المُجاهد والشّاعر عَلي عبيد
ابن عاليَه وأمين سرّ الثّورة السّورية
“ما رأيتُه ورأيتُ نضرة الجهاد في صباحة وجهه، وجمال الصّبر ورزانة العقل إلّا حَسِبْتَي أمام صحابيّ من أولي العَزم الذين أنبتتهم الجزيرة وتتلمذوا لأبي القاسم (ص) وجعل منهم الإيمان عباقرةَ رجولة وبطولة”.
(المجاهد الفلسطينيّ أكرم زعيتر)
يعتز آل عبيد بانتمائهم العروبيّ العريق، فهم يعودون أصلاً إلى عشيرة عربيّة يمنيّة، وإلى ذلك يشير يحيى عمّار صاحب كتاب الأصول والأنساب إذ يذكر أنّ من أسلاف آل عبيد الأحنف بن قيس الذي قال فيه معاوية بن أبي سفيان إنّه: “إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف من بني تميم ولا يدرون لماذا غضب”..ومنهم عاصم الشّاعر المعروف بالفرزدق المشهور بمحبّته لآل البيت وعلى منهجه اعتنقت جماعة منهم الإسماعيليّة الفاطمية ثمّ … الحاكميّة فيما بعد”.
أسرة عربية عريقة
كانت الجماعة التي استجابت لدعوة التّوحيد من آل عبيد تُقيم في شماليِّ سورية أيام هجمة الفرنجة على الشّرق الإسلامي في ما سمي “الحروب الصّليبيّة، وهناك قاتلوا إلى جانب الأمراء المعنيّين ضدّ الفرنجة عام 1110م. لكن بسبب غياب الوحدة بين صفوف المدافعين لتنازع سلاطينهم وملوكهم آنذاك فقد كانت الغَلَبة للفرنجة في تلك الحملة، فذهب آل عبيد مع المعنيّين إلى طغتكين السّلجوقيّ حاكم دمشق الذي بعث بهم إلى ثغور السّاحل الشّاميّ في لبنان، ونزلوا أخيراً في بلدة حمّانا، وفيما بعد انتقلوا إلى بلدة عاليه بعد نزاع مع المقدّمين من آل مزهر. وقد انتشرت فروع منهم إلى جهات عديدة، ورجع بعضهم إلى مذهب السنّة كآل عبيد الذين سكنوا في غوطة دمشق في جهات المعظّمية، أمّا آل عبيد الذين سكنوا في أشرفيّة صحنايا فلم يزالوا على مذهب التّوحيد.
كما نزح آخرون منهم إلى مدينة بيروت واستقرّوا في حارة ساقية الجنزير ومنهم اليوم آل الضّاروب، ويذكر حنّا أبو راشد أنّه في عام 1870 بعد الحملة الفرنسية على جبل لبنان، نزح علي عبيد مع ولديه حسين واسماعيل إلى جبل حوران ونزلوا في مدينة السويداء ولم تزل ذرّيّتهم فيها إلى يومنا هذا.
“كان علي عبيد أحد المجاهدين الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش في 30 أيلول عام 1918 ورفعـوا العلم العربي فوق ســراي المدينة”
شخصيّة صلبة
ولد علي بن حسين عبيد عام 1865 في بلدة عاليه الواقعة في قلب جبل لبنان، وفيها تعلّم القراءة والكتابة، وكانت تلك فترة صعبة على بني معروف بسبب الحملة الفرنسيّة الظالمة على جبل لبنان بحجة حماية المسيحيين، وقد ترافق دخول القوات الفرنسية بقيادة الجنرال بوفور بحملات تنكيل بالسّكان الدروز، وشهدت تلك الفترة موجات نزوح كبيرة من جبل لبنان ووادي التّيم إلى جبال حوران التي بدأ الدروز بالهجرة إليها قبل أكثر من قرن ونصف من ذلك التاريخ. وكان والد الطفل علي من الذين قرروا في تلك الظّروف النّزوح إلى السّويداء في “جبل الدّروز” كما أصبح يُدعى آنذاك. ولمّا كان الوالد حسين عبيد متمكّناً من القراءة والكتابة فقد تسلّم رئاسة بلديّة السويداء عام 1890، أمّا ولده عليّ الذي حمل اسم جدّه فقد كان في عام 1910 يعمل كموظّف جباية في ماليّة السّويداء وذلك حسب محمّد جابر في كتابه “أركان الثّورة السّورية الكبرى 1925 ــ 1927”.


شارك عليّ في الحرب الدامية ضدّ حملة سامي باشا الفاروقيّ على الجبل، وفي معركة الكفر ضد العثمانيّين اتّهم بقتل قائد الحملة العثمانيّة التي توجّهت إليها وهو ابن أخت سامي باشا ففرّ متخفّياً إلى لبنان بإيعاز من رشيد طليع الذي كان يشغل آنذاك وظيفة متصرّف (قائمّقام) درعا، وعلى أثر ذلك توثّقت عُرى الصداقة بين الرجلين المجاهدين.
وبعد تراجع الحملة العثمانيّة عن الجبل بـتأثير نُذُر الحرب العالميّة الأولى التي كان الأتراك يستعدون للانخراط فيها كحلفاء لألمانيا خفّت وطأة الحكم التّركي على بني معروف، فرجع عليّ إلى الجبل حيث أتيح له أن يشهد بوادر الثّورة العربيّة على الحكم العثماني وأن ينخرط في صفوف المناضلين في سبيل تحقيق حلم الدّولة العربية بقيادة الملك فيصل الأول، وكان المجاهد الشّاب على عبيد أحد أفراد مجموعة المجاهدين الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش في 30 أيلول عام 1918 ورفعوا العلم العربيّ فوق سراي المدينة قبل وصول القوّات البريطانيّة إليها.
بعد استتباب الأمر للقوات الفرنسية بدأ التوتر يتصاعد بينها وبين الوطنيين السّوريين وخصوصا في جبل العرب وتحول تفكير هؤلاء إلى كيفية تنظيم المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي، ومن أجل ذلك أقام رشيد طليع ومساعده نبيه العظمة عام 1920 نحو أربعة أشهر في منزل علي عبيد في السّويداء الذي تحول إلى مقرّ نشط لرفض دخول الفرنسيّين إلى سوريا. وكان رشيد طليع، بحكم مقدرته التّنظيميّة، يطلب مِمَّن يوافقه الرّأي أن يقسم يمين الإخلاص للوطن وأن يتعهّد بتقديم كلّ ما يملك من أجل طرد المستعمرين من البلاد والعمل على استقلال الوطن السّوري.
وكان الفرنسيّون يدفعون أموالاً جزيلة لكسب أنصار لهم ممّن كانوا في الصّف الوطنيّ إلى جانب سلطان باشا والنّخبة من الوطنيّين ممن التفّوا حوله، ولما كان علي عبيد شاعراً فارساً وسياسيّاً وطنيّاً فقد أغاظه تقلّب بعض الوجهاء الذين حَنثوا بيمينهم، فتناولهم بقصيدة لاذعة توثّق الموقف السّياسي في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الجبل، إذ قال فيهم:
قلت آه ثـــمّ اَوّاه عـــقلي أنــــــــــــــــا ويـــــن
عقلي حسب لي الناس فيهم أمانه
عقلي حسب لي الناس في عندهم دين
ثــــــــاريه بعض النـــــــــــــــــاس ما لْهم ديــــــــــانه
يــــــــاحيف يـــــــــا دروز الجبــــــــــل كيــــف خِبْليـن
خــافــــــــــوا ونامـــــــــوا وسلّمـــــــوا للإهـــــــانـــه
البعـــــــض من أجـــــل الدّراهم مْطيعيــــن
البعض خافوا خوف ذلّ وجبانـــــــه
والبـــعـض لابـــــــــــــــــــــح لَقْعـــــود الدّواويـــــــــــــــن
لاجــــــــل الوظـيفـــــــــــــــــة مِعتمـــــــل للخـيــــــــانه1
الــعــــــــزّ مطلـــوب النّــــــــــداوي الشّهيمــــــــــين
والمـوت أهـون مــــــــــــن شماتة عِدانــــــــــــــا2
الــــذّل حـايــــــــــــق بـــــــــــــالــــرّجـــــــــال الــرّديـيـــــــــــن
مثـل الـهتيــمي ملــــــــــــــوبــداً في مكانــــــــــــــه3
كان علي عبيد ورفاقه إلى جانب سلطان، فريقاً من بني معروف ذوي ميول عروبيّة خالصة، هالهم ما جرى في ميسلون وعملوا صفّاً متراصّاً بهدف طرد الفرنسيين من سوريا وتحقيق استقلالها في إطار دولة مدنيّة عنوانها “ الدّين لله والوطن للجميع”، ومن هنا كانت وفادة علي عبيد من قبل سلطان باشا إلى الأردنّ وهناك قابل الضابط حسيب ذبيان الذي كان قد طلب حضور المجاهد علي إليه في السّلط كونه قائد منطقة السّلط هناك، ومن ثمّ التقى علي برشيد طليع، كان الرّجلان حسيب ورشيد، من مجموعة “الضبّاط العرب الذين اشتركوا في معركة ميسلون وواصلو نضالهم في تأسيس إمارة شرق الأردنّ باعتبارها ميداناً للثّورة العربيّة الكبرى “حسب تيسير ذبيان في كتابه:”حسيب ذبيان في ذاكرة الثّورة العربيّة، ص 86”.
علي عبيد يتوقّع اندلاعَ الثّورة
كان علي عبيد قد ردّ على رسالة هلال عزّ الدّين بقصيدة تحمل طابعاً نبوئيّا ينذر بنشوب حرب ــ ثورة في سوريا وذلك قبل نشوب الثّورة وصيرورتها أمراً واقعاً بمدة من الزّمن، إذ كان علي عبيد بحسّه الوطني يستشفّ ما تحمله آنذاك الأيام الحبالى بإرهاصات الثّورة القادمة لكون الفرنسيّين مزّقوا البلاد السّوريّة إلى دويلات ضدّ إرادة شعبها، وهو لا يرى خَيْراً بما اصطنعوه من دولة أسمَوْها “دولة جبل الدّروز” ومن هنا يتّضح لنا عمق رؤية الرّجل من خلال رَدّه على شكوى صديقه هلال عزّ الدّين الحلبي وعلى تساؤله وقلقه على المصير الوطني العام… وممّا جاء في قصيدته تلك:
أنــــــــــــا بعينـــــي شـــــايــــــــــف الكــــــــــلّ نســــــــــــــوان
وهـــذي الزّمرة فـــــرّق الله شظاها
بــأوراق ســـوري تشتري كل إنســـــــــان
لـــو كان خاتــم كتب الله وْقَراهــــا
إن طعتني اصبر لْيا ما بعــد نيســـان
لْيــا مـــا يبيّــن صيفها من شتاهـــــــــــــا
آني أشـــــوف بمنظـــــــــــر العقــل يــــا فـــلان
لابــــــدّ مـــــــــــــن يــــــــــــــــــومٍ يــــــــلعلـــــــــــع حِـــــــــــداها
ثم يطلب منه أن يَتَروّى وأن يوثّق علاقاته برفاقه والذين يثق بهم، ويعرف حالتهم وتذمّرهم مما آلت إليه الأمور ليكونوا مستعدّين للقيام بالثورة.
وإلى جانب نشاطه التّحضيري السّرّي للثّورة المرجوّة كان علي عبيد يقوم بوظيفة رئيس كتّاب في الحكومة التي رأسها الأمير سليم الأطرش وبعد وفاة الأمير سليم شغل وظيفة رئيس محكمة صلح السّويداء بين 1920 و 1922 في حكومة دولة جبل الدّروز التي رأسها الكابتن كاربييه. وبحكم أعماله الوظيفيّة تلك كان يطّلع عن كثب على دقائق سياسة كاربييه الذي كان يلقب نفسه غروراً بـ “امبراطور جبل الدّروز”.
يقول علي عبيد في معرض توصيفه لوضع الجبل المنذر بنشوب الثّورة مبيّناً لهم حقيقة المعاناة باختصار وتكثيف شديدين:
ربّك حَكَم بــــالدّور لَاهل السـّــفــــــــــــــالـــــــــي
دورٍ قَصيـــــــــــر وبفتــكـــــــر زَرعـهم قاس4
ربّك كــــريم ومــطّلـــــع عــــــا كـــــــــلّ حالــــــــي
وبعد الحصيدة يـــــــــا فتى مَوسم دراس5
خلّيـــــك فــــــــــــــــــــرز ومحتــــــــــرص عَ الخْيــــالــــــــــي
ولابــــدْ يومــــــــــــاً ينتصــــــــــب فيه بَرْجاس6
حــــالــــــــــة جبلنــــــــــا اليـــــــــوم كلّــــــــــه خَـــجـالــــــــــــــــــــــــي
أكبــــــــر رجــــالــــــــــه للــطّـــــــرق عاد كـنّــــاس7
اللّـــــــــي يعـــــــــزّ النّفــــــــــــس يـْــــــــــــــــــذلّ الامـــــــوالِ
ونشـــر الكتابــــــــــة عَ الملا وسائـــــــــر النّـاس8
ويفيدنا على عبيد أنّ كاربييه الذي كان يقدّم نفسه حاكماً محرّراً لجبل الدّروز كان في حقيقة أمره لِصّاً. حيث يقول: “مؤخّراً حصل الكابتن كاربييه على إجازة مدّة ثلاثة شهور وذلك على أثر استحواذه على ثمانية آلاف ليرة أخذها من صندوق الحكومة مدّعياً أنّه سيضعها في البنك الزّراعي فاستبدل خمسة آلاف ليرة منها بورق سوري وضعه في البنك المذكور وثلاثة آلاف ليرة ألفان ضمّها بالجيبة وألف ليرة اشترى فيها سجّاد قدّمها لحضرة الجنرال ساراي من أجل أن يبقيه حاكماً على جبل الدّروز”.
كان الفرنسيّون قد نَفَوْا إلى مدينة الحسكة في أقصى الشمال السّوري، مجموعة من الشّخصيات الذين كانوا يرَوْن أنّهم يحرّكون الرأي العام في الجبل ضدّ مظالمهم، وكان علي عبيد واحداً منهم وهناك
احتضنهم زعماء العشائر العربيّة بدافع من حسّهم العروبي والوطني السوري.


“مضافات الجبل تحوّلت قبل الثّورة إلى مقرّات لتشكيل الرّأي العام تزعــــــج الفرنسيّيــــــن فاتّخذ الكابتن كاربييــه قراراً بمنع الزّيارات إليـــها”
زعماء عشيرة الجبور يكرمون الثوار
يصف علي عبيد تلك الواقعة بالقول :”نزلنا ضيوفاً على القائمّقام عارف بك الدّعيجي وصباح اليوم الثّاني دخل علينا رجل مهيب الطّلعة جسيم في الجسم مرتدياً عباءة وكوفيّة وعقال، اختيار (أي طاعن في السّن) ذو لحية بيضاء وعلى جنبه سيفاً قرابه من الفضّة البيضاء الصّافية فسلّم علينا سلام محبّ صادق وبعد تناول القهوة وتعريف القائمّقام له علينا ولنا عليه بأنه مِسْلط باشا شيخ عشيرة الجبور قال :”يا حضرة القائمّقام أنا عرفت بقدوم هؤلاء الذّوات وأنا لا أعرفهم شخصيّاً ولكن أعلم من تاريخ حياتهم أنّهم أمراء وحكّام جبل الدروز الذي هو حياة سوريا ورافع شارب العرب ولا من عشيرة أو طائفة قدرت تقاوم الأتراك إلاّ هم، فَعَلَيْه أنا عندي من فضل الله أربعة عَشَرَ ولداً مْقَدمْهم لك منهم ستّة بدلاً عن هؤلاء الستّة رجال وهم في ضيافتي ولو خمسة سنين إلى أن الحكومة ترضى عليهم ويلزم أنْ تحيط علماً بأنّنا لانقبل عليهم أيّة إهانة أو مغدوريّة قطعياً ونعدّهم ضيوفاً أعزّاء على جزيرة العرب. ( كانت الجزيرة السّوريّة آنذاك عربيّة خالصة قبل أن تغض فرنسا النّظر عن توافد الأكراد من تركيّا والآشوريين من العراق)وإذا كان فكر الحكومة في شيء يمسّهم فليكن معلوماً عندها عدم رضانا البتّة ولو حصل مهما حصل. وبعد ساعة تقريباً حضر رجل أسمر اللون مربوع القامة جسيم في الرّجال ذو هيبة ووقار مرتدياً عباءة وكوفيّة وعقال وعلى جنبه سيفاً من الذّهب الإبريز وبعد السلام عرّفنا عليه القائمّقام أنّه مشعل باشا الجربا بن فارس باشا الجربا أمير عشيرة شمّر الجزيرة فالرّجل حذا حذو زميله مسلط باشا في التلطّف معنا وأفهمنا أنّنا نحن وهم عشيرة واحدة وأنه لا يقبل علينا ضيم قطعيّاً. وعزمنا تلك اللّيلة في العشاء وعزم بها مأموري الحكومة من عسكريّين وملكيّين وكانت ليلة حافلة…”.
في فترة النّفي تلك حدثت في الجبل معركتان هُزمت فيهما فرنسا هزيمة مُدوّية، هما الكفر والمزرعة، فاضطُرّ الفرنسيون للإفراج عن المنفيين وإعادتهم إلى الجبل مقابل أن يتكفّلوا “مسألة الصّلح بين الحكومة وأهالي الجبل.
في تلك الفترة كانت مضافات الجبل قد أصبحت مقرّات لتشكيل الرّأي العام تزعج الفرنسيّين كثيراً خاصّة مضافات الوجهاء كعبد الغفار الأطرش، لذا اتّخذ كاربييه قراراً بمنع الزّيارات إليها يقول علي عبيد “وكان من جملة من اضطهدوه عبد الغفار باشا الأطرش لأنهم منعوا أهالي السويداء والبلاد من لاجتماع به والدخول لبيته وكلّ من عرفوا أنّه قابله أم دخل بيته غرّموه خمسة ليرات عثمانيّة (ذهباً)”.
أمّا عنه (أي علي عبيد) فيقول :”إنّ الكابتن كاربييه وضع جاسوساً من نفس مأموريّ الحكومة كلّ يوم يعطيه تقريراً عن كلّ ما يحدث وعن من يقابلني من الزّعماء والأهلين ولمّا ضاق صدري من هذه الحالة جادت قريحتي بهذه الأبيات (نقتطف منها هذا البيت):
قلت آه من عُظْم البَلا والمصابـــــي ومن رِفْقة المنحـــــوس قلبـــــــــــي تــــــرى ذاب
“الجركس وعربان اللجاة قدموا خدمة كبيرة لفرنسا لأنهم عرقلوا محاولات الثّوار الامتداد لقرى ومنــاطق جبل الشّيخ والغوطة لمدة أربعة شــــهور”
أحد مؤسسي الثّورة
يُعْتَبر علي عبيد من المؤسّسين للثّورة السّورية الكبرى إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش، ومنذ عودته من المنفى في الحسكة كان من المساهمين في حشد الرّأي العام في الجبل لتوسيع دائرة انتشارها ومدّ ميدان فعاليّتها إلى دمشق باعتبارها العاصمة التي تتمركز فيها سلطة الانتداب، وهكذا فقد شارك في معظم معاركها بعد عودته من المنفى الأوّل في الحسكة، كمعركة العادليّة جنوب دمشق عندما عزم الثّوار على تحرير العاصمة، بتاريخ 24 آب 1925، تلك المعركة التي كانت أوّل معركة خسر فيها الثّوار بعد نصرهم المؤزّر في معركتيّ الكفر والمزرعة.
وفي العام نفسه في مطلع شهر أيلول انعقد في قرية ريمة اللّحف مؤتمر لقادة الثّورة واختير علي عبيد واحداً من أركان الثّورة، وكان أحد أركان الاتّحاد الدّرزي وقاضي الثّورة ( ابوراشد ص 76)
سيناريو معركة المسيفرة
إن وصف علي عبيد لتلك المعركة يصلح ليكون أساساً لفيلم سينمائي يوثّق تلك الموقعة التي لم يُتَح لها الخروج إلى دائرة النّور بعد.
في السّابع عشر من أيلول من العام ذاته اشترك علي عبيد في الهجوم على الحملة الفرنسيّة في قرية المسيفرة، وكان في طليعة أولئك الفرسان الذين اخترقوا التّحصينات الفرنسيّة، وفي مذكّراته يتطرّق إلى ذلك بالحديث عن مآثر غيره دون أن يتحدث عن نفسه لشدّة ترفعّه وتواضعه، يقول :”حان دُنوّ الأجل وعَزَمت الدّروز على مهاجمة المسيفرة وكانت ليلة مظلمة فَضَلّ قسم من البيارق بسبب عدم الاهتداء إلى الطريق، وعند وصولنا إلى جوار البلد دخل بيرق السّويداء وبيرق صلخد وقسم من بيارق الدّروز مقدار سبعة بيارق من الجهة الشّمالية. انتبه العسكر فوجد شبّان الدّروز وصلت إلى وجه الأسلاك فأصلاهم ناراً حامية سقط منهم أكثر من ماية قتيل وجريح دفعة واحدة… وجرت مهاجمة على النّقطة من بيرق ملح وعرمان وتصوّب حاملي البيارق وأنقذ البيارق سليم المقت وهو صويب في رجليه. ولكنّ قسماً وافراً دخل القرية واستولى على العسكر السّواري وخيوله ومعدّاته واستولوا على الذّخيرة من جبخاناته ومؤنته. ولم يخطر على بال العسكر أنّ الدروز يخرقون هذه البواغيز (يقصد المتاريس والممرّات الضيّقة المحصنة عسكريّاً).
ثم يصف حجم القتال الدّامي والخسائر الفادحة في الأرواح فيقول :”وكنت ترى قتلى ومجاريح الدّروز أمام عينيك بين متاريس الدّروز ومتاريس العسكر ولكن لا أحد يقدر من الوصول إلى أخيه أم أبيه. وكانت خسارة العسكر 975 رجل والدروز 185 رجلا معظمهم من الشّبّان النّشيطين”
كما شارك علي عبيد في معركة محاولة السّيطرة على قلعة السّويداء التي كان قد جهّزها الفرنسيون بقوّات عسكرية متفوقة. لكن الثّوار لم يتركوا للفرنسيّين أن يستقرّوا في القلعة فحاصروهم من الجهات الأربعة وقاتلوهم قتالاً عنيفا بحيث خسر العسكر (الفرنسيّ) بتلك الليلة ما يقارب الخمسمائة جنديّ ولكون الماء مفقود من القلعة وبسبب ذلك الضغط انسحبوا من القلعة إلى درعا، “ومن ثم ذهب زيد بك عامر ومعه قسماً من الدّروز مع نسيب بك البكري ودخلوا الشّام من جهة الشّاغور والميدان، واشتعلت الثّورة في جوانب سوريا …


تأثير الانقسامات على الثّورة
يرى علي عبيد الذي شارك بفعاليّه في معظم معارك الثّورة عدا معركتي الكفر والمزرعة (إذ كان منفيّاً إلى الحسكة في أقصى الشّمال السّوري) أنّه كان بإمكان الثّورة أن تصل لأهدافها في طرد الفرنسيّين من سوريا لو توفّرت الوحدة للمجتمع المنقسم إلى طوائف وفئات اجتماعيّة غير متلاحمة، وهو يشير في ص 19 من مذكّراته إلى أن ثوّار الجبل فضلاً عن مقاومتهم للدّولة الفرنسيّة وكثرة عددها وعِدتها كانوا يواجهون “عشيرة الجركس بأجمعها” إذ تجنّد هؤلاء “عند الحكومة (يقصد الإدارة الفرنسيّة) والفلّاح منهم عدوّ لدود وعربان اللّجاة خدمت الحكومة الإفرنسيّة خدمة تعادل خدمة الجركس وأظن أنهم أفادوها فائدة عظمى”
وهو يرى أن هؤلاء عرقلوا محاولات الثّوار وسعيهم لتوسيع مجال نشاطهم إلى قرى ومناطق جبل الشّيخ والغوطة وأشغلوا الجبل بحركاتهم ضدّ الثّورة مدة أربعة شهور كان الثّوار فيها يسيطرون” على قراهم ويحافظون لهم على زروعهم ومع ذلك فقد ذبحوا من الثّوار ابراهيم بك نصر والمرحوم فارس عزّي وعلي نايف القنطار وأكثر من عشرين رجلاً” وقد ساعدت هذه العرقلة لتحرّكات الثّوار الفرنسيّين الذين استغلوا انشغال قسم كبير من الثّوار في اللّجاة فضيّقوا الخناق على ثوّار الغوطة الذين أبرزوا شجاعة وإقداما في قتال الفرنسيّين.
تصرّفات أضعفت الثورة
لكن علي عبيد ينتقد من جانب آخر فساد بعض زعماء ثوّار الغوطة الذين قام بعضهم بإرهاق الأهلين ومصادرة خيولهم وأثاثهم وتغريمهم دراهم ممّا جعل القسم الأوفر يتنصّل من الثّورة وكان قد مضى على الفرنسيّين سنة ونصف وهم محصورون في دمشق لكنّهم لم يقدروا الوصول إلى حيّ الميدان الذي كان متعاوناً مع الثّوار. لكن تململ النّاس وتفرّقهم سهّل على الفرنسيّين كما يرى المجاهد علي عبيد ملاحقة مجموعات الثّوار في جبال القلمون والنّبك والغوطة، وإرسال قوّاتهم لاحتلال حاصبيّا ومناطق جبل الشّيخ الثائرة. وكانت ملاحظاته تلك ملاحظات شاهد عيان لكونه كان من كبار الفرسان الذين قاتلوا الفرنسيّين في معارك الغوطة قبل انتقاله للقتال في إقليم البلّان (سفوح جبل الشّيخ ممّا يلي الجولان) كما أشار إلى ذلك سلطان باشا الأطرش في مذكراته.


في الإقليم قاتل علي عبيد في معركة ميمس وفي تلك المعركة ينتقد الأداء غير اللّائق للثوّار الأمر الذي حال دون تحقيق النّصر الذي كان ممكناً، مُسَجِّلاً نقده بقصيدة طريفة من الشّعر العامي. غير أنّه يشير إلى أنّهم بَقَوْا في مجدل شمس محصورين بالمطر والثّلج لكنّهم خاضوا موقعتين هامّتين مع العسكر الفرنسيّ في موقع دورين قبالة قرية حرفا التي يشيد ببطولة مختارها الذي جرح في القتال وفي كلتا الموقعتين وُفِّق الثوّار لكسر القوّة العسكريّة الفرنسيّة…
وقد اضطُرّت العائلات الموالية للثّورة في مناطق اقليم جبل الشّيخ للنّزوح جماعيّا من قراهم نحو جبل الدّروز.
مهمات صعبة
في عام 1929 وبتأثير من التّنازع الهاشميّ السّعودي على شبه الجزيرة العربيّة فقد ضيّق الملك على المجاهدين ووضعهم أمام خيارات صعبة أو يخرجهم من مملكته. وعلى هذا أرسل سلطان أخاه زيد وعلي عبيد إلى القدس وعمّان للاتصال بأعضاء حزبَيّ الشّعب والاستقلال وأعضاء المؤتمر السّوريّ الفلسطينيّ من أجل حلّ الأزمة القائمة وقد نجحت المساعي من قبل شكري القُوَّتلي الذي سافر إلى الحجاز وقابل الملك عبد العزيز والتمس منه العودة عن قراره فوفّق في ذلك. وممّا ساهم في تسهيل مهمّته الحملة الإعلاميّة التي قامت بها الصّحف العربيّة لمصلحة المجاهدين والبرقيّات التي أرسلها المسؤولون العرب إلى الملك عبد العزيز ومنها برقيّة هاشم الأتاسيّ التي يطلب فيها معاملة حسنة لسلطان ورفاقه المجاهدين”.
دعم الجهاد في فلسطين
في كانون الأول من عام 1931 أرسل سلطان باشا المجاهد علي عبيد بصحبة المجاهد قاسم أبو خير لتمثيل الثّوار في المؤتمر الإسلاميّ المنعقد في القدس للتّضامن مع الفلسطينيّين، وقد تكلّم علي عبيد في ذلك المؤتمر قائلاً إنّ المجاهدين في الصّحراء ليس لديهم ما يفتدون به فلسطين المهدّدة بالضَّياع سوى الأرواح ووقّع على ميثاق من ثلاثة بنود وافق عليها رجالات العرب في اجتماعهم في 13 كانون الأول 1931 ترمي إلى الوحدة ومقاومة التّجزئة ورفض الاستعمار بجميع أشكاله.
ولما كان الفرنسيّون يناورون لإنهاء أنشطة الثّورة السّياسية منها بعد انكفاء الثّوار في المنفى عن العمل العسكريّ المباشر فقد أصدر المفوّض السّامي الفرنسيّ هنري بونسو قراراً بالعفو عن كافة الثّوار من سوريا ولبنان وكان علي عبيد من بين المستثنين منهم إلى جانب القائد العام سلطان باشا… ولكن سائر المجاهدين رفضوا ذلك العفو وعاهدوا الله على طلب الحقّ بالاستقلال إلى أن تصل الأمّة إليه.
عاد المجاهد علي عبيد من المنفى في 19أيار 1937إلى جانب القائد العامّ للثّورة ورفاقهم المجاهدين فاستقبلوا في دمشق استقبال المحرّرين للوطن، واجتمع في دمشق يومها 500 ألف مواطن لتكريم الثّوار من السّوريّين واللّبنانيّين وقائدهم، وكان عدد سكّان سورية حينها أقلّ من ثلاثة ملايين، وتمّ فرش السجّاد من محطّة القطار في القدم إلى قلب دمشق ودوت الهتافات وألقيت الخطب الحماسية والقصائد، كان يوم جمعة، وأدّى سلطان والثّوار فريضة الصّلاة في الجامع الأمويّ مع رئيس الجمهوريّة هاشم الأتاسيّ وأركان الدّولة ووجهاء المدينة.
“أكثر من نصف مليون سوري استقبلوا سلطان ورفاقه العائدين من المنفى وتمّ فرش السجّاد من محطّة القطار في القــــدم إلى قلب دمشق ودوت الهتافــــات وألقيت الخـــطب”
أدوار مرحلة الاستقلال
بعد تلك العَودة الظّافرة من المنفى شَغَل علي عبيد وظائف حكوميّة مرموقة بحكم أهليّته إذ عمل في مصلحة المِيرة، وقد سعى الفرنسيّون لكسب ولائه لسياساتهم، فأبى ذلك وهو الثائر الذي يستند إلى تراثه الكفاحيّ العريض، فأقالوه من الوظيفة ونفَوه إلى مدينة النبك السورية، وعاد بعد نحو سنة من النّفي فأُسند إليه منصب مدير الزّراعة في السّويداء ثم كُلّف برئاسة مصلحة الاقتصاد الوطنيّ في السّويداء قبل إحالته على التّقاعد.
الجدير ذكره أنّ حكومة الاستقلال السّورية نظّمت عام 1946 احتفالاً وطنيّاً بالجلاء في العاصمة دمشق لكنها لم تدعُ إلى ذلك الاحتفال القائد العامّ للثّورة سلطان باشا الأطرش ومجاهديّ الجبل، وهم الذين كانوا رأس الحربة في النضال الاستقلالي، الأمر الذي أثار تساؤلات الكثيرين ودفع سلطان باشا ورفاقه المجاهدين لإقامة مهرجانات استقلال في السّويداء وصلخد وشهبا.
كان لعلي عبيد رأي خاص في التّركيبة السياسية التي كان يتزعمها آل الأطرش، وهو برغم صداقاته لسلطان باشا فقد ناصر الحركة الشّعبيّة التي استهدفت تقليص امتيازات الزّعامة التقليديّة في الجبل، ولكن تلك الحركة حادت عن سبيلها القويم باللّجوء إلى العنف، والوقوع في مكائد بعض كبار رجال الحكومة السّوريّة آنذاك الذين كانوا يسعَوْن للانتقاص من الدّور التّاريخيّ الذي اضطلع به سلطان باشا وبعض كبار المناضلين من الطرشان وسائر بني معروف من سورية ولبنان في الثّورة السوريّة الكبرى، كما كان الهدف ضرب وحدة الجبل وإثارة الفتنة بين أبنائه وحرمانهم من زعامة قوية تمثّلهم وتصون حقوقهم.
توفّي علي عبيد، المجاهد الكبير في سبيل الاستقلال والتّحرّر الاجتماعيّ في 5 أيلول 1959 فقيراً، ودفن في مدينة السّويداء، وفي مأتمه شهد سلطان باشا الأطرش قائلاً :”رحم الله أبا نايف فقد كان أمين سرّ الثّورة”.