السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مأساة اليهود العرب في اسرائيل

المَشـروعُ الصّهيونـــيّ
ومأساةُ اليَهود العَرب

نصوص للكاتب الإسرائيليّ العراقيِّ الأصل رَؤُبين سنير

المؤسّسة الصّهيونيّة تتعامل مع الثّقافة اليهوديّة – العربيـــّة كما لو كانت وباءً يجب عزل المُصابين به عن المُجتمع

أجبر النّظام التّعليمي الإسرائيليّ أبناء الأسر اليهوديّة العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنه محرقتهم الذاتيّة وألقى بالهويّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إســرائيل في ســلّة مهملات التّاريخ
(رؤوبين سنير)

تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.

[su_accordion]
[su_spoiler title=”النص الأول” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مأساةُ اليهودِ العرب في إسرائيل

اكتشاف الهُوِّيّة اليهوديّة – العربيّة
كانت توبتي في “باب التّوبة” من “الرّسالة القُشَيْرِيّة” يَرِدُ القول إنّ الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التّوبة (وربّما أضحى ذلك واحداً من هُوّيّتي المُبتكرة الحاليّة) يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1984، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالساً في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللّغة العربيّة حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صِرت أتقن العربيّة، محرّراً للأخبار توفيراً للُقمة العيش. أمّا في أبحاثي الأكاديميّة فكنت منهمكاً في تحقيق نصوص الزُّهّاد والصّوفيين القُدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس – لم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أيّ حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبريّة (وهناك من يُصرّ أنّ هذا التصوّر ما زال سائداً هناك حتى الآن) هو أنّ العرب المعاصرين ليسوا إلاّ “ أمّة بائدة”، أي أمّة ذات ماضٍ عريق حضارياً، ولكن بلا شيء ذي قيمة حالياً. في ذلك اليوم الشّتائي، أبلغَنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904-1984) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مُقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فوراً بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العِبري، إذ ظننت أنّ من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونيّة المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العبرية أيضاً خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. “أنور مَنْ؟” سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنّها سرعان ما قالت: “هذا لا يعني مستمعينا بتاتاً” لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرا يهودياً عربيّاً آخر هو مراد ميخائيل (1906-1986) ، ثمّ في السّنوات اللاّحقة أدركت المنيّة المزيد من الشّعراء والكتّاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933-1997)، يعقوب بلبول (1920-2004)، إسحاق بار موشيه (1928-2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأُصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، و أدعو كل من يعتقد أنّي أبالغ بحكمي النّقدي أنْ يحتفظ بتحفّظاته إلى أنْ يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة “نزولة وخيط الشيطان” التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم ممّا حدا به، قبل موته المُبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عُزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: “لا أعتبر نفسي كائناً حيّاً في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنّني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)”. ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910-2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924-2006) في حيفا.
لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عُرضةً لمؤسّسة ثقافية عبرية ــ صهيونية سائدة، فَرضت هيمنتها المُطلقة على كافّة الكيانات الثقافيّة الأخرى تحت قناع اللّبيرالية اليساريّة، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشّرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافيّة الغربيّة عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي Thomas Babington Macaulay 1800- 1859 في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامّة للتّعليم العام. متحدّثاً عن الأهداف التعليميّة للبريطانيّين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون “هنديّاً بالدّم واللّون، وإنجليزيّاً في الذّوق، الأخلاق والذكاء”. لقد حقّقت الحركة الصهيونيّة نجاحا باهراً بالضّبط حيث عجزت حتّى بريطانيا عن تحقيقه ــ خلق نموذج جديد للإسرائيليّ: شرقيّ في دمه ولونه، وصهيونيّ وإشكينازيّ وغربيّ في الذّوق والرأي. هكذا، مثلا، أجبر النّظام التّعليميّ الإسرائيليّ نسلَ العوائل اليهودية العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذّاتيّة ــ وأستطيع أنْ أضيفَ أحياناً، كما لو أنّها روح تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هُوّيّتهم الثقافيّة. الهُوّيّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إسرائيل حضاريّاً وثقافيّاً أُلقيت في سَلّة المُهْمَلات التاريخيّة.

حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914

نقد الهُوِّيّة الأشكينازيّة الغربيّة
صار المدافعون عن الميول الغربيّة للهُوِّيّة الإسرائيليّة المُخْتَرَعة يتفجّعون خوفاً من “خطر” تشرّق” و”تمشرق” المجتمع الإسرائيليّ. فعلى سبيل المثال كتب الصّحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة “هآرِتس” الإسرائيلية يوم 22 أبريل 1949 ما يلي:
“نحن نتعامل مع أناسٍ في غاية البدائيّة، مستوى معرفتهم يقترب عملياً من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك، إنّهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أيِّ شيء عن الثّقافة”.
أحدُ هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنّهم “لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أيّ شي عن الثقافة “كان نسيم رجوان (ولد عام 1923)، الذي كتب باستمرار في الأربعينيات لصحيفة “Iraq Times” الإنجليزية (وكانت تصدر في بغداد) وكان يهتمّ خصوصاً بشؤون الأدب الإنجليزي. وبالرّغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالباً ما يعامَل ككاتب يفتقر للقابليّات الثقافيّة المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربيّة، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة جيروزاليم بوست Jerusalem Post، أمّا رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرّسميّة التي سعت إلى شطب الهُوِّيّة اليهوديّة العربيّة واستهانت باليهود العرب، يقول:
“إنّها المؤسّسة السّياسيّة ــ الثقافيّة (الصهيونيّة) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيّون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع “الغربيين” الأصليّين ــ هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشّرقيّين إلى عملية منظّمة من احتلال الهًوِّيّة والتّطهير الثّقافي فأجبرتهم على التّنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب – بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”.

“أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بحيث يرحّب بها الجيران العرب، بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”
(نسيم رجوان: كاتب إسرائيلي من أصل عراقي)”

فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي
فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي

اسطورة اضطهاد اليهود العراقيّين
ومن جانب آخر، أرفض تماماً الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكلّ عناية، ومفادها أنّ يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عمليّة إنقاذ خياليّة قامت بها أجهزة الدّولة اليهوديّة الجديدة. فالحقيقة هي أنّ يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتّى مطلع عام 1950، بل وحتّى حينما أصدرت الحكومة العراقيّة قراراً يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسيّة العراقيّة أو ما سُمّي بـ “التّسقيط” وقد طُرح خيار تسقيط الجنسيّة المذكور لفترة سنة واحدة فقط، ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟؟ سؤال حَرِج، وبالفعل، لا أعرف، وربّما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكلِّ ثقة، إنّ مُعظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أيُّ شكّ حول هُوِّيّة الجهة الفاعلة، أو على الأقل هُوِّيّة الجهة التي حقّقت أكبر المنافع من وراء تلك الأحداث، حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة لإسرائيل.

وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967
وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967

ووفق هذه العجالة التاريخيّة المنسوجة بمذكّراتي الشّخصيّة، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثّقافة والهُوّيّة اليهودية ــ العربية. كان العنصر الأساسي في “التّكافل الخلّاق” creative symbiosis 1 بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتّى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنَّوْا اللّغة العربيّة كلُغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التّكافل لأنّ العربية أصبحت تتلاشى الآن كلُغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديّاً يتحدّث العربية بطلاقة، فكُن على ثقة بأنّه إمّا أنْ يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنّه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنّخبة اليهودية ــ الإسرائيلية، سواء كانت الرّسميّة أو الثقافيّة، لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزاً حضاريّاً، وليس هناك، مثلاً، ولو كاتب يهودي واحد وُلِد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيّاً تراثٌ حضاريّ نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ أمام أعيننا، الإجهاز بشكل مُنظّم على هذا التّراث الحضاريّ الرّائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناءً على تآمر غير مُعلن تشارك فيه الصهيونيّة، من جهة، والقوميّة العربيّة المتعصّبة، من جهة أخرى، وكلٌّ منهما يجد دعماً لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأنّ الإسلام واليهوديّة يُجمعان على ضرورة مَحْو هذا التّراث الحَضاري اليهوديّ ــ العربيّ العريق المُشترك.
بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهوديّة ــ العربيّة مثل الوباء الذي ينبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حَجْر صحّي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المُصابين.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أنْ يُطلق عليهم، من باب لُطف التّعبير اسم “مزراحيم” (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قِبَل الصّهيونيّة والقوميّين العرب وعملائهما السّياسيّين والاجتماعيّين والثّقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحياناً، وربّما بسبب ما مَرّوا به من شطب لهُوِّيّتهم الأصليّة وإحلال هُوِّيّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيّين.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”النص الثاني” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يهودُ العراق
والمشــروع الهاشمــي لبنــاء العــراق الحــديث

الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل
الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل

لو أنّ بغداد نجحت في أن تُوَرّث لأهالي الشّرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تَشكّل منها ربيعها المُشرق في مطلع القرن العشرين لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفاً بالرّفاهية والازدهار بعيداً عمّا جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضّغينة المُتبَادلة خلال القرن الماضي.
كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظمِ الفُرص التي تمّ تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الرّبيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حَدت بهم إلى الاعتقاد بأنّ المُجتمع المحلّي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (1883-1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكلّ ما أوتيَ من قوة.
هكذا وقبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطاباً أمام النادي العربي في حلب في 9 حزيران 1919 قال فيه: “نحن عرب قبل موسى ومحمّد وعيسى وابراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت”.
وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكاً على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1921، زعماء الجالية اليهوديّة قائلا: “لا شيء في عرف الوطنيّة اسمه مُسْلم ومسيحيّ وإسرائيليّ، بل هناك شيء يُقال له العراق. إنّني أطلب من أبناء وطني العراقيّين أن لا يكونوا إلا عراقيين لأنّنا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام وكلّنا منسوبون إلى العنصر السّامي ولا فَرق في ذلك بين المسلم والمسيحيّ واليهوديّ. وليس لنا اليوم إلا الرّابطة القوميّة العظيمة التأثير”.
كما أكّد ساطع الحُصَريّ (1880-1986) يومها أنّ “كلّ من يتكلّم العربيّة هو عربي” وكان الحُصَري المدير العام للتّربية والتعليم في العراق، بين 1923-1927، هذه التّصريحات من قِبَل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكّان من الأصول المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابيّة والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السّلبيّة والاختلاف. وقد أسهمت التّصريحات “التأسيسية” للملك فيصل في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلوَرة هُوّيّته العراقيّة العربيّة المتفرّدة.
وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع لعراقيّ الجديد في عشرينيّات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التّغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التّحوّل حاسماً لأنّه شمل هُوّيّات متفرّدة مختلفة ولم يكن مشروطاً بالتخلّي عن الأُطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينيّة، اثنيّة أو مهنيّة وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقيّ الكلدانيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950) في مطلع عام 1924 كتاباً بعنوان: “ نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق” (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطّبقات الاجتماعية والمهنيّة للجالية اليهوديّة أنّ يهود العراق يمارسون كافة المهن: “إلاّ أنّك لا تجد بينهم من حَمَلة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أنّ اليهوديّ يرمي إلى ما به نفعه وسوق التّأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنّهم في هذا الباب يتّبعون المثل اللاتيني القائل “عِشْ أوّلا ثمّ تفلسف”.

الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات
الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات

ولكنْ بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 1924 بالضّبط صدر العدد الأول من مجلّة “المصباح” العربيّة. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتّابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلّة أنْ تكون جزءاً من الثّقافة العراقيّة العربيّة ومن تيّار الصّحافة العربيّة السائد دون أن تكون لها أيّة غاية يهوديّة ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور “المصباح” التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافيّة لأبناء الجالية اليهوديّة التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشّباب يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمّة العراقيّة – العربيّة الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أنْ أقول، مستخدماً مفردات غنيمة، أنّ اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في “القضايا الفلسفيّة”، وبالذّات حول الأشياء ذات الاستقلاليّة النسبيّة عن الحقول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي غالباً ما تتجسّد بأشكال جماليّة كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها.
ومنذ البداية تأثّر المثقّفون اليهود العراقيّون الشّباب بالرّؤية الثقافيّة التي كان “الدّين لله والوطن للجميع” شعارها. هذا الشّعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1919، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لأنجيل مرقص 12، 17: “ أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين ــ السّوريين المسيحيّين في القرن التاسعَ عشَرَ “حبُّ الوطن من الإيمان”. وقد تبنّته أيضا مجلّة الجِنان، أوّل نشرة دورية عربيّة عموميّة تأسّست ببيروت عام 1870 من قِبَل بطرس البستاني (1819-1883) وصدرت حتى عام 1886؛ وحُرّرت أيضاً من قِبَل نجله سليم البستاني. ووفقاً لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرّابطة الدينية بالرابطة القومية.
ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيّين المارّ ذكرهم، شعار “الدّين لله، والوطن للجميع”، كما حفزتهم الآيات القرآنيّة التي تدعو للتّسامح الدّيني والتعدّديّة الثقافية مثل “لا إكراه في الدّين” (البقرة 256) و“لكم دينكم ولي ديني” (الكافرون 6). واصطفّت نُخْبَتهم، وخاصّة المثقّفون العلمانيّون الشّباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قوميّة حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشّيعة والسّنة، والكُرد، والتُّركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصّهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهوديّة قوميّة في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمراً غير مرغوب به إطلاقاً في صفوف مُعظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أيّة وثائق تاريخيّة تعكس تحمّساً لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينيّات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقيّ العربيّ. يكفي بنا أنْ نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson)، المفوّض المدنيّ المؤقت في بلاد الرّافدين في الفترة ما بين 1918، 1920 في سجّلاته عن تلك الفترة:
“ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهوديّة الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلدٌ فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسّكن. وبلاد الرّافدين جنّة مقارنة بفلِسْطين. قال أحدُهم: “العراق جَنّة عدَن ومن هذا البلد طُرد آدم ــ أعطونا حكومةً جيّدة وسنجعل البلد يزدهر ــ وادي الرافدين وطننا؛ وطن قوميّ سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفّر في فِلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة”.
وقال التّربوي والصّحفي اليهوديّ عزرا حدّاد (1900 – 1972) في أواخر الثّلاثينيّات: “نحن عرب قبل أنْ نكون يهوداً”. كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920- 2004 ): “لا يتوقّع الشّاب اليهوديّ في البلدان العربيّة من الصّهيونيّة غير الاستعمار والهيمنة”. عاش معظم السّكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيّين والحقبة الملكيّة المُبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنّه: “يمكن أن يقول المرء بكلّ ثقة إنّ بغداد كانت يهوديّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، كما كان يقال إنّ نيويورك مدينة يهوديّة”. كان الأفق الحقيقيّ ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النّخبة المثقّفة، عراقيّاً وعربيّاً. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقيّة جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصّدد: “لم يطلق يهود العراق على العراقيّين من غير اليهود تسمية “عرب”، وإنّما استخدموا مفردات “مسلم” و”مسيحيّ” وحينما كانوا يتكلّمون عن “عرب” فالمعني في أذهانهم كان “البدو” فقط

ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925
ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925

إذا عدنا إلى “المصباح”، نرى أنّ رئيس التّحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار “ابن السموأل”، إشارة إلى الشّاعر اليهوديّ الجاهليّ السّمَوْأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السّموأل (هكذا تسرد الروايات العربيّة القديمة) تسليم أسلحة عُهِدَ بها إليه، وبالتّالي فقد شَهِدَ مصرعَ ولَدِه على يديّ شيخ القبيلة البدوي الذي فَرضَ حِصاراً على قصره كي يجبرَه على تسليم الأسلحة التي تُرِكت بحوزته. وبفضل ذلك خُلِّد السّموأل في ذاكرة العرب إذ أصبح يُقال “أوْفَى من السّموأل”. ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقيّ ــ العربيّ الذي كان، من منظاره، المَوْقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقيّة.
ولقد عَثرت، ودون أيِّ جهدٍ خاصّ، على نصوص تتناول ذلك الرّبيع ببغداد في عشرينيّات القرن الماضي بقلم السّنّي معروف الرّصافي (1875-1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997 ) والكردي جميل صدقي الزّهاوي (1863- 1936) والمسيحيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885 ــ 1950). لا أحدَ منهم تباهى بأنّه عربيّ أو عراقيّ إذْ كان ذلك بديهيّاً كما كان بديهيّاً بالنّسبة لأنور شاؤل إذ كان انتماؤهم جميعاَ يستند إلى كون كلّ منهم جزءاً من الأمّة العراقيّة وكانت لغتُه الأمّ هي العربيّة وكان مستقرُّه الأوحد هو الوطن العراقيّ، ولم يكن للاختلاف في الدّين أيّة أهميّة إذ إنّ الإيمان الدّيني، في المنظور السّائد في تلك الفترة، كان أمراً بين الفرد وخالقِه “الدّين لله، والوطنُ للجميع.

رؤبين سنير

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي