حطّت بنا الطائرة القادمة من الرّياض في مطار دمشق، لأنّ مطار بيروت كان قد توقّف عن العمل بعد اجتياح العدوّ الصّهيوني في 5 حزيران عام1982. ركبت في تاكسي Volvo، باتجاه بيتي في رأس المتن – لبنان. وبقيت الأمور عاديّة حتى اقتربنا من الحدود، بعدها صرنا نسير على بساط ثلجي عادي حتى وصلنا شتورة.
كان الشاب السوري السائق لطيفاً معي، فتوقّف في استراحة حيث أكلنا وشربنا. ونحن نصعد سيارة الـ Volvo، توقّف بجانبنا سائق تاكسي لبناني يقود سيارة مرسيدس 180 وقال: «بدأت الطريق في ظهر البيدر مستحيلة على السيارات غير المجهزة بالسلاسل المعدنية… بصعوبة وصلنا.أنا ذاهب إلى الشام… فلنكسب الوقت ونتبادل الركاب». رد الشابّ: «الأخ رفيق مكارم مسؤوليّتي… كما يقرّر هو، يذهب معك، ينام في فندق هنا، أو يعود معي لدمشق». وكان عبد الحليم، صاحب التاكسي اللبناني مُقنعاً بكلامه وصراخه، فأقنعني وسلكنا إلى ظهر البيدر، على أمل الوصول إلى رأس المتن. لكن هدوء السائق السوري عوّضه عبد الحليم بصراخه وأخباره ومسجلته العتيقة الأغاني… كان يبتسم ويقطع الكلام عندما افتح النافذة وأجلب الثلج عن الزجاج، حتى وصلنا ظهر البيدر بصعوبة. آخر «طلوعات ظهر البيدر» كان هناك حاجز للجيش السوري (مكان حاجز الدرك اليوم)، لا وجود للعسكر اللبنانيين يومذاك إلاّ في بيروت الغربية حيث قوات المارينز الأميركيين وقوات متعددة الجنسيات.
ما أن وصلنا الحاجز حتى تباطأ سير السيارات وزادت سماكة الثلج، ورأيت جدراناً بيضاء خلّفتها الجرافة خلفها. وعندما فتح عبد الحليم نافذته عرفنا مدى اشتداد العاصفة. وبطريقته البيروتية، سأل عبد الحليم العسكري على الحاجز: ماذا يحصل؟ أفاده الجندي، أنتم تسيرون خلف الجرافة وهي بطيئة، والعاصفة اشتدت وتتراكم الثلوج بسرعة، عودوا إلى شتورة أفضل. لكنّنا أكملنا حتى توقفت الجرافة. لا نعرف لماذا، وتوقف السير. انتظرنا دون جدوى، ثمّ خرجنا من السيارات لنكتشف أنّنا في الجحيم.
كنّا بصعوبة نتنفّس، ابْيَضَّ شارباي من تراكم الثلج، وتجمّد، رذاذ الثلج كالملح في العيون، والرؤية لا تتعدى المتر الواحد. تمسكت بشاحنة متوقِّفة، كانت العاصفة تسحبني بقوّة فلم أستطع.
بصعوبة أدرنا السيارة باتجاه شتورة لنعود، وكلّمنا الشباب على الأرض ليتبعونا… صعُب عليهم برم السيارات بالاتّجاه المعاكس لسيارتنا المجنزرة
أكملنا… وأمامنا سيارتان فقط… وقبل أن تنعدم الرؤية شاهدت السيارات باتجاه حمّانا إلى مسافة بعيدة خلف الجرافة… كنّا على وشك الخلاص لولا أنّ سيارة جيب تجاوزتنا بسرعة، فجأة توقفنا، وإذا بالجيب المدني ينقلب في عرض الطريق (وصاحبه نجيب من ظهور الشوير). حاولنا مع الشباب إعادته، لكن العاصفة كادت تحملنا ولا قوّة لدينا من شدة البرد، فعدنا إلى السيّارات، وإلى الشوفاج ليخفّف عنّا حدّة البرد. سلّمنا أمرنا لله، لأنّ الثلج، وبسرعة البرق، وخلال دقائق، كان يعلو ويعلو دون توقّف. حاولت فتح الباب عند المساء فلم يفتح، ونصحني عبد الحليم ألَّا أحاول الخروج إلى المجهول لأنّنا لا نعرف أين نحن، وقد ضاعت المعالم بانعدام الرّؤية وسرعة العاصفة وصفيرها، وهذا الملح إنَّه الموت والجحيم في الخارج.
كان الدعاء السبيل الوحيد لي ولعبد الحليم… بعد ما غطى الثلج باب السيارة حتى الزجاج. وبكى العجوز عبد الحليم لمّا أخبرته أنّي قادم لأرى أبي وهو على شفير الموت، وأني طُرِدت من عملي لأجل هذا، وقد توسّطت حتى وجدت مقعداً لي في الطائرة. قال: من اتّكل على الله حق الاتكال فهو حسبه.
كان الثلج يلتصق كالقطن بالزجاج، وكلما أطفأ السائق محرّك السيارة ليوفّر البنزين لأجل الشوفاج كنت أفتحه قليلاً فأسمع الصّفير ولا أحسّ بشيء من الدفء.
فجأة ضرب شيءٌ ما بقوة على الزّجاج. فتحته قليلاً، فإذا الطارق «أخمص كلاشنكوف بيد جندي سوري!». قال وهو يهتزّ من برد وعنف العاصفة: اخرجوا كي لا تموتوا في السيارة. قلت أنا: «إلى أين؟» قال إلى المركز قريب من هنا… هيّا… لا وقت لدينا… ستُطمَرُ السيارات بالثلج قريباً… يلْلَا… وأمرني: افتح الشباك لنسحبك… سحبوني، وبقي عبد الحليم ينتظر الفرج. اقولها للأمانة وللتاريخ، إنّ ركّاباً كُثُر في أكثر من مئة سيارة رفضوا الخروج مع الجيش العربي السوري إلى برِّ الأمان، وخصوصاً ممّن كانوا يصطحبون معهم النساء!
وصلت المركز، وتعرّفت على أشرف إنسان، الضابط رياض من حلب. شكي لي سوء العاصفة وسوء هذا الشّعب اللبناني العنيد. بعد أكثر من ساعة كان الشبح الأبيض يغزو الأرض بسرعة… إلى جانب (الصوبيا) جلس الضابط رياض خلف طاولة يخابر قادته، ومعه جنديّان، لم يلبث أن أمرهما بالخروج إلى السيّارات ليعملا على سحب العالقين من جديد، ولمّا عادا، قالا: «تكاد تتغطى السيارات الصّغيرة… وتختنق الناس». وقف الضابط مستنفَراً، وقال: «خذوا الشباب وجيبوهم بالقوّة…». ولما خرجوا وهو بحالة جنون، وبدا أنّ عنده خبرة بهذا المجال، قال لي: «الحريم الغائبات عن الوعي أنت دلّكهنّ ليوعوا.. ما بسلّمهن للعسكر…». وبدأوا يسحبون العالقين في السيارات، وُضِعت النّساء في الطابق الأرضي والرجال إلى الطابق السفلي، ما عدا السفير الياباني وكان قد فارق الحياة، فقال شوفوه ولكنّه كان قد مات رافضاً المجيء، وجاء سائقه الأرمني مع العسكر…
بعضهم لم يحضروا، سيدة واحدة كانت بوعيها، وأخريات كُنَّ على حافّة الموت بحيث يغفو الشخص المتجلّد ويموت بهدوء… وأحضروا بين من أحضروا رجلاً ميتاً عرفت لاحقاً أنّه من آل شيّا. أمّا النّساءُ فقد كانت الصدمة تعتريهنّ عندما يفِقْنَ… الطفل يصحو بسرعة، ثم المرأة أمّا الشاب الذي أتعبني فكان نجيب صاحب الجَيْب، كذلك أتعبني طفل حتى صَحَت جدّته عرفناه من آل الأعور من بلدة قبَّيْع، والصبايا لم أتعرّف عليهنّ إلّا نايفة الاشتراكيّة من صور… وساعدنا أيضاً والد الطفل، حيث كلّمه الضابط رياض… وفي ليل اليوم التالي أرسلوا الزَّحافة الليبيّة فحملت النّساء، وأنا بعد أن مشيت باتجاه المرَيجات مع اثنين من عناصر الجيش اللبناني… ولحسن الحظ لأني كنت سأنازع الموت على الطريق… لم أتُهْ رغم أنّ المنظر كان واحداً بحيث لا ترى إلّا أمامك ….القِصّة طويلة وأنا اختصر.
لم أعرف مصير الرجال الذين نَجَوْا في المركز، ولمّا قال أحدهم للرّجال: انزلوا، سألته أين نحن قال في المرَيجات. هدأت العاصفة بعد خمسة أيام أمضيتها عند آل المصري. عدت ماشيا مع الناس إلى حمّانا ونقلني إلى رأس المتن جيب لشخص من آل بلّوط فوصلت البيت حاملاً جواز السفر فقط. ولمّا أخبرت الناس أنّني مشيت على سطح الكميونات وأعمدة الهاتف، لا سيما في «المناسف»، لم يصدقوني! وبسرعة انتشرت الأخبار حول ما فعلته العاصفة، وكان ضحاياها نحو المئة… وبعد 23 يوماً عدت لأشكر الجماعة في المرَيجات وكذلك الضابط رياض في ظهر البيدر. كانت الجرافة قد جرفت السيارات على خط واحد إلى الوادي مع الثلوج… وكان فوق سطح البوسطة الكبيرة على الخط الثاني حوالي المتر من الثلوج، ومشينا في خندق بين الثلوج تعلو أكثر من ثلاثة أمتار من كل جانب.
الحمد لله نجونا… وألف شكر للضابط رياض من حلب… إذا وصله شكري وأفراد الجيش من رفاقه… وأهلنا آل المصري في المريجات.