الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كلمة سماحة شيخ العقل في المكتبة الوطنية بعقلين
خلال استقبال غبطة البطريرك الراعي

أهُو لقاءُ الشوف الجامع، أم لقاءُ الجبلِ ولقاءُ الوطن؟ أهِي دعوةٌ لجني ثمارِ المصالحة أم دعوةٌ لرسم آفاق المستقبل؟ أم هذا وذاك وتلك؟ في مكتبة بعقلينَ الوطنية، بل في مدينة التواصل الثقافي عاصمةِ الإمارة المعنية، بعقلينَ التاريخِ المشبَعِ بعبير التقوى الصاعدِ من شذا شيخِها الجواد والسلفِ الصالح من الأعلام والأسياد، وبعبقِ الرجولة والأصالة الدافقِ من مَعين العقل والدين الذي ميّز أبناءَ عائلاتِها الأصيلين، وبطيبِ العيش الآمن معَ الله في مَداهُ الأرحب، والمتجلّي بعيش الصفاءِ والأُخوَّةِ معَ أبناء كلِّ عائلةٍ ومذهب… بعقلينَ النموذجِ الأرقى للجبل الموحِّد والموحَّد، منذ أن كان للموحِّدين ولإخوانِهم المسيحيين يدٌ تقاومُ وتدافع عن الوجود، ويدٌ تزرعُ ومن خيراتِ الأرضِ تجود، ومنذ أن كان لرجال هذا الجبل عينٌ تسهرُ وتتعبَّدُ اللهَ، وعينٌ تنعمُ بمحبة أبناءِ الله؛ يدٌ تصافحُ وفمٌ يُصارح وقلبٌ يُصالح، وعينانِ تنظرانِ بشغفٍ منَ بَعقلينَ إلى دير القمر وبيتِ الدين، ومن تلال السموِّ والعنفوان الممتدّة من قِممِ الباروك الشمَّاء إلى ودايا البركة وسهول الخير المعطاء… إنَّه الشوفُ: صخرٌ لا يتفتَّت، وعطرٌ لا يتشتَّت، ونبعٌ لا ينضَب، وأرزٌ لا يبوخُ ولا يتعب.. شوفُ المختارة؛ مختارةِ الكمال العصيّةِ على التعصُّب والتقسيم، شوفُ الخلوة؛ خلوةِ جرنايا الواصلة بين دير القمر وكفرحيم، شوفُ الكنيسة والمسجد؛ كنيسةِ سيِّدة التلّة وكنيسة الدرِّ ومسجدِ الدير ومسجد الأمير شكيب أرسلان.

أنْ نلتقيَ وصاحب الغبطة وأصحاب السيادة والمشايخ الأجلَّاء اليومَ، وبحضور نُخبةِ القوم والمجتمع والوطن، وفي رحاب سجنٍ تحوَّل مكتبة، فذلك ليس بغريب، فبكركي وزعامةُ الجبل وكلُّنا معاً حوّلنا هذا الجبلَ منذ عشرينَ عاماً ونيِّف من ساحة حربٍ وحقدٍ وخِصام إلى واحة مصالحةٍ وحبٍّ وسلام، والتقينا في الإرادة والرهان قبل أن نلتقيَ في الزمان والمكان، وها نحن مستمرُّون في تلاقينا لتعزيز الثقة وإنعاش الأمل، ومستعدُّون دائماً لأن نجعلَ من هذا الجبلِ المعروفيِّ المسيحيِّ الدرزيِّ المجلببِ بعباءات التقوى والأرز والسنديان والمعمَّمِ بعمائم المحبة ونقاء الثلج نموذجاً أرقى لكلِّ لبنان، إذ هو قلبُ لبنان، وقد تعاهدنا في المختارة وفي بكركي، وبالأمس القريب من أمام بوَّابة الديمان أن نصونَه بالصلاة وبرموش العيون؛ بالروح الطيّبة والكلمة الطيِّبة وبالعمل الطيِّب. كيف لا؟ ونحن أبناءُ الحقِّ والتوحيدِ، والمحبةُ هي لُبُّ التوحيد، والتوحيدُ جامعٌ مشترَك فوق المظاهر والطقوس، وقد عبَّرنا بالأمسِ عن ذلك شعراً، فقلنا:

تعمَّقتُ في ديني الحنيفِ فقادني

                 إلى  غيرِه، لو أنّ ذاك مُغايِرُ

وأدركتُ أنَّ الحقَّ أصلٌ، وكلُّنا

                فروعٌ وأغصانٌ له وأزاهرُ

إذا ما فرَّقَتْ  بينَ  الأنامِ عبادةٌ

                فتجمعُهم فوقَ الطقوسِ الجواهرُ

من هذا المنطَلَقِ الروحيِّ والإنسانيِّ والاجتماعيّ لم تكن مصالحةُ الجبل التاريخية ورقةَ تفاهمٍ موقَّعةً من زعيمٍ وبطريركٍ وشيخٍ وشهودِ حال، بل كانت عهدَ الحكماء والأبطال الرجال، عهداً من العقل إلى العقل ومن القلب إلى القلب، عهداً يقولُ إنَّ الجبلَ تاريخٌ، والتاريخُ لا يُمحى بحادثةٍ هنا ومواجَهةٍ هناك، وتراثٌ اجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ لا يتبدَّلُ بخطأٍ من هذه الجهةِ أو بخطيئةٍ من تلك. الجبلُ سيرةُ أبطالٍ قادةٍ نُجباء وفلَّاحين أُخوةٍ شرفاء، الجبلُ كهفُ تعبُّدٍ وصومعةُ نُسكٍ وساحةُ جَمعٍ في الأفراح والأتراح، الجبلُ مَيدانُ عملٍ وشراكةٍ ولقاء، الجبلُ كرْمٌ وكرَم، سيفٌ وضَيف، نسمةٌ وبسمة، فيه وُلِدنا وفيه نعيشُ وفيه نموتُ وفيه نُبعَثُ من جديد، معاً نحميه، معاً نبنيه، معاً نُعليه فوق الخلاف والاختلاف، ومعاً نجعلُه النموذجَ الحيَّ للإنسان، ولكلِّ لبنان.

زيارتُكم صاحبَ الغبطةِ الممتدَّةُ من بلدتِنا شانَيه في جُرد عاليه إلى الباروكِ فبيتِ الدينِ فبعقلينَ فالمختارة خطوةٌ مبارَكةٌ، لها رمزيَّتُها العالية، إذ هي رسالةُ تأكيدٍ وتجديد، أردناها معاً بإرادةٍ واحدة ورؤيةٍ مشترَكة، تأكيدٍ على نهج المصالَحة والأُخوَّة والمحبة، وتجديدٍ لمسيرة العمل المشترَك من أجل نهضة الجبل وصَون الوطن. التطلُّعاتُ كثيرة والانتظاراتُ كبيرة والتحدياتُ خطيرة، فلماذا لا نتَّحدُ لمواجهتِها ولجَني ثمار المصالحة وتعزيز الأمل بالمستقبل؟ الدولةُ تتراجعُ وتنهارُ، وأبناؤُنا يعيشون حالةَ البطالة واليأس أو يهاجرون بحثاً عن غدٍ أفضل. الأرضُ تكادُ تتصحَّرُ والأوقافُ مُهمَلة، وأغنياؤُنا يستثمرون بعيداً ومعظمُهم في ما وراءِ البحار، ألا يستوجبُ الأمرُ مصالحةً من نوعٍ آخر؟ مصالحةً على شكل مبادراتٍ عمليّة لبناء المؤسسات وإقامةِ المشاريع المُنتِجة؟ ألا يجدُرُ بنا أن نضعَ خطةً استراتيجيةً للنهوض بأوقافِنا وجبلِنا، وبالاعتماد على أنفسِنا أوَّلاً؟ ومن خلال تشكيل مجموعةٍ استثماريةٍ قادرةٍ على تنفيذ ما يُتَّفقُ عليه من مشاريعَ تنمويةٍ في مختلَف المجالات الزراعية والصناعية والخدماتية والسياحية وغيرِها؟

لقد واجهَتِ المختارةُ الأزمةَ الاقتصاديةَ الخانقة كعادتِها بالمزيد من العطاء وتَحمُّلِ المسؤولية واحتضانِ العائلات والمؤسسات، وهي التي لم تعرفِ التخاذلَ والتواني أبداً، فقامت إلى حدٍّ كبيرٍ مقامَ الدولة، كما فعل آخرون على قَدر طاقاتِهم ومواقعهِم، ولكنّنا، كقياداتٍ روحية وكقيِّمينَ على الأوقاف، مَعنيُّون بالوقوف إلى جانب أهلِنا ومجتمعِنا، من خلال خطةٍ منظَّمة تفتح الآفاقَ نحو المستقبل، سيّما وأنّ في الجبل رجالاً قادرين مُقتدرين، مؤمنين بوطنِهم، حريصينَ مثلَنا على الكرامةِ والوجود، ونحن معهم نُردِّدُ القولَ المأثورَ ونقول»: «إنَّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد»، ونؤمنُ أنّ اللهَ لا يُريدُ لنا إلَّا الخيرَ متى ما أردناه لأنفسِنا. جاء في الحديث القُدْسيِّ: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصرُ به…»، وهذا ما نرجوه؛ أن يُحبَّنا اللهُ، واللهُ لا يُحبُّنا إلّا إذا تقرَّبنا منه وكنَّا مُتحابِّين فيه، لا متخاصمين، مجتمعينَ في كنَفِه، لا متفرّقين، مُدركينَ أنَّ للمصالحةِ روحاً وجوهرَاً، لا اسماً ومظهراً فحسب. روحُها الإيمانُ بالله وبالوطن، وجوهرُها المحبةُ والأُخوَّة، وقد أردناها «كَلمَةً طَيِّبَةً كشَجرةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمآءِ»، فتعهَّدنا زرعَها بالعنايةِ والعمل، وتعاهدنا على ألَّا نقطفَ ثمارَها الطيِّبة إلَّا معاً موحِّدين موحَّدين؛ مسلمين ومسيحيين.

نعيشُ وإيَّاكمُ اليومَ حالةً وطنيةً مُحبِطة على مستوى الدولة؛ من تعطيل المؤسسات إلى غيابِ الحلول والتسويات، وكأنَّ الدستورَ أصبح عندَنا تعميماً يُلغى بتعميم، أو كأنَّ المُهَلَ الدستوريَّة أضحت فُرَصاً تَروحُ وتأتي ولا مُوجِبَ لاحترامِها، أو كأنّنا لم نبلغْ سِنَّ الرُّشدِ السياسيِّ بعد، فبِتنا ننتظرُ الخارجَ لِيرسُمَ لنا سبيلَ الخروج من الأزمات، وغالباً ما نسألُ عن دورِنا كمرجعياتٍ روحيّة، وإنّني أراهُ دوراً إنسانيّاً وأخلاقيَّاً جامعاً، بل مِظلَّةً روحيّة للتلاقي السياسيِّ الوطنيِّ المنشود، فهل يُمكنُ من موقعِنا أن نُمهِّدَ لمجلس النُوّابِ ولرؤساء الكُتَلِ النيابية بالدعوة إلى لقاءاتٍ حواريَّة على مستوى النُّخَبِ والمثقَّفين الوطنيِّين؟ وقد صدرت بالأمس القريبِ من إحدى تلك المجموعات ومن قاعة بكركي وثيقةٌ جيِّدة بعنوان «رؤية جديدة للبنانَ الغد»، وصدرت مثيلاتُها من هذا المِنبر أو ذاك الملتقى، أفلا يُستحسَنُ أن يلتقيَ أصحابُ هذه الوثائقِ على طاولة حوارٍ وتفاهمٍ علَّهم يُنتِجون وثيقةً مشترَكة تُحفِّزُ المسؤولين لإنتاج الحلولِ الناجعة بدلاً من المراوحة وعادةِ انتظار الخارج وارتقاب الفرَج؟

إنَّ الحوارَ سبيلٌ وليس غاية، فلماذا لا ندعو إليه ونسلُكُه لاختراق جدرانِ التعطيل والإغلاق؟ لا قفزاً فوق الدستور ولا تغييباً للحياة الديمقراطية، بل سعياً إلى «جمال التسوية» النافعة المُجدية، فالرئيسُ المنتظَرُ لا يجوزُ أن يبقى مُختطَفاً ومفقوداً، بينما الناسُ في حالةِ بؤسٍ، ومعاملاتُهم في حالة جمودٍ وتسييب، وعواصمُ القرار تسعى وراء مصالحِها أولاً، أفلا نسعى من أجل مصلحة الوطن؟ والدولُ العربيةُ في حالة جفاءٍ معنا ونحن متخاصمون، أفلا يجب أن نتلاقى ونتصالحَ معَ أنفسِنا لنعيدَ رونقَ تلك العلاقة معَ عمقِنا العربيّ التي هي سبيلُ خلاصٍ وحياةٍ للبنان؟ والثروةُ النفطيَّةُ المرتقَبة يُخشى عليها من الضَّياع في خضمِّ التجاذب السياسي، ألا يجدرُ بنا أن ننظرَ إليها كخشبة خلاصٍ فنرفعَها فوق المصالح الفئوية وفوق المراهنات على هذه الدولة أو تلك؟ لتصبَّ نتائجُها في صندوقٍ سياديٍّ بامتياز يساهمُ في إنقاذ الوطن وحماية اقتصاده ووفاء ديونه للمودِعينَ وللدائنين، لا صندوقَ محاصصاتٍ يتحكَّمُ فيه القويُّ ويُحرَمُ منه الضعيف، ويكونُ مصدرَ نِقمةٍ لا مصدرَ نعمة، لا سمحَ الله؟

لقد قيلَ وقُلنا: «إذا كان الجبلُ بخيرٍ فلُبنانُ كلُّه بخير»، ذلك هو الشِّعارُ وتلك هي الحقيقة، وإنَّنا لَمؤمنون بالجبل إيمانَنا بالوطن،، مؤمنون بالشوفِ، وللشوفِ أقول ما قُلتُه يوماً في تكريم أحد الآباء المحترمين:

آمنتُ  بالشوفِ أرزا شامخاً حُرَّا

                   وأرضَ خيرٍ ونبعاً فجَّرَ الصَّخرا

آمنتُ  بالشوفِ،   والمعروفُ  مِيزتُهُ

                  والحبُّ أيقظَ في شِريانِه الجَمرا

فأوقدتْ   خَلوةُ    التوحيدِ    أنجُمَها

                   وأشعلَ الدَّيرُ من أنوارِه بَدرا

فعادَ   يُشرِقُ   في   تاريخِنا   جبلٌ

                   وعاد يَصنعُ من آلامِنا فجرا

لقد بزَغَ الفجرُ في آب 2001، فجرُ المصالحة والوفاق، وها نحن اليومَ في أَوج النهار نَنعمُ بالدفءِ والنور، وما علينا إلّا الجِدُّ والاجتهاد وبذلُ الجُهود، حتى وإن غابت الشمسُ جوازاً، فمجدُ الجبلٍ بعونِ الله لن يَغيب.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading