الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قراءة نقدية في تاريخ الجمهورية الأولى

يبدو هذا المقال وكأنه خارج السياق الزمني الذي يفترض ان يتم التركيز فيه على ما جرى ويجري في مسار الجمهورية الثانية، ولكن العودة، برأيي، الى قراءة نقدية لمسار الجمهورية الاولى، يساعد في فهم التحديات والتداعيات التي ادخلت الجمهورية الحالية في مأزق يعبر عن عدم القدرة على انتاج حلول لمختلف المشاكل التي تواجه اللبنانيين.

يصنف النظام السياسي في لبنان من بين الانظمة التوافقية او انظمة المشاركة، التي تعطي الطوائف او المجموعات الثقافية او الاثنية حقوقاً في التمثيل السياسي يضمنها الدستور والاعراف. وتترافق هذه الحقوق مع نصوص تحدد بدقة آليات اتخاذ القرار في المؤسسات الدستورية، بشكل يمنع طغيان فئة على اخرى كما يمنع تعطل المؤسسات.

يتميز النظام التوافقي أيضًا بأنه «نظام النخبة» التي تتمتع بثقافة التسوية والقدرة على تسويقها إن عقدت لدى جمهور الطوائف او المجموعات، ويذهب البعض الى تشبيه دور النخبة في النظام التوافقي، بالدور الذي يلعبه «القفل» في قنطرة العقد، فإذا تداعى القفل، تتداعى معه القنطرة بأكملها والأمثلة على ذلك كثيرة في الجمهورية الاولى والثانية. وتركز النظرية التوافقية منذ عقود على عوامل الاستقرار في هذه الانظمة والتي تفترض توازنً ديمغرافياً مقبولاً وكذلك توازن اجتماعي- اقتصادي يمنع تركز الثروة في ايدي احدى المجموعات الطائفية او الثقافية او بيد قلة من المجموعة ذاتها، كما تفترض الوحدة في وجه التهديدات الخارجية.

غير أن بعض الدول مثل لوكسمبورغ اتفقت فيها النخب على آليات متقدمة لضمان الاستقرار ومنها اعتماد دبلوماسية القمة اي مأسسة الحوار بين النخب الاساسية وتسويق اي تسوية يتم الاتفاق عليها، وعدم إدخال القضاء والاجهزة الامنية في لعبة موازين القوى وترك الحكومة تحكم بمجرد تأليفها وحصولها على ثقة المجلس النيابي.

في المقابل فإن خصوصية هذا النوع من الأنظمة، لم تكن حائلاً أمام تكريس مبادئ دستورية تعتمدها الانظمة والديمقراطيات الاخرى وهذا ينطبق على لبنان، مثل الفصل بين السلطات الدستورية واستقلالية القضاء واعتبار الشعب مصدر السلطات، كما لم يمنع من تكريس مبادى وقيماً مثل حكم القانون وتحمل المسؤولية والمحاسبة والشفافية وقيام ادارة عامة تعتمد حيادية الخدمة العامة، كما تعتمد الكفاءة المعيار الاساسي في تولي الوظائف العامة. ولا تخرج الانظمة التوافقية عن فكرة العقد الاجتماعي وفقاً لمفهوم توماس هوبس وجان لوك، وإن يكن لهذا العقد خصوصيات معينة، حيث تحل الطوائف او المجموعات الثقافية كطرف في هذا العقد بديلًا من المواطن، ولا تسلم هذه الطوائف كما في التجربة اللبنانية بكافة الصلاحيات للدولة ومؤسساتها مقابل الحماية التي يفترض بالدولة تأمينها سنداً لفكرة العقد الاجتماعي.

وبالعودة الى التجربة اللبنانية منذ الاستقلال نرى أن النظام السياسي اللبناني مزج بين بعض مبادئ الديمقراطية التوافقية والنظام البرلماني، وتكرست فيه بعض الاعراف التي حافظت على التنوع في رئاسة مؤسساته الدستورية، كما تكرست فيه امتيازات لإحدى الطوائف في المواقع الدستورية والادارية والعسكرية، قيل انها اعطيت كضمانة للوجود المسيحي في لبنان الكبير بعد انضمام الاقضية الاربعة وغالبيتهم من المسلمين.
في المقابل، قام ميثاقه الوطني غير المكتوب على تناقضات تعكس الخلاف على هوية لبنان وموقعه وانتمائه الى محيطه العربي الطبيعي، كما ان العقد الاجتماعي الذي بني عليه الميثاق الوطني عام ١٩٤٣ كان عقدًا سياسيًا بامتياز، وذلك بعد أن قبل المسلمون السنة بالمشاركة في النظام، مقابل التخلي عن مطلب الوحدة، كما قبل المسيحيون بطريقة ملتبسة فكرة لبنان ذو وجه عربي. والعقد ايضاً، كان عقداً اجتماعيًا، بمعنى انه لاقى موافقة النخب المدينية والتجارية السنية والمسيحية، مع ارجحية للقوى الاقتصادية المسيحية لاسيما في قطاع المصارف وفي الصناعة والخدمات والوكالات الحصرية. هذا العقد بأطرافه المدينية التي تمتلك الجزء الاكبر من الثروة الوطنية لم يجد ارضية تفاهم مع فكرة لبنان الكبير التي قامت على ضم الاقضية الاربعة من الأطراف، والتي كان من المفترض ان يشملها العقد، كي تندمج مع اقتصاد المركز في بيروت والقسم الشمالي من جبل لبنان ليتشكل اقتصاد وطني، يساهم في الاندماج الاجتماعي لدولة لبنان الكبير، ويخفف من حدة الانقسامات الطائفية، ويتيح تطوير نموذج سياسي يجمع بين المنافسة السياسية والمواطنة وايجاد الاليات الدستورية لطمأنة الطوائف . لكن هذا الامر لم يحصل، ولم تمتلك النخبة السياسية المدينية الشجاعة والرؤية الحكيمة في تطوير هذا العقد، الذي بقي قاصرًا عن استيعاب الاطراف وتحولاتها الاجتماعية ومتطلبات نموها، من خلال السياسات التي ركزت على تطوير المركز واهملت الاطراف، ومن خلال نظام ضريبة غير عادل ساهم في تقويض فكرة التعاضد الاجتماعي، وساهم بانتاج فوارق اجتماعية هائلة حتى في قلب نقاط المركز الذي غلب عليه طابع تركيز الثروة بايدي قلة. لكن فؤاد شهاب الاتي الى رئاسة الجمهورية من المؤسسة العسكرية، وبعد ثورة ١٩٥٨ التي تختزن ما يكفي من الابعاد الاجتماعية والاقتصادية، حاول بالتعاون مع كمال جنبلاط وبيار الجميل التخفيف من حدة التحالف المديني والتجاري وعبئه الكبير على مناطق الاطراف وعلى الاستقرار، فانتهج السياسات التي اعطت الاطراف بعض الفرص في الكهرباء ومياه الشفة والطرق ونشر التعليم الثانوي -من خلال الدور الذي لعبه كمال جنبلاط في وزارة التربية – بعد ان اظهرت بعثة ايرفيد حجم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي حيث سيطر ١٪ على نصف الثروة الوطنية الامر الذي وضع قيام طبقة وسطى قبل الصلاحات الشهابية امراً مستحيلا. كما حاول فؤاد شهاب أن يصالح الديمقراطية التوافقية في لبنان مع فكرة دولة القانون والمؤسسات لذلك انشىء التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية، وقد شكلت هذه الخطوة المحاولة الاولى الجدية في بناء حكم القانون.

نجحت المرحلة الشهابية في ارساء بعض قواعد الاستقرار للديمقراطية التوافقية من خلال اعطاء اهمية للسياسات الاجتماعية والتربوية وبناء الخطوات الاولى لاندماج الاطراف. كما نجحت لاول مرة، في ارساء سياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار تحديات صعود المد القومي مع جمال عبد الناصر والتعاطف الداخلي القائم ومتطلبات الحفاظ على السيادة اللبنانية والحفاظ على التوازنات المحلية المعقدة.

ولكن التحولات الاقليمية المتمثلة بانتكاسة حزيران في العام ١٩٦٧ والتي تلاها فوز الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية والذي وصفه غسان تويني انه «طليعة دولة النصارى»، هذا الحلف المتخاصم مع التجربة الشهابية غيّر في موازين القوى في الساحة المسيحية ومهّد لنهاية الشهابية.

ولا شك في أن قيام اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ وتعاظم مشكلة الوجود الفلسطيني بعد ايلول الاسود في الاردن وتحول الجنوب الى ساحة مواجهة مع العدو الاسرائيلي وصعود دور الامام موسى الصدر وبداية مأسسة حركة المحرومين سيغير في موازين القوى في مناطق الاطراف لاسيما ذات الغالبية الشيعية .

إن التشوهات التي رافقت تلك المرحلة ادت الى انقسامات سياسية ووطنية حادة ولم تكن فيها الخلافات فقط على الامتيازات والسياسات وميزان القوى الذي حكم تسوية ١٩٤٣، بل على موقع لبنان ودوره في الصراع العربي الاسرائيلي وعلاقته في محيطه العربي ودور منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ، واظهرت طبيعة الانقسامات في تلك المرحلة مدى التفكك وعدم القدرة على صياغة قيم مشتركة تحمي الديمقراطية التوافقية الناشئة في محيط تحكمه انظمة دكتاتورية وعسكرية، والانقسام الوطني والسياسي حمل معه الانقسامات ذات البعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بين بيروت واطرافها من احزمة البؤس، وبين المدن بشكل عام والاطراف وبين المناطق والطوائف، وعبرت حركة كمال جنبلاط السياسية وقيادته للنضال المطلبي عن هذا الواقع المرير ، كما عبرت حركة المحرومين بزعامة الامام موسى الصدر عن مشروعها السياسي بعنوان التهميش والحرمان فيما مضمونه الحقيقي هو الاعلان عن التحول الكبير في الاجتماع -السياسي الشيعي كمقدمة للبحث عن دور اكبر للطائفة الشيعية في النظام السياسي ،في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولات النخب الشيعية من العائلات التقليدية البقاعية على وجه الخصوص في ايجاد القواسم المشتركة مع القوى المتحكمة بموارد المركز لتأمين متطلبات نمو البقاع الشمالي ذي الاكثرية الشيعية واندماجه الفعلي بالدولة المركزية، وفي الوقت الذي خسر فيه الجنوب بعد اقفال الحدود مع فلسطين المحتلة اهم الاسواق التي كانت جزءا من تنمية اقتصاده ،فاندثرت اقطاب اقتصادية محلية مثل بنت جبيل التي كانت تستقطب استثمارات كبيرة وتؤمن فرص عمل هائلة ، وكذلك مرجعيون والخيام فضلاً عن خسارة مئات العمال من حاصبيا لفرص عملهم في حيفا ويافا ودون ان تؤمن الدولة اي بديل آخر ، وفي الوقت الذي تخلفت فيه الدولة بعد احتلال اسرائيل لمزارع شبعا في سنة ١٩٦٧ عن سداد اي تعويضات لاهالي مزارع شبعا عن مئات البيوت التي تدمرت وخسارة الاملاك الزراعية التي كانت تشكل موردًا مهماً لسكان المنطقة . في هذا الوقت ، تحول الجنوب بعد اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ بغالبيته الشيعية ساحة مواجهة غابت فيه الدولة ايضاً عن اي خطط تدعم صمود الجنوبيين، على غرار ما كان يطالب به كمال جنبلاط على الاقل ،انشاء الملاجىء لحماية السكان المدنيين من الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.

في المقابل تمكن كمال جنبلاط من توحيد اليسار والاتفاق على رؤية وطنية لاصلاح النظام سياسيًا وإداريًا واقتصاديًا من خلال البرنامج المرحلي للاحزاب والحركة الوطنية، ولكن للاسف العناد الذي واجهه كمال جنبلاط من الجهة المقابلة برفض الاصلاح والتخلي عن الامتيازات والرهان على الخارج، قوض كل الآمال بايجاد تسوية سياسية تمهد لتحديث النظام السياسي في لبنان.

شكل اغتيال كمال جنبلاط في العام ١٩٧٧ ضربة كبيرة للمشروع الوطني الذي كان يمثله، الامر الذي سيفتح الطريق امام الانهيارات الوطنية اللاحقة. ولا شك في أن رهان بعض الاطراف اللبنانية على الخارج، والتغيير في ميزان القوى الاقليمي بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الاسرائيلي، شكل عاملًا حاسمًا في تعميق الانقسام الوطني وانهيار الثقة بين الطوائف، ووضع لبنان امام تحديات جديدة وباتت كل طائفة تبحث عن حماية اقليمية او دولية. وقد ادت هذه الرهانات الى اضعاف سيادة لبنان وتقويض الثقة بالدولة المفترض انها المؤسسة الوحيدة التي تقع عليها مسؤولية حماية الناس والطوائف، وتحول لبنان الى ساحة حرب دامت خمسة عشر عاماً، اختلطت فيها الابعاد الداخلية والاقليمية والدولية. وشكل الحزام الامني الذي اقامته اسرائيل في جنوب لبنان واعتداءاتها المتكررة واحتلالها العاصمة بيروت في حزيران من العام ١٩٨٢ واجزاء من جبل لبنان أصعب التحديات على وحدة البلاد وسلامة اراضيها.
تمكن التحالف الذي اقامه وليد جنبلاط ونبيه بري بدعم سوري من اسقاط اتفاق السابع عشر من ايار، وتمكن وليد جنبلاط من تأمين طريق المقاومة الى الجنوب وإعادة فتح طريق الشام الى بيروت. واتساءل، كم كانت التداعيات السياسية كبيرة على سوريا ولبنان لولا هذا الانجاز الجيو-ستراتيجي الكبير الذي حققه وليد جنبلاط ومعه شرائح وطنية متعددة. لكن للأسف بقي النظر الى هذا الانجاز من زوايا ضيقة ودون اعطائه البعد الاستراتيجي الذي يستحق، وجاءت التطورات الاقليمية خصوصاً مع استمرار احتلال اسرائيل لجنوب لبنان ، ومغادرة منظمة التحرير الفلسطينية، وفشل كل محاولات ايجاد تسوية سياسية لإعادة ترتيب اوراق النظام وتوازناته ، فسقط الاتفاق الثلاثي ودخل النظام السياسي في مرحلة دقيقة، حيث انشطر القرار بين حكومتين متناقضتين في الاهداف والممارسة الامر الذي عرض وحدة الدولة ومؤسساتها لأخطر الامتحانات والتداعيات. وقد تبين لاحقاً ان احد الاهداف الرئيسية لحكومة ميشال عون العسكرية كان التشبث والامساك بالسلطة، وتعطيل اي مبادرة عربية او دولية لعقد مؤتمر وطني لإصلاح النظام، ما لم تكن على جدول اعمال التسوية انتخابه لرئاسة الجمهورية، مما وضع البلاد امام تحديات اتساع دائرة العنف من خلال إعلان الحروب المتعددة والتي اعلنها في سياق تحقيق هذا الهدف.
انتهت الحرب اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً في مرحلة تحول في المسار الدولي، حيث نشأ تفاهم اميركي سعودي وسوري ادى الى انعقاد مؤتمر الطائف، طبعًا بعد ان جرت بعض التحولات في ميزان القوى الداخلي، لاسيما بعد معركة سوق الغرب في ١٣ آب ١٩٨٩، التي أسهمت في إعادة بعض التوازن إلى ميزان القوى المحلي، مجرد تصحيح صغير في جبل أزمات كان يعلو يومياً.

خلاصة:

لعل من اهم استنتاجات مرحلة الجمهورية الاولى هي أن النخبة التي قادت هذه الجمهورية من الاستقلال وحتى مرحلة الدخول السوري، استطاعت ان تجد ارضية للتسوية في بعض المسائل التي تتعلق بآليات النظام وتشغيل مؤسساته الدستورية بطريقة مقبولة، لاسيما في مجلسي النواب والوزراء، وتمكنت هذه النخبة من تطوير اعراف حافظت على الحد الادنى من الشراكة الاسلامية المسيحية، ومن الاحترام والتسامح المتبادل الامر الذي مكن المجالس النيابية من ان تقوم بدورها التشريعي ومراقبة عمل الحكومة وبرزت كتل نيابية هامة في هذا المجال، كما تمكنت حكومات عديدة، من تأمين الخدمات الاساسية وتطوير المناخ الاستثماري الذي ساعد في الكثير من الاستثمار في الاقتصاد الوطني. وحافظت هذه النخبة على اعراف مثل حرية الصحافة وسيادة القانون وحرية التعبير وحماية الملكية وغيرها من الاعراف، وكان لهذه النخبة الكثير من المواقف ذات الابعاد الوطنية وكانت على مستوى من الالمام الواسع بتاريخ لبنان الحديث والتحولات التي حصلت على الصعد كافة لقيام دولة لبنان الكبير ومرتكزاتها السياسية والايديولوجية.

استطاعت هذه النخبة بناء ادارة حديثة مع قيام اجهزة رقابة ادت دورها بفعالية، وكان على رأسها اداريون مميزون، وتمكن مجلس الخدمة المدنية من اجتذاب كفاءات ادارية هامة من خلال الامتحانات التي اعتمدت الكفاية سبيلًا لتولي الخدمة العامة. كما استطاعت آليات النظام في ذلك الوقت من تأمين الخدمات الاساسية، لاسيما الكهرباء حيث كانت مؤسسة كهرباء لبنان من اهم المؤسسات الحكومية في دول الشرق الاوسط. واستطاعت مرافق مهمة مثل المرفأ والمطار من القيام بدورهما الاقتصادي الكبير، وشكلت شركة طيران الشرق الاوسط وما تزال علامة مميزة في تاريخ لبنان ، وتمكن مصرف لبنان من انتهاج سياسة نقدية حافظت على قيمة مميزة للعملة الوطنية تجاه العملات الصعبة مما عزز القيمة الشرائية للمواطنين.

وفي الاطار السياسي ، تمكنت هذه النخبة من ابعاد لبنان عن كأس الوحدة المصرية والسورية واستيعاب انعكاسات حصولها وانفصالها، وتولى المسؤوليات في وزارة الخارجية في حكومات متعددة ، شخصيات دبلوماسية عريقة، استطاعت قيادة سياسة لبنان الخارجية ببراعة، ومارست مهامها الديبلوماسية بحرفية عالية، مكنت لبنان من تعزيز انفتاحه الدولي وتقوية اواصره مع العالم العربي، لاسيما دول الخليج التي وفرت اسواقها آلاف فرص العمل للبنانيين وحققت استثماراتها في لبنان نموًا كبيراً للاقتصاد الوطني.

برز من بين النخبة في الجمهورية الاولى ايضاً رجال دولة مثل كمال جنبلاط وريمون اده وفؤاد شهاب وموريس الجميّل والياس سركيس وحسين الحسيني ورشيد كرامي وفيليب تقلا وغيرهم، ممن عرفوا كيف يخاطبون الناس ويجعلون الخيارات اكثر عقلانية. في هذه الجمهورية، قامت الجامعة اللبنانية التي كانت احدى ثمرات نضال كمال جنبلاط ومعه احزاب اليسار، والتي حققت لاحقاً توازناً وطنيًا كبيراً في عملية تطور الاجتماع السياسي اللبناني وساهمت في خلق طبقة وسطى . كما تمكن اكاديميون كبار في الجامعتين الاميركية واليسوعية من جعل لبنان جامعة للنخب العربية.

تمكن القطاع الخاص في لبنان في تلك الفترة ان يلعب الدور الاساسي في الاقتصاد اللبناني الذي بلغ مستوى هائل من النمو في مرحلة الخمسينات، وحافظ لبنان لعقود على ميزان تجاري مقبول من خلال قدرة القطاع الصناعي على الانتاج القابل للتصدير ومن خلال السياحة واستطاع رجال الاعمال تطوير ميزات تفاضلية في الصحة والمصارف والخدمات الاخرى حيث غدا لبنان ايضاً مستشفى العرب.

باختصار، تمكن لبنان في تلك المرحلة من بناء ثقة عربية ودولية جذبت اليه استثمارات متعددة ساعدت في تطوير وظيفته الاقتصادية خصوصاً بعد قرار المقاطعة العربية، الذي فتح الطريق لمرفئ بيروت كي يلعب دورًا هامًا في تجارة الترانزيت.

اما الدروس المريرة المستقاة من تلك التجربة فهي، أن النخبة التي ورثت تفاهمات الميثاق الوطني، لم تتمكن من ادراك اهمية السياسات الاجتماعية والاقتصادية في عملية الاندماج الاجتماعي وتكوين عناصر الاستقرار للنظام حيث بقيت مناطق الاطراف كالبقاع والجنوب وعكار الغارقة في الفقر معزولة عن الاقتصاد الوطني، كما لم يتمكن بعض من هذه النخبة، من ادراك تداعيات الاستقواء بالخارج للوقوف في وجه محاولات تطوير وإصلاح النظام، الامر الذي تسبب بانهيار الثقة واستجلب الى جانب اسباب اخرى مقدمات انهيار النظام السياسي المستقل إلى حد كبير.

ولا شك في أن اعقد التداعيات على الجمهورية الاولى كان في قيام ونشأة الكيان الصهوني وفي مواجهة سياساته العدوانية واطماعه في المياه اللبنانية، ومحاولاته المستمرة في ضرب التجربة اللبنانية التي تشكل نقيضًا لهذا الكيان. وفي المقابل، لم تتمكن الدولة من صياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع هذه التحديات نظراً للانقسام الوطني حول هوية لبنان وموقعه من الصراع العربي الاسرائيلي وميثاقه الوطني الملتبس الذي قام على نفيين «لا للشرق ولا للغرب». وتعاملت النخبة اليمينية مع هذه التداعيات بخبث انطلق من احقاد عنصرية، رغم الدور الذي لعبه الرأسمال الفلسطيني القادم والعمالة الفلسطينية في انعاش الاقتصاد اللبناني، وبقيت هذه النخبة تنظر الى اللاجئين الفلسطينيين كمصدر خطر على التركيبة اللبنانية، الامر الذي ادى الى حرمانهم من ابسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وجعل من المخيمات احزمة بؤس وحرمان وقنابل موقوتة.

وعلى الضفة الأخرى، ساهم رهان اليسار على منظمة التحرير الفلسطينية في تكوين ميزان قوى داخلي لصالح تغيير النظام في خلق تداعيات على صعيد العلاقات بين مكونات النظام، وربما ساهم ايضاً بتصعيد جولات العنف المتكررة، وقد فتح الطريق لمنظمة التحرير بالاضافة الى عوامل اخرى الى ان تصبح دولة ضمن الدولة. كما ان تحول لبنان الى ساحة مواجهة برعاية سورية، كانت له تداعياته على دور لبنان في المنطقة وكلفته الانسانية والاقتصادية والسياسية، فضلًا عن التداعيات التي عانى منها اهل الجنوب في مرحلة الوجود الفلسطيني، ولاحقًا في مرحلة الاحتلال الاسرائيلي المباشر.

أختم لأقول آسفاً ان التاريخ قد اعاد نفسه في الجمهورية الثانية في المحطات البائسة من الجمهورية الاولى، من خلال إنعاش تحالف الاقليات ليضع لبنان مجددًا امام تحد وجودي، كما عادت محاولات الاستقواء بالخارج لتعديل ميزان القوى الداخلي، وعادت مقايضة السيادة الوطنية بالمناصب والكراسي والنفوذ الداخلي، في الوقت الذي يتشكل فيه مشهد جيوسياسي معقد في المنطقة قد يطيح في لحظة معينة بالكيان واسسه. وبدل ان تستقى الدروس من الذين يحتلون ارفع المناصب في الدولة، قاموا وسنداً للرهان على تحالف الاقليات وتحت شعار تحقيق التمثيل المتوازن بالضغط لاقرار قانون انتخاب يستجيب لهذا التحالف، الامر الذي ادى الى اخلال كبير في التوازنات الوطنية وضاعف من حدة الانقسامات المذهبية والطائفية، واقفل كل فرص التغيير على الشباب اللبناني .

اعتقد انه على الرغم من الخلل الكبير في ميزان القوى المحلي، وعلى الرغم من عدم نضوج الظروف لقيام اي تكتل يحمل مشروعاً للتغيير الحقيقي حتى الآن. ومع ذلك فتجديد الآمال وعدم الوقوع في اليأس يقضي بالقول، انه حان الوقت لمشروع سياسي متماسك اساسه استعادة الدولة لسيادتها على سياستها الدفاعية والخارجية، وارساء تفاهم وطني لعقد اجتماعي جديد، يقوم على الحياد الايجابي وبناء اقتصاد وطني منتج وتوزيع عادل للثروة، وقانون انتخاب يعيد الثقة الى جيل الشباب بامكانية التغيير.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي