شَرِيــــــفُ
فيّــــــاض
يَفْخَرُ الموحّدون الدّروز بأبطالهم ويكرّمونهم أعظمَ تكريمٍ وهم رُواةُ جيّدون للمعارك تفيض شاعريّتهم في وصفها وفي تسجيل سِيَرِ فُرسانها المُجَلّين ومآثرهم الخالدة، وهذا التّقليد الرّاسخ له جذوره في تاريخ الموحّدين الدّروز الذين فُرِض عليهم على مرّ القرون أن يدافعوا عن وجودهم المسالم في وجه شتّى أنواع التّعدّي وأنْ يعتنوا لذلك أشدّ الاعتناء بإعلاء قِيَم الشّجاعة واحتقار الجبن وتمجيد الإقدام والاستخفاف بالأخطار مهما عَظُمت.
في هذا السّياق بالتّحديد يجب أن نفهم الكلمات المؤثِّرة التي قالها الزّعيم وليد جنبلاط في تأبين المقدّم شريف فيّاض وقد حرص، وهو الذي كان في قلب المعارك والمواجهات في تلك الفترة، على ألّا يُغيَّب هذا البطل في التّراب مثل أيّ رجل عاديّ، وخَشِي أن يكون الزّمن الذي مرّ على تلك الأحداث المؤلمة قد ألقى بغبار النّسيان على أحد أهم رموزها فعمل بأسلوبه الخاصّ على أن يدخل شريف فياض سجلّ أبطال الحركة الوطنيّة والعشيرة المعروفيّة وأن يحصل بذلك على التّكريم الذي يستحقّه رجلٌ بذل معظم حياته المهنيّة وسنوات عمره من أجل أن يبقى الجبل ويبقى أبناؤه الأباةُ أعزّاء في أرضهم وفي وجه أعتى التّحدّيات.
قبل حرب الجبل بنحو خمس سنوات وبالتّحديد في العام 1978 ترك المقدّم فياض الخدمة في الجيش اللّبنانيّ الذي كان تحت سيطرة المارونية السّياسية وتسلّم على الفور مهمّة بناء الجيش الشّعبيّ الذي كان قد أصبح الأولوية المطلقة لوليد جنبلاط الذي كان يستشعر بحَدسِه السّياسيِّ الإعصار القادم على لبنان والمنطقة، فجعل بذلك من توفير البنية التّحتيّة الكاملة للدّفاع عن الجبل ووجوده مسألة في غاية الإلحاح. وفي المواجهات التي كان يرتقب حدوثها مع ميلشيات عالية التّسليح والتّدريب أو مع جيش لبنانيّ تتحكّم به المارونيّة السّياسيّة أدرك وليد جنبلاط أنّ الجواب يجب أن يكون في بناء قوّات شبه نظاميّة عالية التّسليح والتّدريب تكون هي قوّة الصّدام الأولى، وفي الوقت عينه قوّة الاحتراف والقيادة التي يمكنها أنْ تضبطَ وتُفعِّل إلى أقصى الحدود دور المتطوّعين والقوّات الشّعبيّة غير النّظاميّة. وكان شريف فيّاض في ذلك السّياق الرّجل المطلوب لتلك المهمّة الدّقيقة والصّعبة، إذ كان على هذا العسكريّ النموذجيّ أن يبني جيشاً مُحترفاً من الصّفر وأن يبني هيكليّته وهرميّته القياديّة وتخصّصات مجموعاته وأن يفاوض في موسكو أو في سوريا وغيرهما على سُبُلِ تسليحه وتدريب كوادره وأن ينسّقَ العمل اليوميَّ مع قوى الأمر الواقع الحليفة والسّوريّة وأن يتعامل بحِنكة وجرأة مع الخطر الدّاهم الذي تمثل بالاحتلال الإسرائيليّ- القوّاتي والاحتقان الشّديد الذي بدأت تولِّده استفزازات القوّات في القرى الدّرزية والمختلَطة.
ولَقَدْ عايش شريف فيّاض كافّة مراحل حرب الجبل بحلوها ومرِّها وحقَّق انتصارات وإنجازات بسبب كفاءته العسكريّة والقياديّة وتجرُّده وسهره ودأبه الشّديد في العمل. في كلِّ تلك المراحل تميَّز هذا القائد إلى طيب معشره وصلابته العسكريّة بالتكرّس التّام لعمله مع الزعيم وليد جنبلاط لأكثر من 38 عاماً متواصلة في كلِّ المواقع والمسؤوليّات التي طُلِب منه الاضطّلاع بأعبائها، وأبرزها بناء الجيش الشعبيّ وقيادة معاركه ثم أمانة السرّ العامّ في الحزب التّقدميِّ الاشتراكيّ، وقد قامت بين الرّجلين بمضيّ السّنين رفقة سلاح حقيقيّة ومودّة من النّوع الذي لا يمكن أن ينشأ إلّا في شراكة المعارك ومهنة بذل المُهَج.
هكذا حمل شريف فيّاض مجموع الخِصال التي يحملها المقاتلون الفُرسان تلك التي جعلت منهم دوماً مثالاً وقُدوةً للأجيال، فهو انبرى للدّفاع عن الحِياض بغريزة المُروءة والغَيْرَة على أبناء عشيرته وكرامتهم دون أن يُخالط جهادَه أيَّ غَرَضٍ شخصيّ ودونَ أن تذهبَ مآثرُهُ وأعمالُه بأصالتِه وبتواضعِه، إذ كان في نظر نفسه دوماً عسكريّاً لبّى نداء الواجب ليمضي بعدَها في حياته العاديَّة دون مِنَّة أو طمعٍ بجاهٍ أو أجر.
فُرِجَتْ .. رُبَّما!؟
لبنانُ المأزومُ يتابع عيشه المُعتاد. أزْمَةٌ اقتصاديّة، أزْماتٌ اجتماعيّة، شكوى من كلِّ شيءٍ تقريباً، انقسامٌ وطنيٌّ واستقطاباتٌ طائفيّة ومذهبيّة وشخصيّة، تحالفاتٌ مثل غيومِ تِشرين تتجمّع ثم تتفرّق، ثم تتجمّع ثانية.. لكن في هذا البلد فقط يمكن أن يطالعك المشهد الغريب في هذه الفترة السّوداء من تاريخ المنطقة العربيّة لانتخاب رئيسٍ في مجلس النّوّاب وبواسطة صُندوق اقتراع!
صحيحٌ أننا انتظرنا طويلاً، صحيحٌ أننا خسرنا كثيراً بسبب التّعطيل، لكنْ صحيحٌ أيضاً أنّه لم يكن ممكناً للرّئيس عون أو غيره أن يصبحَ رئيساً للبلاد بغير وسيلة اقتراع النوّاب. وهذا استثناءٌ يكاد يكون وحيداً في العالم العربيّ كلِّه حيث أكثر الأنظمة ملكية ووراثيّة وحيث جاء العديد من الرّؤساء أو الزّعماء من طرق مختلفة لكنْ ليس بينها اقتراعٌ حقيقي، أيْ على مُرشّحِين مُتنافسِين أو انتخابٍ في برلمان.
هناك الكثير من السّوداويّة والسّوداويّون اليوم، لكنْ علينا أن نعلم أنَّ العالَم في كلِّ مكان ليس في أحسنِ حاله، وأنَّ من الأفضل عند الحصول على نِصف كاسِ ماءٍ التمعّن في نِصفه الملآن بدلَ التّحسّر على النِّصف الفارغ، وهذه نصيحة في محلِّها على الرّغم من التّردِّي الذي بلغه حالنا، لأنَّ الكثيرين في المنطقة لم يعد عندهم أصلاً كأس ليتجرّعوا به الماء، وعندما يُمتَحن الإنسان بمصيبة فإنّ من أسباب السّلوى واحتواء الألم النّظر إلى مُصيبة غيره، ولبنانُ إذا قورن وضعُه بما حلّ ويحِلّ في المنطقة قد يجد أسباباًعدّة للسّلوى بل للحمد الكثير. ولا يعني ذلك أنّ الفضل يعود لنُضْجِنا السّياسيِّ في هذه الفُسْحة من الهدوء التي لا زالت متوافرةً لنا، بل الفضلُ هو لرحمةٍ من السّماء جعلت جملةً من العوامل المحلّيّة والإقليميّة تضعنا خارج هذه الفوضى المدمّرة حتى الآن. ولا ننسى أنّ هناك رغم هذا الجوّ الاحتفاليّ ناراً مشتعلةً في أطراف الثَّوب، وهناك من يقدح شَرَرَها في أماكن أخرى لكنَّ المِزاج اللّبنانيَّ العامَّ يبدو وقد مال إلى شيءٍ من التَّصالُح قد يتبعُه انفراجٌ وعودةٌ لِدَوَران عَجَلَةِ البلد وحياة النّاس إلى حالٍ من الاستقرار.
لهذا المُناخ التّصالُحِيّ، رغم أهميّة العامل الخارجيّ، قَدْرٌ كبيرٌ من الأسباب المحليّة أوّلُها أنّ اللبنانيين جميعُهم مَلّوا بالفعل التّعطيل المستمرّ المكلِف جدّاً للاقتصاد والعباد. والبعض الآخر منهم أصابه الوهنُ من مِهنة النّزاعات وهي مهنةٌ مُكْلِفَةٌ ولا نهايةَ لفصولها، وباتت بعض القوى اللّبنانيّة في حاجة ماسّة لإراحة قاعدتها الاجتماعيّة ومنحها فُسحَةّ للتّنفُّس واستذكار الحياة الطَّبيعيَّة بعد سنواتٍ من أوضاعِ استنفارٍ قلبت حياةَ النّاس رأساً على عَقب.
لكنّ العامل الأهمَّ الذي عزّز التّوجُّهَ نحو حلٍّ ومهّد الطّريق لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة هو ولاشكَّ عاملُ الاقتصاد. فالاقتصادُ اللّبنانيّ دخل دائرة الخطر الدّاهم بسبب انفلات شؤون الدّولة، والفساد، وتردّي الخِدْمات، وتوقُّف الاستثمارات، وتزايد عبء الدَّيْن وغيرها من مظاهر انحلال الدَّولة، وقد لعب مَصْرِفُ لبنانَ دوراً استثنائيّاً في محاولة سدّ الفراغ الحكوميِّ والإبقاء على درجة من الحياة في اقتصاد البلد، لكنْ كلّ تلك الجهود ليست أكثر من علاجات إسعافيّة ليس في مقدورها وقفُ النّزف والعجوزات المتراكمة. وربّما أدرك السياسيّون والقوى المتحكّمَة باللّعبة، وقد باتت لهم حِصّةٌ كبيرةٌ في كعكة الاقتصاد، أنَّ الانهيارَ سيصيبُهم هم كما يصيبُ الجميع، وأنهم قد يصبحون وزراء ونواب لكن في دولة مفلسة وفاشلة ما لم يبادروا هم إلى العمل بسرعة من أجل تدارك الموقف، وهم أدركوا بالتالي أنه لم يعد أمامهم مُتّسع لترف إضاعة الوقت والتسلّي بلعبة عض الأصابع بينما البلد يتداعى إلى الأركان.
وبحسبِ هذا التَّحليل فإنَّ انتخابِ الرّئيس ميشال عون (بتأثير تفاهُمات خارجيّة وتوافقات داخليّة) قد يكون عنوانِ انفراجٍ أوسع للمدى المنظور، وقد ينتج عن هذا الجوِّ الانفراجيِّ تأليف حكومة وفاقيَّة وتحريك عمل مجلس النّوّاب، والتّحوّل بكل جديّة للاهتمام بالاقتصاد ومالية الدولة وملفّات كثيرة حيويّة لم يَعُدْ من الجائز أو الممكن المضيّ في تأجيلها.
نتمنى لفخامة الرئيس التوفيق في مهماته على رأس الدولة.