاح بأسنانه، فالسن الأولى تطهير القلب من الخبث والخيانة. والسن الثانية تطهير اللسان من الكذب والنميمة. والسن الثالثة تطهير البطن من الحرام والشبهة. والسن الرابعة تطهير العمل من الرياء والبدعة. فإذا صح للعبد هذا المفتاح بأسنانه انفتح الباب ودخل الجنة وشاهد العظمات. ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر».
وإخضاع آلة الرُّوح أي الجسم إلى كلّ ما يُرضي الله، وما يُرضيه هو استخدام الشيء لِما خُلقَ له دون انحلال الإرادة وطغيان الرغبة في استخدامها في المعاصي. وللمعاصي شبكة واسعة لا ينجو منها إلَّا كلّ عاقل لبيب أو كلّ مستجيب مُحبّ للفضيلة ولمعلّمي الفضيلة ولأهل الفضيلة.
إنَّ طبائع الخيْر التي هي بيتُ الدّين ومسكنُه لا يُمكنُ أن تستقرَّ من دون تغذيتِها عِلماً وعملًا لا انفصال لأحدِهما عن الآخَر. وهذا هو جوهرُ المسؤوليَّةِ الرُّوحيَّة التي يحملها أمانةً كلُّ من التزمَ السلوكَ نهجاً توحيديّاً مثمراً. كان الشيخُ(ر) الفاضل يسألُ الله تعالى في دعائه الجليل «صحَّة الدّيانة» وهو الّذي أمضى عمره سائحاً في معارج الطاعات. هذا درسٌ عظيم علينا امتـثاله على الدوام. هذا أمرٌ جوهريٌّ لنا في كلِّ وقت. على الموحِّد أن يكون في عصرنا هذا، أي في يومنا هذا وفي كل يوم، شاهداً للفضيلةِ والاتّزان والخيْر والأخلاق الرَّفيعة والأدب الرّزين. عليْه أن يكتسبَ سمةَ الجُودة بقلبه وبروحِه وبصفاء داخله الأمين لتعاليم الكتاب الكريم. وليست مسألة جانبيَّة أن يشيرَ الأميرُ السيِّد قدّس الله روحه إلى أنَّ العائق يأتي «من قِـبَل العبْد» الذي لا يجب أن يرمي «سَوْطَ التأديب من يده» أراد تأديب نفسِه وتطهيرها من كلّ خيانة.
قيل من أعظم الآفات ثلاثة: رؤية الخلق، ورؤية العمل ورؤية النفس، والواجب على العبد أن يغيب عن الثلاثة برؤيته خالقه تَعَالَى «ان تعبد الله كأنك تراه» هي المحبة لله وقال بعضهم من عبد على المحبة لا يحب ان يرى عمله سوى محبوبه وقال بعضهم: «من أحب أن يعرف بشيء من الخير او يذكر به فقد أشرك في عبادته».
إنَّ الاجتماع على كلمة التوحيد هو أمرٌ جلل لا يليقُ به إلَّا زكاء العمل، أيْ المنقَّى من كلِّ دواخل طباع الخبْث عليه. نقولُ «الله يــثمر» والثمر الحقيقيّ الذي تسمو إليه نفوسُ الأجاويد هو رياضة النّفس بما أوتيَ لها من لطائف العقل ومعاني التَّوحيد، واتّحادُها به قلباً وقالباً أي علماً وعملًا كما هو سمتُ الشيوخ الثقات على الدوام. والثَّمر الحقيقي هو نعمة شعور النّفس بالرِّضى حين تُدركُ بكينونتها الجوانيَّة معنى السَّعادة والاغتباط الرُّوحي الذي يحقِّق أجمل ما في حقيقة الإنسان من معنى، وهو ائتناسُه بمن هو أحقّ بالوجود من كل موجود.
حواشي
1- (كل شهيق وزفير للإنسان) تمضي في تصرف وعمل بغير رضى الله.
2- نظرة العين للحظات أو ثوانٍ) والاعتبار (النظر في أحوال الدنيا كالموت والحياة والاتعاظ منها).
3- نطق أي كلام مهما كان قليلاً او كثيراً بغير ذكر الله ورضاه.
4- ﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ (النساء 148)