الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

عباس أبو صالح

بعـــد الـــوداع الأخيـــر

د. عباس أبو صالح

سيــــرة
مناضــــل

هذه المرة لم يسافر إلى أميركا ليتخصص فيها، توقفت منذ زمن رسائله التي كان يعبر فيها عن شوقه إليها وإلى الأولاد، ويشرح تفاصيل حياته اليومية في الغربة معللاً النفس بأمل اللقاء القريب. السفرة هذه المرة كانت رحلة إلى الخلود، إلى حيث كان هو يؤمن بأنه المستقر الأرفع للوجود وقد كان في لحظاته الأخيرة يشد عزيمة الأسرة الحزينة المتحلقة حوله بإشارات حاول من خلالها القول إنه يصعد أو أن روحه بدأت رحلة الخلاص بعيداً عن الجسد المتعب والمنهوك. مات مبتسماً وعلى وجهه مسحة سلام وتسليم لمجرى الزمان ولنقلة الانعتاق من ثقل التراب.
أما شريكة حياته فهي اليوم وحيدة مع الذكريات ومع حصاد الرسائل والمكاتبات التي لا تزال تحتفظ بها وترعاها رغم مرور زمن عليها، وهي ولا شك رسائل ثمينة عاطفياً كما أنها سجل موجز لأخبار هذا المكافح الصلب والمتواضع ولما أنتجه خلال سنوات طويلة من النضال العصامي.
بعد وفاته، وجدت “أم نضال” نفسها تذهب إلى صندوقه الخشبي الذي لم تعرف يوماً ماذا يحتوي. سألته مرة إذا كان في إمكانها الإطلاع على ما فيه قال وقتها: “شو بدك فيه، هيدا في كتب وأوراق ربما تهمني وحدي”.. كأن الصندوق الذي بقي من رائحة الأحباب أصبح فرصة بالنسبة اليها لتعرف جديداً لم يقوله لها شريك العمر خلال شراكة الحياة التي تخطّت الثلاثين عاماً.

آخر كلماته
من خلال حبّي للأرض تعمَّق إيماني بوجود خالق لهذا الكون وتـرسّخ انتمائي إلى التــوحيد وإلى أهلي الموحـِّدين الدروز

تجلس السيدة مي أبو صالح والحزن يخيّم على معالم وجهها، تتصفّح معنا الأوراق التي جمعتها من صندوق زوجها الراحل. بعض تلك الأوراق المكتوبة بخط يده تدوين لوقائع جلسات له ولرفاقه في المدرسة حيث كان يصغي لمداخلات زملائه ويكتب نقداً لكل منهم، معلّقة:
“أول مرة أجد مستندات كتب فيها انتقاداً لشيء”. وتبدأ بسرد قصة الرجل الذي لم يثنِه الفقر والمصاعب عن خوض غمار التحدي لتحقيق طموحه وأخذ مكانه المرموق في مسيرة الحياة.
لم تكن بلدة بتلون الشوفية تعلم سنة 1942 أنها أنجبت ابناً مبدعاً سيتخطى بنجاحاته حدود الوطن، فالزمن وقتها كان زمن زراعة وكان العلم نادراً، ومن أراد أن يتعلم كان عليه أن يكون على استعداد لتحمل المشقّات.
كان الصبي الناشئ عباس أبو صالح كغيره من أبناء جيله يعمل يومها مع أهله في الزراعة ورعاية بعض الماشية التي تشكّل جزءاً من الاقتصاد المنزلي، لكن قلب الصبي عباس كان ومنذ يفاعه متعلقاً بالعلم. ولشدة حبه للعلم فقد كان يأخذ كتابه معه إلى الحقل. يعمل ويدرس في الوقت نفسه. لم يكن يطلب شيئاً من أهله، وكان لخلوات الزنبقية التي تقع بين بتلون وكفرنبرخ ويملك أهله أرضاً فيها مكانة مميزة في قلبه، حيث كان يتبارك فيها وهو الذي أوصى قبل وفاته بقليل بتخصيص ربع مردود بيع كتبه لتلك الخلوات.
بين مدرسة السنديانة ومدرسة الشويفات الدولية (شارلي سعد) تنقل الراحل بين عدد من المدارس، بسبب ضعف الإمكانات المادية، لكنّه تميز في جميع الأمكنة التي ارتادها للتعليم باجتهاد ملف وبتفوقه على أقرانه وبقوة ذاكرته لدرجة أنه كان يحفظ محتويات الكتاب من أول مرة يقرأه. كان شغفه بالعلم يزداد في وقت كان كل شيء حوله يحاول ردعه عن هذا الطريق الصعب. وعلى سبيل المثال فقد كان والده البسيط المؤمن بحياة القرية وقدر الزراعة وكذلك جاره يسخران منه ويحاولان أن يمتحناه بالطلب إليه أن يعيد ما قرأه عن غيب ظناً منهما أنه سيعجز ولكنه كان يكسب الرهان ويتركهما مع ملاحظاتهما الساخرة في حيرة وحرج.
عدم تشجيع الأهل لاحقه الى الجامعة، وفي الوقت الذي حرمه النقص في منهج الرياضيات في الصف الثانوي الثاني من التخصص في الهندسة التي كان يحبها، حرمه والده من التخصص في الحقوق التي يحبها أيضاً انطلاقاً من مقولة: “ليس هناك عمل للمحامي”. وبقيت الجامعة الأميركية نغصته حيث كان مجبراً على تركها لأنه لم يستطع استكمال دفع القسط. وهكذا حط به الرحال في كلية التاريخ في الجامعة اللبنانية، وهناك فتح له تفوقه أبواب أميركا حيث حصل على منحة دكتوراه. عاد إليه حلم الهندسة وحاول فعلاً العودة إليها، لكن الأستاذ المشرف نصحه بألا يغيّر اختصاصه قائلاً: “كل بلد بحاجة الى مؤرخ”.

كلماته الأخيرة

لم يتمكن الفقيد الذي أقعده المرض من حضور حفل التكريم الذي نظمه المجلس المذهبي، لكنه أرسل كلمة مسجلة احتوت كلماته الأخيرة التي جاء فيها:
“لم أفكّر يوماً بمثل هذا التكريم، فأنا ابن فلاح غرس في قلبه، منذ الصغر، حب التواضع وعدم الظهور والمباهاة، وقد عملت مع والدي أحياناً، قبل وأثناء دراستي الطويلة، فعشقت الأرض وتعلقت بها وتعلمت من خلالها مبدأ أساسياً، وهو السعي للكسب الحلال. ومن خلال حبي للأرض تعمّق إيماني بوجود خالق لهذا الكون، وترسّخ انتمائي الى التوحيد والى أهلي الموحدين الدروز.
ومن خلال العمل بالأرض وحبي لها، تعرفت بالعمق على هويتي وهوية هذه الأرض، وثبت لي أننا لم نكن مجرّد شريحة صغيرة مقاتلة في هذا الشرق، وقد دافعنا عن بلادنا وبذلنا من أجلها التضحيات الجسام، للمحافظة على هويتنا وكرامتنا ووجودنا”.
“إن علينا واجب النهوض وتقديم التضحيات والمبادرات، لإنشاء مؤسسات مواكبة للعصر، كي لا ينسى أبناؤنا تراثهم الزاخر وكي لا نصبح، مع الوقت، صفحة منسية في التاريخ، وذلك لا يتحقق إلا بالعلم، الذي هو السلاح الوحيد للمحافظة على المجد وجوهر التوحيد وكرامة الإنسان”.

د. كميل سرحال:
لم يسيء إلى أحد ولو قيد أنملة والكل يذكره بالمحبة والإنسانية والتواضع، ورغم الهجرة والعيش في الخارج بقي محافظاً على القيم والعادات والتقاليد

لم تكن المنحة كافية لتغطية مصاريفه، وكانت امكانياته المادية صعبة لدرجة أنه تأخر في تقديم أطروحة الدكتوراه لعدم توفّر المال اللازم لطباعتها، ولكنّه لم يطلب يوماً من أحد وحاول تأمين حاجته من تعبه من دون أن يشعر أحداً حتى أهله. وفي هذا الصدد يقول صديقه كميل سرحال بغصة: “رحمة الله عليه كان عنده عزة نفس عالية جداً”. ويشرح أنهما كانا يعيشان معاً في بيروت في الفترة التي كان عباس أبو صالح يتحضّر فيها للسفر الى أميركا، ورغم ضيق أوضاعه المادية لم يقبل أن يقترض المال منه. ويشيد سرحال بأخلاق الراحل العالية وتهذيبه وأدبه، ويقول: “منذ نشأته ونفسه ميّالة الى الخير. سكنّا معاً فترة 7 أو 8 سنوات، كنت آتي من عملي منتصف الليل أجده يدرس وأذهب الى العمل في السادسة صباحاً يكون يدرس أيضاً، كان ينام بين ساعتين وأربع ساعات يومياً فقط، ورغم شغفه بالعلم كان عنده روح الفكاهة ويحب الشعر والزجل. منذ أن أخذ شهادة “السيرتيفيكا” كان يصرف على نفسه من تعبه ولم يكلّف أهله بشيء، ولا أذكر أنه أساء الى أحد ولو قيد أنملة وكان الكل يذكره بالمحبة والإنسانية، وطوال حياته رافقته ميزة التواضع ورغم تغربه وعيشه في الخارج بقي محافظاً على القيم والعادات والتقاليد”. عاد الدكتور أبو صالح الى لبنان سنة 1971 حاملاً شهادة الدكتوراه بتفوق، والتحق بالجامعة اللبنانية وبعد معاناة حقق حلمه بالانضمام الى الجامعة الأميركية في بيروت، ولكن هذه المرة كأستاذ محاضر ودرّس فيها على مدى 15 عاماً.
تنتقل السيدة أبو صالح الى الجزء الأعز على قلبها، الى تلك الحياة التي شاركته فيها ابتداء من سنة 1979 تاريخ زفافهما. فإبنة العز صبرت كثيراً وإن لاقت صعوبة في التأقلم مع ظروف الرجل المكافح الذي رغم ضائقته المادية كان يعلّم أخاه في الجامعة الأميركية على حسابه، والمفارقة أن الكل كان يظن أن الأخ يتعلّم بمنحة فيما الحقيقة أن الراحل كان يقدّم عملاً مجانياً لمؤسسة المجلس الدرزي للبحوث والإنماء مقابل تغطية تكاليف دراسة أخيه.
حنوه واهتمامه امتدا من عائلته الكبرى الى عائلته الصغرى التي غمرها بالحب والعطاء من دون أن يطلب شيئاً. وبغصة الحنين الى الماضي تقول زوجته: “كان من النوع العاطفي والحنون جداً، وكان يساعدني كثيراً وعندما أكون حاملاً يهتم بالأولاد. ولم أشعر يوماً أنه يحتاجني، حتى ثيابه كان يرتبها وحده”. وتلفت الى أنه ورغم أوضاعه المادية الصعبة كان كريماً جداً ولبّى رغبتها واستأجر

المجلس المذهبي يكرّم الفقيد

أكرم شهيب: صحح تاريخاً شوّهه الحقد منذ القرن التاسع عشر ولا يزال
د. عصام خليفة: مرجع استثنائي في التسجيل الموضوعي لتاريخنا المعاصر

وكأنه كان يشعر أنه سيكون الوداع الأخير، أراد أن يشكر من أحبوه وقدروه بأن يكون بينهم، ولكن المرض كان أقوى منه ومنعه، فكرّمت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز الحاضر الغائب الدكتور عباس أبو صالح تقديراً لعطاءاته الفكرية وكتاباته التاريخية القيّمة قبل أيام قليلة من رحيله.
تخللت التكريم كلمات أشادت بمسيرة الدكتور أبو صالح، بدأت بكلمة ممثل صاحب الرعاية الاستاذ وليد جنبلاط، النائب أكرم شهيب الذي اعتبر أن الدكتور أبو صالح مكرّم بما أعطى وأبدع وبما وثّق وأرّخ.. مكرّم من رفعة خلق، وعلو همة، وسمو هدف، وكبير جهاد، مشيراً الى أنه ساهم في إحياء تراث بني قومه، وكتابة تاريخهم المجيد بصدق وموضوعية، بعدما شوّهته الأقلام الحاقدة منذ القرن التاسع عشر ولا تزال.
أما أستاذ الفكر الإسلامي في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور سامي مكارم فقال في كلمته: “إن الدكتور عباس أبو صالح حرص على أن يدرس التاريخ بموضوعية من جهة وبعمق من جهة أخرى، من هنا تجنبه الأسلوب الخطابي في كتبه. ومن هنا حرصه على أن يرد كل حدث تاريخي الى أسبابه، ودرس نتائجه بتجرّد، واتخاذه العبر من هذه الأحداث”.
واستشهد بما كتبه الدكتور أبو صالح في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”، والتي جاء فيها: “أخذ الولاء الطائفي ينمو على حساب الانتماء القومي والوطني، وبرزت مشاعر منها ما هو انكماشي وانطوائي ومنها ما تجاوز القومية الى ولاءات أخرى يمليها الشعور الطائفي السياسي. ونخشى أن تكون هذه المشاعر قد أخذت تؤثر بدورها في الموحدين الدروز، كما أثرت في بعض الطوائف اللبنانية، وهذا من شأنه أن يسيء الى ولاء الدروز الوطني والقومي.”
من جهته، الرئيس الأسبق لرابطة الأساتذة في الجامعة اللبنانية، الدكتور عصام خليفة عرض لسيرة الدكتور أبو صالح في كلمة قال فيها: “الدكتور عباس أبو صالح ركن أساسي ومرجع استثنائي في كتابة تاريخنا الحديث والمعاصر، وهو من الأكاديميين الذين تركوا الأثر الكبير في تربية طلاب التاريخ في جامعتنا الوطنية وفي جامعات خاصة أخرى، نتذكره ونتذكر أمثاله ممن رسخوا قيم العلم والأخلاق والوطنية في هذه المؤسسة”. وقدّم الدكتور خليفة أمثلة على الدقة العلمية وسعة المراجع وعمق التحقيق التاريخي الذي أجراه الدكتور أبو صالح في كل من كتب التاريخ التي ألفها، منوّهاً بأمانته العلمية ودقته البالغة في تقصي أحداث التاريخ.
وكان لمشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز كلمة أيضاً ألقاها المستشار الشيخ غسان الحلبي الذي بدأ بالقول: «د. عباس أبو صالح: اتزان التأريخ»، مشيراً الى أن من قرأوا كتاب «تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي»، أدركوا أنه بات للدروز من يملك رؤية متزنة لتاريخهم، يغلب فيها النهج العلمي، والمقاربة العقلانية المشبعة بحس المسؤولية، على انفعال الوجدان، وجنوح العاطفة. واعتبر أن صفات المؤرخ الموضوعي المتزن لم تتجسد فقط في كتاباته ودراساته ومنهجيته الصارمة في اشرافه على الرسالات والأبحاث الجامعية، بل وأيضاً في شخصه ومسلكيته وطبعه كرجل علم يحترم المعرفة، ويجّل أصول طرائق اكتسابها والتعبير عنها. وظلّ، خلال سنوات طويلة من العمل الصامت الدؤوب، مخلصاً لتلك المبادىء مثل ناسك يقدّم قربانه في هيكل العلم.
تحدث رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى أيضاً في خصال المكرّم، قائلاً: «إن المكرّم غلب عليه التواضع الصادق والرغبة في العمل الصامت والابتعاد عن الأضواء، ولم يحب المباهاة أو الاحتفال بنجاح أو تألق، كسواه ممن هم أقل انتاجاً وغنى، وتلك سجيّة فيه رافقته منذ الفتوة»، مضيفاً: «الا أننا لا نغالي اذا اعترفنا أننا تأثرنا بك وبما كتبت وأوحيت، ورحنا معك ومن ورائك نردد كلّما عصف الزمان واحتاج القوم الى جرعة عنفوان. لن أنسى حديثك عن تضحيات الأجداد بدمائهم، وعن عرقهم المصبوب عند كل تل وجل وجبل وسهل، وعند كل منعطف في المكان والزمان، وكأنك كنت تزرع فينا العزم، تنادينا بصوتك الخافت المدوي لكي نعود الى الأرض، نزرعها ونبنيها ونحميها ونعيش وحدتنا عليها، بدل أن نتغنى بمجد ضائع أو ننجرّ الى خصام أو صدام».

جامعة ظفار تودّع د. عباس أبو صالح

شهيد المعرفة لم ينحنِ للظلم
ولم تردعه الصعاب أو تكسره الآلام

أقامت جامعة ظفار في سلطنة عمان حفلاً تأبينياً عن راحة نفس الراحل الدكتور عباس أبو صالح، دعا إليه عميد كلية الآداب والعلوم التطبيقية ورئيس الجامعة بالوكالة، كما لبى الدعوة زملاؤه من الأساتذة والإداريين وموظفي الجامعة والطلبة.
تحدث في الحفل نائب رئيس الجامعة الدكتور أحمد صميلي ممثلاً الرئيس بالوكالة، الذي اعتبر الدكتور أبو صالح “شهيد المعرفة” لأنه سقط في المعمعة في الصف وهو يجاهد، ولم يترك التعليم بملء إرادته بل أجبره المرض على ذلك. وتساءل: “كم هو لغز كبير أن يشاء القدر أن نخسر فقيدنا الغالي وزميلنا العزيز ونحن على أهبة الامتحانات الأخيرة، كأنه يكمل السنة الدراسية معنا ويودعنا في آن إلى الأبد”.
ثم تحدث عميد كلية الآداب والعلوم التطبيقية الدكتور نمر فريحة، فأشاد بمناقبية الراحل وعلومه الغزيرة وصفاته الحميدة وحسن ادائه وتصرفه في القسم والجامعة. وأتى على ذكر الصعاب التي واجهها المرحوم في الأشهر الأخيرة من وجوده في الجامعة إذ بدأ الوهن يبدو عليه ونال من نشاطه، ولكنه بطبعه المشرق وروحه المرحة استطاع أن يخفي آلامه عن أقرب أصدقائه وأخلص زملائه. وقال إن شعوره بالتضحية كان لا يعرف الحدود. ودان الدكتور فريحة جشع شركات التأمين التي تركته بلا غطاء لأن عقد شركة التأمين في الجامعة يستثني المرض الذي ألمّ بالدكتور عباس، فصرف كل ما ادخره خلال سنوات التعليم على الاستشفاء وترك هذه البسيطة مستديناً ليغطي نفقات الطبابة. ووصف الدكتور فريحة زيارته الأخيرة إلى المرحوم الدكتور عباس في المستشفى في بيروت، وكيف كان يتحمل آلامه بصبر وبروح الدعابة، وكيف كان يفكر بالجميع ويسأل عن أحوال كل زملائه في الكلية فرداً فرداً متمنياً لهم النجاح والتوفيق.
أما الدكتور مفيد العبدالله، الأستاذ في قسم اللغة الانكليزية الذي قضى مع الدكتور عباس الكثير من الوقت في جامعة ظفار، فوصف كيف كان الدكتور عباس يحبّ الحرية من كل قلبه، ويؤمن بالديموقراطية فلا يرضى بإذلال أحد ولا يقبل أحداً أن يذله. كان صريحاً في آرائه، جريئاً في أفكاره، لا يلين أمام الصعاب، لا ينحني للظلم ولا تكسره الآلام”. وأشاد الدكتور عبدالله بسعة علوم الدكتور عباس ومعارفه في التاريخ وحبه للشعر والزجل والنكتة.
اختتم الحفل بكلمة للدكتور إبراهيم النجار الذي يعتبره الجميع أخاً للراحل لأنهما قلّما افترقا، فتحدث عن رفقتهما الطويلة، إذ كانا زميلين وجارين في الجامعة الأميركية في بيروت منذ سنة 1988، ورفيقين على مدى ستة أعوام في ظفار.
كانا يحللان الأحداث بعمق وكان المرحوم غالباً ما يلجأ إلى التاريخ ليضفي لمسة وواقعية على الأحداث، “وعندما لا توجد أية أحداث طارئة في العالم كان يعمد إلى الزجل والنكات لكي نتسلى ونمضي الوقت”. والآن بعد فراقه، تغيرت الأمور، فالدكتور نجار بلا شريك يذهب معه إلى العمل ويعود منه ولا جار يتحدث إليه.

أطلق على ابنه البكر اسم “نضال” تيمناً بحياة الكفاح التي عاشها وبنجاحه كإنسان

منزلاً في الشويفات قريباً من منزل أهلها بعد أن لفتته إلى صغر منزله في منطقة بلس في الحمراء، وبقيا في المنزل المستأجر الى أن أصبح عاجزاً عن الدفع واضطر الى تركه والعودة الى بلس. وتتابع: “عانينا كثيراً أول زواجنا، كان المنزل عبارة عن غرفة ومطبخ، وبقينا على هذه الحال حتى بعد أن أصبح لدينا 3 أطفال، مما كان يدفعه للبقاء في الجامعة حتى منتصف الليل ليعمل”. ورغم ذلك كان يدعو زملاءه في الجامعة الى الغداء قائلاً أنهم عازبون وليس هناك من يطهو لهم.
لم يقتصر حبه للعلم على نفسه بل شجّع زوجته على متابعة دراستها ونيل شهادة دبلوم تعليم. وتعود السيدة مي بالذكريات الى أول فترة زواجهما: “كان حساساً ومرهفاً ويحب الفن، أخذني إلى ايطاليا ولأنه غير قادر على شراء اللوحات الخالصة، كان يشتري صوراً ويقول لي أنا أشتري لها إطاراً”. ولأنها تحبه قررت أن تكون هي رسّامته، وبعد أن عادا اشترى لها أدوات الرسم وتعلّمت عند الفنان حموي ورسمت 45 لوحة. أما عن أولاده فتقول: “أطلق على ابنه البكر اسم “نضال” لأنه عانى حتى وصل. ولم يميّز بين الصبي والبنت، كان يعطيهم كل ما يريدون ويضحي من نفسه لأجلهم، وكنت ألومه على عاطفته، لأنهم يعتمدون علينا كثيراً فلو قساهم لكانوا أنجح، فالظلم رحمة أحياناً”. أما أحفاده فلم يتمكن من أن يراهم بسبب موعده المفاجئ مع القدر.
عزة نفس الراحل برزت في عدد من محطات حياته، ومنها عندما ترك العمل في الجامعة الأميركية في بيروت بعد مضايقات تعرض لها، تركها من دون أن يخبر أحداً بما حدث معه. بعدها درّس سنة في جامعة AUST، ومن بعدها انتقل للتعليم في جامعة ظفار في سلطنة عمان، وكان يتنقل بين لبنان وسلطنة عمان.
كان خريف 2010 صعباً على الراحل حيث بدأ يعاني من السعّال ولم يستطع أحد أن يشخّص حالته في البداية، البعض ظنّ أنه يعاني من مرض السلّ الى أن تبين أن مرض السرطان نال منه. كان ايمانه أقوى من معاناته مع المرض، وكان يرد على زوجته عندما تسأل من أين أتى هذا المرض: “لا تقولي ذلك، فهذا اعتراض على مشيئة الله”. قاوم المرض بقوة وإرادة، وحاول ألا ينام في الفراش وقد أثارت عزيمته استغراب الطبيب الذي كان يسأل أسرته: كيف يمكنه وهو في مرضه المتقدم أن يقف ويسير منفرداً على قدميه؟ كان يقول لزوجته لو كان هناك أمل واحد في المئة سأتمسك به، ولكن الأمل كان مفقوداً وخطفه المرض من بين عائلته التي بقي حاضراً معها حتى آخر رمق من حياته… ويروي ابنه البكر نضال كيف كان في آخر لحظات حياته يضغط على أصبعه وكأنه يحاول أن يقول له شيئاً، ولكن الكلمة الأخيرة لم تكن له بل للمشيئة الربانية التي أخذت رجلاً قلّ مثيله في الاستقامة والتواضع وقوة العزيمة… رجل ترك إرثاً غنياً ليس لعائلته فقط بل لمجتمع الموحدين الذين تعلق بهم وأحبهم وأرخ أحداثهم ومآثرهم ولمهنة التأريخ الأمين التي أتقنها ومارسها بأمانة وأخيراً للعرب جميعاً ولبلده لبنان.

بطاقة تعريف

• الدكتور عباس سعيد أبو صالح من مواليد 1943 في بلدة بتلون الشوفية.
• تلقى علومه الابتدائية في بلدته بتلون ثم في بعقلين ونال الشهادة الثانوية من مدرسة الشويفات الدولية.
• حاز على الإجازة التعليمية في التاريخ من الجامعة اللبنانية بدرجة امتياز، وكان أول من أرسل من الجامعة بمنحة الى الولايات المتحدة الأميركية، فتسلّم شهادة تقدير من أستاذه الكبير المؤرخ فؤاد افرام البستاني.
• نال شهادة الكفاءة من كلية التربية في الجامعة اللبنانية وأرسل بعدها بمنحة إلى جامعة تكساس حيث حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ بامتياز.
• درَّس في الجامعة اللبنانية وأشرف على رسائل الماجستير فيها، كما عيّن رئيساً لقسم العلوم الاجتماعية والاجتماعيات في المركز التربوي للبحوث والإنماء، ومدرساً لمادة الفكر والثقافة في الجامعة الأميركية في بيروت لمدة ثلاث عشرة سنة وفي جامعات خاصة أخرى، كما عين عضواً في لجنة الامتحانات لمباراة الدخول الى سلك وزارة الخارجية.
• شارك في لجنة تأليف الكتاب المدرسي لمادة التاريخ في المركز الوطني للمعلومات.
• عيّن من قبل الجامعة الأميركية في بيروت استاذاً في جامعة ظفار (صلاله) في سلطنة عمان، وبقي فيها حتى سنة 2011، وكان عميداً لمادة تاريخ الفكر والثقافة والعلوم الاجتماعية.
• له ثلاثة كتب ومجموعة من المقالات والدراسات والمساهمات الفكرية، من أبرزها: تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي (1980)– التاريخ السياسي للإمارة الشهابية في جبل لبنان (1984) – الأزمة اللبنانية عام 1958 في ضوء وثائق يكشف عنها لأول مرة (2000).
• لديه أبحاث عديدة، نشرت في مجلات علمية منها: الدروز في موسوعة لوميير عن دائرة المعارف الفرنسية – أبي هلال، الشيخ الفاضل، حياته الاجتماعية – الحياة الفكرية في لبنان خلال القرن الثامن عشر – 1981
• عمل على تأليف كتاب عن تاريخ لبنان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بقي القسم الأخير منه غير منجز تماماً، كما عمل مع مؤسسة التراث الدرزي على تأليف كتاب عن التاريخ الحديث للموحدين الدروز، لم ينشر بعد.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading