الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كلّما رَقّ النّسيمُ كلَّما غَلُظ الطّبع

 

أدقّ ما أصاب السّهمُ هدفَه، القول الفلسفي الاجتماعي للفيلسوف الشهير ابن خلدون «كلّما رقّ النّسيم كلّما غلظ الطّبع» وذلك في مقدَّمته الشهيرة «ديوان العِبَر حول طبائع البشر» من حيث تأثير المناخ الجغرافي في الأماكن المرتفعة كالجبال والهضاب، كون النّسيم يرقّ ولا يسترق إلاّ في تلك المرتفعات وانعكاسها الكلّي على قاطنيها تصرّفاً وتفاعلاً وتخاطُباً وفي شتى ضروب الحياة وعبر التاريخ… وما جعلنا نؤمن كليّاً بهذا القول الفلسفي إذ بتنا نجد العديد من سكان القرى الجبلية، وبعد انتقالهم في العصر الحالي للسّكن في المدن الساحلية وتآلفهم مع بيئتها، قد تخلّصوا من تلك العادات والتصرّفات المستهجنة والتي كانوا يعيشونها لأزمنة طويلة.

أما الأمثال والعبر لفحوى هذا القول فهي متعددة وإن اختلفت مواقعها الجغرافية والقروية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما وصل إلينا منها إذا ما استعرضنا تاريخهم وعبرهم نجد العديد من المناكفات والانفعالات والمشاحنات وصولاً إلى المنازعات الكبرى والتي تؤدي للقتل والدمار والتشريد واليتم والفقر المدقع وما مردّها سوى قصر النظر وضيق العقل وعدم الرّويّة والمخالطة مع سكان الحواضر والمدن الأقرب إلى التمدُّن والتعليم وسلوك طريق المعرفة والخلاص من خلالهما.

فمثلاً بعد معركة عين دارة المشؤومة عام 1711 بين الدروز أنفسهم والتي كشفت كليّاً عن عقول متحجّرة بين الغرضِيّات والجماعات القبلية والمحلّية دون التفكير في الخسارة الكبرى التي ألمّت بسكان الجبل جميعهم إذ أفقدتهم قوّتهم العسكرية وعزّتهم الكيانيّة وكرامتهم الذّاتية وحتى حكمهم للشوف وتوابعه ليصبح الجميع أتباعاً وليسوا متبوعين. هذا بالنسبة للوجهاء والزعماء والشيوخ فكيف حال الفلاحين والفقراء والمحتاجين الضعفاء والذين اسودّت الدنيا في وجوههم فيمّموا إلى جبل حوران حيث سبقهم إلى هنالك أهلهم وأقاربهم.
شوفانيّ ما، بعد أن ضاقت به سبل العيش قرّر الانتقال إلى تلك الديار، أثناء سيره في سهل حوران ترافق مع بدوي وعند وصولهم إلى أحد مضارب البدو في السهل المذكور تقدّم البدوي من أحدى الخيم وطلب شُربة ماء، فخرجت فتاة حسناء بقدّها ووجهها الجميل وناولته قربة الماء… شرب البدوي وقال: التي لا نعرف اسمها لا نرمي السلام عليها..

أجابته الفتاة الحسناء: «في قبضة سيفك يا أخوي». وكان يتدرّع سيفه في وسطه. أجابها البدوي: السلام عليك يا فِتنة، كون السيف في أغلب الأحيان فتنة للقتال والشّر. غير أن البدوية أرادت أن تردّ السؤال بالمثل فقالت: ونحن أيضاً لا نقول هنيئاً للذي لا نعرف اسمه. أجابها البدوي من جديد: في وجهكِ يا مزيونة. قالت الفتاة والانشراح بادٍ عليها: هنيئاً يا جميل. أجابها الشوفانيّ وبعصبيّته المعهودة: « أنا عمّك بو قاسِم عالدّغري وعلاك بدّاوي بدّاش». ثم أكمل طريقه فيما بعد إلى أن وصل إلى مشارف بلدة عتيل قرب السويداء حيث التقى براعٍ يرعى غنمه فما كان منه إلاّ أنْ بادره بما يشغل باله ويدقر عنده عقله فخاطبه سائلاً: هل أنت قيسي أم يمني..؟ ضحك الرّاعي مطولاً وبعد فراغه من ضحكه واستهتاره بسؤال صاحبه أجابه: «والله يا خوي أنا سارحٌ مع غْنِمي»..

أما العِبَر التي عاصرتها في منطقتنا المحاذية لجبل الشيخ فمنها: أنّ رجل دين مسالم قُتل عام 1950 وهو في طريقه إلى بلدة «عُرنة» في المقلب الآخر من الجبل ودون أيّ ذنب، والذي أقدم على قتله راعي ماعز متحجّر العقل والفكر وكان يُلقب «أبو الحِن»، وحيال مثوله أمام القضاء استدرجه المُستنطق للاعتراف بجريمته النكراء قائلاً: «حقاً وصدقاً قد تأكد لنا أن القتيل كان يهودياً كونه أشقر اللون والشعر ويستحق العذاب والموت، لكن استحلفك بالله كم عصاً ضربته حتى مات؟» الرّاعي وبغفلة منه أجاب على الفور: «والله يا سيدنا مئة عصا وعصا ثم (دركبته) من رأس الجبل حتى أسفله وعند تفقّده وجدته قد مات».

في هذا الصدد كان يردد ويقول النائب والمحامي الأستاذ نسيب غبريل والذي كان يتوكل في العديد من الدعاوى المقامة بين السكان من رعاة وفلاحين وسواهما قاطني تلك النواحي أنّ سبب قساوة التعامل وسوء التصرف والكلام الفجّ في التعبير بين الفرقاء والنتائج والعواقب الحمقاء مردّه إلى طبيعة أرضهم ووعورة مسالكهم، وارتفاع جبالهم وانخفاض وديانهم، مما ينعكس ذلك على طبع وتصرفات أبنائها، كما وأن حياة هؤلاء بأكملها في البراري التي يسرحون فيها مع طروشهم، فمن أين تأتي المعرفة واللّياقة ومن أين يتلقَّوْنها، فلا مدارس ولا تواصل بينهم وبين أبناء المدن في وطنهم لهذا كانت عقولهم وآفاقها لا تتعدى سوى مراعي حيواناتهم.

أمّا في العصر الحالي، فالجهل هو الجهل قديماً أم حديثاً، وحيث إنّ العلم والمعرفة قد أصابا الجميع ومنهم سكان الحواضر والمدن عند السواحل أو في السهول الشاسعة، يبقى الجهل عند البعض مسيطراً وملازماً وسببه أن الجهل هو الجهل، وأسبابه متعددة ومتشابكة لأنّ الذين يتضلعون به أناس إمّا لم يدخلوا المدارس أو المعاهد مطلقاً، أوهم فقراء ومحتاجون ممّا يشجع البعض من رجال السياسة على استغبائهم والسيطرة على عقولهم لحاجتهم المادية إليها، فيحملونهم على الإقدام لارتكاب أعمال مُشينة وخطرة تجاه أخصامهم كالاغتيال والتصفية والقيام بأمور مُستَغرَبة حيث تسيء لسيرتهم وتعرقل مسيرتهم الاجتماعية. كذلك مثل البعض يرَون كلّ من لم يتّبعهم ولا يأتمر بأمرهم هو عدوٌّ لهم، ومثال على هذا فإنّه عقب اغتيال أحد الرؤساء العرب؛ سأل القاضي القاتل: لماذا أقدمت على ذلك؟ فأجابه: لأنّه علماني.. قال القاضي ويعني أيه علماني؟ أجاب القاتل: إنه يكره الدين، قال القاضي غير أن الرئيس كان يؤم الجوامع ويصلّي نهار الجمعة مع الجماعة؟ أجاب القاتل: هذا لا يكفي فعليه محاربة كلّ من هو غير مسلم.

الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ

وفي حادثة محاولة اغتيال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ سأل القاضي المجرمَ الذي طعنه: لماذا طعنته؟ فقال الإرهابي: بسبب رواية أولاد حارتنا. قال القاضي: هل قرأت روايته أولاد حارتنا وما هو تعليقك عليها؟ أجاب القاتل: لا ولا أحسن القراءة..

وسأل قاضٍ آخر الإرهابي الذي قتل الكاتب المصري فرج فوده: لماذ اغتلت فرج فوده؟ أجاب القاتل: لأنه كافر. قال القاضي: وكيف عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: من كتبه. قال القاضي: أيّاً من كُتبه عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: أنا أميّ ولا أحسن القراءة.

العقل الضّيّق وحدوده

إنّه الجهل؛ وما أكثر أصحابه بين أبناء البشر قديماً وحديثاً وحيث إنّ العديد من أولئك البشر إنّما يكون إدراك عقولهم عند حدود أماكنهم البيئية، أو مساكنهم الريفية، لهذا فلا تجد مجالاً للمناقشة بل تقف أمام حائط مسدود، لا حول ولا قوّة ازاء ذلك. وما العبرة التي قدمها أبو علماء الاجتماع، ابن خلدون، عن هكذا حالات إلّا أصدق تعبير وأفضل تقدير:
قيل: «كانت ضفدعة تعيش في بئر صغيرة وُلدت فيها وبقيت تعيش فيها، وذات يوم سقطت في البئر ضفدعة أخرى كانت تعيش على شاطىء البحر، فدار بينهما الحديث التالي:
ـ من أين أتيت؟
– من شاطئ البحر؟
ـ هل هو كبير؟
– أوّاه طبعاً إنّه كبير جداً..
ـ وهل هو أكبر من هذه المسافة؟، بعد أن فتحت رجليها عن بعضهما..
– إنه أكبر بكثير..
فَغَرت ضفدعة البئر فاها من فرط الدهشة، ثم التفتت إلى رفيقتها سائلة: أتعنين أنّه بحجم البئر التي أعيش فيها؟ – أجابتها ضفدعة البحر: كيف يمكنك يا صديقتي تشبيه البحر ببئرك هذه..؟
عندها استغرقت ضفدعة البئر في تأمل عميق ثم قالت بينها وبين ذاتها: كلاّ لا يمكن أن يوجد مكان أكبر من هذه البئر، إنَّ هذه الضفدعة تكذب عليّ وتريد أن تتلاعب بعقلي وعليّ إمّا طردُها أو قتلُها فوراً…

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي