قصص الأمثال
فرحة فتنة
يضرب هذا المثل لمن يفرح لبؤسه وشقائه معتقداً أنه في حالة فرح حقيقي، وربما أخذ المثل بعداً سياسياً حينما يتندرون بفرح العامة من الناس، ومدحهم السلطان المستبد بالرغم مما يلحق بهم من ظلم وحيف.
و الحكاية أن فتنة زوجة أحد المرابعين، والمرابع مسؤول أمام صاحب الأرض عن حراثة الأرض وزرعها وعن الحصاد والبيدر وغير ذلك من الأعمال، كما أنه مسؤول عن علف الحيوانات والاعتناء بها، باعتبارها الوسيلة الأساسية في الإنتاج .
ومن الطبيعي ألا يستطيع المرابع وحده القيام بكل هذه الأعمال، إذ كانت زوجته تقف إلى جانبه في كثير من هذه الأعمال . وعليه فقد دخلت فتنة هذه إلى التبّان1، وأخذت تكربل2، لتهيِّئ وجبة تبن ناعمة للبقرات التي تستخدم في الحرث”.
وأرادت إحدى النساء معابثتها، فدخلت خلفها فلم تكد تراها من غبار التبن فقالت لها :
ـ “يا مشحَّرة يا فتنة! انت عبتكربلي هون والغبرة فوقك، وجوزك قاعد مع فلانة، وقال بدو يطلقك وياخذها”.
فوضعت فتنة الكربال أرضاً، وأمسكت رأسها بيديها الاثنتين وقالت:
ـ يا ربي عفوك ! أنا قلت هالنعمة مش راح تدوم لك يا فتنة3
الصايع ببلاده صايع ببلاد برا


مثل يضرب في الرجل الخامل الذي لا تتحسن أحواله مهما تبدلت الظروف. والحكاية أن ولداً اسمه عصام كان يعيش عيشة دلال، ونشأ دون أن يتعود على تحمل المسؤولية. وحين كبر أخذ والده يحثه على العمل والاعتماد على الذات.
ـ يا ولدي أنا لست مُخلِّداً، غداً سأموت، وسوف تتحمل أنت مسؤولية الأسرة، عليك أن تبحث عن عمل ما.
وكان عصام يهز برأسه عند سماع نصح والده لكن دون مبالاة، وكان غالبا ما يدعي أنه لم يجد بعد العمل الذي يليق به. وبفعل إلحاح والده عليه، جاء إلى والده يوماً يحمل مشروعاً:
ـ أريد أن أسافر
ـ إلى أين ؟
ـ إلى فنزويلا.
ـ يا ولدي السفر ليس لعبة، والغربة تحتاج إلى رجال . أليس من الأفضل أن تبحث عن عمل هنا، حتى تتعود، وأنت حتى الآن لم تجرب حظك هنا في بلدك؟
ـ يا أبي هذه البلاد لا تطعم خبزاً، ولا تبني مستقبلاً..ولم يعد أمامي خيار سوى السفر، لعلني بذلك أنقذكم وأنقذ نفسي من هذه الحال.
بسبب إصرار ابنه الطموح باع أبو عصام قطعة أرض وأعطى عصام تكاليف السفر. وتيسَّر عصام إلى فنزويلا بإذن الله.
مرت الأيام، والشهور، سنة..سنتان..ثلاث..ولا علم عن عصام ولا خبر . وأبو عصام يقول : ربما تغير الولد، الغربة تغيِّر الرجال، وأم عصام لا حيلة لها إلا البكاء والدّعاء، ولوم أبي عصام: كيف تخلى عن فلذة كبده، وجعله يطير إلى بلاد غريبة وبعيدة.
إلى أن كان يوم، حمل لهم البريد إشعاراً برسالة مسجَّلة. أبو عصام ليس له أحد في الغربة إلا عصام، وهذه الرسالة من عصام ولا شك، لأنها رسالة مسجلة، ولا تكون الرسالة مسجلة إلا إذا كان فيها “شيك محرز”…وأخذ أبو عصام يحسب، لا يعقل أن يرسل من فنزويلا مبلغاً زهيداً، ثم إنها ثلاث سنوات غربة، لا بد أنه مبلغ سيحل لنا مشاكل كثيرة.
في اليوم التالي، ومن صباح الله الباكر توجه أبو عصام إلى البريد في مركز الناحية وهناك سلًمه الموظف الرسالة بعد أن وقَّع على الاستلام . كل هذه الإجراءات عززت لدى أبي عصام الثقة بأن الرسالة دسمة . لم يشأ أن يفتح الرسالة في مكتب البريد، أراد أن يتمتع بمفرده بالمبلغ الذي حوّله له عصام. وما أن خرج من حدود البلدة متجهاً إلى الضيعة، حتى بادر إلى الرسالة ففضها ليقرأ :
“ والدي العزيز ! أنا بخير وبصحة جيدة .
لا تظن يا والدي ان عصام تغيّر، “ عصام على حطة إيدك . الغربة ما غيرت فيه شي . والّي صايع ببلاده صايع ببلاد بره . ابعث لي نيلون4 الطريق “.
1 التبان : مستودع التبن .
2 الكربلة : فصل القصل عن التبن بالكربال . هون : هنا . مكيّف : مسرور، مرتاح البال
3 بدو : يريد . ياخذها : يتزوجها .
شو هالنطّة الحلوي!!؟


يضرب هذا المثل في الرأي غير الصائب الذي يعود على من اتبعه بأوخم العواقب . وحكاية هذا المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، إذ كثيراً ما تسرد هذه الحكاية للتنديد برأي عاد بنتائج سيئة على من اتبعه
والحكاية أن لصوصاً أرادوا سرقة أحد بيوت المياسير، وكانوا يسيرون بخفة على سطح البيت فأحست بهم المرأة وأيقظت زوجها . لكن الزوج أجاب زوجته بصوت يسمعه اللصوص : نامي يا امرأة ! هؤلاء ليسوا لصوصاً، فاستغربت المرأة رد فعل زوجها وقالت له : وما أدراك ؟ ! . فقال لها : لو كانوا لصوصاً بحق لما ساروا في وسط السطح، فاللصوص لا يسيرون إلا على حافة السطح كيلا يشعر بهم أحد .
فاعتقد اللصوص أن كلام الرجل حقيقة، وأخذوا يسيرون على حافة السطح . ولما كان الظلام دامساً لم يتبينوا مواقع أقدامهم، فزلوا ووقعوا على أرض الدار. فخرج الرجل صاحب الدار وقال لهم: “ شو هالنطّة الحلوي ! “
فأجابه كبيرهم:
“هذي من راياتك يلي بتهوّي5 “
ووردت حكاية مشابهة لهذا المثل في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع بعنوان حكاية “المصدق المخدوع “ ؛ وهي تحكي عن لصوص أردوا سرقة أحد البيوت فعلوا السطح، فاستيقظ صاحب البيت وأحس بهم، فنبه زوجته، وقال لها : رويدكِ إني لأحس باللصوص قد علوا ظهر بيتنا، فإني متناوم لك، فأيقظيني بصوت يسمعه مَن فوق البيت . ثم قولي : يا صاحب البيت ! ألا أخبرتني عن أموالك هذه الكثيرة، وكنوزك من أين جمعتها ؟! . فإذا أبيت عليك فألحي في السؤال؟ ففعلت المرأة ذلك، وسألته كما أمرها : فقال الرجل بصوت يسمعه اللصوص : أيتها المرأة قد ساقك القدر إلى رزق كثير فتنعَّمي واسكتي.. ولا تسألي عمّا لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع، فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين . فألحّت المرأة عليه فقال لها: جمعته من السرقة . فقالت له كيف كان ذلك؟ فقال لها : كنت أعلو ظهر البيت، وانتهي إلى الكوة التي يدخل منها ضوء القمر، فأرقي بهذه الرقية: “ شولم شولم” سبع مرات، ثم أهبط على عمود الضوء إلى داخل المنزل دون أن يراني أحد . فأجمع من الكنوز ما أستطيع جمعه، ثم أرقي بالرقية نفسها، وأعتلي عمود الضوء، فإذا أنا خارج المنزل.
ولما سمع اللصوص ذلك الكلام فعلوا كما سمعوا، فوقعوا في شر أعمالهم6.
4 نيلون : ناولون، أجرة السفينة، مصروف الطريق مع أجرة الركوب .
5 ـ الفزة : القفزة . راياتك : آراؤك . بتحزي : بتخري
كرمال عين تكرم مرجعيون
مثل يضرب في الرجل ؛ تكرمه لا لشخصه، وإنما إكراماُ لعزيز أوصى به . والمثل معروف في أنحاء الجبل، غير أني لم أقع له على حكاية إلا عند سلام الراسي، الذي أورد حكايته على النحو التالي :
قبل نهاية القرن الماضي اشترى البارون اليهودي روثتشايلد قرية المطلة، إحدى قرى منطقة مرجعيون في ذلك الزمان، من مالكها جبور بك رزق الله من صيدا، وذلك في نطاق المخططات اليهودية لجعل قرية المطلة قرية يهودية، ومد حدود أرض الميعاد إلى ما وراءها .
وكان زعيم المطلة الشيخ علي الحجار، من زعماء الدروز المعروفين، ومن أصحاب المكانة عندهم، إذ سبق له أن قاد إحدى معارك العصيان المسلح ضد الدولة العثمانية، وبطش بإحدى حملاتها، فقتل بعض أفرادها وشتت شمل من تبقى منها .
واضطرت الدولة يومئذِ إلى توسيط الوجيه المرجعيوني ملحم راشد بينها وبين الحجار، ولكن بدون جدوى، وعرف أنه استسلم فيما بعد بواسطة نسيب باشا جنبلاط وعفي عنه .
وفي أحد الأيام استدعاه القائمقام رفعت بابان بك إلى جديدة مرجعيون، لغاية ما، وعند المساء توجه عائداً إلى قريته، إلا أن فرسه وصلت صباح اليوم التالي إلى المطلة بدون فارسها . فهب رجاله يبحثون عنه، حتى عثروا عليه مقتولاً، ومطروحاً قرب نبع الحمام في مرجعيون .
وقيل إن القائمقام كان وراء مصرعه، كما أشيع أن أحد زعماء المنطقة كان يترصد خطواته . إلا أن مقتل الحجار ما زال حتى الآن سراً مغلقاً لم يستطع أحد أن يكشف عن حقيقته . وقد يجوز التكهن بالنسبة لتسلسل الأحداث بان إزالة الحجار من الطريق سهلت عملية اقتلاع الدروز من قرية المطلة وتسليمها لليهود قبل نهاية القرن التاسع عشر .
الذي يهمنا الآن هو أن جماعة الحجار اتهموا أهالي جديدة مرجعيون بقتله، فذبحوا عساف الصغير على الفور قرب جسر الخردلي، وأخذوا يجيشون للهجوم على الجديدة . وبنو معروف لا يبيتون على ثأر، ولا ينامون على ضيم، فكيف إذا كان قتيلهم من عيار الشيخ علي الحجار .
هذا مع العلم إن الهجوم على جديدة مرجعيون مغر وهين : بيوتها عامرة، وأهلها مسالمون، يتنافسون على اقتناء النفائس، ولكنهم لا يخبئون البنادق في مخادعهم .
لذلك لجأ أهالي الجديدة إلى المراجع المسؤولة، وتوجه بعض وجهائهم إلى بيروت حيث قابلوا رضا بك الصلح، وطلبوا مساعدته، فأبى وقال لهم : “ اقلعوا شوككم بأيديكم “ .
وذكر رضا بك أهالي الجديدة بحادثة خان الزهارية عندما فك صاحب الخان حماراً لرجل من صيدا، وربط مكانه فرساً لرجل من الجديدة، فنشأ عن ذلك خلاف بين الرجلين، وتألب الصيادنة على الجدادنة وأهانوهم، فقدم هؤولاء شكاوى قاسية اللهجة إلى مقام والي بيروت .
كان رضا بك الصلح يومئذٍ يشغل وظيفة حساسة في مركز ولاية بيروت، وأراد بحكم وظيفته أن يتوسط بين الصيادنة والجدادنة، فرفض هؤلاء وساطته قائلين “ ابن صيدا ما بينعطى ريق حلو “
وبلغت هذه العبارة مسامع رضا بك لذلك رفض فيما بعد أن يتوسط لأهالي الجديدة في قضية مقتل الحجار .
في ذلك الوقت كانت عليا فرنسيس قد شقت طريقها لتصبح من أسياد المواقف في المنطقة، وشعرت أن الجو قد اكفهر بسرعة، وأن ملابسات جريمة مقتل الحجار قد تتطور إلى فتنة طائفية، فانتخبت وفداً من وجهاء المسيحيين في المنطقة، وهبطت إلى بيروت، وقصدت رضا بك الصلح بالذات .
فرحب رضا بك بعليا فرنسيس أجمل ترحيب، وطيب خاطرها، وخواطر صحبها وقال في معرض الكلام : “ كرمال عين تكرم مرجعيون “، وذهب بنفسه للتحقيق في مقتل الحجار وإنهاء الأزمة7 .
6 ـ كليلة ودمنة : ص38
7 ـ سلام الراسي . في الزوايا خبايا : ص494
كلب المير مير
يضرب هذا المثل للنيل ممن يستظل بظل أحد الكبار، فيجعل لنفسه شأنا لا يستحقه وقد يحتمي الرجل بأمير ليمارس التعدي أو “يتمرجل” على الناس لا لرجولة منه بل لكونه “مدعوم” بنفوذ الأمير ال مما يجعل الناس يتحاشونه إكراما للأمير وخوفا من إغضابه. وقد يتخذ هذا المثل طابعاً سياسيا حينما يتعلق الأمر بأذناب السلطة، وعندئذٍ فالمثل من الأمثال التي تتهكم على الاستبداد والعسف.
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي عن جورجي ميستو برواية “ كلب المير مير “إن أحد أمراء لبنان خرج إلى الصيد، ومعه كلب عريق، وحدث أن عبر الأمير وكلبه أمام حظيرة معّاز، فخرج المعاز مرحباً بالأمير، وخرج كلب المعاز من الحظيرة وأطبق على خناق كلب الأمير ودعكه، ومرَّغه، وشرم أذنه، وجلف إحدى عينيه .
وكان المعّاز يعرف أمير البلاد، فانحنى له لاثماً الأرض بين قدميه . لكن كلب المعاز كان غشيماً في قضايا البروتوكول، فكان منه ما كان . وانكسر خاطر الأمير وهو يشاهد كلبه ممروغاً بين يدي كلب المعاز، وهو يعوي عواء المغلوب على أمره، فأمر بقتل الكلاب كافة في المنطقة انتقاماً لشرف كلبه المهان. فقيل يومئذٍ: “كلب المير مير “ تدليلا على إيقاع الأمير العقاب بكلاب لا ناقة لها ولا جمل في ما حدث لكلبه، كما يعاقب فيها السلطان الناس في قرية أو منطقة وقع فيها قتل لموظف كبير أو معاون من معاونيه، وجرى القول مجرى المثل إلى يومنا هذا8
إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب


يروى أن رجلاً أصيب بالفالج فبات مقعدا، وصار دائم الضجر كثير التذمر والشكوى، ملحاحاً في طلب ما يحتاجه، وما لا يحتاجه . فابتكر أولاده طريقة لتسليته، وتخفيف طلباته التي لا نهاية لها . وكان في القرية رجل معروف بذلاقة لسانه، وقدرته على سرد الحكايات، وابتكارها، فاستأجروه ليسلّي الوالد لقاء مجيدة (وهي عملة عثمانية آنذاك) في كل يوم، واستمر الرجل في مهمته، يسرد الحكايات للوالد المريض، ويتقاضى أجره، حتى أخذ الله وديعته .
وحدث أن وقع رجل آخر بالمرض نفسه، لكنه كان مختلفاً عن صاحبه الأول بأنه كان مهذاراً، لا يعرف لسانه الراحة، يريد أن يتحدث، ويفضي بما في نفسه. ولما لم يكن عند أولاده القدرة، ولا الوقت للجلوس أمام الوالد المريض، والاستماع إلى أحاديثه المتواصلة، فقد تذكروا الرجل الذي أستأجره قبلهم أولاد المفلوج الأول، فذهبوا إليه يستأجرونه قائلين : كنت تتعب نفسك في الكلام، وسرد الحكايات للرجل الذي مات منذ مدة، أما نحن فنريدك في مهمة أسهل وهي أن تجلس وتستمع إلى والدنا دون أن تبدي أي عناء في اختراع الحكايات وسردها . ولك منا كل يوم ليرة عصملية (ذهبية) لقاء صمتك وإصغائك
ففرح الرجل، وقام بمهمته خير قيام، وكان يقبض عن كل يوم ليرة عصملية بدلاً من المجيدة التي كان يتقاضاها من قبل، حتى أخذ الله وديعته، فتجمع للرجل رزق وفير، وعرف الناس الحكاية واعتبروا من ذلك الوقت فقالوا: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب “
8 ـ سلام الراسي . “ثمانون”: المجلد الخامس : ص94