الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ماذا تعلمنا فلسفة التاو

مــاذا تعلمنــا فلسفـة التــاو
والحكمــة الصينيـة القديمـة

من لاو تسه إلى تشوانغ زي

التاو (الله) أصل الوجود، مجرد عن الماهية
أزلي لا يحدّه شيء ولا تدركـه الأبصار والأفهام

رفض تشوانغ زي امتلاك شيء أو استخدام أداة
واعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الناس

قال تشوانغ زي لرسول ملك طلبه لإستلام الوزارة
أُفضِّل أن أسلي نفسي في حفرة قذرة على دخول بلاط الملوك

تعتبر التاوية Taoism والحكمة الصينية القديمة أحد الفروع الكبرى للحكمة الإنسانية وإحدى أبرز مدارس الترقي الروحي والأخلاقي، وهي تندرج ضمن تيارات السلوك الروحي الرئيسية في آسيا إلى جانب البوذية والفيدانتا الهندية. لكنها تمايزت عبر الزمن وانطبعت بالحضارة الصينية (بما في ذلك لغة الماندارين الصينية) والبيئة الخاصة الإجتماعية والسياسية والثقافية للشعب الصيني، الذي عاش لآلاف السنين في عمق جغرافي منعزل نسبياً لم يطله التفاعل مع ثقافات الحضارات المحيطة وترعرعت وسط الحياة الريفية البعيدة لمجتمع زراعي بسيط وللطبيعة الأخّاذة للجبال الصينية البعيدة. في تلك الطبيعة وسكونها وجلالها وعلى ضفاف الأنهر المتدفقة أو البحيرات وجد الصينيون القدماء طمأنينة النفس وعرفوا عظمة الصانع وجعلت تلك الحياة لديهم روح البساطة المتناهية والجلد والميل إلى التأمل والبحث في أسرار ذلك الكون اللامتناهي، لكن التاوية نهلت أيضاً من البيئة الثقافية الغنية التي قامت في بلاط الأباطرة الصينيين الذين أسبغوا الرعاية والتكريم على الحكماء والفلاسفة وأخذوا هم أنفسهم بالتاوية وتأثروا بها وخصصوا لها أرفع مكانة في الإرث الروحي والثقافي الصيني. وقد تفاعلت التاوية مع فروع عدة للحضارة الصينية مثل الشعر يدخل فيها مدارس التاي تشي Tai Chi المختلفة والـ Kung Fu ومدرسة الشاولينغ وعدد من المهارات البدنية والقتالية تقوم كلها على السيطرة على الجسد وترويض الطاقة الداخلية، وهي تشبه في هذا بعض فروع اليوغا الهندية مثل الهاتا يوغا Hatha Yoga والتانتريك يوغا Tantric Yoga التي طوّرها الحكيم باتانجالي Patanjali والتي تبلغ بالمريد من خلال سيطرة الفكر التامة على الجسد حدود التحقق الروحي وانكشاف حقيقة الوجود، كما إن هذا النهج في الترويض التام لطاقة الجسد يعطي للسالك القدرة على تحقيق أمور بواسطة الجسد لا يقوى عليها الإنسان العادي وقد تبدو مثل الخوارق للكثيرين.
لا تختلف التاوية كما سنرى في مقاصدها أو ما تفرضه من شروط الزهد والفقر وترك الدنيا عن المسالك الروحية الأخرى في جميع الديانات لكنها بسبب الخصائص الفكرية والثقافية والنفسية للصينيين تمتاز بأنها لم تلجأ إلى الميثولوجيا الدينية التي لجأت إليها شعوب أخرى مثل الإغريق والهندوس ولم تنتج «ديانات شعبية» تعتمد على الرموز والآلهة أو التماثيل، والإرث الحضاري والديني الصيني وبسبب خصائص القابلية الروحية للصينيين وميلهم للتأمل العقلاني لم يكن بها حاجة لهذه الأمور، وهنا يظهر لنا درجة تفوق الصينيين وسبقهم الكبير في مجال التعبير العميق والمباشر عن الحقائق الميتافيزيقية والروحية الشديدة التجريد.
لكن التاوية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه ولم تكن في أي يوم،

في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي
في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي

“التاوية رغم قدمها المغرق هي من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً على شكل الديانات الســــــماوية الثلاث”

بل هي مسلك للتأمل والتحقق الروحي عبر الممارسة وترويض النفس، وحيث يعتمد التعليم ليس فقط على نصوص أو كتب مرجعية بل على مرشد كامل أو Master يتولى تسليك المريدين في مدارج الترقي والتقدّم في طريق تحقيق التاو، والأهم هو أن التاوية التي قد تمارسها نخبة من السالكين والباحثين عن الترقي الروحي والحقيقة ليست بعيدة عن الناس العاديين فحتى الشخص العادي أو الفلاح في أقاصي الريف يعرف التاو أولاً من التنشئة على السلوك القويم والبساطة والصدق وحياة الفقر والعمل في الأرض، ثم أن له ثانياً مرجعاً في القرية أو في قرية قريبة يذهب إليها للتعلم واكتساب الحكمة والتدرب على ترقية النفس أخلاقياً وسلوكياً وروحياً.
وهذا ما يجعل من الممكن القول إن المعتقد الروحي الصيني يمكن اعتباره من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً في الشرق الأدنى ثم في الجزيرة العربية على شكل الديانات السماوية الثلاث الموسوية والنصرانية والإسلام. وبالطبع تقدم التاوية الصينية مثالاً آخر على مدى الخطأ في حصر ديانات التوحيد بالرسالات الروحية الكبرى الثلاث كما يفعل بعض الجاهلين بالتنوع الروحي الهائل في الحضارة البشرية وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بالوحي المبَّلغ للرسول (ص) إذ جاء فيه في سورة غافر :
} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ ..{(غافر: 78)
وبرغم أهمية الكونفوشيوسية في الإرث الفلسفي الصيني فإن هذه المدرسة صنّفت غالباً بين مدارس الأخلاقيات وتنظيم العلاقات الإجتماعية والإنسانية في خانة العقيدة الدينية وقد اهتمت الكونفوشيوسية في تكوين الشخصية الفاضلة أكثر من اهتمامها بالسلوك الروحي والتأملي، وأدخلت بصورة خاصة أهمية احترام الآباء والجدود والتي تطورت إلى ما اعتبره البعض «عبادة السلف» وهذه كلمة خاطئة لأن الصينيين يعتقدون بأن الروح خالدة وهم لذلك يقدمون الإحترام لمن سبقهم من أهلهم عبر محراب صغير يقوم في المنزل، وهذه الممارسة لا تنتمي إلى التاوية لكن إلى التقاليد الصينية التي تشبه زيارة القبور عندنا ولدى الكثير من الحضارات باستثناء الهندوسية التي لا تنشئ قبوراً بل تتبنى تقليد حرق أجداث الأموات وإلقاء رمادهم في نهر مقدس مثل نهر الغانج.
ومن الأمور التي يعتقدها المؤرخون هو أن مؤسس التاوية وهو الحكيم لاو تسه Lao Tse كان معاصراً لكونفوشيوس لكن من يطلع على أعمال الرجلين يجد بينهما تفاوتاً كبيراً في النهج والمقاصد والتعليم يكاد يشبه التفاوت أو الفارق بين المعتقد الديني الشعبي وبين التأويل الصوفي، وحيث يمكن النظر إلى تعليم كونفوشيوس باعتباره الشريعة التي سنت للصينيين لاتباعها من أجل تحقيق الحياة الفاضلة بينما تمثل تعاليم لاو تسه والحكماء التاويين وأخصهم تشوانغ زي إرث التأمل الصوفي الذي يهتم بالزهد والفضيلة والابتعاد عن الحياة العامة سعياً وراء الكمال العرفاني والروحي، وقد لعبت الكونفوشيوسية دوراً عظيماً وشاملاً في الحياة العامة الصينية لكن التاوية حققت موقعاً خاصاً لها في الإرث الفلسفي الصيني عندما أصبحت لعهود متقطعة ولكن طويلة المذهب الرسمي للأباطرة الصينيين وللمستويات العليا من الدولة.
ونبدأ بالقول إنه على الرغم من العدد الكبير من الحكماء والفلاسفة الذين ينتمون إلى التاوية وتولّوا تعليمها عبر العصور فإننا سنركّز في هذا المقال على إثنين من أكبر حكمائها وأشهرهم عبر التاريخ وهما الحكيم لاو تسه الذي ينسب إليه المؤلف المرجعي الشهير تاو ته كينغ Tao Te Ching ثم الحكيم تشوانغ زي Chuang Zi وتكتب أحياناً Zuwangzi وتعتبر أهمية تشوانغ زي بالنسبة للتاوية بمثابة أهمية أفلاطون للحكمة السقراطية، إذ إن سقراط لم يكتب شيئاً في حياته بينما وقع على تلميذه أفلاطون أن يشرح فلسفته ومبادئه في المحاورات التي ألف قسماً منها بعد وفاة المعلّم.. كذلك فإن لاو تسه لم ينسب إليه سوى كتاب «تاو ته كينغ» الموجز بينما ألف تشوانغ زي عشرات المؤلفات في عرض الفلسفة التاوية حتى أن بعض الدارسين يعتبرونه الأب الحقيقي للتاوية نظراً إلى الأثر الكبير الذي تركته كتاباته وسيرته على الإرث الفلسفي والحكمي الصيني.

“إهتمت الكونفوشيوسية بنظام الأخلاق والمجتمع وركّزت التاوية على حياة الزهد والكمال العرفاني عبر التأمـل وقطع العــــلائق والتعلم على يد مرشــــد كامل”

كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم
كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم

ما هو التاو؟
لا بدّ من أجل فهم التاوية البدء بالبحث عن ما يعنيه تعبير التاو في الإرث الشعبي الصيني وفي فلسفة التاو. والواقع أنه وبسبب صعوبة اللغة الصينية والوجوه المتعددة التي يمكن لكلمة واحدة أن توحي بها للقارئ فقد برز أكثر من شرح أو تعريف لتعبير التاو في الترجمات والأبحاث التي حاولت نقل النصوص الفلسفية الصينية القديمة إلى لغات العالم، وقد وجدنا بالإستناد إلى الترجمات الإنكليزية التي قام بها مختصون مجموعة تعريفات ركّز كل منها على معنى من معاني هذا المفهوم الأساسي فإذا بتعبير «التاو» يعني بناء على تلك التعريفات أو الوجود الإلهي أو الخالق أو الرب، والتاو هو المطلق المتخلل للوجود والذي يفعل فيه من دون أن يقوم بأي عمل فهو «مسبب الأسباب كلها» أو السبب الأصلي للحياة ونظامها والتي اتفق العابدون جميعاً على اعتباره مجرداً عن الماهية أزلياً لا يحدّه شيء ولا تدركه الأبصار أو الأفهام.
أما صلة «التاو» القوية بمفهوم «الطبيعة» فهي لا تعني أبداً أن التاوية تستند إلى عبادة الطبيعة كما في بعض الديانات البدائية بل هي شبيهة بإشارة الديانات السماوية إلى الطبيعة بإعتبارها مظهر وجود الخالق والقوانين التي تحكم الكون.
وبحسب أكثر الكتابات التاوية بدءاً من لاو تسه فإن التاو «لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة تقريبية مثل قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادئ من نشأتها إلى كمالها، أو هو القانون أو النظام الكوني الخفي الذي يسيطر على هذا الانسياب، وهذا التاو موجود ثابت منذ الأزل وقبل أن توجد السماء والأرض» وفي هذه الوحدة الكونية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة.
للنظر في تعريف يقترحه الحكيم لاو تسه لـ «التاو» وهو يصفه على الشكل التالي:
أنظر إليه فلن تراه لأنه يتعدى الشكل
إستمع إليه فلن تسمعه لأنه يتعدى الصوت
حاول أن تدركه فلن تستطيع لأنه غير ملموس
هذه الثلاثة لا يمكن وصفها
لذلك هي كلها في الواحد
(تاو ته كينغ: 14)
ويتابع لاو تسه محاولة تعريف ما لا يمكن أن يعرف فيقول في النص نفسه:
حقيقة لا انقطاع فيها متعدية لكل وصف
وهي تعود إلى اللاشيء
إنها شكل ما ليس له شكل
صورة ما ليس له صورة
وهي تسمى ما لا يمكن وصفه
المتسامي فوق كل خاطر
(تاو ته كينغ: 14)
هذا الوصف يذكِّر بالتعبير القرآني } سبحان الله عما يصفون{(المؤمنون:91) وكذلك قوله جل من قائل } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (الشورى: 11)
هذا الوصف لـ «التاو» يجعله قريباً جداً من وصف ما أسمته الديانات السماوية (الله) وهي تسمية لا تدل إطلاقاً على حقيقة الموجود الأولي والذي لو أنفقنا الدهور على محاولة وصفه فإننا لن نستطيع لأنه متعد لكل العبارات والأوهام. لكن الله أخبر عن نفسه بلغة تستهدف جعل طريق لعبيده إليه وتقريب حقيقته المغلقة على الأفهام إلى نفوسهم وتمكينهم من التصديق بما جاء به من أرسلهم من الأنبياء والأولياء واتباع ما أبلغه المولى من حقائق ومن هدي للناس بلسانهم وبما يلائم أفهامهم. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

مراكز تأمل  بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها
مراكز تأمل بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها

الحكيم لاو تسه
ورد ذكر لاو تسه في كتابات المؤرخ الصيني الكبير تشيما كْيِن الذي مات في عام 85 قبل الميلاد وفي كتابه عن السير قدم المؤرخ أهم دليل على أن لاو تسه كان شخصاً حقيقياً، على عكس ما زعم الكثير من الغربيين وأن كتابه الشهير Tao Te Ching كتاب حقيقي كتب في ظروف محددة. وقد ذكر كيِن أن لاو تسه كان مشرفاً على المكتبة الملكية لسلالة «كاو» وبالنظر إلى تحلل الاسرة وهبوط شأنها فقد قرر الإعتكاف والإنسحاب من الحياة العامة وفي الطريق وعند أحد مداخل المدينة حيث كان يحاول الانسحاب خلسة إلى الطبيعة متخفياً بشخصية فلاح عرفه الشخص المولج بمراقبة المدخل، وكان هو الآخر من أتباع التاوية الدارسين، فألحّ عليه بأن يترك له أثراً مكتوباً قبل أن يدخل في مرحلة الإعتكاف والإنسحاب من العالم. عندها وبناء على طلبه قام لاو تسه بكتابة آرائه عن «التاو وخصائصه» في جزءين وأعطاه المخطوطة ودخل في الإعتكاف. ويقال إن لاو تسه مات بعد ذلك ولم يعرف أين ومتى ولم يسجل في زمانه تاريخ معروف لوفاته. ونحن نعرض إلى جانب هذا الكلام مختارات من أقوال الحكيم التي وردت في مؤلف «تاو ته كينغ»، وقد عرضنا في هذا المقال لمختارات من حكمة لاو تسه لكنه نزر يسير ونحن ننصح بالإطلاع على الترجمات الإنكليزية أو الفرنسية الرصينة لهذا السفرالنفيس، ونجد من أفضلها تلك التي وضعها بالانكليزية الكاتب الصيني جيا فو فنغ في العام 1989.
Gia-fu Feng and Jane English, Vintage Books, 1989

من أقوال الحكيم تشوانغ زي

أن تعرف أن المعرفة يمكن أن لا تَعرِف هو أعلى درجات المعرفة
* * * *
من السهل أن تمشي دون أن تترك أثراً
لكن أصعب كثيراً أن تمشي دون أن تلامس قدماك الأرض
* * * *

من لا يكون شريكاً
في التحول الكوني
كيف يمكنه أن يُحوِّل غيره من الناس
* * * *
في المياه الراكدة تنعكس الأشياء
والفكر المطمئن،
فكر الحكيم المطمئن
هو مرآة الكون وكل ما هو كائن
* * * *
أن تنسحب إلى داخلك لكن دون مبالغة
أن تطل على ما هو خارجك لكن بقدر
أن تعرف كيف تقف في الوسط تماماً
تلك ثلاثة عناصر لاكتساب الطاقة

تشوانغ زي
يعتبر تشوانغ زي أعظم حكماء التاوية بعد لاو تسه وأغزرهم إنتاجاً ويـُعتقد أنه عاش في فترتي حكم الملك هوي من ليانغ والملك شوان من تشي، في الفترة من 370 إلى 301 ق.م.. وقد تقلّد لبعض الوقت منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك لكن يرجح أنه ابتعد بصورة مبكرة عن الحياة العامة وتحوّل إلى الزهد التام والعيش البسيط في الطبيعة، وهو رغم شهرته التي ذاعت في جل أنحاء الصين ورغم توسل الملوك له بتقلد الوزارات أو الحكم إلى جانبهم رفض وأصرّ على متابعة حياته البسيطة. وقد روي أنه لما عرض عليه دوق- ويه رئاسة الوزارة ردّ على رسول الأمير الذي حمل إليه العرض رداً مقتبضاً يدل على مدى حذره الشديد من السلطة وما يكتنفها من أهواء ومخاطر قال لرسول الملك: «اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك».
وفي حادثة ثانية رفض تشوانغ زي منصب الوزير الأول في مملكة خو وأمر رسولين حملا له الطلب من الملك بالعودة من حيث أتيا وقد أوردنا القصة ضمن عرضنا لأقوال مختارة للحكيم تشوانغ زي.
وبصورة عامة فقد كانت نظرة تشوانغ زي للحكومات ولأهل السلطان مشوبة بنفس النظرة السلبية للحكيم لاو تسه وكان تشوانغ زي يقول إنه إذا وصل الطيش بأي من الفلاسفة الحقيقيين إلى وضع يصبح فيه متولياً لشؤون إحدى الممالك أو البلدان فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم وفي هذا يقول «لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم». وعرف عن تشوانغ زي أنه كان لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام في نظره يُضِل بقدر ما يهدي، ولأن التاو وهو جوهر الوجود ومحركه الواعي لا يمكن معرفته بالفكر ولا يمكن التعبير عنه بالألفاظ بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به «في الدم» أي بالإختبار الحدسي والكشف العرفاني.

تشوانغ زي والعصر الذهبي
هذه النظرة الرافضة للسلطة ولتقسيم الناس إلى طبقات ومنازل وحكمهم بوسيلة القوة ألهمت تشوانغ زي أن يكتب عن ما يعتقد أنه عصر ذهبي افتراضي حيث لم تكن هناك ثمة حكومات بل كان الناس أحراراً يديرون أمورهم ببساطة ومن دون تدخل حاكم.
يقول تشوانغ زي في وصف ذلك العصر:
«لقد كان الناس يعتقدون أن طعامهم البسيط لذيذ وكاف، وثيابهم البدائية جميلة، وكانوا سعداء بأساليبهم البسيطة ومطمئنين في مساكنهم المتواضعة وكان مرجحاً لأهل ذلك الزمان أن لا يموتوا حتى يشيخوا».
ويتابع تشوانغ زي وصف ملامح العصر الذهبي فيقول:«كان الناس يصنعون ثيابهم بأيديهم وكانوا يحرثون الأرض ويحصلون من ذلك على الطعام، كانت تلك مهاراتهم المشتركة، وكانوا جميعاً في ذلك مثل رجل واحد، فلم يفكروا في أن يقسموا بعضهم طبقات، فكان كل منهم يعيش وفق طبيعته ومهاراته. كان الرجل الفاضل في ذلك الزمن يمشي بتؤدة ومهابة كان نظرهم دوماً إلى الأمام، ولم تكن هناك مسالك مطروقة على التلال أو طرق مشقوقة، وعلى الأنهر لم تكن هناك زوارق أو سدود. كانت جميع المخلوقات تعيش مع بعضها بعضاً، وكانت أماكن عيشهم متجاورة. كانت الطيور والوحوش تتكاثر لتؤلف الأسراب والقطعان وكان العشب والأشجار تنمو بغزارة وكان يمكن أن تأخذ بزمام الطير أو الوحش دون أن يبديا مقاومة. نعم في عصر الفضيلة الأولى كان الناس والطيور والوحوش يعيشون معاً، وكانوا جميعاً متساوين مع بقية المخلوقات، وبما أنهم كانوا مثل عائلة واحدة فكيف كان لهم أن يميزوا من هو الأدنى بينهم ومن هو الأعلى؟ وبسبب كونهم مجردين من الرغائب فقد كانوا جميعاً في حال من البساطة المطلقة وكانت طبيعتهم كما ينبغي أن تكون».
يضيف في وصف «عصر الفضيلة» الذي سبق حضارتنا الحالية فيقول:

معبد السحاية البيضاء
معبد السحاية البيضاء
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل

“من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار من كل ما يتعلق بالحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاســـفة والملوك”

«في ذلك العصر، عصر الفضيلة التامة، لم يكن الناس ليعطوا أي أهمية لاتباع حكيم أو يستخدمون أشخاصاً ذوي مواهب. الأفضل مكانة فيهم كانوا مثل الأغصان العليا في شجرة، والناس على العموم كانوا مثل الغزلان البرية، كانوا على الاستقامة والصدق، وكانوا كذلك بالبداهة ودون أن يعرفوا أن هذا السلوك يسمى سلوكاً صحيحاً، كانوا يحبون بعضهم بعضاً دون أن يعلموا أن ذلك هو من قبيل المودة، كانت طبيعتهم الصدق والنزاهة من دون أن يعلموا أن تلك صفات محمودة، وكانوا يوفون بالعهود دون علم منهم بأن ذلك يسمى حسن النية، وكان كل منهم يسأل الآخر المساعدة دون أن يعلم أنهم بذلك يقدمون أي معروف أو منحة للآخر، لذلك فإن أعمالهم لم تكن تترك أي أثر، ولم يكن يبقى لذلك في الزمن أي سجل لتلك الأعمال..
من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك وقد وضع الحكيم لاو تسه سجية البساطة في أعلى مقام معتبراً أن التاو يشبه لجهة البساطة الماء، ويعتبر أن عظمة الماء هي في أنه يفيد جميع الأشياء وفي كونه ينساب بإختياره نحو الأماكن الدنيا وهي التي يتجنب الناس الاستقرار فيها. من هنا فإن سلوك الماء هو أقرب ما يكون إلى التاو. لذلك تعتبر التاوية أن آلام البشرية بدأت عندما انتهى ذلك العصر وبدأت الفوارق بين الناس بالظهور، وهذه النظرة إلى مجتمع فاضل أصلي ملتصق بالطبيعة ويقوم على حسن الطوية والبراءة والمساواة البديهية ليس فقط بين الناس بل بين جميع المخلوقات، جعلت من التاوية فلسفة جاذبة للتيارات الليبرالية بل الأنارشية التي تدعو إلى مجتمع يقوم على العلاقات العفوية بين الناس من دون تدخل حاكم أو سلطة قامعة.

كره السلطة
رغم تسليم تشوانغ زي بأن زوال المجتمع الفاضل أمر مقدر في قانون التحول الدائم، فإنه اعتبر أن من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات، وأن يترك كل ما يملك وكل جاه أو منصب ويتكرس لاتباع التاو وهو الخلاق الأكبر والذي يمنّ بالحفظ على جميع الكائنات. (وذلك موضوع اجتهد آلاف المصورين الصينيين في وضع الرسوم الرائعة بالحبر الصيني لتصويره).
عندما طلب منه أحد الملوك أن يعلمه الحكمة تردد تشوانغ زي لكنه قبل أخيراً وخاطبه بهذه الكلمات: «يجب أن تكون ساكناً بلا حراك، أن تكون طاهراً، وان لا تعرّض جسدك لأي جهد، ولا أن تهيج طاقتك الحيوية، وعندما لا ترى عيناك أي شيء ولا تسمع أذناك شيء وعندما لا يعرف فكرك أي شيء فإن الروح ستعتني بالجسد وتحفظه وعندها فإنك ستعيش طويلاً. انتبه إلى ما هو في داخلك واغلق كل الطرق التي تصلك بما هو خارجك -أكثر العلوم ليس فيها أي خير- انتهى كلام تشوانغ زي.

“تخلص من جميع الرغائب ينكشف لك السر
إستمسك بالرغبة وكل ما ستراه هو مظهر السر”

موقفه من التملّك والتكنولوجيا
رفض تشوانغ زي أن يمتلك أي شيء وكان يعيش في الطبيعة على النزر اليسير من الغذاء يتخذ لنفسه مكاناً هادئاً للتأمل وسط الطبيعة الصينية الساحرة، وكان رغم توافر الأدوات الكثيرة في عصره يرفض الإستعانة بأي منها إذ كان يعتبر أنه من الأجدر به القيام بأمر عيشه البسيط بيده ودون استعانة بأي أداة، وكان وهو المؤمن بنهج المساواة بين الناس، يعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الأفراد ولتفرقهم، وهذه النظرة السباقة منذ أكثر من 2400 سنة تجد صدى جاهزاً لها في التيارات الفكرية المتزايدة الإتساع التي ترى في التكنولوجيا الحديثة سبباً من أسباب أزمة البشر واتساع الفوارق بينهم سواء كأفراد أم كمجتمعات، فهناك الآن هوة شاسعة تفصل الشعوب المتقدمة عن الشعوب الفقيرة في العالم التي لا تستطيع الإستحواذ على التقنيات الحديثة في العمل والإنتاج فتجد نفسها بذلك في أسفل السلم الإنساني من حيث التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

نظرته إلى الموت
عندما ماتت زوجة الحكيم تشوانغ زي جاء أحد أصدقائه لمواساته فوجده جالساً على الأرض يضرب على وعاء نحاسي وينشد. قال له صديقه: عندما تكون الزوجة قد عاشت مع زوجها وأنجبت له الأولاد ثم تموت في كهولتها قد يكون مقبولاً أن لا ينوح الزوج عليها لكن أن يغني ويطبل أليس في ذلك مبالغة وغرابة؟ أجاب الحكيم: كلا الأمر ليس كذلك. هل تظن أنني عندما ماتت كنت مثل غريب ولم أتأثر ؟ لكنني فكرت في الوقت الذي لم تكن فيه قد ولدت بعد. عندها ليس فقط لم يكن لها جسد بل لم يكن فيها أي روح، ثم تبدّل الأمر وظهر الجسد ودخلت فيه الحياة، ثم طرأ تغيير آخر فإذا هي الآن ميتة. إن العلاقة بين كل هذه الحالات هي مثل توالي الفصول الأربعة: الربيع والصيف والخريف والشتاء. وها هي الآن تنام ووجهها إلى فوق في القاعة الكبرى. فلو بدأت النواح والبكاء عليها فإنني سأكون كمن لم يفهم ما قسم لها في الوجود، لذلك امتنعت وحافظت على طبيعتي.
يعطي تشوانغ زي مثالاً آخر عن شخصين يعانيان من عاهة ويمران بجانب القبور فيبدآن يشعران في جسديهما أن الموت يقترب منهما. سأل أحدهما الآخر: هل تخاف الموت؟ جاء الجواب: «لمَ يجب أن أخافه؟ الحياة هي شيء معار والجسد المستعار ليس سوى تراب. الحياة والموت هما أشبه بتوالي الليل والنهار».
بصورة أدق، ليس الموت في رأي تشوانع زي إلا تبدلاً في الصورة، بل إنه في نظره تغير من حال إلى حال أحسن منها، من هنا يورد الحكيم أكثر من قصة لينتهي منها بطرح السؤال حول هذا الخوف الذي يشعر به الناس تجاه موت الجسد وإذا ما كان في غير محله لأن الإنسان لا يعرف حقيقة الموت كما إنه لا يعرف حقيقة الوجود وحقيقة وجوده نفسه، وهذا الجهل بحقيقة وجودنا المفارق هو في أساس الخوف غير المبرر من الموت.
من أجل الدلالة على هذه النظرة الفلسفية العميقة إلى الموت يورد تشوانغ زي قصة عن مرض شخص حكيم يدعى تزه- لاي وكان قد أصبح طريح الفراش ينازع الموت، ووقف من حوله زوجته وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: «اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله»… ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى الرجل المحتضر. فقال له تزه- لاي: «إن صلة الإنسان بالين واليانغ (قطبا الوجود) أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي لكنني أعصي أمرهما فإنني أعدّ حينئذ عاقاً فظ الطباع. هنالك «كتلة الطبيعة العظمى» التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهدّ قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. إذاً فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فها هو ذو صاهر يصب المعادن، فإذاً كان المعدن الذي ينساب أثناء صبه يناديه. «يجب أن أكون سيفاً ثميناً» أو غير ذلك فإن الصاهر العظيم سيعتبر هذا المعدن خبيثاً بلا ريب لأنه يتجرأ على الصانع، وهذا أيضاً شأن الإنسان، الذي إذا ما أصرّ أن يكون إنساناً فقط، لأنه في يوم من الأيام تشكل في صورة الإنسان، فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً لأنه يتجرأ على صانعه، بنفس المعنى فإن علينا أن ننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، وأن ننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم، عندها سنكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا.

المعرفة وقصور الفكر
يعتقد الحكيم تشوانغ زي أن مشكلة الإنسان تنبع من قصر تفكيره أكثر مما تعود إلى طبيعة الأشياء نفسها، وهو يستغرب كيف نسعى كبشر ونحن المخلوقين بعقولنا المحدودة أن نفهم لغز العالم الأكبر الذي لا نمثل نحن فيه سوى جزيئات صغيرة عابرة، ونحن بهذا المعنى نحاول تفسير الكل بمصطلحات الجزء وهو أمر يتضمن الكثير من الإسراف والاعتداد بالنفس. لهذا يرى تشوانغ زي أن تلك المحاولات أدت إلى نشوء ما لا يحصى من النظريات المتناقضة مما يؤكد أن أصحابها جميعاً بعيدون جداً عن إدراك لغز الوجود، وهو يقول إن العقل الإنساني لا يفيد في فهم الأشياء الغيبية لذلك، فإن التوصّل إلى معرفة سر التاو يقتضي من الإنسان أولاً أن يكبت معارفه العقلية وينسى نظرياته القياسية وأن يسعى لاستشعار الحقيقة بالحدس، أي بالاختبار المباشر وهذا هو النهج الذي تبنته الفيدانتا الهندية والبوذية والتصوف الإسلامي والذي يعتبر أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم أو التحصيل النظري بل بالمجاهدة وصقل النفس بالمجاهدات والطاعات حتى تصفو كالمرآة وتصبح قابلة لانطباع الحقائق اللدنية عليها. يقول لاو تسه في الفقرة الأولى من التاو ته كينغ .

حلم الفراشة ونسبية الفكر
من أجل إعطاء مثل على حجم الحيرة التي يمكن أن يقع فيها المرء إذا حاول فهم الوجود بالمقاييس العقلية كتب تشوانغ زي مرة ما سماه حلم الفراشة وهو حلم أصبح من أشهر النصوص الفلسفية وأكثرها انتشاراً في العالم. قال تشوانغ زي أنه رأى في منامه أنه كان فراشة ترفرف بجناحيها جذلة مسرورة هنا وهناك، ثم استيقظ ليجد نفسه مجدداً في شخصية تشوانغ زي. المشكلة التي واجهته عندها هو أنه لم يعد متأكدا إذا كان في الحقيقة رجلاً كان يحلم بأنه فراشة أم أنه الآن فراشة تحلم بأنها رجل يدعى تشوانغ زي. هذا المثال أراد منه الحكيم التأكيد على نسبية الحواس والفكر وأنه لا يمكن الركون إلى أي منهما في معرفة الحقيقة المطلقة.
في القسم التالي سنترك لأقوال الحكيمين لاو تسه وتشوانغ زي أن يقدما تعريفاً لفلسفة التاو والتي لا تختلف في الجوهر عن فلسفات التوحيد الكبرى لكنها تتميز بالأسلوب الرائع الذي يعبّر به الصينيون عن حقائق الروح وهو أسلوب مستوحى في أغلب الحالات من صور الحياة اليومية ومن الطبيعة الصينية الساحرة في غموضها وجلالها وأسرارها.

تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين
تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading