الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

على اللّغة أن تتحرّك مع العصر

اللّغة «قاموسيّاً»: لفظ مشتقّ من «لَغِيَ» بالشيء، أي لهجَ به(١). و«اصطلاحاً»: «هي الكلام المُتّفق عليه بين كلّ قبيلة»، وقيل «هي اللفظ الموضوع للمعنى»(٢). و«علميّاً»: هي حركة لسانية – صوتيّة مقصودة(٣).

ويقول إنستاس الكرملي «لُغة مشتّق من (logo) اليونانيّة(٤)» وأنّى كان مصدر هذه الكلمة واشتقاقها، فإنّي أجد اللّغة أعظم قفزة في تاريخ الحضارة البشريّة، نقلت الإنسان من التّعبير بالإشارة، إلى التّعبير بالنُّطق، وأقامت أداة اللسان، وأرست وسيلة التفاهم بين البشر، فارتسم الفِكر باللّسان، وتنّفس الوجدان، وتولّدت المعرفة، وشاعت الحضارات.

ولن أستغرق في الجانب الأكاديمي القائم على شواهد السّلف وحدهم، باستثناء من سبق منهم عصره، ودعا إلى انفتاح العربيّة، كالشيخ ابراهيم اليازجي وأقياسه. وممّا لا رَيبَ فيه أنّ لغة شعبٍ من الشعوب، هي هُوِّيّته، وانتماؤه، وثوبُ فكره، ومن ذا يشكّ في أنّ (اللغة) وظيفةٌ تأثيريّة، وهِبَة طبيعيّة، خصَّ الله بها الإنسان، وهي حتماً شكلٌ متميّز من أشكال السلوك الإنسانيّ، فتاريخ البشريّة لم يعرف مجتمعاً لم تكن له لغة خاصة تربط أبناءه، وتشير إلى سلوكهم وقِيَمهم، ومواريثهم الاجتماعية، ولن أتوسّع – ها هنا – لأقول على علاقة الفكر بالكلمة، وصيرورة تطوّرها معه، أو لأردّدَ مع المفكّر المعلم كمال جنبلاط: «إنّ اللغة مضمون حياتي، وجوهرٌ من الجواهر التي يقوم عليها محضُ الإنسان»، كذلك فإنّي لا أكتب الآن لأدافع عن اللغة العربية، فأمّ اللغات لا تحتاج إلى من يدافع عنها، لا لأنّها لغة القرآن، ووعاءُ الإيمان فقط، ولا لأنها مخزون علوم العرب، وثقافتهم، وتاريخهم، وخبرتهم الإنسانيّة فحسب، بل لأنّ فيها من جذور التاريخ وأسرار الإبداع ما يغني عن ذلك، كما أنّني لا أرغب في استعمال الألفاظ (المُحنّطة) على شحّ دلالتها وهجانة تراكيبها، فأفوز باصطلاحات هذا العصر التاعس، (كالأقلويّة) و (الإسلامويّة) ومثيلاتها الشائعة عند بعض أهل الصّحافة وأساتذة المدارس والجامعات، ممّن يحرسون قبر اللغة، بإعادتهم المفردات إلى «العهد اللفظي الأوّل».

تتصّل هذه الدراسة بموضوعٍ واحد، أشرنا إلى حاضنته قبل الخياضة فيه، وهو واجب تبسيط اللغة والدعوة إلى انفتاحها وتحركّها مع العصر. ولا يتأتّى لنا ذلك بالتحجّر والانكماش ولا بإهمال اللغات الأجنبيّة، ولا بإحياء الأوابد، ولا بفصل قواعد العربية عن بيانها، كما لا يتأتّى لنا ذلك (بعصرنة) تُسيء إلى كيان اللّغة، كاستعمال جيلنا الطالع بعض (الأرقام) بديلاً من بعض (الحروف)، وهم لا يعلمون أنّ للحروف أسراراً تختلف عن أسرار الأرقام(٥) وأنّ اللغة الحروفية هي التي ترتسم أشباحها في الأذهان لتعبّر عن الأفكار والشعور وليس (اللغة الرقمية) التي لا صلة لها بالوجدان.

وقد سبقت العربية أخواتها الساميّات إلى آفاق العلم، يوم كانت لغة العلوم، والفلسفة، والموسيقى، قبل اللغة الفرنسية، والإنكليزيّة، وقبل كلّ لغةٍ عصريّة أُخرى، وهذا تاريخ الأندلس، وعصرُ الرشيدِ والمأمون، يدلّنا على أنّ العلوم انتشرت – حتّى في أوروبا – بواسطة اللغة العربية، (فالجبرُ) و (الكيمياء) يحملان اسميهما من اللغة العربية، واللّسانُ الذي استطاع أن يَنشُرَ العلوم في القرون الوسطى باستطاعته (اليوم) أن يُحافظَ على كيانها، إذا ما أرادَ أهلُ هذا اللّسان ذلك.
وبعد، يواجه التعبيرُ اللغوي اليوم، صعوباتٍ جمّة، تتطلّبُ إعادةَ النظر في كثيرٍ من اللغة الوضعيّة التي لا يحتاج المعاصرون إلى استعمالها… بناءً على ذلك، ووقوفاً على مسؤوليتنا، ينبغي علينا أن نتيح للغتنا أسباب التوثّب والانطلاق، لتواكب العصر بمقدار ما يمليه التطوّر والحاجة، ولتتكامل وتوفّر أداة التعبير عن طلبات الحياة.

ولا رَيْب، في أنّ نِتاج التقدّم العلمي والتقني والثقافي الهائل، الذي ولّد مئات الاصطلاحات الجديدة، هو أحد أبرز الضّرورات اللغويّة التي ينبغي مجاراتها لكي تعيش اللغة وتستمرّ.. وقد سبقَنا الشيخ ابراهيم اليازجي، حين كتب سلسلة من المقالات بعنوان (اللغة والعصر)، وممّا قاله في مقدَّمة مقالته الأولى(٦): «لم يبقَ في أرباب الأقلام، من لم يشعر بما صارت إليه اللغة لعهدنا الحاضر من التقصير بخدمة أهلها (…) واللغة لا تزداد إلّا ضيقاً باتّساع مذاهب الحضارة، وتشعّب طرق التفنُّن في المُخترَعات والمُستحدثات».

ونعم، فاللغة التي لا تتسّع لحاجات عصرها ومُقتضيات التطوّر، مآلها الزوال، وللتطوّر أحكامه في مضمار اللغة، ما يجعلها وافيةً بحاجات عصرها، وفي بُرهةٍ رهيبة كالتي نعيشها، لا تكاد لغة – مهما تحصّنت ضدّ التغيير – أن تكون في نجوةٍ منه.

واعلم أنَّ اللغةُ تتّسع وتضيق على قدر المُعطى الحضاري (السياسي، والاقتصادي، والثّقافي، والاجتماعي)، رغم أنّها بطبيعتها لا تسير بسرعة التطوّر اللّاحق بالمجتمعات(٧)، فالحضارة إذن تفرضُ حاجاتها اللغوية فتدفعُ باللغة إلى النّمو والاتساع لكي تفي بهذه الحاجات، وما علينا نحن إلاّ أن نرفع من أمامها عقبات الطريق، وتسألون كيف يكون لنا ذلك؟ يكون لنا ذلك في النظر إلى(الموروث) و (الراهن) معاً… فنأتي جديداً ولا نتنكّر للقديم، أي أننا نحقّق دلالاتها القديمة، ثمّ نأخذ بفروع المعرفة الحديثة، بحيث تتناغم لغتنا المعاصرة مع مطالب الحضارة الحديثة. «وحبّذا من يأخذ اعتبارات المدرسة القديمة، على أنها اعتبارات فقط، لا على أنّها اللغة نفسها، أو قانون عملها الثابت»(٨) ولغتنا العربية – «لا يحيط بها إلّا نبيّ» فهي أوسع اللغات الحيّة وقد أحصى (الخليل بن أحمد) صاحب (كتاب العين) عدد كلمات اللغة المستعمل منه والمُهمل، فبلغَ 12،302،912 كلمة(٩) وهذا يفسّر قول (آرنست رينان) «العربيّة أمُّ اللغات، ساميّات وآريّات».

وإني لأعجب – بعد هذا – من بعض رجال اللغة، يتوهّمون ضيق الأصول العربية عن الإتيان بالتعابير على اختلافِ مراميها، ولو أنّهم دقّقوا في الصِّيغ الأجنبيّة التي بُنيت عليها ألفاظُ الأوروبيين للدلالةِ على المعاني، لاتّضح لهم أنّ هذه الصِّيَغ أضيَق بما لا يُقاس من الأصول العربيّة، فكلمة (service) مثلاً، في الفرنسية، تعني (الخدمة) (إسماً لفعل)، ولكنّ الفرنسييّن يضمّنونها معنى (الإدارة) التي تقومُ بهذه الخِدمة، ومعنى (المكان) أيضاً… وقِس على هذه الكلمة أُلوفاً من الكلمات التي قادَ الغربُ لغتهَم فيها إلى مرونةٍ فرضَها العصر، وأقرّها التساهُل، وأخذَ بها الإجماع.

ونحن اليوم في حاجةٍ الى أكثرْ من ذلك، فالفُصحى لا تعجز عن وضعِ تسمياتٍ لكلِّ ما يطرأ من ألفاظٍ (تكنولوجية) لأنّ في لُغتنا من الطواعية(10)، والثروة اللفظيّة، والتوليد والقياس، والاشتقاق.. وفيها من الموازين، أي من تنوّع حروفيّة الأفعال وتوقيع الأصوات، ما يضمن لها ذلك ويجعلها قابلة للاستمرار، بيد أنّ بعضها يأتي ابتكاراً بعيداً من قواعد التعريب ولا أساس له في العربيّة، ككلمة (تلفاز) التي لا تعبّر بتاتاً عن وظيفة هذا الجهاز في الحيّز العملي، فضلاً عن أنّ فعل (تلفز) لا وجود له في لغة العرب… ويأتي بعضها الآخر غريباً لا يفهمه الكُهول، (وشبابنا الطالع بنوعٍ خاص)… فقبل أن يُسمّى (التلفون) بالهاتف، أسمَوهُ (إرزيزاً)! وأراكم تعرفون أنّ وظيفة اللغة أصلاً، هي التواصل والتفهيم، فما يمنعُنا، إذا عزَّ التوليد، من استعمال اللفظ (التكنولوجي) كما هو، بحروفٍ عربية، مثل: (الكومبيوتر) و (الانترنت) و (التلفزيون) و (التّلفون) وسواها، مثلما سمّاها مخترعوها الغربيون، وما يمنعنا من القول: (تلفن، يتلفن، سيتلفن) ما دام كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، كما قال (المازني) في كتابه (الاقتراح).

إنّ التسميات التي وضعَتها وتضعها المجامع اللغوية والعلمية، غير كافية للدلالة على المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي للأجهزة التقنية، ما لم نشتقّ من الاسم السّهل اللّفظ – أفعالاً تراعي الدقّة العلمية والدلالة العملانيّة للوظيفة التي تقوم بها هذه الأجهزة في حيّز الاستعمال، فاللغة كما نعلم، هي كائن حيّ يولد ويموت، وقَدَرها أن تأخذ وتعطي، وتتلاقح مع سائر اللغات الحيّة، لأنّه لا يمكنها أن تتقدم إلاّ إذا كانت لغةً حيّة تعبّر بوضوح عن ثقافة الأحياء وشعورهم وأغراضهم، ولكي تكون كذلك، علينا أن نقنع المتحّمسين لها – على غير هداية – بأنّ اللّفظ الدخيل ليس عدوّاً لنا، بل هو صديق، يقول الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر(١١): «اللُغة العربية أوسع اللغات مذهباً(١٢)، وهي واسعة الصدر للدخيل، ما أن تراه حتى تخلع عليه ثوباً من ثيابها، وتردّه إلى أوزانها، وتتّخذه ولداً من أولادها، تعامله معاملتها فتنشقّ منه وتنصرف فيه».

فلندعُ إلى التساهل والمُلاينة، ضمن حدود، لكي تبقى العربية ماثلةً ومشّعة، «فغلبةُ اللغة – كما يقول ابن خلدون – بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات، صورة لمنزلة دولتها بين الأمم».

إنّنا – يعلم الله – نحبُّ هذه اللغة العريقة حبّاً جَمّا، ونغار عليها غَيرة بصيرة، ولقد أحرقنا رؤوسنا في دراستها والتعمّق في علومها، سحابة نصف قرن، غير أنّنا نُحبّها بموضوعية وانفتاح، لا بعصبيةٍ وانغلاق، ونريد لها أن تتوسع في رحاب العصر، وأن تفي بمتطلبات العلم. وما يحتاج إليه ذلك من تحقيق وتصحيح، لأننا نريد أن نحافظ على لغتنا، بوعي مسؤول، وأن نحرسها بعقولنا، خلافاً عن الذين يتوهّمون أنّ المحافظة عليها، تكون في وضعها داخل صندوق مغلق، تحرُسه غابةٌ من الرماح. إنّنا على مذهب الشيخ عبد الله العلايلي، ونحن مع شعاره القائل: «ليس محافظةً التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقّق المعرفة».

وإليك – أيها القارئ – طائفةٌ من الأسماء (الجامدة السهلة) التي وضَعَها علماء اللغة (اللبنانيون) في عصر النهضة والانبعاث، والتي لم يزل العرب يستعملونها في شتّى ديارهم منذ (مائة) عامٍ ويزيد.

وضع اللبناني أحمد فارس الشدياق:

  • الموصِل البرقي        للتلغراف
  • الحافلة                  للأُتوبيس
  • المنطاد                 للبالون

ووضعَ الشيخ ابراهيم اليازجي:

  • الحاكي                 للفونوغراف
  • الطّلاء                  للفرنيش
  • المجلّة                  للجورنال

ووضع الدكتور يعقوب صرّوف:

  • الصُّلْب                 للفولاذ

ووضع سعيد الشرتوني:

  • العاديات               للمصائب الكُبرى
  • القِطار                 لترام السكة لحديد

ووضع بشارة زلزل:

  • لبونة                   (للحيوانات الولودة) التي تغّذي صغارها بلبنها

ووضع الشيخ عبد الله البستاني:

  • «عقيلة»               مُقابل «مدام»

ولم ينشد أحد من هؤلاء العلماء، استعمال الألفاظ الوحشيّة الجافية، فالمشكلة عندنا في المتفاصحين الجُدُد، لا في القدماء. واقرأ معي – أخيراً – ألفاظاً ليس فيها لفظ عربي واحد، وقد استمرأتها الألسن وألِفَتها الآذان وغدت، لانسيابها، في صلب لغتنا:

ألفاظ آراميّة: قمح – غدير – صَنَم – كمين – نبراس – منارة – ملاك – بيدَر – سفينة – سكّين – سُلطان – سِوار – سيف.

ألفاظ لاتينية: منديل – إسطبل – بترول – صقر – قُرصان – قِنديل – فُرن.

ألفاظ إيطالية: برميل – كمبيالة – بُرتُقان.

ألفاظ فارسية: بُستان – مِيدان – وزير – فُنجان – إبريق – بلّور – دستور – صندوق – زهور – طراز – ديباج.

ألفاظ يونانيّة: لجنة – نَرجِس – قِرميد – قِرط – مرهَم – إقليم – سفير – بُرج – بطاقة.

فنحن إذاً مطالبون بالتّوسع فيما لم يتوسّع فيه الغابرون، فإذا تخطيّنا باللّغة الأدب والدّين والإنسانيّات، إلى العلوم والتّقنيات، نكون قد اختزنّا تراثنا العريق، وتطلّعنا – عبر العربيّة – إلى إرساء الاصطلاح العلميّ الذي نتمنّى أن يكون مُوحَّداً على امتداد بلاد العروبة.


المراجع:
  1. كتاب أقرب الموارد في فُصح العربية والشوارد، لسعيد الشرتوني بيروت سنة 1889.
  2. كتاب «محيط المحيط» للمعلّم بطرس البستاني، بيروت 1867.
  3. درس الألسنية العامة – فردينان دوسوسير (1857 – 1913).
  4. مجلة «لغة العرب» لإنستاس الكرملي، بغداد 1912.
  5. الألفاظ والحروف، للفارابي (مخطوط) نسخه العبد الضعيف عبد الله الخفيف، سنة 1124 هـ / 1712 م (مكتبة شوقي حماده).
  6. مجلة البيان / يونيو 1897، السنة الأولى – الجزء الرابع.
  7. وهذا هو رأي أستاذنا الشيخ عبد الله العلايلي.
  8. وهذا هو رأي العلايلي أيضاً.
  9. كتاب التهذيب في أصول التعريب، للدكتور أحمد بك عيسى – ط 1 – القاهرة 1923.
  10. كان كارنيليوس فانديك الكبير من معسكر القائلين بطواعية العربية لتكون لغة علم.
  11. الشيخ مصطفى المراغي، شيخ الأزهر (1935 – 1945).
  12. يريد بمذاهب اللغة، المجاز في النسبة، والمجاز في المفردات، والمجاز في المركبات، والتشبيه والكناية.
  13. نماذج من كتاب (مرجع الألفاظ الدخيلة على اللغة العربية) يحتوي على 1014 كلمة دخيلة، مخطوط لشوقي حمادة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي