الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشيخ الفاضل عند أحمد كجك باشا

الشيخ الفاضل عند كجك أحمد
الشيخ الفاضل عند كجك أحمد

يروي مؤرخو الشيخ الفاضل محمد أبي هلال الذي عاصر الأمير فخر الدين الثاني ومنهم الشيخ أبو علي عبد الملك الشافعي الحلبي والمؤرخ عجاج نويهض في كتابه التنوخي هذه المأثرة عن هذا الشيخ الجليل الذي يحتل مكانة خاصة في ذاكرة الموحدين الدروز ومذكراتهم.
«عندما قَدِم كجك أحمد إلى بلادنا في حملته لمهاجمة الأمير فخر الدين المعني لم يفرّق هذا الطاغي بين الأمير وأتباعه المسالمين، بل عمد إلى إلحاق الضرر بالجميع ومن دون تفرقة. وبينما كان منشغلاً بحملة التنكيل بأبناء الجبل جاء من أخبره أنه يوجد شيخ ناسك متعبّد جليل الفضل والتقوى، يعيش في قرية شويا قرب حاصبيا ويُدعى الشيخ الفاضل وإذا اعتقلته فإن أتباعه يفدونه بالغالي والنفيس من مال وحلال فتحصل بذلك على المال الوفير.
كان الشيخ الفاضل في تلك الحقبة قد أصبح علماً روحياً وقدوة للأنام باعثاً لنهضة روحية حتى غدا المرجع الأول لشتى أبناء طائفة التوحيد، وأينما وجدوا من الجليل إلى الجولان إلى لبنان إلى جبل السماق مروراً بوادي التيم وصولاً إلى جبل لبنان كان توجههم إلى الشيخ الفاضل يعملون بوعظه وتعاليمه ويتناقلون الروايات والعبر عن زهده وتقواه ومسلكه الطاهر.
علم الشيخ الفاضل بنبأ الوشاية وبإحتمال القبض عليه من قبل قائد الحملة العثمانية فعمم حرماً على جميع أبناء التوحيد مفاده بالحرف الواحد «لو قدّر الله تعالى عليّ ووقعت بين يدي ذاك السفاح، فحرامٌ على من يدفع قرشاً أو مصريّة لأن الروح مقصّرٌ عنها أما الجسم فليفعل به ما يشاء وخلاصي بذلك».
أخذ كجك أحمد برأي الوشاة وأرسل عدداً من جنوده إلى قرية شويا لاعتقال الشيخ، وعند وصولهم إلى منزل شيخ القرية من عائلة انقرضت في ما بعد، أرسل هذا من أرشدهم إلى الكهف الذي يعيش فيه الشيخ وهو يقع جنوب البلدة لجهة بلدة الهبارية، ولتاريخه ما زال هذا الكهف مزاراً للموحدين.
وصل الجنود إلى الكهف الذي يقيم فيه الشيخ فوجدوه بمفرده مستغرقاً في صلاته وسكينته غير آبه بما يجري حوله، لم يبال هؤلاء الجنود بجلال الشيخ ولا بحرمة المكان وتوجهوا إليه بغطرسة القوي وأمروه أن يقدم لهم الطعام على اعتبار أنهم قادمون من مكان بعيد وقد بدأ الجوع ينهشهم. كان طلب الجنود على سبيل التعجيز لأن الشيخ كان وحيداً وقد افترضوا أنه لا يوجد لديه أي زاد يكفي لإطعام رهط من العساكر.
لكن الله عزّ وجل كان قد يسّر للشيخ الطاهر جماعة كبيرة من النحل اتخذت بيتها في سقف الكهف وكانت أقراص العسل التي بنتها كبيرة فعلاً وكانت تفيض عسلاً يقطر وينساب إلى أرض الكهف، وكان لدى الشيخ الفاضل قصعة يضعها على الأرض ليجمع فيها ما يتنزل من ذاك العسل وكان الشيخ يأكل منه أحياناً ويقول «لحلاله وليس للذته أو طيبه»، أي أن ما جعله يرغب في أكله هو أنه رزق حلال من الله تعالى وليس لإرضاء شهوة النفس بتناول العسل الشهي.
ردّ الشيخ على السلوك الفظ للجنود بأن وضع الصحن أمامهم وما تيسّر له من خبز كان يحتفظ به. استمر الجند في موقف الغطرسة وسخروا من ضيافة الشيخ وأمروه بأن يملأ الصحن بأكمله لأنهم كثر. لكن الشيخ أجابهم «كلوا يا أحبائي عندما يفرغ الصحن سنملؤه». بدأ الجند يأكلون من الصحن والصحن لا يفرغ من العسل كأن يداً لم تمتد إليه، بعد قليل تبدّلت حالهم وسيطر عليهم وجوم وأدركوا أنهم في حضرة أحد رجال الله فخاطبوه عندئذ قائلين: «يا شيخنا لا شك أنك ولي من أولياء الله، لكن الأوامر هي أن نأخذكم إلى الوالي في دمشق».
نهض الشيخ بتؤدة ومشى أمامهم من دون أن يبالي أو يعتريه أي وجل. أثناء الطريق طلب أحد الجنود من الشيخ أن يعظهم فاستجاب لطلبه وبدأ يشرح له «الفاتحة» ابتداءً بكلمة «الحمدُ» وبقي الشيخ الفاضل في شرح أول حرف من حروف سورة الفاتحة طيلة الطريق وكان لا يزال في شرح كلمة «الحمدُ» عند وصوله مع الجند إلى مجلس كجك أحمد في دمشق، علماً أن المسافة بين شويا ودمشق تستغرق أكثر من نصف نهار.
تقدّم أحد الجنود من الوالي ثم ركع وخفض رأسه وقال: «مولاي إقطع رأسي بدل رأس هذا الولي الطاهر لأنه في الحقيقة ليس رجلاً عادياً، فقد حصل معنا ما يشبه المعجزة فقد أكلنا جميعاً من صحن العسل ولم يفرغ من محتواه، كما إن الشيخ ابتدأ بشرح أول كلمة في سورة الفاتحة (الحمدُ) من بلدته شويا ولم يفرغ منها لتاريخ وصولنا إلى هنا».
إندهش الوالي أيّما اندهاش، ثم طلب من الشيخ الصفح والعفو عن سوقه بهذه الطريقة ثم أخلى سبيله وسمح له بالعودة إلى قريته.
ويكمّل المؤرخ عجاج نويهض سرده لتاريخ الشيخ فيقول: « إن الشيخ الفاضل ندم مرة في حياته، وذلك لبنائه مطحنة عند نهر الحاصباني، حيث اعتبر ذاك العمل تعلقاً بالدنيا وانشغالاً عن الآخرة. وهذه الطاحونة تقع في أرض قريتنا الفرديس عند مجرى نهر الحاصباني وتُعرف بإسم مطحنة الحسنة كون الشيخ الفاضل أوقف ريعها لخلوات وادي التيم، وقد روى أمامي صاحبها أنها كانت موقوفة من خلوة ينطا شمالاً إلى خلوة بلدة الماري جنوباً، وليس بزمن بعيد اشترى القسم الخاص بخلوات البياضة بعد أن كان والده قد اشترى الأقسام السابقة.
كما يروي عن لسان والده المرحوم الشيخ محمود سليقة أن القسم السفلي من البناء الداخلي للطاحونة حيث تصبّ المياه ليدار الدولاب الحديدي والذي بدوره يدير حجر الطاحونة أي ما يُعرف بلغة أصحاب المطاحن «بالبير» لم يزل لتاريخه من بناء ذلك الولي الطاهر.
ويكمل صاحب الطاحونة عن قدسيتها فيقول إن والده قد أوكل بها رجلاً من غير دينه كي يستغل مردودها ثم أوصاه أن لا يأكل لحم الخنزير أو يشرب الخمر أو يتعاطى المسكر في داخلها.
لكن الرجل المذكور وبعد مدة من الزمن خالف الوصية فذبح خنزيراً وتعاطى الخمر في المطحنة.
وذات يوم طلب الرجل إلى إبنه أن يصعد إلى أعلى المطحنة ويقطع الماء عن حجر الطاحونة كي يوقف دورانه، غير أن الصبي سقط في الماء من علو سبعة أمتار داخل الكوة التي يتساقط منها المياه على الدولاب الحديدي وعندما طافت المياه ودخلت إلى داخل المطحنة ركض البراك ونزل إلى داخل البير ليجد ولده متدلياً من الكوة، ثم أخرج الصبي وهو مغمى عليه. لكن بعد الاستغفار عادت الروح إلى الصبي وعاد الرجل إلى رشده ليرمي موبقاته في المياه متعظاً من كرامة صاحب المطحنة ثم أكمل توبته بوفاء النذر لخلوات البياضة وسواها من المزارات الروحية.

«أنت لا ظالم ولا عادل»

أنت لا ظالم ولا عادل
أنت لا ظالم ولا عادل

هذا ما أجاب به التقي النقي، العالم العابد، الناطق بالحق دفاعاً عن الكرامة والعرض والأرض صاحب السماحة شيخ عقل الموحدين في حينه الشيخ حسين ماضي الذي فاجأ جزار عكّا بإجاباته اليقينية وبصيرته وجرأته الفذّة. قبل تلك المواجهة بين الرجلين كان الأمير يوسف الشهابي قد تنصر سراً وهو أول من تنصر من أمراء السلالة الشهابية، وكان أن أراد الأمير إذلال الموحدين الدروز وعقالهم فقرر فرض ما سمي يومها «ضريبة الشاشية» على العقال الدروز. و«الشاشية» هي القماش الأبيض الذي يلفه العقال حول طربوش فينتج عن ذلك عمامة يتوجون بها رؤوسهم وهي العلامة المميزة للعقال الدروز عبر الأزمنة. وكان من خبث الأمير أو من أشار عليه بهذه المكيدة أنه لم يجرؤ على تسمية الضريبة بالضريبة على العمائم أو «اللفة» بلغة العقال فجعلها ضريبة على القماش الأبيض الذي يستخدم لإنتاج العمامة. وكان الأمير يعتقد أن الضريبة يمكن أن تحقق له أموالاً كثيرة لأن جميع الموحدين الرجال كانوا يعتمرونها ابتداءً من سن الخامس عشرة فكان يمكن أن تستحق بالتالي على معظم الرجال منهم.
ورداً على هذا السلوك الدنيء تداعى أعيان الدروز إلى اجتماع في نبع الصفا للبحث في كيفية مقاومة الضريبة وإسقاطها، وبعد التداول والتشاور قرّر المجتمعون رفع عريضة إلى الجزار وإرسالها مع وفد وفحواها يتضمن المطالبة بإلغاء تلك الضريبة المفروضة على المشايخ، وطرد الأمير يوسف من الإمارة لأسباب عديدة منها ارتداده عن الدين الحنيف وضعف شخصيته وقراراته أمام بعض أعوانه ومستشاريه والتلاعب بمصير البلاد والعباد.
وقبيل انفضاض ذاك الاجتماع حضر شيخ عقل الدروز آنذاك الشيخ حسين ماضي معتذراً عن التأخر لأسباب خارجة عن إرادته، وبعد أن عُرضت عليه مقررات الاجتماع، أبى إلا أن يكون هو الذي سيقابل الجزار ومهما تكون المحاذير.
عند وصوله إلى مقر الجزار في عكا، أذن له بالدخول على الوالي، فسلم عليه وقدّم له العريضة ثم أكمل شرح مضمونها بذاته مع تقديم الولاء والطاعة للباشا من قبل جميع الدروز وأعيانهم.
نظر الجزار مليّاً في العريضة ثم بادر الشيخ حسين ماضي قائلاً: طلباتكم مقضاة أيها الشيخ الجليل شرط أن تجيبني على سؤالي.
قال الشيخ: تفضل يا صاحب الأمر ما هو سؤالكم..؟
قال الجزار: ما رأيكم هل أنا ظالم أم عادل..؟ وهذا السؤال يُقال إنه كان يبادر به الداخلين عليه سواء كان احتجاجاً على بعض عمّاله أو لأي أسباب أخرى، وكان قراره المضمر التخلص منهم عبر إيجاد بعض الأسباب أو الحجج، بحيث يتم إيقاع القصاص بغض النظر عن جواب الرجل سلباً أم إيجاباً.
أجاب الشيخ حسين ماضي دون تردد وبكل رصانة ووقار: أيها الوالي الكريم. « أنت لا ظالم ولا عادل».
دُهش الجزار لهذه الإجابة ثم سأل الشيخ بعد إمعان طويل: كيف ذلك؟
قال الشيخ: حضرة الوالي، ما أنتم إلا عبدٌ بين يدي الخالق الديّان، وما هذه الجموع التي تأمرون بقتلها سوى أصحاب نفوس قد أشركت وكفرت بخالقها بعد أن ضلّت الطريق القويم وتعاليم الدين الحنيف، فاستحقت العقاب السماوي، وكان تنفيذ ذلك على أيديكم بأمر سريّ ذاتي من الخالق عزّ وجلّ.
زادت دهشة الجزار لبلاغة الجواب وحصافة الشيخ، ثم افترّ ثغره بعد أن هزّ برأسه مطولاً قائلاً:» يا شيخنا الجليل، لا شك أن إجابتكم هذه من عمق إيمانكم، فطلبكم مقضيّ ورغبتكم مطاعة… ثم أمر أحد غلمانه أن يقدّم هدية للشيخ عبارة عن كيس مليء بالنقود، أي ما يُعرف عند الملوك (بالسنيّة).
أجاب الشيخ بعد أن شكره على هذه الهدية القيّمة قائلاً: إنه لم يحمل المال طيلة حياته، وليس بحاجة إليه كونه لا يأكل إلا من كدّ ذراعه ومحصول رزقه وعرق جبينه. بعدها قدّم له عباءة صوفية.
شكر الشيخ البادرة الكريمة لكنه اعتذر عن قبولها بالقول: «لتاريخه لم أرتد فوق جسدي الفاني أي لباس إلا من حياكة نولي وربما أحد أتباعكم أحق بها منّي» .
ردّ الجزار بالقول: يا شيخنا لا أرضى إلا أن تقبل منّي هدية فهل تقبل هذا المصحف الكريم؟
سُرّ الشيخ لهذه الهدية الثمينة ثم قبّل المصحف ووضعه في صدره وقال: « ليس أثمن من هذه الهدية سوى العمل بموجبها» ثم انصرف حامداً شاكراً تصرف الجزار ومنته برفع ضريبة الشاشية، والشكر في قرارة نفسه لخالقه وعزّته. وقبل وصول الشيخ إلى الشوف عائداً عرف بخلع الأمير يوسف وتعيين الأمير بشير قاسم الشهابي مكانه مع إلغاء الضريبة وكأن شيئاً لم يكن من قبل.

الذهب امتحان الرّجال

الذهب امتحان الرجالa
الذهب امتحان الرجالa

ما دامت الأموال للتّرك جميعها فما بالُ متروكٍ به المرء يبخل
الإمام الحسين (ر)

الرجال ُ الرجال هم دُرر الزمان ومهما تعاقبت العقود والأعوام، باقون ماثلون قدوة بين الأنام.
هكذا كان مثل الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز بين مجتمعه وعشيرته، كرماً ورجولةً وإقداماً.
من بعض مآثره روى أمامنا الشيخ قاسم خير الدين، وكنّا نتجاذب الأحاديث في حانوته، قال: تشاءُ الصدف أن يزور الشيخ حسن جمّاز صديقه الحاج محمد أفندي العبد الله في بلدته الخيام أوائل الثلاثينات.
أثناء تواجده عند مضيفه طرق الباب مساءً شابٌ من آل أبو جبل من بلدة مجدل شمس وقصده الضيافة والمنامة.
بعد السهر والتسامر حديثاً وضيافة، فرش الحاج لضيفيه في غرفة الضيافة وتركهما يخلدان للنّوم.
مع الصباح نهض الشاب وقصده الخروج باكراً، لكنه عندما فتّش جيوبه لم يعثر على ثلاث ليرات ذهبية كان قد أحضرها لأمر خاص به.
تمتم وهمهم وقطّب الحواجب، وأخذ يغدو ويروح في أرض الغرفة، بعد أن تفوّه بكلامٍ مبطّن غير معهود، وكأنه يوجّه الاتهام للشيخ النائم شريكه في غرفة الضيافة.
استفاق الشيخ على همهمته مندهشاً مستغرباً لما سمعته أذناه، ثم استفسره بالقول، ماذا تقصد يا بنيّ؟
أقصد، أنه كان بحوزتي ثلاث ليرات ذهبية، فأين هي؟ لقد فتّشت ثيابي، وقلّبت الفراش الذي أنام عليه وحتى البساط المفروش ولم أجدها.
قال الشيخ: هل أنت متأكد أن الليرات كانت في جيبك عند مجيئك إلى هنا وإخلادك للنوم؟
نعم .وحتى انني تحسّست موضعهم في جيبي قبل النوم.
إذاً لربما تقصدني بالتهمة؟!
سكت الشاب بعد أن قلّب راحتيه وقال: لربما كان صاحب المنزل أو أحد أفراد عائلته.
كأن صاعقة سقطت على الشيخ الذي صرخ بالشاب: إلى هنا وصلت وقاحتك، فهل جُننت؟ وهذا جزاء الضيافة والمنامة؟؟ ثم سأل الشاب الأرعن:
كم فقدت .. أفصح .. كم فقدت ؟؟
أجاب: ثلاث ليرات عصملية «أي عثمانية».
انتظرني حتى آتيك بهم، فأنا السارق وكفى…
خرج الشيخ إلى صديقه الحاج الذي كان جالساً في الجناح الآخر من المنزل وانزوى به قائلاً : إنني بحاجة إلى ليرتين ذهبيتين لأمر مهم وقريباً سأعيدهم لك إذا قدّر الله.
غاب الحاج قليلاً ثم حمل إلى الشيخ عشر ليرات بدل اثنتين وقال: خذها فإنني بغنى عنها.
شكر الشيخ ضيفه وأجابه: إنني بحاجة إلى ليرتين لا غير ..
عاد إلى الشاب وناوله الليرتين الذهبيتين مع ليرة ذهبية كانت بحوزته وقال: أعتقد أن حقك قد وصلك ومع هذا إذا كنت عائداً لبلدتك فسلّم على صديقنا الشيخ كنج أبو صالح، ورجائي الوحيد أن لا تخبره بما حدث…
هذا السلام المستغرب أثار حيرة الشاب وأخذت الأفكار تتسارع في مخيلته بين التصديق والتكذيب لما حدث، وكيف تحدّث مع رجل بهذا القدر، لكنه بقي على شكوكه وكان يخاطب نفسه:: «إذا لم يكن الشيخ قد أخذ الليرات فمن أين جلبهم؟؟ المهم أنني استعدت مالي!!
في طريق عودته، تذكّر أنه بعد خروجه من منزل أقاربه في بلدة الماري استظل فيء إحدى الأشجار قرب نبع (القرشة) بعد ان رفع رجليه فوق صخرة متواجدة هناك قصد الاستراحة من عناء السير.
لذا، قرر المرور بالمكان الذي استرخى عنده لعلّه يكون قد أساء الظن فيجد هناك ما فقده. فكّر بذلك لـ «قطع الشك» كما يقال إذ إنه كان على يقين بأنه تحسس الليرات الذهبية في جيبه قبل أن يخلد إلى النوم في بيت مضيفه.
لكن حدث أن وجد الشاب ليراته الذهبية على الأرض في المكان الذي قصده للإسترخاء وبدا أن النقود انزلقت من جيبه عندما رفع رجليه ليريحهما.
صعق الشاب وتمنى عندها فعلاً لو أن الأرض تنشق وتبتلعه في ظلماتها.
أنّب نفسه كثيراً وأحس بالفضيحة تزلزله وأدرك حجم الإثم الذي ارتكبه بحق ذلك الشيخ الجليل وبحق ضيفه.
قرّ رأيه على أن يذهب فوراً إلى منزل الشيخ كنج أبو صالح قبل الوصول إلى بيته، ثم دخل عليه وحيّاه قائلاً : يا شيخنا، لا أعرف من أين تأتي المهابط.. وكيف يجلب الإنسان لنفسه الذلة والإهانة وقلة الكرامة …
خير إن شاء الله، ما بك يا بني ؟ أجاب الشيخ كنج أبو صالح.
تنهّد الشاب وقال:
أولاً أبلغك السلام من صديقك الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز، وفي الحقيقة لا أعلم كيف سأقابله لأعتذر منه، وحتى إذا سمح لي بأن ألثم حذاءه.
قال الشيخ: أفصح يا بني ما الذي جرى لك؟؟
هزّ الشاب برأسه بأسى وأخبره بما حدث له من الألف حتى الياء كما يقولون.
هوّن عليك. قال الشيخ كنج وإن تكن فعلتك كبيرة ولا يماثلها في الحقيقة إثم حتى أنني لم أسمع بمثلها حتى هذه الساعة. إذ كيف سمحت لنفسك بتخوين شيخ وقور مؤمن صادق، كالشيخ أبو يوسف، وكيف قبلت النقود منه قبل أن تتحقق من أنك أضعتهم فعلاً؟؟ إنه سوء حظ وقلة توفيق حقاً.
صدقت .. صدقت .. يا شيخي الكريم، لكن ما العمل وكيف يمكنني أن أكفّر عن هذا الفعل الشنيع؟؟ كيف سأقابله وليس بإستطاعتي المثول أمامه أو النظر إليه، وطلب الصفح منه وردّ الدراهم؟؟
تفكر الشيخ كنج ثم قال: إذهب إلى بلدته شويا فستجده قد عاد ليأخذ ما استدانه كي يعيدهم إلى صديقه لاعتقادي الكامل أنه قد أخذهم منه. إذهب على الفور ولا تتأخر وبلّغه سلامنا، وأخبره مفصلاً بما حدث معك، وقُل الصدق ولو فيه المشقة، ثم اعتذر إليه وقبّل يديه وجبهته وقل له هكذا أوصاني صديقك أبو كمال.
واعلم يا بني أن الرجال الكبار أمثاله إنما كبر مقامهم في عشيرتهم بسبب رجاحة عقلهم وسعة حلمهم. ثم ذكر له أن الشيخ المظلوم تبرع يوماً بخمس ليرات ذهبية لنازحين من أبناء منطقته إلى بلاد الجليل بعد ثورة الـ 25 رغم كونه مهجّراً ووضعه المادي صعباً للغاية وأبلغه أيضاً أنه دفن ولده سليم وشقيقه قاسم بيديه في أرض المعركة قرب مرجعيون خلال ثورة الخمس والعشرين، وعندما عاد إلى بيته مع رفاقه الثوار طلب إلى زوجته إحضار الطعام كي يأكل الجميع، قبل أن يخبرها أنه فقد فلذة الكبد وعينه اليمين.
بعد سماع كل هذه الأنباء والمآثر عن الشيخ توجه الشاب إلى بلدة شويا وهو يضطرب خجلاً وعند وصوله رمى بنفسه على قدمي الرجل محاولا أن يقبّل رجليه لكن الشيخ أبو يوسف ردعه مستهجناً قائلاً له:
استغفر الله، استغفر الله، هذا لا يجوز.
ثم قصّ الشاب له ما حدث معه وكيف أوصاه صديقه الشيخ أبو صالح بالعودة فوراً وتقديم الإعتذار قبل الدراهم آنذاك.
تبسّم الشيخ أبو يوسف وقال: إجلس يا بني، إجلس. سامحك الله وأبرأ ذمتك. ولتكن فعلتك كما يقول المثل «لكل نفس غفلة، ولكل فرس كبوة.»

أقوال في المروءة
وعلو الهمّة

أربعة تؤدي إلى أربعة :
1. الصمت إلى السلامة.
2. البــــر إلى الكرامــة.
3. الجــود إلى الســـيادة.
4. الشـــكر إلى الزيــادة.
أربعة تعرف بأربعة:
1. الكاتب بكتابـــه.
2. العالم بجوابــــه.
3. الحكيم بأفعالـــه.
4. الحليم باحتمالـه.
أربعة لا يخلو منها جاهل:
1. قــــول بلا معنـــــى.
2. فعــــل بلا جــــدوى.
3. خصومة بلا طائــل.
4. مناظرة بلا حاصـل.
أربعة من علامات اللئيم:
1. إفشاء الســــر.
2. اعتقاد الغــدر.
3. غيبة الأحرار.
4. إساءة الجوار.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading