الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قصة رضا

قصّــــــة رضـــا
عاشق النّاي زارع الفرح والحب.

في فولكلور كل شعب، تظهر بين الحين والآخر شخصيات فريدة سرعان ما يجد فيها الجميع تعبيراً حياً وخلاقاً عن ميزات الجماعة وثقافتها وخصالها. غالباً ما يكون في رأس تلك التعبيرات أشخاص بسطاء بلا أطماع ولا أوهام، لكن مع قلوب مضطرمة بحب الخلق والرغبة في العطاء. إحدى تلك الشخصيات التي اشتهرت في منطقة راشيا وما زال الناس يتداولون اسمها بكثير من الحنين والتأمل هي شخصية رضا، تاجر الكشة وعاشق الناي أو البنجيرة لم تفارقه حتى فارقها. وقد اشتهر أمر رضا ليس فقط بسبب خصاله الرقيقة وبشاشته الدائمة وأدبه وتواضعه ومحبته للناس، وخصوصاً الأطفال، بل بسبب حياته التي قضى قسماً كبيراً منها في التجوال بين القرى أو في الحضور مع كشته إلى سوق الاربعاء ليصبح في وقت قصير نجم ذلك السوق، حتى لم يعد يتصور السوق من دون رضا وأنغام شبابته العذبة.
تزوج رضا وبنى أسرة كريمة لكنه لم يكن في حياته طامعاً في الثروة، فقد اختار في سره طريقة عيش أحبها هي العيش بين الناس، مثل الرعاة الذين كانت ترافقهم أيضاً شبابتهم وتساعدهم على تمضية نهار الترحال الدائم بين القمم والأودية، كانت شبابة رضا رفيقة يومه لكنها كانت لغة الحب والعذوبة التي كان يخاطب بها محيطه. لم يكن كثير الكلام بل كان غالباً يميل إلى الصمت البشوش كأنه يخفي سراً، وكان أكثر كلامه أنغاماً شجية تحرّك القلوب وتبعث الفرح في قلوب الناس.
مؤكد أن الشبابة وأنغامها وتوزيع المحبة والإلفة بين الناس كانت هي محور حياته، أما العمل وبيع الكشة وغيرها فلم تكن إلا أمراً ثانوياً يجنبه مشقة العوز، بل ربما كانت وسيلته لكي يبقى على تماس دائم مع الناس. وبهذا فقد كان رضا ولا شك ظاهرة فريدة في زمن فقدت فيه الإلفة وطغت الفردية وضعفت المروءة. فكان بذلك بقية من عصر مضى أكثر من كونه منتمياً إلى زماننا المضطرب.
الضحى

كثيرون اليوم في منطقة راشيا يتذكرون كلماته القليلة التي لا تنسى: “العوافي..كيفكن” و..” شو بنا نعطيكن اليوم”، كان أديباً حتى في عرض بضاعته البسيطة، خفيف الظل، متكلاً في رزقه على استجابة الناس ومحبتهم وليس على السؤال أو الشطارة في البيع أو الإلحاح. أما وقد غاب عنهم قبل أن يبلغ سن الكهولة فقد ترك ذلك ولا شك فراغاً في الأماكن التي اعتاد أن يظهر فيها، من سوق الأربعاء إلى شوارع القرى إلى مداخل البيوت التي كان يطرق أبوابها بألحان شبابته قبل أن يعرض على الأصحاب والمعارف من بضاعته البسيطة. فمن هو عاشق الناي هذا وزارع الحب الذي كانوا يدعونه بإسمه الأول تحبباً: رضا؟
ولد في بلدة العقبة قضاء راشيا في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وعاش طفولته الأولى كسائر أطفال القرن المنصرم يساعد والديه في الزراعة لتأمين حاجات المنزل وأود الأسرة. كان الطفل الأصغر في العائلة لكن بدا منذ سنه المبكرة أنه ليس كسائر أشقائه أو أقرانه من الأطفال، إذ كان دائم المرح وشغوفاً بالطبيعة لكنه محب ايضاً للناس، فكان يوزع أيامه بين الحقول والروابي أو في أزقة البلدة وحواريها.
بسبب حبه للإلفة والرفقة، فقد كان يقضي معظم أوقات طفولته مع رفاقه الذين كانوا غالباً ما يتأثرون بأفكاره السباقة التي كانت تبعد الملل وتجعلهم في حركة دائمة وبحث واختبارات. كان يذهب إلى الحقول ويعود بأغصانها يبريها سيوفاً ليمارس لعبة كانت تعرف بالابرة والصنارة، وكان إذا تسلل السأم إلى رفاقه جاء بفكرة جديدة ولعبة جديدة يوزع أدوارها على أترابه.

حكاية القصب
ذهب مرة إلى ضفاف أحد الأنهار المجاورة ليعود ببعض القصب. أخذت الدهشة رفاقه وهم يرونه يأخذ قطعة من القصب ليحدث فيها ثقوباً بمسافات متساوية. وما هي إلا دقائق حتى بدأ يعزف على القصب يخرج منه الحاناً عذبة. بالنسبة لرفاقه الأولاد كان ذلك اختراعاً عجيباً لم يروا مثله من قبل. يومها لم يكن أحد ليدرك أن الشبّابة التي يصنعها رضا ستصبح رفيقة عمره وسوف تطبع مسيرة حياته لأنه كان بالفعل عاشق الشبابة أو عاشق الناي، كما سمّاه كثيرون.
أصبح رضا الفتى اليافع، الشخص الذي لا يستغنى عن وجوده في حفلات الزفاف، وكان قد أتقن فن العزف والانتقال من لحن الى آخر بأسلوب يشوق مستمعيه. وقد بلغت شهرة رضا حداً جعل أهل القرى جميعاً يقصدونه لإحياء حفلات الأعراس، وكان رضا بنخوته المعروفة وطيبة قلبه يندفع ساحباً شبابته من خصره من دون تكلف فيبادر الى العزف وبث النشوة والحماس في صدور الرجال والنسوة الذين يبدأون بالرقص ويصدحون بـ”الزلاغيط”.
فجأة، وعلى وقع أنغام الناي الساحرة مال إليه قلب فتاة أعجبت بخفة ظله وروحه المرحة ومال إليها، واجتمع أبناء القرية وعقدوا قرانهما في حفل زفاف جامع وعامر بمشاعر الفرح والعفوية. إذ كان أفراد القرية جميعاً يعتبرون رضا بمثابة ولدهم أو شقيقهم، ويرغبون برد جميل الفرح الذي يزرعه في قلوب الناس. وها هي عائلة رضا تكبر وقد أصبح له أولاد في عمر الشباب يشقون طريقهم في الحياة.
اتسعت الأسرة ومعها متطلبات الحياة . لم يهجر رضا شبابته لكنه اصطحبها إلى طريق الرزق الحلال عبر التجارة. لكن أي تجارة؟ لم يتخيل رضا نفسه جالساً في دكان أو محل، فقد كانت الحياة التي ألفها هي التجوال ومعاشرة الناس وبث الفرح في نفوسهم. لم يكن من النوع الذي يمكنه السكون أو القبول بحياة رتيبة، فقد كانت روحه الجياشة وأحاسيسه المرهفة تأنس بالطبيعة، كما تأنس بالناس، صغاراً وكباراً، لذلك لم يتردد في خياره. وهو أن يكون بائعاً متجولاً. فصنع لنفسه “كشة” يحملها على ظهره ويجوب بها القرى المجاورة، وقد جعل فيها أصنافاً كثيرة من التسالي التي يطلبها الناس. ولعلّ أكثر الأصناف التي حظيت بالإقبال كانت “الترمس”، فكان دخوله أياً من القرى يدفع الأطفال الى التراكض والتحلق حوله يتدافعون للحصول على هذه التسلية المغذية والمفيدة. وكان للترمس، الذي يبيعه رضا، طعم خاص لا يقوى أحد على مقاومته.

العوافي
إن لم يحالفه الحظ في بيع كل ما في كشته، كان رضا يقرع باب منزل، وكان من في الداخل يستبشرون عندما تكون الإجابة على سؤال: من الطارق؟ معزوفة موسيقية تصدح بها شبابته الشهيرة، وكان الجميع بالتالي يهبون إلى كشته ليأخذوا ما تبقى فيها، وكان هو بلباقته الشهيرة يخاطب الناس: “العوافي”، “ذقلنا هل ترمسات”، وكان يدفع في يدك ما تيسر من جعبته على سبيل المجاملة تاركاً لك القرار بالشراء.
كان رضا يقضي وقته متنقلاً من منزل الى آخر، ومن بلدة الى أخرى عارضاً بضاعته، وعندما يدركه التعب كان يمتطي “حماره” الأغبر ويضع على ظهره الخرج ثم يضع في كلا جانبيه بضاعته، وعندما يصل الى المكان أو القرية المنشودة كان الصبية يستقبلون زائرهم بالتصفيق ويبدأون بمناحرته حتى يُخرجوه عن صمته فيحاول هو بدوره مطاردتهم لإبعادهم لكن دون جدوى فيرضي شقاوتهم بما تيسر من “الخرج”، متذكراً أنه في يوم من الأيام كان هكذا فيأخذ المنجيرة عازفاً ومتابعاً المسير.
وبعد إنتهاء موسم الترمس لا يحار رضا بما يضع في كشته فتراه يملأها بنوع آخر يستهوي الكبار والصغار على حدٍ سواء، وهو “القضامي”، حيث يتم تحويل الحمص الى أنواع مختلفة من القضامي الصفراء أو المالحة وما الى ذلك، وتراه مع كل سلعة يتكيّف ويعوّد الناس على البديل، لكن الإسلوب لا يتبدل مهما تبدّلت السلع، وعفوية رضا لا تتغيّر وإبتسامته الساحرة تبقى هي هي . وإذا إفتقدته يوماً فسوف تجده في سوق الأربعاء الذي يؤمه ابناء المنطقة، منهم من يعرض بضاعته ومنهم من يبتاع حاجاته، لكن رضا هو دوماً العلامة الفارقة في هذا السوق الذي اصبح بسببه فعلاً تجربة ومسرحاً للأنغام ونشوة القلوب.

فرح يوم الأربعاء
كان يوم الأربعاء في مفكرة رضا يوم عزيز على قلبه، يترقبه بشوق فيستيقظ له باكراً ليحلق ذقنه ويرتدي ثيابه ويضع كوفيته البيضاء على نغم طلعة ميجانا أو موال عاطفي. كان يوم الأربعاء بالنسبة له يوم عيد وكان رواد السوق عائلته الكبيرة، فكانت مشاعره لذلك تصل إلى ذروتها فعلاً، وهو يستعد لمغادرة المنزل باتجاه ذلك اللقاء الأسبوعي الحميم. حقيقة الأمر أن لكل فردٍ في المنطقة قصته مع رضا وعلاقة مودة خاصة به، وكان الباعة في السوق ينتظرون بفارغ الصبر قدوم رضا ويعرضون عليه الإغراءات لكي يجلس بالقرب منهم، وقد كان كثيرون باتوا على قناعة بأن وجوده يجلب لهم الحظ.
تلك كانت حياة رضا البسيطة لكن الزاخرة بنغم الروح وأمواج المحبة على إيقاع شبابته. وفي يوم توقفت شبابة رضا عن العزف، افتقد الناس أنغامها، كما افتقدوا رضا الذي كان بلغ السبعين من عمره. علموا يقيناً أن شيئاً ما فادحاً قد حصل، وأن الرجل الباش المحب الرقيق المشاعر خرج من السوق ومن هذه الدنيا إلى ميدان أرحب تاركاً شبابته إلى أهل بيته الذين يعرضونها باعتزاز مع صورته بالكوفية البيضاء المميزة في ركن عزيز من المنزل. ترى كيف استقبل أهل السماء عاشق الشبابة؟

عماد خير

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading