الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كلمة سواء

لــو عــاد الملـــوك

قبل ستة عقود كان العالم العربي يعيش مرحلة ما سمي يومها حركة النهضة وبناء الدولة العصرية، وهي الحركة التي تبعت زوال الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها العربية إلى ممالك ودول وضعت لها دساتير وبنيت مؤسسات جعلتها على العموم أقرب في نظامها السياسي إلى الدول المنتدبة وهذه الدول تقاسمت أراضي السلطنة لتحوّلها إلى مستعمرات أو محميات أو ما شابه.
اللافت هو أن الولايات العثمانية السابقة اتجهت بصورة عفوية للبحث عن شرعيات تاريخية تجعلها على رأس الدولة فتشكّلت في العديد من الدول العربية أنظمة ملكية دستورية، إذ اعتبر الملك يومها بديلاً عن سلطة الخلافة العثمانية الغاربة والقادر بالتالي على توفير شرعية مماثلة توحّد المكونات المختلفة للمجتمع وتحقق الاستقرار والتطور والازدهار. في العراق مثلاً الذي يضم بطبيعته مكونات مذهبية وعرقية مختلفة تحوّل الملك إلى الضامن الأول لحقوق جميع الفئات والحَكَم المؤتمن في فض النزاعات وإعطاء كل ذي حق حقه. ولم تكن الملكية في العراق نظاماً استبدادياً كما أدخل في روع الأجيال التالية بل كانت ملكية دستورية محكومة بمؤسسات أبرزها الأحزاب والبرلمان ومجلس الأعيان والقضاء المستقل، وكانت الوزارة تعين من قبل مجلس النواب وتأخذ الثقة منه وقد سقطت عدة حكومات عراقية في مجلس النواب، وهو ما لا يحدث إلا نادراً حتى في الديمقراطيات المتقدمة، كما ترأس الحكومات في ظل النظام الملكي سنة وشيعة من دون تمييز وشغل الأكراد والتركمان مناصب بارزة وتولى يهودي عراقي منصب وزير المالية، وكان العامل الأهم في تلك الوحدة وفي انسجام تلك المكونات هو الملك الذي يحظى بشرعية أساسية بسبب انتمائه إلى البيت الهاشمي الشريف، وكذلك بسبب الحكمة واحترام القانون اللذين كانا الميزتين الأهم لأسلوبه في ممارسة السلطة والقيام بمسؤولياتها في الدولة. في الأردن الذي كادت تمزقه التناقضات ومضاعفات القضية الفلسطينية خصوصاً بعد خسارة الضفة الغربية كان الملك ولا يزال نقطة التوازن الحاسمة التي تساعد في الحفاظ على وحدة البلاد وحماية اللعبة السياسية على الرغم من عدم النضج الذي يميّز الكثير من أطرافها أشخاصاً وأحزاباً. في اليمن كان السلطان أيضاً عامل التوازن والوئام الداخلي في مجتمع قبلي مغرق في القدم، وفي مصر كما في ليبيا كانت عائلات ملكية عريقة تعطي لتلك الدول مكانة بين الأمم وتوفّر للمجتمع استقراراً ورفاهاً. وفي جميع تلك الأنظمة الدستورية كانت هناك مؤسسات تساعد الملك (أو رئيس الجمهورية) على الحكم وهي مؤسسات يتم اختيارها من أعيان البلد وأفضل الكفاءات وأكثرها خبرة. أما في فلسطين فقد تعمدت السلطة البريطانية تركها فريسة للإنقسامات تمهيداً لتقسيمها وإنشاء كيان يهودي غاصب على قسم كبير منها.
بصورة عامة كانت المجتمعات العربية مجتمعات مستقرة والأهم من ذلك كانت مجتمعات واعدة تسير في طريق الازدهار والتقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي، وفوق ذلك تصان فيها كرامة الإنسان. ولم يكن من شيم تلك الحكومات الدستورية قمع الحريات أو تعذيب الخصوم أو خطف الناس في ظلمة الليل واقتيادهم إلى زنزانات وأقبية فلا يعرف بعد ذلك عن مصيرهم شيء.
في العراق يذكر التاريخ رواية معبّرة عن تلك الحقبة، إذ حصل أن كان الأمير عبد الإله الوصي على العرش العراقي يقوم في أول الخمسينات من القرن الماضي ببناء بيت له على شاطئ دجلة وقام البناءون نتيجة خطأ باقتطاع بضعة أمتار من أرض لجار له من عامة الشعب، فما كان من هذا المواطن إلا أن توجّه إلى القضاء وأقام دعوى على الأمير عبد الإله الذي بعد أن انتبه مهندسوه إلى الخطأ قام بتصحيحه وأعاد للفلاح حقه. . ويذكر أيضاً أن مجلس الوزراء العراقي أمضى في مطلع الخمسينات نصف ساعة في مناقشة حجم “مصروف الجيب” الذي يجب أن يصرف للأمير عبد الإله الذي كان يستعدّ لتلبية دعوة لزيارة الولايات المتحدة الأميركية. هذه حوادث حقيقية لا يعرفها الجيل الذي تربى على التاريخ الملفق الذي أنتج بعد ذلك لتبرير الإنقلابات العسكرية وهدم الأنظمة الشرعية الفتية في المنطقة.
صحيح أن أنظمة الحكم الملكية الدستورية التي سبقت موجة انقلابات العسكر كانت تشكو أحياناً من الضعف أو من تجاوزات البطانة، لكن كل تلك الأمور، كما اكتشفنا بعد فوات الأوان، لم تكن لتزن كثيراً في ميزان الاستقرار والاستمرارية والوحدة الوطنية التي أمنتها تلك العهود لمجتمعاتنا، كما أنها لا يمكن أن تزن شيئاً عند مقارنتها بما قاسته الشعوب العربية بعد زوال تلك الشرعيات الدستورية. وليس من قبيل المبالغة لذلك اعتبار مرحلة الجمهوريات والملكيات الدستورية بمثابة المرحلة “الإنسانية” الذهبية أو مرحلة حكم القانون في العالم العربي.
على العكس من ذلك، فإن القوى الانقلابية التي هللت لها الجماهير واندفعت في الشوارع فرحة بقدومها هي ذاتها اليوم التي قرر الجيل الثاني أو الثالث لتلك الجماهير بذل النفوس والتضحية بكل شيء من أجل التخلص منها. إنها لمفارقة محزنة ومدهشة أننا كعرب وبعد أن أضعنا ستين عاماً في ما سماه الشهيد كمال جنبلاط “السجن العربي الكبير” نبذل أقصى جهدنا لكي نعود إلى تلك الحالة الديمقراطية والحضارية التي كانت قائمة في ظل الحكومات الديمقراطية الطرية العود التي اكتسحتها “الجماهير” بقيادة “ثوريي” تلك الفترة التعيسة.
لكن هيهات أن يمكن إعادة جمع الإناء الذي تحول إلى حطام، فالتاريخ لا يرحم ولا يعيد نفسه، والمجتمعات الصحية والسليمة التي تمت تفرقتها وإجهاض تجربتها الديمقراطية المهمة لا توجد وسيلة سهلة لإعادة لملمتها وإحيائها، لأن الديمقراطية التي عاشتها بلدان المنطقة في فترة من الزمن لم تكن قائمة بسبب وجود مؤسسات فحسب، بل كانت كذلك بسبب وجود ثقافة ديمقراطية مقبولة لدى الناس وبسبب حكم القانون الذي كان يعزز شعور المواطنة ويشعر الأقليات خصوصاً بأنها آمنة على نفسها وتقاليدها ومعتقدها. وقد تطلب ترسيخ الديمقراطية عقوداً من الممارسة والتشريع والتنظيم والتدرب على الإدارة الحكومية كما تطلب وجود الملوك والحكومات الديمقراطية كقوى ضامنة وراعية للتجربة ولوحدة البلاد في الوقت نفسه.
وكما أن ثقافة حكم القانون كانت الأساس لقيام الجمهوريات والملكيات الدستورية في المنطقة العربية فإن موجة الانقلابات التي أطاحت بتلك الأنظمة واحداً بعد الآخر – في ما يشبه موجة وبائية- دشّنت على العكس ثقافة مختلفة تماماً مناهضة لكل ما هو ديمقراطي، إذ كان أول ما قامت به هو حلّ الدساتير القائمة وفرض أنظمة لا تخضع لأي مساءلة وتسن بنفسها ما يناسب مصالحها من قوانين وتتدخل في القضاء وتصادر الممتلكات من دون حق وتغيّر وتبدّل في الحكم وفي الإدارة وفي الجيش وفي الأمن وفي التعليم بل وفي كتابة التاريخ.
وبالطبع، فإن الترويج لثقافة الطغيان تحت ذرائع “التقدم” و”التغيير” وما شابه والاستهانة بالكرامات والحقوق على مدى عقود طويلة أنشأ في حد ذاته “ثقافة” جديدة “لا ديمقراطية” متأصلة حتى في سلوك الناس العاديين أو الذين يطرحون أنفسهم كبديل عن الوضع القائم. وهذا هو ربما سبب ما بدا من تعثر “الربيع العربي” إذ إن القوى البديلة كما ظهر حتى الآن لا تملك ثقافة حكم ناضجة تعينها على إقامة بدائل أفضل مما هو قائم بل في بعض الحالات سعى بعض الذين ركبوا موجة الاعتراض والمطالبة بالحرية إلى إقامة أوضاع استبدادية لا تختلف كثيراً عن الأوضاع التي اشتكى الناس منها وتمردوا عليها.
برزت مع الوقت صعوبة إضافية ناجمة عن أن الذين حكموا بإسم الشعارات البراقة انشغلوا بملاحقة رجال الصناعات والمال وأهل الثروات بذريعة محاربة الاستغلال ثم طاردوا النخب الحيّة من رجال قانون وجامعيين ومفكرين وأدباء وقطعوا بذلك شرايين البلد واقتصاده وهجروا قواه المنتجة والمبدعة، وهذا التفريغ المنهجي لقوى المجتمع يفسّر بدوره ضعف المشاريع البديلة في بلدان “الربيع العربي” وعدم قدرتها على إبراز قيادات قادرة على التأسيس لبدائل ديمقراطية وليس لأوضاع تكون من جنس الأوضاع السالفة أو أسوأ منها.
لقد وصلت المأساة حداً يجعل المرء يتحسر فعلاً على أيام الملوك وعهود السلام والإزدهار التي سادت في ظل الأنظمة التوافقية المعتدلة التي نشأت في عالمنا العربي في تلك الحقبة، ولو أن أولئك الملوك ما زالوا بيننا الآن لطالب كثير من الناس بتوليتهم مجدداً. لكن مثل هذا الحل بعيد الاحتمال والفتن قد تطول ربما إلى أن يتعب الناس من هذا الاستنزاف العقيم الذي لن يأتي بخير لأحد فيبدأون بحكم الضرورة وحب البقاء البحث عن حلول تقوم على مبدأ الأمن على النفس والمال والعرض والإنصاف والإصلاح واحترام الإنسان وكرامته وهذا أضعف الإيمان، أما الديمقراطية المرجوّة، فشأن آخر قد يطول انتظاره.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading