عنجر
بناهـــــــا الأُمويـــون ثــــــم دمّروهـــــــــــا
وخلّدها فخرُ الدّين وأحيـــاها الأَرمــــــن
عَنجَرٌ اليوم جنائنُ ورياضٌ وبساتينُ غنّاءَ وسياحةٌ
ومياهٌ رقراقةٌ قامت على ضفافها أفخمُ المُنْتزَهات
تكتسبُ بلدةُ عنجرَ في البقاع أهمّية خاصة بسبب طابعها التّاريخيّ وتنوّع ثروتها الآثارية وكذلك ما تختزنه ذاكرتها من أحداث ومحطّات تاريخيّة، وهي التي كانت شاهداً على توالي عدد من الحضارات الكبيرة على أرضها وعلى معارك وحروب أضافت فصولاً إلى تاريخها الغنيّ لكنّها تسبّبت في خرابها، ومن أشهر أحداث التّاريخ التي ارتبطت بها موقعة عنجر التي تمكَّن فيها الأمير فخر الدّين المعني من إلحاق هزيمة قاسية بجيوش العثمانيين في تشرين الثّاني من العام 1623 فأصبح هذا النّصر عنواناً لتعلّق اللّبنانيين بالاستقلال وأصبحت عنجر في ثقافتهم مصدر اعتزاز على مرّ الزّمن.
أمّا عنجر اليوم بقلعتها وقصرها الأمويّ الشهير فهي بلدة بقاعيّة جميلة تتوسّط سهولاً خصبة وطبيعة ومياه وهي من أبرز المقاصد السّياحيّة بمنتزهاتها الوارفة الظّلال ومطاعمها التي تتمتّع بشهرة وشعبيّة بين اللّبنانيين. كما أنّ عنجر تشتهر في المساهمة الكبيرة التي أضافها الوجود الأرمنيّ اللّبنانيّ إلى تاريخها إذ إنّها استضافت طلائع اللّجوء الأرمنيّ إلى لبنان في أربعينيّات القرن الماضي وأصبحت بفضل الشعب الأرمني ونشاطه وثقافته مدينةً زاهرةً من أجمل حواضر البقاع.
تفترش بلدة عنجر البقاع الأوسط على مساحة 20 كلم مربع بتعداد سكّاني يناهز الـ 2500 نسمة معظمهم من الطّائفة الأرمنية، كما يُطلق على البلدة حوش موسى، والتّعداد السكّاني قابل للارتفاع خلال فصل الصيف من خلال زيارة أرمن الشّتات إلى هذه البلدة التي تُعتبر مرجعاً مهمّاً لهم.


التّسْمِيَة
كانت تُطلق على البلدة تسمية “ عين جرّه “ وهذه التّسمية تعود إلى القرن الثّامن حيث كانت تطلق على المناطق المجاورة لقلعة “جرّة “ وهي المدينة الأثرية التي أسّسها العرب الأيطوريون خلال حقبة حكم الأسكندر المقدونيّ وهي القلعة المعروفة اليوم باسم قلعة عنجر ليُصار في ما بعد إلى ربط الكلمتين بكلمة واحدة تسهيلاً للفظها فأصبحت عنجر، لتنتقل بالتّواتر على ألسنة النّاس .
كما ذهب المؤرّخون إلى اعتبار عنجر، هي نفسها “خلقيس” أو “كلسيس” القديمة التي يُنسب الفيلسوف “بمبليخُس” شارح أفلاطون إليها والتي ورد ذكرها في كتابات ورسائل “تلّ العمارنة” في مصر عام 1500 قبل الميلاد كما جاء في كتاب “تاريخ زحلة” للمؤرّخ اللّبناني عيسى المعلوف. كما أنّ ذكر المدينة ورد في معجم “ياقوت الحمويّ” تحت اسم “أمجرا” وقد ميّزها ببركة ماء وينبوع “تجزُر مياهه تارة وتمدُّ تارةً أخرى”، وقدم وصفاً مُسهباً لقنوات قديمة وطواحين وأحواض كانت تُستعمل في تجميع وجرّ مياه الينبوع إلى المدينة.
أقيمت مدينة عنجر الأثرية على أحد أهمّ منابع أو عيون نهر اللّيطاني في موقع مميّز على خارطة الطّرقات التي كانت تشقّ البقاع في الأزمنة القديمة والوسطيّة لتشكّل عقدة رئيسية تلتقي عندها الطّرق التي كانت تصل مناطق سوريا الشّماليّة بشمال فلسطين وتلك التي كانت تصل السّاحل بغوطة دمشق. وقد أسهم في ازدهاره العَين التي تنبع من السّلسلة الشّرقيّة والتي أعطت البلدة اسمها الحاليّ.
أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بين عاميّ 705 و 715 بإنشاء مدينة محصّنة على بعد كيلو متر واحد من نبع المياه المعروف في حينه بـ “عين جرّة” ولتنفيذ هذا المشروع استعان الخليفة بعدد من المهندسين والحرفيين والصنّاع البيزنطيّين والسّوريين البارعين بفنّ العمارة والزّخرفة المتوارثة من العصر الرّوماني حيث عمد هؤلاء إلى استخراج الحجارة من عدد من المقالع المجاورة .
عنجر الأموية
اكتمل بناء المدينة العربيّة في عنجر بحلول القرن السّابع للميلاد فجاءت تحفة في المنعة والجمال وشكّلت أسوارها وحصونها أرفع نموذج للفنّ المعماريّ العسكري الدّفاعيّ لدى العرب، وقد بُنيت وفقاً لتخطيط المدن الرّومانيّة البيزنطيّة، ثمة شارعان رئيسان يتقاطعان وسط المدينة ويقسمانها إلى أربعة أجزاء. يبلغ عرض الشّارع الأوّل عشرة أمتار ويمتدّ من الشّمال إلى الجنوب والثّاني يمتدّ من الشّرق إلى الغرب بعرض عشرة أمتار، هذا وتحفّ بالشّارعين سلاسل طويلة من الغرف المقنطرة والحوانيت والمخازن يبلغ عددها الإجماليّ ستمائة غرفة. في نقطة تقاطع الشّارعين وسط المدينة وعلى مقربة من القصر الكبير، تنتصب أربعة أعمدة ترتفع فوق مستوى القصر وفي أعلاها ما يشبه برج المراقبة، وقيل إنّه برج لاستقبال الحمام الزّاجل وإطلاقه أمّا الأحياء السكنيّة فقد كان كلّ حيٍّ يتألّف من بيتين أو ستّة بيوت كحدًّ أقصى كلّها ذات تصميم متشابه يضمّ حَوْشاً يتوسّط عدداً من الغرف، بينما تحفّ الحوانيت بالطّريق الرّئيسيّ، وهناك البوّابة الرّباعيّة الأسوار منذ أيّام الرّومان والإغريق، كما تخترق وسط المدينة شبكة من قنوات تصريف المياه المُبتَذلة مجهّزة بالفتحات اللّازمة لتنظيفها.
وبسبب وجودها في سهل البقاع الذي اعتُبِر في فترة بمثابة “إهراءات روما” فقد قام اقتصاد عنجر على تجارة الحبوب مثل القمح والشّعير والعدس والأعلاف إلّا أنَّ البلدة أنتجت أيضا الفواكه والخضار المجفّفة من خيرات سهل البقاع، وكانت تقوم بتصديرها إلى الأسواق المجاورة أو البعيدة. وكانت عنجر تستورد بضائع وموادّ أخرى للاستهلاك المحلّي أو لإعادة طرحها في الأسواق، كالأقمشة الصّوفيّة والقطنيّة والكتّان والعطور القادمة من الجزيرة العربيّة والزّيوت من سوريا التي كانت تشتهر بزراعة الزّيتون، والأسماك المجفّفة من بحيرة طبريّا في فلسطين وكذلك الدّهون والمراهم والبلاسم. أمّا تجارة الحرير فقد لعبت فيها عنجر دوراً مهمّاً كمركز التقاء وتقاطع بين الشّرق الأقصى والشّرق الأدنى وبلدان حوض المتوسّط حيث كانت معامل بيروت وصور تتسلّم الحرير الخام المُستَورد من الصّين فتصبغه باللّوْن الأرجواني الذي كان يشهد إقبالا منقطع النّظير ثمّ ترسله إلى سوق عنجر لبيعه من التّجار والمسافرين بأسعار مرتفعة.




“فرنسـا اشترت أرض عنجر من ملاك تركي بـ 8 ملايين فرنك فرنسي بهدف إيواء اللّاجئين الأرمن وقامت بتصميم وبناء القرية التي أصبحت من أجمل قرى البقاع”


نقطة تقاطع لخطوط التجارة
تدلّ بقايا الآثار التي مازالت موجودة داخل أسوار القلعة والأماكن المحيطة بها على أهمية الدّور الذي كانت تلعبه القلعة في التّاريخ حيث تبرز كمركز للتّبادل التّجاريّ لوقوعها في منطقة تشكّل عقدة مواصلات.
ورغم أنّ الحفريّات الأثريّة تناولت عنجر منذ الخمسينيّات، فإنّ الموقع ما زال يحتفظ ببعض أسراره ولا سيّما من حيث علاقته بمدينة جرّا خاصة وأنّ العديد من الباحثين يؤكدون أنّ 30 بالمئة فقط من آثار عنجر تمّ التنقيب عنها.
ومن الملاحظ، أنّ مدينة الوليد لم تكن بعد قد اكتملت عندما دمّرها مروان الثاني، وهذا ما يظهر من خلال وجود أجزاء واسعة في داخلها لم يعثر فيها على أيّة بُنىً إلّا إذا كانت هذه المساحات مخصّصة للتّنزّه داخل أسوارها.
وكان المهندسون في مراحل التّنقيب الأولى بدأوا بتجفيف مياه المستنقعات، ثم زرعوا أشجار اليوكاليبتوس والسّرو التي ما تزال مزدهرة إلى يومنا هذا، وتضفي على هذه الآثار العظيمة طابع المنتزه. وقد شملت أعمال التّنقيب حتى الآن كلّ الموقع ورمّمت بعض المعالم وأهمّها: القصر الكبير والجامع في الجناح الجنوبي الشّرقي، والمنطقة السّكنيّة في الجناح الجنوبيّ الغربيّ، والقصر الصّغير في الجناح الشّماليّ الغربيّ وقصر ثالث وحمّام عامّ في الجناح الشّماليّ الشّرقيّ .
دمار وأطلال
من المُفارقات الكبيرة عبر التّاريخ أنّ مدينة عنجر لم تدُم طويلاً بعد وفاة مؤسّسها حيث عمد الخليفة مروان الثّاني إلى تدميرها سنة 744 م. على أثر انتصاره على منافسه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت على مقربة منها وما لبثت البلدة أن بدأت تتداعى حتى تحوّلت في القرن الرّابع عشرَ إلى تلال من الأطلال والتّراب وسط مستنقعات. وظلّت على هذه الحال إلى أن نال لبنان استقلاله في العام 1943 إذ بدأ الاهتمام بالآثار وبكلّ معالم التّاريخ اللّبناني فبدأت المديريّة العامّة للآثار الاهتمام بهذه المنطقة التّراثيّة والتّنقيب عن الآثار التي دُفنت تحت التّراب. وقد كان الموقع أوّل الأمر متواضعاً بالمقارنة مع باقي المواقع الأثريّة في لبنان لكنّ المعلومات التي كانت في حَوزة علماء الآثار زادتهم شغفاً بالمجيء إلى هذه البقعة الغنيّة بالدّفائن الثّمينة. وكان الخبراء يتوقّعون أن تكون آثار السّلالة الأمويّة مدفونة تحت هذه المدينة التي أخضعت المنطقة لسلطتها وهذه الخطوة كانت مهمّة في حينه لأنّ لبنان يُعتَبر مُتحَفاً لكافّة الحضارات التي تعاقبت على الشّرق لكنّه كان يفتقد إلى آثار الحضارة الأمويّة .
الأرمنُ في عَنجر
بعد الأحداث الأرمنيّة الأليمة وترحيل مئات الألوف من السّكّان الأبرياء من ديارهم على يد جموع الغوغاء وبعض فلول القوّات التّركيّة المهزومة في الحرب العالميّة الأولى، بدأ اللّاجئون الأرمن رحلة عذاب طويلة توزّعوا خلالها أوّلاً على تجمّعات ومخيّمات لجوء مؤقّتة في الدّول المجاورة، ثم توجّهت موجات منهم جنوبا باتّجاه بلاد الشّام، المعروفة بثقافة التّسامح وتعايش الطّوائف الإسلاميّة والمسيحيّة، فاستقرّ بعضهم في شمال سوريا. وفي رسالة وجهّها في 6 أيّار 1939 إلى المفوّض السّامي لفرنسا، اقترح وكيل أعمال السّجلّ والإصلاح العقاريّين الفرنسيّ وكان يدعي دورافور أن يتمّ إسكان الأرمن في جهات لبنان الأربع ومن هذه الجهات البقاع ومدينة عنجر.
بعد أن أنهت سلطات الانتداب دراسة الموضوع، باشرت مفاوضاتها مع رشدي بك توما وهو ملاّك تركي ورث عن درويش باشا عقاراً مساحته 1540 هكتاراً في عنجر. فطلب لبيع الأرض 53 مليون فرنك، سأل المفوّض السّامي الدّبلوماسيّة التّركيّة أن تمارس الضّغط عليه خاصّة وأنّ الأرمن كانوا يعيشون في ظروف صعبة ويسكنون في العراء. فوافق بعد مساعٍ على بيع الأرض بمبلغ 8 ملايين فرنك فرنسيّ مقابل تعويضه عن بيعه الأرض بأراضٍ هجرها الأرمن في السّنجق.
نُقل الأرمن في بادئ الأمر من جبل موسى إلى سوريا (مخيّم البسيط) ثمّ إلى عنجر، حيث حلّوا أولاً في مخيّم، ثمّ رسمت دائرة الأشغال العامة التابعة للمفوضيّة العليا الفرنسيّة تصميماً للقرية التي جرى بناؤها وتزايد عدد سكانها مع الزّمن واتّسعت حتى أصبحت اليوم من أجمل مدن البقاع .




عنجر البلدة
عنجر التي صَنّفت منظّمة اليونيسكو قلعتها في التّراث العربي، هي اليوم نتاج جهد وتعب وإتقان تظهر كلها في جنائن ورياض قلّ نظيرُها وبساتينُ غنّاءَ ومياه رقراقةٌ قامت على جنباتها أفخم المطاعم والمنتزهات والفنادق، وكما كانت عنجر في السابق مصيفاً للأمويّين يقصدونها للرّاحة والاستجمام وقد بَنَوْا قلعتهم فيها وقد باتت عنجر اليوم ملاذاً طيِّباً لطالبيّ الرّاحة وروّاد المنتزهات الهاربين من صخب المدينة وحرِّها.
مهرجانات قلعة عَنجر
أُقيمت مهرجانات قلعة عنجر على ثلاثة مراحل عام 1971 في عهد الرّئيس الرّاحل سليمان فرنجية الذي ترأست عقيلته لجنتها وتألف اعضاؤها من النواب الأرمن، فنظم المهرجان في كل فصل صيف على مدى خمسةَ عشَرَ يوماَ، وكان الفنّان وديع الصّافي من أبرز الفنّانين الذين أحْيَوْا المناسبة، لكنّها توقّفت مع اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان عام 1975 لتعود من جديد عام 1992 في عهد الرّئيس الرّاحل اِلياس الهراوي الذي تَرَأّسَتْ عقيلته اللّجنة.
واستضافت قلعة عنجر في تلك الفترة فرقَ باليه عالميّة وفنّانين بارزين محلّيين وأجانب. وفي عام 2004 انطلقت المرحلة الثّالثة للمهرجانات وتَرَأَّسَتْ لجنتها السيدة نسيمة الخطيب عقيلة الوزير السّابق سامي الخطيب، ولم تكن البلديّة معنيّة بشكل مباشر بهذه المهرجانات بينما كان رئيس بلديّة عنجر السّابق عضواً فخريّاً لا يتدخّل بميزانيّة المهرجانات ومصاريفها.
وبصورة عامة فقد أدّى تفاقم الأوضاع الإقليميّة وانعكاسات الحرب في سوريّة فضلاً عن الأوضاع الأمنيّة في البقاع إلى تأثير سلبيٍّ على مهرجانات عنجر التي خَفَتَ بريقها وتراجعت قدرتها على اجتذاب الفنّانين وجمهور الحضور، وقد حلّ محلّ المهرجانات بعض الحفَلات التي تُنَظّم من حين لآخرّ في القلعة من منتجين مستقلين.