في الذكرى الحادية والسبعين لوفاة الأمير شكيب أرسلان
«كلّ نهضة لا يكون ظهيرها العلم، ما هي إلا لحظة وتضمحل»
تمهيد
لم أجد تعريفاً بالأمير شكيب أفضل مما ذكره أديب مقدسي كتب في جريدة الشورى المصرية، عدد 6 آب، 1926، ونقله الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه “شكيب أرسلان، داعية العروبة والإسلام”، الصادر سنة 1963، عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر، قال:
“[كان طه حسين قد كتب] ….من الأدباء مَن يسبق الحوادث، ومنهم مَن يعيش معها، ومنهم مَن يجيء بعدها، وشكيب يجمع بين الأحوال الثلاث.” (الشرباصي، شكيب أرسلان، ص 297-298)
هذا نزر بسيط جداً من بحر ما قيل في شكيب، إطراء ومديحاً يستحق كل حرف منهما، لكني اخترت البدء بهذا النص لأظهر معايشة شكيب لأحداث أمته في عصره، ولتداعيات الأحداث تلك، ولتحوله من ثمة إلى عارف متبصر بأحوال أمته، بأمراضها وعللها، أولاً، وبأدوائها وسبل مداواة الأمراض تلك ثانياً. فماذا عساه يقول في حاجة أمته إلى النهضة، وفي ماهية النهضة، وفي مستلزماتها وشروطها أولاً وأخيراً؟ وهذه بعض مرتكزات تفكير الأمير شكيب في هذه المسألة:
1- قدرة العرب والمسلمين على التقدُّم
هو الأصل والقاعدة
أفاض الأمير شكيب في عشرات المؤلفات والمقالات والنصوص في تبيان الغنى الثقافي والروحي اللذين بعثهما الإسلام في ماضي الأمتين العربية والإسلامية. كما أحصى على وجه الخصوص مظاهر التقدم العلمي والتقني والحضاري الذي تحقق للعرب في ذروة تقدُّمهم، في مشرقهم ومغربهم، وبخاصة في الأندلس الذي كان بوابة لنهضة أوروبا بعد ذلك. (راجع على وجه الخصوص المقالة الرائعة الموثّقة “الحضارة الإسلامية ورقي العرب الفكري في القرون الوسطى”في حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 106-117). والمقالة “المدنية العربية” المرجع نفسه، ص 128-136، وأيضاً “الحركة العلمية في الحضارة العربية…”، ص 137-155، وهي لشكيب أو مما علّق عليه فأفاض وزاد عن الأصل.
وقد أحصى الأمير مظاهر الريادة والإضافة التي كان للعرب فضل السبق فيها، من مثل نقل تراث اليونان وحفظه وإيصاله من ثمة ومن طريقهم إلى بواكير النهضة الأوروبية. وكان الأمير كذلك محققاً علمياً دقيقاً حين أشار إلى الدور الذي لعبته مدرسة الإسكندرية على وجه الخصوص، وليس اليونان فقط، في نهضة العرب وأوروبا بالتالي. كذلك التجديد البارز الذي كان لهم في الكثير من المجالات العلمية والتقنية، وقد لفتني إظهاره التجديد العربي الأصيل في موضوع العلوم التجريبية – ناهيك عن عشرات المجالات الأخرى – فلنقرأ في “حاضر العالم الإسلامي”:
“وأما تفوقهم في العلوم فقد كان بالطريقة التي تلقوها عن يونان الإسكندرية، وذلك أنهم أدركوا أن مجرد التأمل بعيد عن أن يبلغ بالإنسان الغاية المقصودة، وأن هذه الغاية لا تنال إلا بمراقبة الأمور واختبار الأشياء أي بالطريقة التجريبية. وكانوا يرون الجبر والرياضيات آلات للمنطق، ويلحظ من تآليفهم الكثيرة في جر الأثقال (الميكانيك) وعلم موازين السوائل (الهيدروستاتيك) وعلم البصريات، وأن حلهم للمسائل العلمية كان دائماً بطريقة الاختبار المباشر أو بالمراقبة الآلية. وهذا هو السبب في وضع العرب لعلم الكيمياء، واختراعهم عدة آلات للتقطير والتصعيد والتذويب والتصفية. كذلك هو السبب في استعمالهم في مراقبة الفلك الآلات المدرّجة كالربوع المجيّبة والاسطرلابات. وقد استخدموا في الكيمياء الميزان الذي اتقنوا معرفة قاعدته وأنشأوا جداول للثقل النوعي. ولهم الزيجات الفلكية الشهيرة مثل زيجات بغداد، وقرطبة، وسمرقند، وكان ذلك من أعظم وسائل نجاحهم في الهندسة والمثلثات وتوصلهم إلى ابتكار علم الجبر واتخاذ طريقة الرقم الهندي، وذلك كله نتيجة اتباع العرب مذهب أرسطو في الفلسفة دون مذهب أفلاطون لأن الأول تفصيلي والثاني إجمالي…”
مدهشة معرفة شكيب التي ظهرت في هذا النص من حاضر العالم الإسلامي والذي أضاف إليه ما أضاف، وقد اخترته من نصوص كثيرة مباشرة أظهرت شكيباً مؤرخ العلوم الواثق الدقيق المتقن، وفيلسوف العلوم المدرك دقائق الأمور وأسبابها، وإلى ذلك كالبحر يفاجئك في كل لحظة بما تعرفه وبالكثير مما لا تعرفه.
2- لكن تأخُّر العرب والمسلمين
هو الواقع منذ حين
مع ذلك، لا يختلف اثنان في أن البلاد العربية والإسلامية هي (في زمن شكيب، وفي أيامنا أيضاً وإلى حد كبير) أقرب إلى التأخر منها إلى التقدُّم، وإلى الضعف منها إلى القوة والمنعة، وبمعايير التقدم العلمي والمادي. هذا ما يسجله الأمير شكيب أرسلان، بادئ ذي بدء، في مطلع كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟” – رسالته الجوابية في الأصل لنخب “جاوة” في أندونيسيا سنة 1925 الذين سألوه عن سبب تأخر المسلمين قياساً بتقدم اليابان والفرنجة. يبدأ الأمير شكيب رسالته الجوابية بتسجيل حال التأخر ذاك قائلاً:
“إنّ الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب، لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في درجاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطراً. وبالإجمال، حالة المسلمين الحاضرة، لا سيما مسلمي القرن القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح، لا ترضي أشد الناس تحمساً بالإسلام وفرحاً به، فضلاً عن غير الأحمسي من أهله. إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، لا من جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنون فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار، ولم أعلم من المسلمين من ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلاّ …”. (لماذا تأخر المسلمون..، ص 43-44) (التشديد من الباحث وليس من المؤلف)
ويعيد الأمير تأكيد صحة هذه الملاحظة – المقدمة في أعمال أخرى لاحقة، وبخاصة في بعض مقالات مجلدي “حاضر العالم الإسلامي”. بيّن شكيب في مقالاته تلك حال العالم العربي والإسلامي بالتفصيل في المناحي العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعض مظاهر التقدم أو التمدّن، أو حتى الحضاري إلى حد ما.
ورغم ترسّخ فكرة أن “الإسلام راق بنفسه” وفق تعبير الأمير، إلا أن الغنى الروحي والثقافي اللذين بعثهما الإسلام ليسا كافيين في ظروف المسلمين التي استجدت إما لتبدل في المكان أو لتقدم في الزمان، فهو إذاً، وعلى غير منهج معظم السلفيين، لا يقف عند ذلك و لا يكتفي به. وهولا يعتقد تحديداً أن في وسع الشعوب العربية والإسلامية أن تجاري المتقدّمين، وأن تباريهم في مناحي الحضارة كافة، إن لم تأخذ بأسباب تقدّم الأمم التي سبقتنا، وبأسباب قوتها، في المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية عموماً، وبخاصة في ميدان تقدم العلوم – ومن دون أن نقطع الصلة بماضينا الروحي والثقافي والديني تحديداً. ولعلي لا أجانب الحقيقة إذا لاحظت مع سواي أن ما كتبه شكيب أو أضافه في التاريخ الوضعي، والشرط السياسي، والشرط الاقتصادي، والتقدم الحضاري (بل المادي) للشعوب الإسلامية (وبخاصة العربية) يفوق حجماً ما كتبه في الموضوعات العقائدية أو الكلامية أو الفقهية. وفي ذلك دليل واضح على أولوية مسألة التقدم العلمي والمادي والحضاري في فكر الأمير. أكثر من ذلك، فإن شكيباً لم يكن يقصد بالإسلام في حقيقة الأمر الجانب الديني أو الكلامي أو الفقهي فيه حصراً، بل الجانب السياسي والثقافي، ومما لا شك فيه أنه كان يعني بالإسلام الشرقيين المستعمرين والمستضعفين عموماً، على ما سنفصّل الأمر بعد قليل.
3- الشرط السياسي للنهوض والتقدم
شكّل العامل السياسي والوعي بذلك الشرط أحد المعالم السباقة الرائدة في فكر شكيب. وهو تجاوز واضح لمقولة شكيب الإسلامي التقليدي حصراً. وأحد المظاهر البارزة في فكر شكيب أرسلان النهضوي، هو اعتباره أن السمة الرئيسية لمعظم بلاد المسلمين هي أنها محتلة، وأن الاحتلال ذاك هو أحد أكبر عوامل تأخرها. وأن المسلمين هم الشرقيون المستضعفون، مسلمين وغير مسلمين، هم موضوع احتلال المستعمر ونهبه واستهدافاته السياسية والاقتصادية والثقافية. وهل من إشارة أقوى من تلك التي ترد في حاضر العالم الإسلامي في قوله:
“فليست إذاً الرابطة الإسلامية وحدها هي التي تجمع قلوب الجزائريين والتوانسة والمراكشة وغيرهم إلى قلوب أهالي الأناضول، بل هناك رابطة المستضعفين بعضهم مع بعض، ورابطة الأخ الذي هو تحت نير العبودية مع أخيه الذي تمكن من رفع ذلك النير عن عنقه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 329-330)
وقد دعا أكثر من ذلك إلى وحدة المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة الهندوس في الهند، لرد غائلة دسائس المستعمر وتمتين الوحدة الداخلية في مواجهته. وهو في مواضع كثيرة لم يميّز على الإطلاق بين نضالات الأعراق والأديان المختلفة، مسلمين وغير مسلمين، في مواجهة الاحتلالات والدسائس الغربية. فلنقرأ من شكيب هذا النص، يقول:
” يموت المغربي حتى تنتصر فرنسا على ألمانيا مثلاً، ويموت الهندي حتى تتغلب إنجلترا على عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسيا، والحال أنه بانتصار فرنسا على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلماً وابتزازاً لأملاك المسلمين وهدراً لحقوقهم.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 37)
تلك إشارة فقط إلى أولوية السياسي، لا الديني، في فكر الأمير شكيب. ووعيه لحال التأخر في أمته، كما وعيه للتقدم الجاري في الغرب أو اليابان في الشرق الأقصى، وعي سياسي بالدرجة الأولى.
4- الشرط الاقتصادي – الاجتماعي
للنهوض والتقدم
وإلى هذا الشرط السياسي، هناك شرط آخر لا يقل أهمية، هو الشرط الاقتصادي لكل تقدّم. وقد أفاض شكيب في مباحث “حاضر العالم الإسلامي”، كتابة أو تعليقاً، كما في كتب ومقالات ورسائل أخرى، في تفصيل الأوضاع الاقتصادية لكل قطر عربي وإسلامي، مبيّنا بالأرقام النهب الاقتصادي للثروات والموارد الطبيعية الذي تمارسه البلدان الغربية وشركاتها في البلدان الإسلامية المستعمرة. واقترح شكيب من ثمة ضرورة وجود “جامعة إسلامية اقتصادية” تعزز الجامعة الإسلامية السياسية (ومعناها استقلال البلدان العربية والإسلامية واتحادها)، وننقل من حاضر العالم الإسلامي:
“فما هي غاية الجامعة الإسلامية الاقتصادية؟ إنما هي ثروة المسلمين للمسلمين، وثمرات التجارة والصناعة في جميع المعمور الإسلامي هي لهم يتنعمون بها…. وليست للغرب… وهي [كذلك] نفض اليد من رؤوس الأموال الغربية والاستعاضة عنها برؤوس مال إسلامية. وفوق ذلك تحطيم نواجذ أوروبا، تلك النواجذ العاضة على موارد الثروة الطبيعية في بلاد المسلمين، وذلك بعدم تجديد الامتيازات في الأرضين والمعادن والغابات وقطر الحديد والجمارك، العقود التي ما دامت خارجة من أيدي العالم الإسلامي فهو يظل عالة على الغرب.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 328)
ومن المرجع نفسه أيضاً:
“الثروة في الشرق [وبعد تفصيل حال البلدان الإسلامية لحظة وصول الفتح الغربي، يكمل].. زد على هذا أن التزاحم الغربي جاء فانتشر فزلزل الحياة الاقتصادية الشرقية زلزالاً هائلاً، إذ إنّ فتح أوروبا للعالم الإسلامي الفتح السياسي كان يماشيه الفتح الاقتصادي جنباً إلى جنب، وربما كان هذا الأخير أتمّ نظاماً وأكمل عدة، فبات كل صقع شرقي في طوف من البضاعات والحاج البخسة الأثمان، المنقولة من أوروبة، ووراء ذلك رؤوس الأموال الغربية متدفقة لا تحصى، تتسرب في البلاد وتنتشر بأخدع الصور، وأملق الأساليب، كالقروض، والامتيازات التي من شأنها ما عقدت أن تكون تمهيداً لاستقرار السيطرة السياسية الغربية.” (نفسه، ص 326).
الاستقلال الاقتصادي إذاً هو المدخل للاستقلال السياسي وللتقدم الحضاري عموماً للبلدان الإسلامية. وفي وسعنا أن نلحظ تحديداً إشارته إلى رؤوس الأموال الغربية وضرورة استبدالها برأس مال إسلامي طريقاً للتقدم. وهي مسألة لا تزال إلى الآن مطروحة وبكثير من الأولوية.
تلك هي بعض ريادة فكر الأمير شكيب أرسلان وراهنيته في آن معاً.
مباحث الأمير شكيب أو مشاركاته في الموضوع الاجتماعي، وخطورته، وأولويته لدى كل باحث عن أسباب الاضطراب السياسي والاقتصادي مدهشة في حداثتها حتى الآن، من موضوع تحديد النسل، إلى الأسر “الزراعية” إلى وجهات نظر الغربيين والشرقيين والدين في كل ذلك، وهي تستحق دراسات تحليلية لاستكناه ما فيها من عمق وحكمة لم تذهب بهما السنوات المئة ألا قليلاً التي انقضت على تحبيرها وكتابتها، وبما تفوق به من بلاغة واختصار واقتصاد في القول.
لا تسمح المناسبة بأكثر من هذه الإشارات البليغة والرائدة، وفي وسع من يرغب، وبخاصة من الباحثين الشباب، العودة إلى نصوص الأمير شكيب والتوسع فيها.


5- الشرط العلمي والتربوي
كل التفصيل اللاحق في السبل والمسالك التي يجب أن تتخذها النهضة العربية والإسلامية، إنما استند إلى الاعتراف إذاً بواقع التأخر القائم، عربياً وإسلامياً في لحظة شكيب. ولا يفيد في شيء التنكّر له. أما الزعم أن امتلاكنا الغنى الديني أو الروحي أو الصوفي أو ما تقادم إلينا من بضعة عقود من الازدهار الحضاري عاشته الأمة في حقب معينة من تاريخها، وتكرار ذلك في كل مناسبة، فلم يعد فيه من نفع أو فائدة تذكر. يعترف شكيب إذاً، وبخلاف”الجامدين”، كما أسماهم في رسالته “لماذا تأخر المسلمون..” أننا قد تأخرنا كثيراً في الميزان المادي والعلمي والحضاري عموماً، وأن علينا الابتكار وإيجاد السبُل الصحيحة للالتحاق بركب المتقدمين، وبخاصة الغربيين.
أما أول السبُل أو المسالك، بعد الاعتراف بحقيقة التأخر كما رأينا، فهو الأخذ بناصية العلم، العلم الوضعي والتجريبي والتقني، وحتى بالمعنى الغربي للكلمة. وقد رأينا قوله الفصل بل القانون الذي أرساه لكل تقدّم منشود عندنا، من لا يتخذ العلم ظهيراً مصيره الزوال، قال: “كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعة وتضمحلّ.” (النهضة العربية، ص 24)
والسبيل الثاني المتصل بالأول، هو التربية والتعليم. وقد أولى شكيب في محاضراته ومقالاته أهمية خاصة للتعليم النظامي الحديث، وعدم الاكتفاء بالكتّاب أو الزوايا أو المسجد أو المنزل، بيئة للتعليم الحديث، بل رأيناه عملياً يحث ملوك العرب على ضرورة فتح المدارس في بلدانهم، وكان ذلك جلياً في بلاد نجد والحجاز وعُمان واليمن، إذ ربما كان شكيب أول من حدّث إمامها بضرورة الانفتاح وتأسيس المدارس. والقارئ لمحاضرته المعنونة “النهضة العربية” سيجد ما يقرب العد للمؤسسات التربوية المبشّرة ببواكير نهضوية في كل قطر عربي.
وفي مقالاته الكثيرة في غير مجلة وجريدة والتي تعود إلى عشرينات القرن العشرين (الشورى، الفتح، الأهرام، مجلة المجمع العلمي، وسواها) رأى شكيب النهضة العلمية شرطاً لازباً لكل نهوض وتقدم. يقول من على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي:
“لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية إلخ، آخذاً بعضها برقاب بعض.” (مجلد 15، ص 416)
وكان شكيب من الوعي العلمي والتاريخي بحيث نصح العرب والمسلمين أن يأخذوا من علوم الغرب ما وسعهم، وأن لا يخشوا منها شراً يطال هوياتهم وشخصياته. لقد كان دفاعاً مستنيراً عن العلم والتقدم العلمي والتقني وإبعاداً لهما عن أية مضامين أو أبعاد أيديولوجية أو عرقية. يقول:
“أنصح للمغاربة أن يقتبسوا العلوم الأوروبية مع المحافظة على معتقداتهم ومشخصاتهم، وأنا لا اعتقد أن هناك علماً أوروبياً وعلماً شرقياً، فالعلم مشاع بين البشر أجمعين، واليابانيون أخذوا عن الغرب ما نفعهم، وحافظوا على شخصيتهم ودينهم….” ( مجلة الفتح، عدد شهر جمادي الأول، 1349 )
وفي مطلع محاضرته “النهضة العربية في العصر الحاضر” التي ألقاها في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937 – في زيارته القصيرة لسوريا يومذاك بعد توقيع الكتلة الوطنية مع فرنسا سنة 1936 والتي لم تدم طويلاً إذ سرعان ما تنكرت فرنسا لها – يضع شكيب ما يصح أن يكون قانوناً تاريخياً للنهضة، كل نهضة، يقول:
“نحن نتكلم الآن عن نهضة العرب العلمية، التي هي في الواقع أساس النهضة السياسية”، (نفسه، ص 23).
ويعمم الأمير شرط النهضة ذاك أكثر ليتجاوز النهضة السياسية إلى كل نهضة على الإطلاق فيقول:
“لا حاجة بنا إلى القول بأن أجلى مجالي هذه النهضة كان في العلم … وعندي أن لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية…” (نفسه، ص 24)
ويخلص الأمير شكيب من ذلك، ومن سواه، إلى قانون يختصر فيه – وكما كل قانون – أغلب الوقائع إن لم يكن كلها، فيصوغ قانونه الصلب على النحو الذي عرضناه قبل هنيهة:
“كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعةٌ وتضمحل.” (نفسه، ص 24)
تلك هي إشكالية التأخر والتقدّم عندنا كما تصدى لها شكيب في معظم أعماله: كيفية توفير شروط النهضة والتقدم.
لم يتوان شكيب في الحض والدعوة إلى الأخذ بالعلوم الغربية وطرائق البحث المتصلة بها، كما رأينا، ولم ينظر إليها باعتبارها غربية.
أما في مسألة التربية والتعليم فقد كان أكثر حذراً في موضوع الاقتباس عن الغرب.
هو في المبدأ لا يرى أن التعليم الشرقي التقليدي في العالم الإسلامي قاطبة، على ما انتهى إليه في القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر، بات نافعاً في شيء. بل هو مظهر من مظاهر تخلف المسلمين، والشرق عموماً (حتى في الهند كما يقول).
مع ذلك فشكيب لا يأمن التربية الغربية كل الأمان، بخلاف رأيه في العلم الغربي. وقد بيّن في غير مكان أن سبب نهضة أوروبا هو أخذها بأسباب العلم والتعليم والتربية. إلا أن ما يريده الغربي من تربيته ليس هو بالضرورة أو تماماً ما يريد الشرقي. فمنظومة قيمنا، الدينية وغير الدينية، ليست هي نفسها منظومة قيم المجتمعات الغربية كما انتهى بها الأمر في العصر الحديث. وليس من سبب يدعونا للتخلي عن النقاط المضيئة في أخلاقنا وتراثنا وثقافتنا. فقيمنا ليست مسؤولة عن التأخر الذي حدث لمجتمعاتنا. ومن الممكن بالتالي المزاوجة بين التعليم الحديث والاحتفاظ بمنظومة قيمنا وما هو جيّد في تراثنا.
التحليل السريع للمسألة، سيكشف أنها مسألة إشكالية من الدرجة الأولى، بل لعلها الأكثر أهمية وإحراجاً، في الماضي كما في الحاضر، وبسبب ما تنطوي عليه مسألة التأخر والتقدّم من علاقة بالتراث المحلي؟ هل التراث ذاك عامل تأخر معيق للنهضة الحضارية ويجب اجتثاثه ليتحقق التقدّم بالتالي؟ أما أن له اعتبارات أخرى ليست بالضرورة مخالفة للتقدم أو مانعة له؟
نكتفي اختصاراً، وفي هذه العجالة، بنص متميز من شكيب، يظهر فيه عقله الجدلي المركّب، إذ يعلن فيه الانتماء كلياً إلى ثقافة العصر ركناً للتقدم المنشود، ولكن من دون شطط أو مبالغة أو أخذ بالمزاعم الغربية في الموضوع على وجه التحديد. يقول الأمير:
“أظنّ أن ثقافة العرب المستقبلة ستكون ثقافة عصرية، آخذة من التجدد بأوفى نصيب، لكن مع الاحتفاظ بالطابع العربي.” (نفسه، ص 39-40)
هذا هو الميزان الذي يضعه شكيب للتقدم والنهوض بالأمة العربية والأمم الإسلامية. ويضيف شكيب أن هذا الجمع بين المعاصرة والأصالة هو ما صنعه بنجاح العرب في حقب ازدهارهم العلمي والمادي والحضاري، ويضيف:
“هذا أشبه بما سبق للثقافة العربية في زمن بني العبّاس، وفي زمن بني أمية بالأندلس، حينما نقل العرب حكمة اليونان إلى لغتهم، واطلعوا على علوم فارس والهند، فجعلوا من هذه الثقافات الثلاث، ومن الثقافة العربية الأصلية، ثقافة جديدة عالية كانت أرقى ثقافة في القرون الوسطى… وهكذا ستكون ثقافة العرب بعد اليوم، لن تكون جامدة على القديم الذي ثبت للعرب المحدثين وجوب التعديل فيه والإضافة إليه، ولن تكون منسلخة من القديم، جاحدة في التبرؤ منه…”
ويخلص شكيب من ذلك إلى القول تفصيلاً وتحديداً في آن:
“ستكون ثقافة جامعة بين القديم والجديد، مختارة من كل شيء أحسنه، مع بقاء الصيغة العربية التامة غير المفارقة للعرب، وذلك على النحو الذي نحاه اليابانيون الذين اقتبسوا جميع علوم الأوروبيين ولم يغب عنهم منها شيء، ولا فاتهم من صناعات أوروبا دقيق ولا جليل، ولبثوا مع ذلك يابانيين أصلاء في لغتهم، وأدبهم، وطربهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع مناحي حياتهم. وحسب العرب قدوة للاقتداء، ومثالاً للاحتذاء، هذه الأمةُ اليابانية العظيمة التي لا يوجد أشد منها رجوعاً إلى قديم، ولا أخذاً منها بحديث. والآمال معقودة بأنه ستكون في الشرق الأدنى نهضة عربية علمية تضاهي النهضة العلمية التي رأيناها في الشرق الأقصى.” (ص 40)
هذا هو القانون الموضوعي الذي يرسمه شكيب للنهضة العربية المنشودة (كانت ولا تزال). لا يصحّ في شروط النهضة التبسيط، ولا أخذ عامل واحد على وجه الإطلاق شرطاً للنهضة والتقدّم. لقد كان عقل شكيب من العمق والتعقيد والموضوعية بالقدر الذي يؤسس لنهضة تكون جديدة تماماً (قول شكيب)، تأخذ بناصية كل جديد ضروري ونافع، ولكنها تكون أيضاً عربية وشرقية كذلك، لجهة اللغة والأدب ومناحي الحياة الشرقية التي أحصاها شكيب (ولاحظ معي مثلاً أنه لم يجعل من الاحتفاظ بالزي أو الملبس القديم شرطاً، وهو أمر يتقدّم فيه شكيب على الكثير من التقليديين في عصره كما اليوم).
6- الشرط النفسي أو الروحي
هو شرط حيوي آخر لم يملّ شكيب من التنبيه إلى خطورته وأهميته في مشروع النهوض والتقدّم. فالنهضة ليست فقط مجموع شروط تجتمع فتحدث النقلة إلى أمام أو التقدّم الحضاري. بل إرادة التقدّم والنهوض هي التي تجعل المشروع النهضوي ممكناً. فالشعب القانع الخانع الكسول لا يرى من حاجة للتقدّم ولا يمتلك الإرادة ليتقدم، بل الروح الوثّابة الطموحة هي التي تدفع دفعاً إلى البحث عن شروط التقدم، وتوفيرها، وتكون ذلك اللبنة الأولى أو الشرط الأول الذي إن لم يتوفر فلا معنى لتوفر الشروط الأخرى. هذا هو الشرط الأساسي الذي امتلكه العرب والمسلمون في أثناء فترات صعود دولتهم وحضارتهم وتقدمهم في الماضي، وهو أيضاً الشرط الذي فاتهم في أعصر انحطاطهم وتراجعهم في ميزان التقدم الحضاري.
في رسالته لأهل جاوة بإندونيسيا، كما في أعمال أخرى، لا يتردّد شكيب في جعل الانحطاط الذي حل بالروح الإسلامية سبباً في الانحطاط المادي والاقتصادي والسياسي اللاحق. فقد حل القعود عن العمل بديلاً للعمل المضني والشاق الذي كان للعرب والمسلمين في أعصر ازدهار دولهم. والقعود عن الجهاد أيضاً وحيث يجب سمح للفتح الغربي أن يحلّ هيناً في معظم حواضر العالم الإسلامي. فلا نزاع بالتالي في أن من أسباب القوة والمنعة، والنهوض بالدرجة الأولى، أن يتسلح المسلمون من جديد بالروح الوثّابة والإصرار والمثابرة على نيل استقلالهم وتحقيق نهضتهم وتقدمهم، وكذلك بالإيمان الحار ولكن من دون غلو أو تطرف أو مبالغة، فالقاعدة التي أرساها شكيب لا تزال صالحة: أعداء الإسلام اثنان، الجامد والجاحد، الأول الذي لا يرى ضرورة التغيير والتطور والنهوض والتقدّم، والثاني الذي لا يرى في الإسلام أية حسنة ولا له أي فضل. يقول شكيب:
“من أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم بدون النظر في ما هو ضار منه ونافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغيّر شيئاً ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي ظنّاً منهم بأن الاقتداء بالكفّار كفر وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفّار.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 77 )
ونكتفي هنا بنص واحد أخير من أعمال شكيب يختصر موقفه ورأيه في مسألة أهمية الشرط المعنوي والروحي، يقول:
“إن الإسلام لم ينتشر إلا بالقرآن وعمارة الصدور به إلى أن بلغ قراؤه من القوة المعنوية الدرجة القصوى التي مكنتهم من نواحي الأمم… فكل ما يقال من أن سبب الفتوحات الإسلامية هو مراس العرب للقتال أو حب البدو للغزو وغرامهم بالغنائم أو ملل الأمم المجاورة من ملكة حكامها، فهذا تضييع للمعنى الحقيقي وزيغ عن شاكلة الرمية. وإنما أمكنت هذه الفتوحات الخارقة للعادة بكلام منزل هو خارق للعادة، وبقوة معنوية أحدثها في النفوس خارقة للعادة أيضاً. ولقد كان العرب أهل حرب من قديم الزمان، وكان الأعراب مغرمين بالنهب والكسب من أيام الجاهلية، فلماذا لم يفتتحوا البلدان إلا بعد بعثة محمد؟” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 28)
7- التأخر والتقدم موضوعان
لا علاقة لهما بالدين
أما الموضوع الذي توقف عنده شكيب ملياً فهو ما قيل دائماً في وجه الإسلام والمسلمين من أن الدين الإسلامي حجر عثرة في وجه طموحات التقدم لدى الشعوب العربية والإسلامية، وما يقال بالتالي من اشتراط فصل الدين عن الدولة كشرط للتقدم السياسي والحضاري عموما.ً
بيّن شكيب في الموضوع الأول أن الإسلام لم يكن يوماً دين تأخر بل هو “دين راق بذاته”، وقد كان عاملاً مساعداً للتمدن الإسلامي في ذروة تقدم العرب في المشرق، كما في الأندلس، المكان الآخر الذي أضيئت فيه مشاعل التقدم الفكري والمادي العربي والإسلامي.
مع ذلك، وبخلاف ما يشاع عن فكر شكيب بعامة ومن دون تدقيق، فهو لا يقف موقفاً سلبياً حاداً من مسألة فصل الدين عن الدولة في الشؤون المتعلقة بالحياة الإدارية والتنظيمية العامة، يقول بوضوح:
“أما أن تنفصل الأمور الدينية عن الأمور الدنيوية فذلك ضروري لا نزاع فيه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 357)
إلا أن الفصل يجب أن لا يتجاوز ذلك، كأن يحاول انتزاع الإيمان الديني من روح المواطنين، كما حاول أن يفعل مصطفى كمال في تركيا الكمالية، وقد انتهت محاولته إلى ازدياد تعلق الأتراك بالدين الإسلامي. لكن شكيباً كان من الوعي التاريخي العميق بحيث جعل المسائل في مواقعها الصحيحة، فالتأخر لا يكون فقط مادياً، وليس الجهل وحده قاطرة الانحطاط، بل إن فساد الأخلاق، بل “فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص.. وظنّ هؤلاء أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون” (حاضر العالم الإسلامي، ص 268) هو عامل آخر حاسم في جلب اليأس إلى روح الأمة والانحطاط إلى أحوالها المادية وغير المادية.
وفي كل الأحوال، فالتحدي الحقيقي هو كيفية تحقيق النهوض الحضاري والتقدم العلمي والمادي من دون خسارة روحنا الشرقية، العربية والإسلامية. يقول شكيب:
“بقي علينا أن ننظر كيف يكون اتجاه الأمة العربية في المستقبل من جهة الثقافة! أتأخذ بالثقافة الغربية ولوازمها ومتمماتها إلى النهاية، أما تبقى معتصمة بثقافتها الشرقية الأصيلة، لا تبغي بها بدلاً، ولا عنها حولاً؟ أم تأخذ من الثقافتين معاً وتجعل من ذلك ثقافة خاصة لا شرقية ولا غربية؟” (النهضة العربية، ص 39)
نؤكد من جديد، إذاً، ومن خلال فكر الأمير شكيب أرسلان، أن الأخذ بشروط التقدّم والنهضة لا يعني الالتحاق بالغرب؛ لكنه لا يعني في شيء معاداة الدين، كل دين، والإسلام تحديداً رداً على مزاعم بعض المستشرقين والمغرّبين الذين روّجوا، ولا يزالون، أن الإسلام لا يتناسب ومجاري الحضارة الحديثة. لا تناقض بين الأخذ بأركان الإسلام ومستلزماته، والأخذ بأسباب النهضة ومستلزماتها، تلك هي توليفة شكيب أرسلان الحضارية. ويبرز شكيب في معالجته للمسألة جانبين مترابطين، واحد خبيث يروّج له الغرب، وآخر واقعي وعلمي وصحيح وقد مارسته أمم عدة في سياق نهوضها.
8- الاتحاد العربي السياسي والاقتصادي
هو المفتاح الأول لكل تقدم ومنعة
مع أهمية كل عناصر القوة التي ذكرناها، لكن أقواها على الإطلاق هو الاتحاد العربي، بل وحدتهم إذا تمكنوا. ذلك هو مفتاح قوتهم. يقول شكيب:
“وأما أسباب استخفاف الإنجليز بالعرب فيرجع إلى أمور كثيرة يطول شرحها، وإنما نجتزئ منها بذكر ما تراه إنجلترا بين العرب من النزاع الدائم والخصام المستمر، فهي تجد أمة شديدة البأس متوقدة الذكاء، إلا أنها مع كثرة عديدها مفككة الأجزاء مقطعة الأوصال…” (من مقالة له في الشورى المصرية في 20 أغسطس 1925)
ونقتطف من محاضرته عن الوحدة العربية في النادي العربي بدمشق في 20 سبتمبر 1937 قوله:
“لم يعد ممكناً إذاً أن يعيش العرب آمنين في أوطانهم، ما داموا مليوناً في هذا القطر، ومليونين في ذاك القطر، وثلاثة ملايين في ذلك القطر… وكل منهم لا يربطه بالآخر غير النطق بالضاد…لا أمل في ثبات العرب أمام دول كهذه [الدول الأوروبية الاستعمارية] إلا إذا كانوا متحدين جبهة واحدة في وجه الأجنبي الطامح”
ورأى تفصيلاً أنّ وحدة العرب لا تحدث دفعة واحدة، بل تدريجاً؛ وهي لا تتناقض مع الاستقلال الذاتي لكل قطر عربي. بل هو الطريق لمساعدة قويهم ضعيفهم فيستوي العرب اقتصادياً واجتماعياً؛ فما يجعل الشرط الاجتماعي مهماً لنهضة العرب إسوة بالشرط السياسي والاقتصادي، بل فصّل ذلك تفصيلاً في رسالة له إلى أكرم زعيتر. (راجع كتابنا “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي”)
لذلك عبّر شكيب في غير مقالة ومناسبة عن فرحته بنشأة جامعة الدول العربية ورأى إليها باعتبارها خطوة عقلانية نحو الوحدة. ويرى عدد كبير من الباحثين أن شكيباً ربما كان أول من دعا إلى كيان عربي جامع ومحتفظ بالخصوصيات في الآن نفسه، ومنذ سنة 1923، ثم في أزمنة أخرى لاحقة.
هذا هو، باختصار شديد، بعض إسهام الأمير شكيب أرسلان النظري والفكري والعملي في مسائل النهوض والتقدم وشروطهما ومستلزماتهما، إسهام جعل من شكيب مرجعاً تصبّ إسهامات من سبقه عنده، كما تصبّ الروافد في نهر عظيم، يستوعبها كلها ثم يُخرجها جديدة، في حلة قشيبة لها بيان الأدب حيناً وواقعية العلم وقوة المنطق في كل حين.
أما عن دور الأمير شخصياً في إطلاق نوازع النهضة، والدعوة لها، وفي التدليل على محاسنها، وتبيان شروطها، فلا تسلْ؟ وتكفي جملة واحدة استللتها من محاضرته “النهضة العربية” الذي ألقاها في المجمع العلمي بدمشق قبل نحو من ثمانين عاماً كافية لتختصر عظيم إسهام هذا المفكر المجاهد العالم الأديب الارفع المنقطع النظير لتصف بلباقة وموضوعية الجزء الشخصي من إسهام الأمير، يقول:
“… على أن النهضة الشرقية العربية، وإن كان قد ذرّ قرنها منذ قرن وأكثر، فهي لم تسر السير الحثيث إلا في الخمسين سنة الأخيرة التي شهدها كاتب هذه الأحرف بجميع صفحاتها… فلي الحق بأن أدّعي معرفة تاريخ هذه النهضة، وما دخلت فيه من التطورات، على قدر ما يستطيع خادمٌ أمينٌ للعلم زاول عمله في مكافحة الجهل طوال خمسين سنة دون أن يتخلّف يوماً واحداً!” (ص 12)
لله درّك يا شكيب، أميراً للبيان، وأقرأوا معي مفرداته: “خادم أمين للعلم” (وفي كل مفردة من المفردات الثلاث ما فيها من المعنى الدقيق)، ثم “زاول عمله في مكافحة الجهل” (وفي ذلك ما فيه أيضاً)، وذروة البيان والبلاغة والصدق أخيراً قوله: “دون أن يتخلف يوماً واحداً !” وفيه ما يكفي بياناً ولا يحتاج إلى شرح.
خاتمة
لا أجد ما أختم به مقالتي القصيرة هذه، أفضل ما ختمت به كتابي عن شكيب “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي” (طبعة أولى، بيروت، 1983، ثم ثانية، 1989، وثالثة، الدار التقدمية، 2008، ثم رابعة، الجزائر، 2013):
“عاش شكيب نصف عمره منفياً، وعاش عمره كله مجاهداً مناضلاً في سبيل ما اعتقده صحيحاً وحقاً مشروعاً… كان على الدوام صادقاً مخلصاً وأميناً…انجلت في أواخر أيامه كل سحابة، فحطّ رحال مسيرته الطويلة، واستقبل النعمى كما أراد بدار السلام، وفق رثاء شاعر القطرين خليل مطران له، في قصيدة طويلة مطلعها:
العـــالمُ العربـــيُ من أطرافـــــه بادي الوجوم منكس الأعلام
يبكي أميـر بيانــه يبكــي فتــى فتيانِه في الكرّ والإقدام
أشكيبُ حسبَ المجد ما بلغّته شرقاً وغرباً من جليلِ مقام
في كلّ قطر للعروبــة خُلّــدت ذكراكَ بالإكبار والإعظام
كانت حياتك دار حرب جزتَها فاستقبل النُعمى بدار سلامِ !
في الذكرى الحادية والسبعين لوفاته، رحم الله شكيباً، وطيّب ثراه، وستبقى ذكراه خالدة ما احتاجت أمتنا إلى رجال من وزنه، وإلى إخلاص في مثل إخلاصه، وإلى إسهامات فكرية وعلمية عميقة وغنية من نوع الإسهامات التي ملأ زمانه بها، فجعلته في العالم العربي والإسلامي، وعلى حد تعبير أمير شرق الأردن يومذاك، الأمير عبدالله، في يافا سنة 1947، “فوق كل فوق”!