السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

غزوة الخندق

غزوة الخندق

يوم بلغت القلوب الحناجر

آخر محاولة من قريش لوأد الدولة الإسلامية
أفشلها سلمان وخدعة نُعَيم والعاصفة العاتية

فوجئ المسلمون بضخامة جيش الأحزاب المهاجمة
فاقترح سلمان على الرسول حفر خندق حول المدينة

القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد
القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد

خسائر المسلمين في غزوة «أحد» أضعفت المعنويات
فحرّض اليهود قريش على تسديد الضربة القاضية

في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة الموافق 627 للميلاد تعرّضت الدولة الإسلامية في المدينة لخطر وجودي بكل معنى الكلمة كاد لولا تأييد الله أن يتحول إلى كارثة على المسلمين، ففي تلك الموقعة حشد ما سمي تحالف الأحزاب بقيادة قريش أكثر من 10،000 مقاتل كاملي التجهيز والعتاد لهدف واحد هو شنّ هجوم كاسح على الدولة الناشئة في المدينة والقضاء عليها قضاء تاماً والتخلص بالتالي من التهديد الذي باتت تمثله لسلطان قريش وإمتيازاتها ونظام الجاهلية وقيمه وشرائعه وعلى رأسها عبادة الأصنام. في مقابل هذا الجيش اللجب المتحمس للقضاء على المسلمين تجمع داخل المدينة 3،000 مقاتل من المسلمين كانوا ينظرون بمزيج من الخوف والرجاء إلى جيش الكفار وهم يتساءلون كيف يا ترى سيمكنهم ردّ الهجوم وإنقاذ الدين وأهله من ذلك الخطر العظيم؟ لكن }كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ { (البقرة: 249). وبالفعل فقد قيض الله أن تتحول غزوة باغية هدفها القضاء على المسلمين إلى نصر غير متوقع لأن المشركين الذين خسروا الرهان على تلك الغزوة لم يتمكنوا بعدها من شن أي غزوة على المسلمين بل المسلمون هم الذين سيأخذون المبادرة بعدها وسيزدادون قوة على قوة إلى أن ييسّر الله تعالى لهم القضاء على الشرك وفتح مكة ورفع لواء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية.
بهذا المعنى فإن معركة الخندق التي صمد فيها المسلمون أمام جحافل المشركين والقبائل التي تحالفت معهم يمكن اعتبارها معركة فاصلة بين مرحلتين : مرحلة ضعف المسلمين وتشريدهم من مكة ولجوئهم إلى المدينة والتزامهم سياسة الدفاع والمهادنة وبين مرحلة ضعف المشركين وإدراك الرسول (ص) مع الوقت أن الموازين قد انقلبت ضد قريش وحلفائها الأمر الذي سيزيد المسلمين تصميماً وإقداماً في التعامل مع المشركين وسيدفع بهم في الوقت المناسب من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم وحسم الموقف مع أهل الكفر.
فما هي خلفيات معركة الخندق ما الأسباب التي قادت إليها؟ وكيف مكّن الله تعالى للمسلمين المستضعفين يومها الصمود ثم النصر في وجه عدو يفوقهم بأكثر من ثلاثة أضعاف؟

أسباب معركة الخندق
في السنة الخامسة للهجرة، وهي السنة التي حصلت فيها غزوة الخندق كان المسلمون قد تمكنوا منذ خروجهم من مكة من بناء دولة صغيرة في المدينة بالاستناد إلى حلف المهاجرين الذين قدموا من مكة هرباً من اضطهاد قريش والأنصار الذين كانوا من سكان المدينة والذين استقبلوا الرسول ومهاجري المسلمين بالتأييد والنصرة وكانوا يتألفون بصورة أساسية من قبيلتي الأوس والخزرج. ورغم انحصار الوجود السياسي للمسلمين في المدينة دون امتداده إلى نواح أوسع من الجزيرة، فإن المسلمين استخدموا المدينة كقاعدة لشن هجمات على المشركين ومناوشتهم باستمرار، وكانت أول موقعة مهمة لهم مع قريش وحلفائها هي غزوة بدر التي انتصر فيها نفر قليل من المسلمين على جيش كبير من المشركين وقتلوا خلالها أكثر من 70 من كبرائهم وصناديدهم.
بعد غزوة “بدر” وهزيمة قريش بات المسلمون يشكلون خطراً حقيقياً على اقتصاد مكة عن طريق السرايا التي كانت تقطع طريق قوافل قريش التجارية وعن طريق الإغارة على القبائل لإجبارها على قطع موالاتها لمكة. وقد شن الرسول (ص) بعد “بدر” غزوتين مهمتين الأولى استهدفت بني سليم والثانية غطفان وهي من القبائل القوية المتحالفة مع قريش. في هذه الأثناء خشي اليهود وكانوا قوة يحسب حسابها في المدينة ونواحيها أن تقوى شوكة الإسلام فأخذوا بتحريض قريش على الثأر لهزيمة “بدر” كما إن أعيان قريش كانوا يصرون على أبي سفيان أن يجهز حملة كبيرة على المسلمين من أجل الثأر لقتلى القبيلة العزيزة واستعادة هيبتها. وبالفعل قررت قريش شنّ حملة كبيرة أسفرت عما سمي بغزوة “أحُد” (و”أحُد” هو جبل يقع على مقربة من المدينة) وقد مني خلالها المسلمون بخسائر كبيرة وتعرض فيها الرسول نفسه إلى هجمات مباشرة من المشركين الذين أحاطوا به وحاولوا قتله وأصابوا منه جروحاً أسالت دمه وكادوا أن ينالوا منه لولا استماتة بعض الصحابة في الدفاع عنه وصدّ السهام التي كانت تطلق عليه بصدورهم وظهورهم.
ورغم أن غزوة “أحُد” انتهت دون نصر حاسم لقريش إلا أنها أصابت المسلمين بخسائر كبيرة اعتبرتها قريشا ثأراً لقتلاها في “بدر”. ومن هنا فإن معركة “أحُد” لعبت دوراً كبيراً في وقوع غزوة “الخندق” لأنها أثرت على هيبة المسلمين، كما إنها جعلت اليهود الذين كان الرسول (ص) قد عقد معهم مواثيق شرف بعدم الاعتداء والتضامن في وجه أي عدوان خارجي يكشفون أوراقهم ويبدأون بالتطاول على المسلمين واستفزازهم. كما إنهم في الوقت نفسه بدأوا مع منافقي المدينة وزعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول بتحريض قريش على استكمال غزوة “أحُد” بغزوة حاسمة يجمعون لها قبائل العرب ويوجهون خلالها ضربة تقضي على المسلمين وعلى الرسول (ص) وتخلص قريش وحلفاءها من هذا الخطر المتعاظم.
قبل غزوة “الخندق” حصلت أحداث مهمة تمثلت في اصطدام المسلمين بقبيلة بني النضير اليهودية بسبب ما بدأ يظهر من أفرادها من مظاهر تحدٍ للمسلمين بعد الخسائر التي منيوا بها في «أحُد». وظهرت نوايا القبيلة جلية عندما جاءها الرسول (ص) طالباً المساعدة في دية قتيلين فرفضوا المساعدة بل وحاولوا خلال زيارة الرسول لحيِّهم أن يستدرجوه إلى مكان يمكنهم فيه أن يرموه بحجر كبير من السطح بهدف اغتياله. وبالفعل حاول يهودي من بني النضير تنفيذ الجريمة فصعد إلى سطج يعلو المكان الذي جلس فيه النبي وأصحابه مسنداً ظهره إلى جدار تمهيداً لإلقاء الحجر لكن الملاك جبريل أنبأ الرسول فنهض مع أصحابه فجأة وغادروا المكان.
بعدها أنذر الرسول قبيلة بني النضير بالخروج من المدينة ولما رفضوا حاصر قواتهم التي كانت تضمّ 1500 مقاتل ست ليال أذعنوا بعدها عندما لم يأتهم التأييد الموعود من المنافقين وقبلوا الخروج دون أي سلاح وأن يأخذوا من متاعهم فقط ما يمكن لإبلهم أن تحمله.
بعد خروجهم من المدينة نزل أشراف بني النضير أولاً في خيبر التي كان يسكنها اليهود أيضاً وبدأوا يفكرون في الثأر من المسلمين وفي الوسائل التي توصلهم إلى تحقيق غرضهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب، وأجمع قرار زعماء اليهود على أن السبيل الأفضل للثأر هو بذل جهود منسقة بهدف تحريض قريش والقبائل العربية الكبيرة على شن حرب كاسحة على الدولة الإسلامية في المدينة والقضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها. ومن أجل ذلك سار جمع من كبرائهم ومنهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق إلى مكة بهدف دعوة قريش لمحاربة رسول الله (ص). وكانت خطتهم أن يلفتوا قريش إلى أن المسلمين أصبحوا الآن ضعفاء بعد غزوة «أحد» وأن الفرصة متاحة للتخلص من الدولة الإسلامية في ما لو نشأ حلف كبير من القبائل لتولي تلك المهمة.
كان لقريش بالطبع أسبابه الخاصة للتفكير بشنّ حملة كبرى على المسلمين، فقد كانت دولة المدينة قد تحوّلت إلى خطر محدق بقوافل قريش التجارية وكان المسلمون يزدادون ثقة وجرأة في مضايقة المشركين وشنّ الغزوات على قوافلهم وعلى قوافل القبائل الحليفة لقريش. لكن رغم ذلك تعجب زعماء قريش لعداء اليهود الشديد للمسلمين وارتابوا في نواياهم، لذلك خاطبهم زعماء قريش بالقول: “يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأنتم تعلمون بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ وكان قصد قريش فهم الغاية من قدوم ممثلي اليهود وطلبهم التحالف لأن المنطق هو أن المسلمين واليهود أهل كتاب ووحي.
هنا لم يتردد زعماء اليهود في القول: “بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه” وهو ما سر المشركين وأقنعهم بإعداد العدة للغزوة الكبرى التي سميت في ما بعد بـ “غزوة الأحزاب” وقد تابع زعماء اليهود سيرهم إلى قبيلة غطفان القوية ودعوها إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لزعمائها استعداد قريش فأجابوهم إلى ما رغبوا فيه.
سلمان يقترح حفر الخندق
وصلت إلى الرسول (ص) من عيونه في مكة أخبار الحشد العسكري الذي كانت قُريش تحضر له لمهاجمة المسلمين. عندها جمع النبي (ص) أصحابه للتشاور في استراتيجية مناسبة لصد العدوان المحتمل على المدينة. صدر عن هذا الاجتماع قرار بالبقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل على عكس ما حصل في معركة “أُحُد”. أثناء عملية التشاور اقترح الصحابي سلمان الفارسي (ر) على الرسول (ص) حفر خندق عميق حول المدينة لتعزيز دفاعاتها والتعويض عن أي تفوق عددي محتمل في صفوف حلف الأحزاب. وقال سلمان: يا رسول الله كنا في فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. ثم شرح سلمان للرسول (ص) وللصحابة تقنية الخندق وطريقة حفره، وكان المسلمون يملكون وقتاً محدوداً قبل وصول طلائع الجيوش المهاجمة فقرروا العمل بسرعة وكسب الوقت. الجدير بالذكر هنا أن كلمة “خندق” هي كلمة فارسية في الأصل.
أذن الرسول بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم، واشتغل بنفسه على حفر الخندق ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون من دون إذن رسول الله (ص) ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجالهم في العمل وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

” أرادت قريش القضاء على الدولة الإسلامية لأن الدعوة كانت تنتشر بسرعة ولأن دولة المدينة تحولت إلى تهديد خطير لقوافل المشـركين التجارية “

غزوة الخندق
غزوة الخندق

سلمان منا أهل البيت
خط رسول الله (ص) الخندق ثم قسمه إلى قطع الواحدة منها تعادل أربعين ذراعاً وأوكل لكل عشرة من المسلمين أمر حفر تلك القطعة، وعندما همّ بـتخصيص سلمان الفارسي ومجموعة بقطعة من الخندق بهدف إنجاز حفرها مع بقية الصحابة، اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً ومهاباً فقالت الأنصار: سلمان منا (يريدون أن يكون في فرقتهم) وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (ص) “سلمان منا أهل البيت” فأخرج سلمان بذلك من شبكة الانتماءات والولاءات القبلية ليضمه معنوياً إلى أهل بيته الشريف، وقد كان وبقي بعد ذلك من أقرب المقربين إليه ومن أهل شورته.

الصخرة ومعجزة الرسول
بينما كان فريق من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي، إذ ظهرت صخرة بيضاء شديدة الصلابة فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فطلبوا من سلمان أن “أبلغ رسول الله بأمر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها وإما أن يأمر فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه”، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله فأخبره برأي الجماعة، فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول من سلمان (ر) فقال: “بسم الله” ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين جانبي المدينة، فقال: “الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني”، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت كالأولى فقال: “الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر”، فسُرَّ المسلمون، ثم ضرب الثالثة وقال: “بسم الله” فقطع بقية الحجر وخرج نور من صوب اليَمَن فأضاء جانبي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة”.

” أراد بنو النضير اليهود من تحريض بني قريظة على القتال الإستفادة من موقعهم المتميّز في جنوب المدينـة وإحداث تحول يؤدي إلى هزيمة المســلمين “

تنظيم الدفاع
استمر بعد ذلك العمل في حفر الخندق كما تقرر إقامة أبراج لمراقبة الخندق منها. ثم جعل النبي (ص) النساء والصبيان في أحد حصون بني حارثة لحمايتهم، ثم أمر بتنظيم دوريّاتٍ لحراسة المدينة من جميع الجهات ، وعيّن سلمة بن أسلم الدوسي (ر) لتولّي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة (ر) مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية وبذلك يصعب على الأعداء مفاجأة المدافعين أو استغلال نقطة ضعف معينة لاختراق الخندق ودخول المدينة. وبذلك تمكن المسلمون من إنهاء الخندق قبل وصول العدو بستة أيام!
وعند وصول حلف الأحزاب ونيتهم القضاء على دعوة الإسلام وعلى النبي (ص) قدر عدد مقاتليهم بنحو 10،000 مقاتل كانت بينهم فرقة من الفرسان وقد زحفوا جميعاً بقيادة أبي سفيان إلى المدينة، لكن الجيوش التي قدمت وفي ظنها أن حسم المعركة لصالحها لن يأخذ وقتاً طويلاً فوجئت عند وصولها بالخندق الذي يلف الحدود المفتوحة للمدينة فوقفت عاجزة عن عبوره لمهاجمة المسلمين بعد أن حاولت موجات مقاتليها اختراقه أكثر من مرة، وكانت إحدى محاولات الاختراق بقيادة خالد بن الوليد كما شارك عمر بن العاص في الهجوم وكان هذان البطلان الإسلاميان لا يزالان في صفوف المشركين. وبعد أن فشل حلف الأحزاب بقيادة أبي سفيان في اقتحام المدينة بفضل حفر الخندق قرر الجيش المهاجم نصب الخيام وفرض حصار على المدينة إلى أن تستسلم، لكن خطة الدفاع كانت محكمة والمدينة تختزن مؤونة تكفي سكانها أشهراً طويلة بينما الجيش المهاجم لم يكن مستعداً لحصار طويل ولم يكن قد جلب معه مؤونات تكفيه أكثر من شهر. وقد طال الحصار فعلاً نحو شهر وكانت الحرب عبارة عن كرّ وفرّ. المدافعون المسلمون يرمون المهاجمين بالنبال لمنع خيولهم من اجتياز الخندق، وقد قتل للمشركين خيل كثيرة في محاولاتهم اجتياز تلك العقبة وبدأ التعب يحل في صفوفهم رغم كثرة عددهم. أحد العوامل التي أضعفت معنويات المهاجمين كان البرد القارس خصوصاً في الليل وكان الوقت شتاء إذ بدأت الحملة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة١ وكان ذلك يوافق شهر كانون الثاني/يناير البارد جداً من سنة 627 ميلادية.

خيانة بني قريظة
مع صمود المسلمين داخل حصون المدينة وخلف الخندق الذي أصبح عنصر حماية أساسياً بدأ يهود بني النضير الذين شاركوا في التحضير لهذا الهجوم بالتفكير في خطة جديدة أملوا أن تقلب الموازين وتعيد المبادرة إلى حلف المهاجمين، وقرروا تحريض بني قومهم يهود بني قريظة الذين مازالوا يعيشون في المدينة ويربطهم عهد مع المسلمين على نقض العهد مع رسول الله (ص) .
كان المسلمون يعتبرون حي بني قريظة في المدينة منطقة محايدة تحمي ظهرهم، لذلك فإن انحياز تلك القبيلة اليهودية إلى المهاجمين وتحولها إلى قتالهم من داخل المدينة ومن خلفهم كان سيضعضع صفوف المدافعين، إذ يجعلهم بين نارين، ويسهل بالتالي على المهاجمين تحقيق الاختراق المنشود وكسب المعركة. فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب إلى سيد بني قريظة وكان كعب بن أسد القرظي، فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب يطرق الباب أغلق دونه باب حصنه ولم يرد أن يستقبله لأنه علم أنه جاء يطلب منه نقض عهده مع المسلمين. لكن حيي ألحّ عليه حتى فتح له وما زال يستميله ويغريه بكثرة الأحزاب وقوّتها، ووعدهم بالحماية بعد انتهاء الحرب ورحيل الجيوش وكان هدف حيي بن أخطب من بني النضير أن يستفيد المهاجمون من الموقع المتميّز لبني قريظة في جنوب المدينة وهو ما أمل أن يحدث تحولاً كبيراً في مجرى القتال.
ولما وصلت الأخبار إلى النبي (ص) بنقض بني قريظة للعهد حزن كثيراً وأرسل سعد بن معاذ و سعد بن عبادة وآخرين للوقوف على حقيقة الأمر والتأكّد من صحّة الخبر، ولما دنا الرجال منهم محاولين تذكيرهم بالعهد وجدوا أنّ اليهود قد نقضوا العهد فعلاً ومزّقوا الوثيقة وكانوا يجاهرونهم بالسوء، وبلغوا حد سب الرسول قائلين: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

امتحان شديد للمسلمين
رجع الصحابة بسرعة إلى رسول الله (ص) وأخبروه بغدر بني قريظة، فحزن الرسول (ص) حزناً شديداً لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وهو يفكر فيما سيحدث. ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: “اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ” .
وانتشر خبر خيانة بني قريظة بين المسلمين فعظم عليهم البلاء، وأصابهم الكرب الشديد، فقد كانت المدينة مكشوفةً من الجنوب على بني قريظة، وزاد من خوفهم وجود بعض النساء والأولاد في حصون اليهود، وقد وصف الله تعالى تلك اللحظات العصيبة في قرآنه الكريم بقوله:}إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا{ ( الأحزاب : 10و11).
وكان للمنافقين دورٌ في زيادة المحنة، وذلك بالسخرية من المؤمنين وبثّ روح الهزيمة والانهزامية فيهم ، كما قال تعالى }وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا{ (الأحزاب:12)، واستأذن كثير منهم النبيَّ في العودة إلى ديارهم بحجّة أنها مكشوفة للأعداء، وغرضهم في الحقيقة إنما هو الفرار من أرض المعركة وسمع البعض منهم يتهكم تعليقاً على بشارات الرسول (ص) بالفتوحات القادمة، ويقول: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط”.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف أي الفرار } وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا{(الأحزاب: 13).
مع تزايد الضغوط على المدافعين وفي محاولة استباقية عاد النبي (ص) إلى سلاح الدبلوماسية والمهادنة الذي طبقه في أكثر من مناسبة يكون فيها صف المؤمنين ضعيفاً، وتمثلت خطته في محاولة استمالة قبيلة غطفان الكبيرة والقوية وفصلها عن التحالف. وكان اقتراحه أن يعقد مصالحة مع غطفان للعدول عن الحرب مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. لكن لما كانت ثمار المدينة ملك الأنصار فقد وجد لزاماً عليه أن يستشير في الأمر لذلك استدعى زعيمي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (ر) وعرض عليهما ما يجول في فكره فقالا: “لقد كنا نحن وهؤلاء القوم (أي غطفان)على الشرك بالله وعبادة الأوثان،أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف” “ فاستحسن النبي (ص) قولهما، وتراجع عن الفكرة. وكان رأي الصحابيين الجليلين في محله لأنه لو أعطيت غطفان وهي قبيلة مجاورة للمدينة ثلث الثمار لكان ذلك بمثابة إشارة ضعف من معسكر المسلمين وكان سيزيد في هبوط معنوياتهم، ولكانت هذه التسوية أسست لعادة تقوم فيها القبائل بإبتزاز المسلمين عبر التهديد بالحرب.

“نفذ نعيم بن مسعود خدعة بارعة أدت إلى انهيار الثقة بين اليهـــود وبين الأحزاب وكانت هذه من أهم أســباب وقف قريش للحملة على المدينـــة”

أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها
أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها

خدعة…في الوقت المناسب
بينما كانت الضغوط تتصاعد على المسلمين المحاصرين في مدينتهم جاء رسول الله (ص) رجل يدعى نُعيم بن مسعود بن عامر فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي وعرض أن يستخدم هذا الأمر لينفذ خدعة تضعضع صفوف المهاجمين. وبالفعل جاء نعيم بن مسعود بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فذكرهم بأنهم يظاهرون قريشاً وحلفاءها ويخاطرون لأن قريشاً والقبائل جاءت لكسب المغانم فإن لم توفق لذلك فستتركهم وتعود أدراجها وعندها سينتقم منهم المسلمون، ونصح نعيم اليهود بأن يطلبوا من قريش رهائن من رجالهم يكونون بمثابة ضمانة بأن قريش ستقاتل المسلمين حتى حسم الموقف. ثم مضى نعين إلى قريش وقال لهم إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن طلب إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج وقال لغطفان ما قاله لقريش وحذّرهم ما حذرهم.
وبالفعل لما حثت قريش اليهود على مقاتلة النبي (ص) محمد ردّ اليهود عليهم بأن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً كما إننا لن نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون في أيدينا برهاناً لنا أنكم ستقاتلون محمداً لأننا نخشى إن تعبتم من الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانوا غير ذلك عادوا إلى بلادهم وتركوكم لتواجهوا محمداً وقومه في بلادكم، فأرسل اليهود مجدداً يطلبون رهائن من قريش ليقاتلوا ورفضت قريش ودب الخلاف بين الفريقين.

تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب
تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب

الطقس …يدخل الحرب
نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش، لكن لم يكد يتم لنعيم الأمر حتى حدث أمر لم يحسب المشركون حسابه إذ هبت عليهم ريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تطفئ نيرانهم وتقلب قدورهم وتقتلع خيامهم وأدت الرياح الشديدة البرودة إلى شل حركة الجند الذين باتوا مهتمين بسلامتهم ومات للمشركين الكثير من مواشيهم.. قال تعالى: } يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا{ (الأحزاب:9). فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وبالفعل تسلل حذيفة إلى صفوف القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً. فإذا بقائد الحملة أبي سفيان يخطب في الأحزاب التي بدأت تتشتت ويصيبها الذعر فيقول:
“يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل” ثم قام إلى جمله فجلس عليه ثم ضربه فوثب به ووجه رحله في طريق العودة إلى مكّة.
حطمت خطبة أبي سفيان ما بقي من معنويات أو إرادة قتال لدى المشركين، لأنه كان قائد الحملة وماذا سيفعل بقية الجمع بعد أن عاد قائدهم القهقرى إلى بلده تاركاً الجمع المشتت والمذعور ليدبر أمره بنفسه. لقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يأملون دخول المدينة وكسب المغانم من حربهم على المسلمين لكن الخندق الذي أشار سلمان الفارسي بحفره منعهم وأحبط خطتهم على الرغم من كثرة عددهم. ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش رفعوا مضاربهم أيضاً وجمعوا خيلهم وإبلهم وقفلوا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً (وفي رواية شهراً كاملاً). وكان أول ما قاله الرسول (ص) لأهل المدينة أن بشرهم بأن قريش “لن تغزوكم ثانية بعد عامكم هذا”وقد كان كما أخبر (ص) فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام.
بعد انسحاب جيش الأحزاب يجر أذيال الخيبة استفاق بنو قريظة على خطورة ما ارتكبوا من خيانة للمسلمين في أصعب أوقاتهم، وتوجه المسلمون فور انتهاء غزوة الخندق إلى حي بني قريظة لتصفية الحساب معهم فحاصروهم حتى استسلامهم فأخرجوهم من المدينة ولم يسمحوا لهم بأخذ أي شيء من أملاكهم معهم كما كان الحال مع بني النضير، كما إنهم أوقعوا القصاص بحد السيف في عدد من كبرائهم ومقاتليهم.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي