السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محاورات افلاطون

آيُـــــون

الفنُّ احترافٌ أمْ إلهام؟

أكثر الفنَّ يعزِّزُ الانجذابَ إلى عالم الحَواسّ
ومعرفةَ النّفس هي الطّريقَ إلى معرفةِ الله

نظريّةُ الجماليّات الأفلاطونيّة تراوحت بين اعتبار الفنِّ تقليداً
وبين اعتباره إلهاماً من مصادرَ عُلْويّةٍ تستولي على الفنان

سقراط يحاول تفسير مفارقة: لماذا لا يهتمّ الفنّان آيون إلّا بشــِعر هوميروس دونَ غيره من شـــعراء اليونان؟

تُعْتَبر محاورة آيون من المحاورات القصيرة التي وضعها أفلاطون وهي تتركّز أيضا على حوار بين شخصين: المعلّم سقراط والفنّان المسرحيّ آيون. لكن رغم قِصَرِها فإنّ المحاورة تعتبرُ نصّاً مُهــمّاً من نصوص نظريّة الجماليّات الأفلاطونيّة إذ إنّ موضوعها يدور بالكامل حول محاولة تعريف الفنّ ومصدره في أعمال الفنان، كما أنّها تضيف إلى محاورات أخرى تناول فيها أفلاطون الموضوع ذاته كما في “سمبوزيوم” و”الجمهورية”
لكنْ رغم أهميّة المحاورة فإن موقف أفلاطون من الفنّ مثل الشّعر والتّمثيل المسرحي والموسيقى والغناء الشّعري يصعب تبسيطه بـ “مع” أو “ضد” لأنّ أفلاطون ينظر إلى الفن من منظار وحيد هو قدرته على تقريب الفنّان أو المستمع إليه من الحقيقة، وقارن أفلاطون بين التّأثير الذي يُحدثه الفنّ في الإنسان وبين تأثير الفلسفة أو علوم الحكمة عليه وعلى رُقْيه الثّقافي والرّوحي. ومن التفاصيل الملفتة في موقف أفلاطون أنَّه كان نفسُه قد أظهر اهتماما بالشّعر وموهبة شعريّة قبل أنْ يلتقي معلّمه سقراط ويتحوّل بصورة حاسمة نحو المعرفة وتحصيل الحكمة.
ومن زاوية الحكمة والتّرقّي بالنّفس من خلال المعرفة (شعار سقراط الشّهير: اِعرفْ نفسك) فإنّ الفنّ بدا في نظر أفلاطون نشاطاً ذاتياً يُغلِّب مظاهر العالم الخارجي ويعزّز الانجذاب لعالم الحواسّ والأشياء، ويدفع الوعي الإنسانيّ بالتالي نحو الخارج بدلاً من دفعه نحو الذات وأغوارها العميقة. ومعرفة النفس في نظر سقراط هي طريق المعرفة الشّاملة أو معرفة الله وفق الحديث النّبوي الشّريف “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”
وبصورة عامة فإنّ التفكير الحِكَميّ الإغريقي، بدءاً من فيثاغوراس ووصولاً إلى أفلاطون، يَعتبر عالم الظّواهر الفاني غيرَ المستقرّ على حال مجرد انعكاس شاحب وضعيف للوجود المصدريّ الأزليّ الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر. وقد بنى أفلاطون على هذه الرؤية الرّوحية ما يمكن اعتبارُه نظريتَه الخاصّة في الجماليات Aesthetics ونهجه في تقييم الفنون .وحسب تلك النظريّة فإن الجمال المترائي في زهرة أو في منظر الغروب أو في كائن من الكائنات ليس سوى مؤشّر تقريبي – في عالم الحواسّ- على الجمال المُطلــق الذي هو من صفات الحقّ، وهذا الأمر ينطبق على كافة الصّفات الجوهريّة للحقّ مثل العدل أو الجلال أو الحبّ، فالعدل المطلق هو للحقِّ وحده، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يأمل بالحصول على أكثر من تعبير تقريبيٍّ ونسبي عن العدل في عالم الفساد الأرضي، وكذلك الحبّ الإلهيّ التّام هو تجلٍّ للحبّ المطلق يختلف تماما عن الحبّ الإنسانيّ المتقلّب والمختلط بالأهواء وصنوف الانفعالات. بصورة عامة فإنَّ عالم الصفات الجوهريّة (أو المثالات) هو عالم كمالات أزلية لا تتغيّر بينما عالم الظواهر الماديّة لا يستقرّ على حال وهو لذلك غير عقلانيّ وغير حقيقي.
ولأنّ الحياة الحقيقيّة هي التي يكون هدفها الارتقاء من عالم الفكر والفناء إلى عالم الروح والخلود، فإنّ هذا الهدف لا يمكن حسب أفلاطون أن يتمّ عن طريق الفنّ والشّعر أو غيره، بل عن طريق طلب المعرفة وطريق ذلك حسب أفلاطون هو التّحكّم بالنفس، ولاسيما ضبط الشّهوات والانفعالات واجتناب الجشع والإقبال على الدّنيا، باعتبار أن ذلك السلوك هو وسيلة الترقّي في طريق معرفة الوجود الحقيقيّ والأزليّ وهو وجود يتعدّى العالم الظاهر.
قبل الدخول في محاورة آيون والتي خصّصها أفلاطون للبحث في حقيقة الفن وشخصية الفنان تجبُ الإشارة إلى أنَّ الحكيم تحدّث في أكثر من محاورة عن الفن وعن الجماليات وأهمّ ما أورده في الموضوع جاء في محاورتي “سمبوزيوم” و”الجمهورية” وكذلك في محاورة آيون. وتشير هذه الحوارات إلى أنَّ رؤية أفلاطون تغيّرت خلال الفترات التي كتب فيها تلك المحاورات وهي تراوحت بين اعتباره الفنّ تقليداً Imitation وبين اعتباره الفنَّ نتيجة إلهام إلهيّ أو قُدُسيّ. Divine inspiration يستولي على الفنّان ويحوّله إلى مجرّد أداة تعبير أو “وسيط” بين مصدر الإلهام وبين الجمهور.
استندت نظريّة الفنّ كـ “تقليد” على مفهوم أفلاطون للمثالات واعتباره أنَّ كل ما هو موجود في حياتنا الأرضيّة إنَّما هو “نسخة” ضعيفة عن مثال تام كامل له من صنع خالق الموجودات أي الله. وبما أنَّ أيَّ شيء (شجرة مثلا) على الأرض هو نسخة عن مثاله العُلْوي السماوي الأكمل فإنَّ الفنّان عندما يرسم تلك الشجرة إنما ينتج “نسخة عن نسخة” A copy of a copy. بهذا التعريف اعتبر أفلاطون أنَّ الفنّ يبتعد بنا عن الحقيقة لأنه يبتعد بنا عن المثالات أو الحقائق قي جوهرها ليعطينا نسخة باهتة عنها، فهو لذلك لا يمكن أن يقود إلى الحقيقة والتي وحدها “الفيلوصوفيا” (وهي تعني باللغة الهلّينية: “محبّة الحكمة”) يمكن أن تقترب بنا منها أو تقود القِلــّة النادرة إليها.
إنَّ نظريّة الفنّ كمجرّد تقليد للتّقليد أو “نسخة عن نسخة” قد يكون منسجماً مع نظرية المثالات التي استند إليها أفلاطون في “الجمهوريّة” لكنّه بدا ربّما مع الوقت تبسيطاً يحتاج إلى مراجعة لأنّ تعريف الفنّ بكونه تقليداً بدا متعارضاً مع الكثير من الإنتاج الفنّي الذي حمل في طيّاته قوةً وسحراً يتجاوز أيَّ قوة لعمل نسخي أو تقليدي.
حقيقة الأمر أنَّ أفلاطون يبدو في محاورة آيون (كما في محاورة “سمبوزيوم”) وقد تخلَّى عن نظريّة الفنّ كتقليدٍ واتّجه لإعادة بعض الاعتبار للفنّان أو لصنف من الفنانين، فهو يورد في المحاورة على لسان سقراط أنَّ الحِرَفيَّ الماهرَ أو الفنان يمكنه بواسطة الإلهام السماويّ أن يجعل من النّسخة التي يصنعها “أفضل من النسخة التي ينقل عنها”، وبهذا المعنى فإنَّ الفنان هو كائن مُلْهَم يعمل بقوة الإلهامات التي يتلقّاها وليس مجرّد ناقل أو مُقلِّد لا يملك أن يخلق شيئاً يضيفه إلى النسخة التي ينقل عنها. وولَّدت فكرة الإلهام كمصدر للإبداع الفَنّي أيضا معاييرَ إضافية تجعل الفنّ أكثر صفاءً وقوّة كلّما اقترب الفنان من مصدر الحقيقة عن طريق السلوك والمجاهدة. لأنّه كلّما صفت النفس كلما أصبحت مثلَ المرآة الصّقيلة تعكس الحقائق وتستقبل الإلهامات، فيصبح الفنان بذلك “واسطة” أو “وسيطا” تستخدمه مصادر الإلهام العُلْوِيّة لبعث رسائل وعلامات وتعبيرات عن الجمال المُطلق تسرّ الناظرين وإنْ كان هؤلاء لا يفهمون دوماً سرّها وسرّ قوّتها التّعبيريّة.
هذه النظريّة عن الفنّان المُلْهَم تظهر بوضوح في محاورة آيون التي بين يدينا كما تظهر أيضاً في محاورة “سمبوزيوم” وهي نظريـّـة أكثر تفهّما للفنّ ولقوّته ممّا ساقه أفلاطون في محاورات أخرى (لاحقة على الأرجح) مثل “الجمهورية” فهل كان تأثير سقراط أوضح في آيون وهي كُتِبَت ربّما قبل وفاته؟ وهل عاد أفلاطون في كتاباته المتأخرة ليتّخذ موقفاً أكثر تشككاً من الفنّ باعتباره غوايةً ومُنزَلَقاً قد يُبعد طالب الحقيقة عن جادّة الصّواب، وهي جادة العقل والتأمّل المثابر في حقيقة الوجود؟ لو كان الأمر كذلك فإنَّ أفلاطون يكون قد اتّخذ منحىً فيثاغورسياً في تشديده على التّقشّف النّفسي والتزام سبيل السيطرة على الحواس والاستثارة الحسيّة. لكن أفلاطون لم يكن مناهضا للموسيقى بل على العكس كان يعتبر أن النّمط المناسب منها يمكنه أن يبعث السّلام والانسجام في النفس بدلاً من السّلبيّة أو الانقباض، لذلك لا بدّ للفنّ بكلّ أشكاله أن يَحُثَّ على فعل الخير وأن يُصوِّر الإنسان في أفضل وجوهه، والمطلوب هو أن يستخدم الفنّ كوسيلة تربية بسبب تأثيره على الناس لأنّ الأبطال الذين يتحدّث عنهم يمكن تقديمهم للجمهور كقدوة في السلوك والشجاعة والشّرف والأخلاق الكريمة.
لذلك دعا أفلاطون للاهتمام بنوع الموسيقى التي يتمّ الاستماع إليها وبالتالي إبعاد أنواع معيّنة من الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الروح. وربّما قصد أفلاطون النوع الأخير من الموسيقى عندما ألمَحَ إلى إمكان إخراج الفنانين والكتّاب المسرحيين من جمهوريته الفاضلة، أو على الأقل مراقبة الفنون بحيث يتمّ القبول فقط بما يشدّد على الخير والجمال خصوصاً في الإنتاج الموجّه للشباب في سِنِّ يَفاعهم، على أنْ يسمح بتناول أمور أخرى مثل الشّرور وأمراض النفوس فقط عندما يبلغ الشبابّ سِنَّ النُّضج.

الله يأخذ من الشّعراء عقلهم - سقراط
الله يأخذ من الشّعراء عقلهم – سقراط

“أفلاطون دعا إلى إبعاد الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الرّوح.”

موضوع المحاورة
تدور محاورة آيون بين سقراط الحكيم وبين شخص يدعى آيون وهو يعمل كمُمَثِّل وكمُغَنٍّ مسرحيٍّ لأشعار وملاحم الشاعر الإغريقي هوميروس، وفي هذه المحاورة يتناول سقراط من خلال أسلوبه في الحوار التّدرّجي موضوعاً دقيقاً يتعلّق بتعريف الفنّ والفنّان، وهو بصورة أكثر تحديداً سيسعى للخروج باستنتاج مُحَدّد حول فنّ آيون ذاته ليعلَمَ إذا كان أداؤه المُلفت والذي يثير مشاعر الجمهور هو نتيجة لمهارة ذاتيّة وخبرة طويلة بالفنّ أم أنَّ مصدره هو الإلهام الذي يتلقّاه دون جُهد منه، ويجعله قادراً على أن يلعب أدواراً مختلفة على المسرح وينشد الأغاني التي تحرّك مشاعر الحضور إبكاءً أو إضحاكا أو إخافة أو غير ذلك.
كان آيون قد ربح لتوِّهِ الجائزة الأولى في مهرجان الفنّ المسرحيّ الذي تنظّمه مدينة أبيداروس عندما التقاه سقراط، وكان الأوّل بطبيعة الأمر فخوراً بإنجازه عندما بادره الحكيم بسؤال حول ما إذا كان يعتبر نفسه متفوّقا في إنشاد شعر هوميروس وتمثيل قِصَصِه على المسرح أم أنّ تفوقَه يمتدّ إلى غيره من الشعراء والمسرحيّين. فوجئ سقراط بقول آيون: إنّ هوميروس فقط يُهِمّه، وأنَّ جميع من عداه من شعراء إغريق حتّى المشهورين منهم يوقعون في نفسه الضجر!.
مغالباً شعور التّعجّب، يلفت سقراط آيون إلى أنَّ نّقاد الفنّ وحُكّام الأعمال الفنّية مثل النّحت أو الرّسم عادة لا يحِدّون أنفسهم بتقييم عمل فنّان مُعيّن بل يمكنهم نقد وتقييم أيّ عمل فنّي بِغَضِّ النّظر عن شخص الفنّان الذي صنعه. لكنَّ آيون يعيد الكَرّة ويشرح لسقراط بشيء من الخُيَلاء كيف أنّه لا يوجد فنان في أثينا يمكنه أن يقدِّم شعر هوميروس كما يفعل هو، فلا أحدَ من فنّاني اليونان لديه ما لدى آيون من خبرة عميقة في الشّاعر وشخصيّاته.
سقراط: لكنْ كيف حدثَ أنّك طوّرت هذه المهارةَ بشأن فنّ هوميروس فقط وليس بشأن شعر هيسيود مثلاً أو غيره من الشّعراء؟ ألا يتحدّث جميع هؤلاء حول نفس الأمور مثل الحرب أو المجتمع الإنسانيّ أو علاقات البشر وخصوماتهم وعن الخير والشرّ وغير ذلك
أيون يوافق سقراط، لكنّه مستمرّ في اعتبار أنَّ هوميروس يتحدّث عن كافّة الأمور أفضل من غيره من الشّعراء.
قد يكون هوميروس عظيما حقاً، لكنّ سقراط لم يقتنع بعد لماذا لا يهتمّ أيون بشعر الآخرين وأعمالهم الكبيرة أيضاً. وهو يعود إلى المسألة البدهيّــة وهي أنّه عندما يوجد من يمكنه الحُكمُ في الفنّ الجميل أو الكلام أو الشعر وأفضلها فإنّ هذا الشخص نفسه يمكنه أن يحكمَ أيضاً على ما هو أقلّ قيمةً أو غير ذي قيمة في أيٍّ من تلك الفنون. يوافق آيون على هذه المقولة فيسأله سقراط على الفَور:
سقراط: إذنْ يا صديقي هل أكون مخطئاً في القول إن آيون يمتلك المهارة نفسها في شعر هوميروس وغيره من الشعراء، بما أنّه هو نفسه يقرّ بأنّ الشخص نفسه يمكنه أنْ يكون حَكَماً جيّداً بين الذين يتحدثون عن الشّيء نفسِه، وبما أنَّ جميعَ الشعراء يتحدثون بالفعل عن الأشياء نفسها.
آيون: لم إذن يا سقراط أشعر بعدم الاكتراث وأكاد أغطُّ في النّوم عندما يتحدث أحدهم عن شعر شاعر آخر، لكن ما أنْ يُــذكر هوميروس حتى تجدَني قد تنبّهت بكلّيتي وباتت لديّ الرّغبة في قول أيِّ شيء.
سقراط: السَّبب يا صديقي بديهيّ، وأيُّ شخص سيرى في هذه الحال أنك إنّما تنشد هوميروس وشعره دون أيِّ فنٍّ حقيقيٍّ أو معرفةٍ بالشعر. لأنّك لو تحدثتَ عنه بمقاييس الفنّ ومعاييره فيجب أن يكون في إمكانك أنْ تتحدثَ عن غيره من الشعراء بالمهارة ذاتها لأنَّ الشّعرَ كلٌّ لا يتجزّأ.
يُفاجأ آيون هنا بحكم سقراط، لكنّه لا يستطيع إلّا الإصغاء طالباً منه أن يشرح رأيه وأن يزيد.
يتبع ذلك حوار يُبيِّنُ فيه سقراط أنّ الفنّ كلٌّ متكامل وأنّه لا يوجد ناقد يقول إنّه يفهم في العمل الجميل فقط ولا يفهم أو يستطيع أنْ يُحكِّم في الأعمال غير الجميلة أو في عزف الناي أو الموسيقى الجميلة لكنّه لا يُحكِّم في أعمال العزف والموسيقى التي هي أقلُّ مستوًى من ذلك، أو أنه يوجد خبير في فنّ النّحت يتولى تقييم أعمال النحت المتميّزة لكنّه يغطّ في النوم ولا يُعطي رأيه عندما تُعرَض عليه أعمال نحت أقل شأناً. ويسأل سقراط آيون هل سمع بوجود مثل هؤلاء النّقاد؟
آيون: كــلّا أنا لم أسمع بوجود مثل هؤلاء الأشخاص.
لكنّ آيون، رغم اقتناعه بقول سقراط، يكرّر موقفَه السّابق في أنّه لا يُبدع إلّا عندما يقرأ شعر هوميروس.
آيون: لا يسعًنــي أنْ أنفي ما تقول يا سقراط، لكنْ على الرّغم من ذلك فإنني على أدراك تام، كما يوافقني الناس، بأنّني أعبّر بصورة أفضل وأُقدِّم أحسنَ ما لديّ فقط عندما أُحدِّث بشعر هوميروس بينما لا أوَفَّق عندما أحدِّث عن غيره. فهل يمكنك أنْ تقول لي ما هو السبب في ذلك؟

كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه
كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه

مطالعة سقراطية حول طبيعة الفنون
هنا يعرض أفلاطون، على لسان سقراط، لمطالعة طويلة حول طبيعة الفنّ وحقيقة الفنان، وهذه المطالعة في الموضوع صالحة لاعتبارها ملخّصاً أفلاطونياً وافياً في الموضوع.
سقراط: سأحاول يا آيون أنْ أشرح لك ما أعتقد أنّه سبب حالتك. إنَّ الموهبة التي تتمتع بها في الحديث المؤثّر عن هوميروس ليست فنّاً بل هي كما قلت من الإلهام. إن هناك كياناً عُلويا يـُحرِّكُك. مثل ذلك الذي يحتويه الصّخر الذي يسمّيه الشاعر يوروبيدس مغناطيســأً، والمعروف بين العامّة بـ “صخر هيراقليا” وهذا الصّخر ليس فقط يجتذب حلقات الحديد بل هو يجعل الحلقات نفسها مُمغنطة وقادرة على أن تجتذب بدورها حلقات حديدية أخرى. وفي بعض الأحيان يمكن أنْ نرى حلقات معلقة الواحدة بالأخرى بحيث يتشكل منها سلسلة طويلة وكل هذه الحلقات تستمدّ قوة الجذب فيها من الحجر الأصلي. بالطريقة ذاتها فإنَّ المَلاك المُلْهم Muse يمدُّ بإلهامه أشخاصا معيّنين وهؤلاء الأشخاص بدورهم يمدّون آخرين بإلهام ممّا أتاهم فتتكون سلسلة من الأشخاص الذين يُلْهِم كلٌّ منهم مَنْ يليه. بهذا المعنى فإنَّ جميع الشعراء المجلّين، سواء شعراء الملاحم أم مؤلّفي الشعر الغنائي إنّما يؤلفون موسيقاهم ليس بعامل الاحتراف الفنّي بل لأنهم مُلهَمون بل ومُسَيطر عليهم من مصدر إلهامهم. وهم لذلك ليسوا بكامل وعيهم العقلي عندما يؤلّفون موسيقاهم. وكما يقولون هم لنا فإنّهم يجلبون أغانيهم من ينابيعَ تتفجّر عسلا ويقطفون تلك الأشعار من حدائق ووديان ملائكة الإلهام، وهم مثل النّحل الذي يطير متنقّلاً من زهرة إلى زهرة، وهذا صحيح، لأنَّ الشاعر هو نور وهو شيء مقدس ومٌجنَّح أيضا. ولكن لا يمكنه ابتكار أو خلق أيِّ شيء من ذاته إلى أن يأتيه الإلهام ويخرج عن حواسِّه، عندها فإن عقله لن يكون في خدمته. وما لم يبلغ الشاعر تلك الحالة فإنّه سيكون عاجزاً تماما عن أن يُبَلِّغ إلهاماته.
وعندما يتلقّى الإلهام من ملاك الإلهام فإنّ الفنّان قد يصبح منشداً للشعر المسرحيّ، وبعضهم قد ينشد المدائح للآلهة، وبعضهم قد يغنّي الكورال والآخر قد ينشد شعر الملاحم، وهنا فإنّ من يكون متفوّقاً في لون من الفنّ فإنه على الغالب لن يكون متفوّقاً في لونٍ آخر . وهذا لأنّ إنشاد الشاعر لا يأتي من فنٍّ يملكه هو لكنه يأتي من إمداد السماء. ولو أنَّ الشاعر كان فعلا فناناً مُــلِمّــاً بنواميس الفنون كلِّها فإنّه كان سيُظهِر مهارتَه ليس في فنٍّ بعينِــهِ بل في الفنون جميعها. لهذا فإنّ الله “يأخذ من الشّعراء عقلهم” ويستعملهم كما يستعمل العرّافين وأهل النبوّة لكي نعلم عندما نستمع إليهم أنَّهم لا يأتون من تلقاء أنفسهم بتلك الآيات النّفيسة بوعيٍ منهم، إنَّما هو مصدر الإلهام السّماوي الذي يوحي عبرهم. وأنا أعطي على ذلك مثال الشاعر تينيشوس كالسيديان الذي لم يكتب من الشّعر ما استرعى انتباه أحد، إلا أن أنشودة التّسبيح التي كتبها أصبحت على كلِّ شَـفةٍ ولسان. وعن هذا الطّريق يبدو وكأنّ الله يريد أن يبيِّن لنا ولا يترك لنا أيَّ مجال للشَّكِّ في أنَّ هذه الأشعار الرائعة ليست كلاماً بشرياً أو عمل إنسان إنّما هي من وحيٍ سماوي. ألست على حق يا آيون؟.
يوافق آيون من فَوْره على رأي سقراط الذي وعلى سبيل الزيادة في الإيضاح يأخذ مثالاً من عمل آيون نفسه كمنشد وكممثّل لشّعر هوميروس وقصصه المَلْحَميّة فيسأله:
سقراط: أودُّ منكَ أن تجيبَني بصراحة يا آيون على سؤالي وهو: عندما تًثيرُ بتمثيلك أعمقَ الأثر في الجمهور عبر إنشادك لبعض الأبيات والمشاهد البليغة هل تكون مستحضراً فعلا لعقلك؟ أم أنّك تكون غائباً عن نفسك؟ ثم ألا تكون روحك في حالة من الانجذاب والغِبطة التامّة وأنت تتخيَّل نفسك بين أولئك الذين تتحدث عنهم سواء كانوا في إيثاكا أو في طروادة وبغض النّظر عن المشهد أو المقطع الشعري؟
يجيب آيون بالموافقة التامة شارحاً لسقراط أنّه في مشاهد الحزن لا يستطيع مغالبة انهمار الدموع من عينيه، وأنّه في مشاهد الرّعب مثلاً فإنّ “شَعر رأسه يقف من الرُّعب وقلبه يهلع وتتسارع نبضاته”.
بالطّبع في نظر سقراط فإنّ آيون قدّم مثالاً آخر على أنّ الممثل أو المُنشد الذي يمثّل قِصَص هوميروس لا يمكن أنْ يكون في حالة من “العقلانية” وهو يذرف الدموع أو يعبّر عن الخوف أو أيٍّ من المشاعر الحادّة على المسرح، بل لا بدّ وأن يكون “ممسوساً” وتحت السّيطرة التامّة لمصدر إلهام عُلْوِيّ.
ينتقل سقراط بعد ذلك ليضرِبَ مثلَ جمهور النظّارة في المسرح الذين أيضاً تنتقل إليهم كافّة المشاعر التي تُمثَّل على المسرح عبر منشدين وممثلين وهم جلوس في أماكنهم. فهم يَهلعون في مشاهد الخوف كما لو أنّها حقيقة وينْسَوْنَ أنّهم مشاهدون فقط لمشاهدَ تخيّليّةٍ، وأنَّهم في أمان تامٍّ ولا خوفَ عليهم من أيِّ تهديد. وقد يبكون في مشاهد الحزن ويهللون ويصخبون في مشاهد الانتصارات أو البطولة. وهذا في نظر سقراط مثالٌ على نظريّة الحلقات المِغناطيسية المترابطة والتي مصدرها إلهام أصليٌّ هو الذي يعطى من الوحي السماويَّ إلى الشاعر، ومنه إلى المنشد أو المُمَثّل المسرحيّ ومنه إلى جمهور الحضور في المسرح وهكذا.
ينتقل سقراط بعدها ليشرح لآيون لماذا يَبرع في إنشاد وتمثيل شعر هوميروس ولا يهتمُّ بإنشاد غيره. وهو يعود مجدّداً في شرحه إلى نظريّة الحلقات المُمَغْنطة التي يتعلّق كلٌّ منها بما يليه.
سقراط: أنت أيضاً حلقة من حلقات الإلهام، لكنّك مجذوبٌ بهوميروس، فإذا قرأ أحدهم قصائد شاعر آخر غيره فإنَّك تغطُّ في النّوم ولا تعرف ماذا تقول، لكنْ إذا قرأ آخرُ بيتاً من قصائد هوميروس فإنّك ستتنبَّه على الفوْر ويقفز قلبك داخل صدرك وتصبح مستعدّاً للإنشاد فوراً وقول الكثير! وأنت تسأل ما السبب في ذلك؟ إنّ سبب ذلك أنّ معرفتَك أو تميُّزَك في شعر هوميروس ليس من صُنْعك ولا يأتي من إحاطتك بالفنون ولكنَّه يأتي من مصدر إلهام عُلْوي.

الشاعر هوميروس
الشاعر هوميروس

“سقراط: الشّاعر نورٌ وشيءٌ مقدّس ومُجنَّح أيضاً. لكنْ لا يمكنه خلق أيّ شيء من ذاته إلى أن يأتيــه الإلهام ويخـــرج عن حواسِّه”

يستحسن آيون جواب سقراط لكنَّه لا يقتنع به تماماً.
آيون: كلُّ هذا جميل يا سقراط. لكنّني أشكُّ في أنَّ لديك من البلاغة وقوة الحجّة ما سيجعلني أقتنع بأنّني أبدع في التِّلاوة الشعرية لهوميروس فقط عندما أكون مجذوباً أو ممسوساً!! ولو سمحتَ لي أن أنشدَكَ الآنَ أبياتاً من شعر هوميروس فإنّني على ثقة بأنّك لن تبقى على رأيك.
يؤكِّد سقراط بأنّه يرغب جيّداً في الاستماع إلى فنِّ آيون، لكنّه يريد منه أولاً أن يجيبه على سؤال. وهدف سقراط هنا هو متابعة الحوار على النّسق السابق ودفع آيون إلى مكانٍ في الحِوار يكتشف فيه بنفسه أنّ موقفه غير منطقي وأنّ اقتراح سقراط في تعريف الفنّ والشعر كنتاج إلهام عُلْوي هو التفسير الصّحيح. وهو يفاجئ آيون بسؤال غيرِ متوقّع:
سقراط: أوَدُّ منك أنْ تجيبَني على سؤال وهو: ما هو الجزء من شعر هوميروس الذي تبرَعَ فيه أكثر من غيره؟ أكيد أنّك لست بارعاً في كلِّ شعره؟ وهنا يسقط آيون في فخّ الغرور ويجيب:
آيون: لا يوجد يا سقراط أيُّ جزء من أجزاء شِعر هوميروس لستَ فيه من أبرع الناس في فهمه وفي إنشاده.
سقراط: هذا بالتأكيد لا ينطبقُ على الأجزاء التي في شعر هوميروس ليست لك معرفة بها.
آيون: وما الذي في هوميروس لا أملك معرفة به؟
هنا يذكِّر سقراط آيون بأنَّ هوميروس يتحدّث في شعره سواء في الأوديسة أو الإلياذة عن مشاهد تتعلّق بفنون أو مهارات مثل قيادات العربات الحربيّة أو إعداد الطعام أو الطَّب أو النّجارة أو صيد الأسماك أو غيرها وهو يسأل آيون على سبيل المثال إن كان الشّخص الصّالح للحكم على شعر هوميروس في وصف عربات الخيل الحربيّة وعمل قائدها ومناوراته في المعركة مثلا هو قائد العربة الحربيّة أم مُغنّي شعر مثل آيون نفسه. وهنا يعترف آيون بأنّ قائد عربة الخيل الحربيّة هو أقدر على تقييم شعر هوميروس في هذه المهارة. سقراط يعقِّب من فَوْره بالسؤال عمّا إذا كانت أهليّة قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس بشأن عربات الخيل عائدة إلى فنِّ الشعر أم إلى فنّ قيادة العربات. يوافق آيون على أنّ الفنّ الذي يستند إليه قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس حول العربات ليس فنّ الشعر بل فنّه هو في قيادة العربات الحربيّة. هنا ينتقل سقراط إلى استنتاج مهمٍّ يقترب به من دحض نظريّة آيون حول الفنّ.
سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عَيَّنَ الله له نوعاً من المعرفة بموضوع معيّن، ولهذا فإنَّ الذي يمكن أنْ نعلمَه من فنّ قيادة عربات الخيل يختلف تماماً عن الذي يمكن أنْ نتعلمه من فنّ الطِّب.
آيون: بالتأكيد

أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح
أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح

” سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه دون غيره  “

سقراط: كذلك فإنّ ما يمكنُ أن نتعلَّمَه من خلال فنِّ النّجارة يختلف عمّا يمكن أن نتعلّمه من خلال فنّ الطِّب؟
آيون: من دونِ شكٍّ
سقراط: وهذا ينطبق بالطبـــع على جميع الفنون
آيون: نعم
سقراط: وأنت ستوافقني على أنَّــه إذا كان لفنٍّ ما موضوعٌ محدّدٌ وكان لفنٍّ آخرَ موضوعٌ آخر مختلفٌ فهذا يعني أن الفنّيْن مختلفان؟
آيون: نعم
سقراط: وهذا يعني أنَّ أيَّ فنٍّ مُحَدّد يجب أن يكون له موضوع المعرفة نفسه وأنَّ الفنون الأخرى المختلفة سيكون لها مواضيع مختلفة للمعرفة تتعلّق بها؟
آيون: هذا هو رأيي
سقراط: إذنْ من ليس له معرفة بفنٍّ معيّن لن يكون له حقُّ الحُكم أو الحديث عن نصوص أو أعمال ذلك الفنّ الذي يجهله.
آيون: صحيح.
هنا يستخدم سقراط معرفته العميقة بشعر هوميروس وملاحمه ويفاجئ آيون في كونه حافظاً لكلِّ شعر هوميروس وهوَ لا يقلُّ عنه بل يفوقه فهما للشاعر وهو يختار سلسلة من الأمثلة التي تُظْهِر لآيون أنه لا يمكن أن يكون عارفا بكل جوانب شاعره المفضّل هوميروس. وهو يختار مقاطع يتحدث فيها الشاعر الإغريقيّ عن حالات معيّنة أو مِهَنٍ أو أعمال ثم يُظْهِر لآيون أنَّ أصحاب تلك الأعمال أو المهارات هم حتماً أفضل منه ومن أي شاعر في الحكم على أشعار هوميروس التي تتحدّث عن مِهَنهم ومهاراتهم لأنهم أخبر بها من الآخرين.

مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية
مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية

إن قصد سقراط في نهاية المطاف هو أنْ يُثبِتَ وجهة نظره وهي أنَّ عدم اكتراث آيون إلّا بشاعره المفضّل هوميروس وإهماله لغيره من كبار الشعراء يدلُّ على أنَّ فنَّه لا يعود إلى مهارة ذاتية أو موهبة لأنَّه لو كان كذلك لأمكنه تذوُّق شعراء آخرين كبار لا يقلُّون إبداعا مثل هيسيود وأورفيوس وغيرهما، وهو أراد أيضاً أن يُثبت أنَّ زعم آيون بأنّه محيط بالكامل بكلِّ ما جاء به هوميروس وأنَّه مرجع في الموضوع أيضا هو من الغرور ولا يصمد للفحص.
رغم ذلك فإنَّ آيون المغرور والذي كما يتَّضح من الحوار يفتد إلى النَّباهة يعود فيرتكب الخطأ ذاتَه مع سقراط فيزعُمُ مجدَّدا أنَّه مؤهَّل للحُكم على شعر هوميروس كلِّه دون استثناء، لكنَّ الحكيم هذه المرَّة سيكون صارماً فيذكِّره أنَّه اعترف قبل قليل بعكس ذلك عندما تناولا مثال قائد عربة الخيل الحربيَّة وغيرها من الأمثلة، وهو لذلك يعتبره مُنحازا لنفسه ومخادعاً يفتقد إلى الإخلاص في الحوار أو في الرغبة في التَّعلّم وبلوغ الحقيقة، لذلك ينهي سقراط الحوار باعتبار آيون من المخادعين، لكنَّه يعرض عليه “تبرِئَتـُـه” من ذلك الحكم القاسي إن هو وافق على الخَيار الآخر وهو القبول بأنه ليس فنّاناً بالسّليقة أو بقدرته الفنِّيَّة وإنَّما متلقٍّ لوحيٍ عُــلويّ يسيطر عليه عندما يكون على المسرح. وهذا الخيار الأخير يقبل به آيون لأنَّ البديل ليس مُشَرِّفاً له. وينهي سقراط الحوار بهذه الكلمات:
“إذن فإنني يا آيون سأنسب إليك الاحتمال الأكثر كرامة وهو أنك في تمثيلك لأشعار هوميروس إنما تعمل تحت تأثير الإلهام وليس الفن”.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي