الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محاورات افلاطون

كريتو

سقراط يرفض عرض أصحابه تسهيل فراره ويعطي كريتو قبل ساعات من تجرِّع السمّ درساً في احتقار الموت والتزام الفضيلة

الموت أفضل من الحيــــاة من دون شرف
والمهم نوعية الحياة وليس عدد سنواتها

كريتو: لم يعـــد لدي شــــيء أقولــــــــــــه!
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه
أمر الله

أهمية محاورة كريتو
على خلاف محاورات أفلاطون تقوم محاورة كريتو على نقاش مركّز بين شخصين فقط هما الحكيم سقراط وكريتو أحد مريديه، وهي من الأعمال المبكرة لأفلاطون والتي تضم دفاع سقراط ، لكنها رغم إيجازها تعتبر من الأعمال المهمة لأنها تتضمن درساً أخلاقياً وروحياً مهماً في أهمية احترام القانون والدولة وعدم بذل أي مجهود لإجتناب الموت كما لو كان مصيبة. بين سطورها تظهر بوضوح شخصية سقراط العظيمة وثباته وثقته بإيمانه الذي بقي محتواه سراً في داخله بسبب خشيته من التدخل في عقيدة أهل أثينا الوثنية أو إنكارها أو التشكيك بها.
تبدأ محاورة كريتو بمشهد فريد يلخّص بدوره جوهر شخصية سقراط. فكريتو الذي يتسلل لمقابلة سقراط وصل الزنزانة مع ساعات الفجر وهو يتحرق شوقاً لأن يعرض على المعلم خطة لإنقاذه من السجن ومن تنفيذ حكم الموت دبرها مريدوه وأمنوا لها المال والنفوذ.
كريتو يفاجأ بسقراط يغطّ في نوم عميق ويتحرج من إيقاظه، لكنه يتعجب كيف يمكن لرجل ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام به بعد ساعات أن يكون في هذه الحالة من السكينة وعدم الإكتراث، فالراهن حسب معرفته بالنفس البشرية أن انتظار الموت أمر رهيب، وهو كان يتوقع ربما أن يرى سقراط مكتئباً أو هلعاً، وعلى الأقل لم يكن ليدور في فكره أبداً أن يجد الحكيم مستسلماً إلى لذة النوم العميق غير عابئ بمصيره الذي اقترب!!
من شدّة دهشته وشعور الرهبة أمام مشهد الحكيم النائم يمتنع كريتو أولاً عن إيقاظ سقراط معتقداً أنه بذلك يتركه في حال لا يشعر فيها بما سيصيبه بعد ساعات عندما يأتي الجلاد لتنفيذ حكم الموت. لكن سقراط يستيقظ ليجد كريتو جالساً قبالته ويبدأ بذلك هذا الحوار المثير بأبعاده الأخلاقية والروحية: كريتو يعرض على سقراط فكرة الهرب من السجن وحكم الإعدام، وسقراط يشرح له بأسلوبه الجدلي المتدرج لماذا لا يمكن لهذا السلوك أن ينسجم مع مبادئ الأخلاق والفضيلة أو مع قناعاته الشخصية.

كريتو: لم أشأ أن أوقظك، وقد كنت أسأل نفسي عن هذا النوم الهانئ الذي كنت تغطّ فيه، لأنني أردت أن تكون في تلك اللحظات بعيداً عن الألم، لقد عرفتك في الماضي دوماً على هذه الحال من السعادة والهدوء، لكنني لم أر في حياتي رجلاً يواجه مصيبة الموت ويقابلها بهذا القدر من البشاشة والسهولة.
سقراط: لم لا يا كريتو، إذ عندما يبلغ رجل سن الكهولة فإن عليه أن لا يكون خائفاً من احتمال مواجهة الموت.
أما لماذا جاء كريتو في ساعات الفجر الأولى لزيارة سقراط فلأنه كان يحمل ما اعتبره خبراً حزيناً هو أن الباخرة ستصل إلى ميناء ديلوس في ذاك اليوم والذي سيكون لذلك آخر أيام سقراط لأن المحكمة قررت تنفيذ حكم الإعدام عند وصول تلك الباخرة إلى الميناء المذكور.
هنا يعرض سقراط لما يبدو كأنه معرفته بغيب الأمور وما سيجري في المستقبل، إذ صحح الحكيم لكريتو معلوماته قائلاً له إن الباخرة لن تصل اليوم ولن يكون اليوم بالتالي موعد تنفيذ حكم الإعدام، لكن الباخرة ستصل بعد يومين. كيف عرف سقراط ذلك يسأل كريتو. يجيب الحكيم بأنه نتيجة لرؤية صادقة حصلت له قبل أن يوقظه كريتو من نومه.
وبالنظر إلى أن كريتو وبقية أصدقاء سقراط بدأوا يشعرون بقرب حلول المصيبة بفقد معلمهم فقد كان لزيارة كريتو السرية غرض آخر هو الإلحاح مجدداً على سقراط بقبول فكرة الفرار من السجن، وقد قدم كريتو مرافعة طويلة توسّل فيها لسقراط أن يقبل الفكرة لأن «من واجبه أن يحمي حياته» لأنها «ليست ملكه ولكنها ملك لأفراد أسرته وأصدقائه ومريديه» فلا يجب بالتالي أن يتساهل في تقديمها لجلاديه، أضف إلى ذلك أن موت سقراط لن يفهمه الناس باعتباره قبولاً من الحكيم بمصيره ورضا به بل سيعتبرون موته نتيجة لتخلي أصدقاء سقراط عنه وتخاذلاً منهم في نجدته في محنته.
يقف سقراط فوراً عند النقطة الأخيرة ليعطي كريتو درساً كما كانت عادته مع مريديه.
سقراط: لكن لِمَ ينبغي علينا يا عزيزي كريتو أن نبالي برأي الكثرة من الناس؟ إذ إن الناس الأخيار- وهم الوحيدون الذين ينبغي أن يلقى إليهم بال- سيحكمون على ذلك الأمر كما هو في حقيقته.

يردّ كريتو بالتحذير من أن الكثرة من الناس يمكنهم أن يتسببوا بالأذى الكثير كما أثبتت محاكمة سقراط عندما انساقت هيئة المحكمة المؤلفة من نحو 500 شخص وراء الحجج الباطلة للإدعاء.
يردّ سقراط على ذلك بالتأكيد على أن الأمر ليس أكثرية أو أقلية. يقول:
سقراط: حبذا لو أن رأي الأكثرية يمكنه أن يقدم خدمة للبشر لكن في حقيقة الأمر أن الكثرة من البشر لا يمكنها أن تضر أو أن تنفع ، لا يمكنها أن تجعل من إنسان حكيماً أو أن تجعل منه أحمق، وأي شيء يفعلونه فإنما هو نتيجة عوامل مقدرة لا سلطة لهم عليها.
يتجه ظن كريتو هنا، وهو العارف بشخصية ومناقب سقراط، إلى أن الحكيم ربما يرفض الفرار من السجن لأنه لو فعل ذلك سيسبب مشكلة كبيرة لمريديه وأصدقائه الذين سيتبين أنهم ساعدوه في ذلك وقد تُصادر أملاكهم أو يُزج بهم في السجون، أي إن نبل سقراط هو المانع الأهم لرفضه الإنصياع لخطة الهرب، لذلك يحاول كريتو شدّ عزيمة الحكيم بالتأكيد على أن هناك كثيرين مستعدون لبذل كل شيء من أجل تغطية مسألة خروجه، بما في ذلك تقديم الهدايا أو المال مما قد لا يرتّب بالتالي آثاراً سلبية.
يقرّ سقراط لكريتو بأنه حقاً يعتريه قلق لجهة ما قد ينجم لرفاقه نتيجة عملية الفرار لكن هذا الخوف ليس العامل الوحيد وراء رفضه الفرار.
سقراط: ياعزيزي كريتو إن حماسك لإنقاذي أمر يستحق التقدير لو كان في المحل الصحيح، لكن إن كان النوع الخاطئ من الحماس فالأمر مختلف، إذ في حال الحماس لأمر باطل فإنه كلما زاد الحماس كلما زاد حجم الشر الناجم عن العمل، ولهذا، فإن علينا أولاً أن ننظر إذا كان العمل جائزاً ويجب القيام به أم لا. إنني كما تعلم من أولئك الناس الذين يصرون على الإهتداء بالعقل، وبغض النظر عن الأسباب فإنني سأتبع دوماً ما يبدو لي عند التمحيص الموقف الأفضل. وإذا كان هذا القدر قد وقع عليّ فإنه لا يمكنني أن أضع جانباً بسبب ذلك سواء الأسباب التي عرضتها قبل قليل أم المبادئ التي التزمتها حتى الآن وما زلت، لذلك إن لم نجد معاً مبادئ أو مبررات أفضل من التي عرضتها فإنا متأكد أنني لن أوافق على ما تعرضه عليّ، لا بل إنني لن أقبل به حتى لو كان علي أن أتحمل أكثر من سجن أو مصادرة أو موت وأكثر من عقاب من النوع الذي قد يخيفونني به كما يخوفون الأطفال بالغول الأسطوري.
هذا موقف حازم جازم من الحكيم أراد به أن يقدّم لتلميذه كريتو درساً في الفضيلة وهو لا يبدو عابئاً بالموت الذي ينتظره بقدر اهتمامه أن لا يرتكب إثماً بفعل هوى النفس أو الخوف، بل إن سقراط يتصرف مع كريتو بصورة طبيعية تماماً مثل عادته في محاورة تلامذته وأصدقائه وكل من أراد التعلّم منه ما يعتقد أنه الحق.
سيتابع سقراط حواره مع كريتو بأسلوبه اللطيف والمحب لكنه سيبدّل اتجاه الحوار ليتناول الموضوع من زاوية جديدة.
سقراط: ما هو الطريق الأقرب إلى الحق في النظر إلى المسألة (أي اقتراح كريتو على سقراط أن يقبل بالفرار من السجن). هل أعود إلى حجتك السابقة حول أهمية رأي الناس، ومنهم من يجب أن يؤخذ برأيه ومنهم من يجب إهمال ما يقوله؟ والسؤال هل كان موقفي هذا صائباً قبل أن يحكم عليّ؟ وهل الحجة التي كانت صائبة قبل الآن أصبحت الآن كلاماً لمجرد الكلام، أو ربما للتسلية فقط؟ هذا ما أريد الآن التباحث معك فيه، وما أريدك الآن أن تساعدني في حلّه.
سقراط: أخبرني يا كريتو إذا ما كنت أنا على حق في القول من أن آراء بعض الناس يمكن أخذها في الاعتبار بينما البعض الآخر لا ينبغي لآرائهم أن تؤخذ في الاعتبار .
كريتو: هذا مؤكد
سقراط: أي إن الآراء الصالحة يجب أخذها في الاعتبار وليس الآراء الباطلة؟
كريتو: صحيح
سقراط: وأن آراء حكماء الناس صالحة وآراء الحمقى منهم تجلب الشرور.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: … هل ينبغي على التلميذ في معهد الرياضة واللياقة الجسدية أن يستمع في تدريبه لآراء الناس الآخرين أو أنه يسمع من شخص واحد فقط هو مدربه أو معلمه بغض النظر عمن يكون هذا المدرب؟
كريتو: يجب عليه الإستماع إلى مدربه فقط
سقراط: أي إنه يجب أن يخاف فقط من عقاب ذلك الأستاذ وأن يتطلع للحصول على إعجابه هو وليس إعجاب الناس؟؟
كريتو: هذا واضح
ينتقل الحكيم الآن إلى عرض مسألة مكملة وهو يمهد للدخول في صلب الموضوع وتقديم إجابات واضحة على مشروع تهريبه من السجن.
وهو يبدأ بطرح السؤال حول عاقبة عدم إطاعة المعلم الذي يعرف واتباع عامة الناس ممن لا يمتلكون معرفة أو فهماً للأمور، وبالطبع فإن واجب التلميذ هو اتباع المعلم الذي يمتلك الحكمة، فإن قرر بدلاً من ذلك اتباع رأي الأكثرية من الناس الذين لا يمتلكون الحكمة، ألن يصيبه من جراء ذلك بلاء كبير؟
يوافق كريتو على ذلك، لكن المعلم يكمل عرض حجته بالتركيز على أن البلاء الذي يصيب العاصي إنما يصيبه في حياته وربما في بدنه وأن الموت أفضل من الحياة من دون شرف لأن المهم هو نوعية الحياة وليس الحياة نفسها أي عدد السنين التي نعيشها. ويشرح المعلم هذه النقطة عبر استكمال الحوار مع كريتو على النحو التالي:
سقراط: هل يمكننا العيش مع ذات شريرة فاسدة؟

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

“علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس بل ما يقوله لنا من يمتلك معرفة الحق والباطل”

كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: وهل تكون الحياة جديرة بأن نعيشها لو أن هذا الجزء الأسمى من الإنسان إضمحل وفسد؟ هذا الجزء الذي يتقدم ويتطور باتباع العدل ويتردى بالظلم وترك الحق؟
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: إذاً يا صديقي فإن علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس لنا بل أن نتبع فقط ما يقوله لنا الرجل الذي يملك معرفة ما هو عدل وما هو باطل وما تقوله الحقيقة، لذلك فإنك بدأت حجتك بخطأ جوهري عندما قلت إن علينا إنه تتبع أكثرية الناس في تحديد ما هو حق وما هو باطل ما هو خير وما هو شر وما هو شرف للإنسان وما هو عار عليه.
يستدرك سقراط المطّلع على فكر كريتو بالقول: بالطبع هناك من قد يردّ بالقول: لكن الأكثرية قد تتسبب بالقتل (ملمحاً إلى محاكمة سقراط وما أدت إليه من حكم جائر عليه بالموت).
كريتو: حقاً يا سقراط ، هذا ما سيكون جوابي
سقراط: هذا صحيح، لكنني أجد لدهشتي أن حجتي السابقة ما زالت في مكانها بل هي أقوى من أي وقت، وأودّ أن أعلم هنا منك إن كانت تلك الحجة تنطبق أيضاً على فرضية أخرى وهي: أنه ليست الحياة في ذاتها ما يجب طلبه بل الحياة الطيبة.
كريتو: صحيح؟ يبدو لي أن ذلك هو الصواب.
سقراط: والحياة الطيبة هي حياة عدل وشرف، أليس كذلك؟
كريتو: حقاً
سقراط: بناءً على كل ما سبق سآتي الآن إلى مسألة ما إذا كان ينبغي لي أم لا، أن أحاول النجاة بنفسي من دون رضا أهل أثينا، وإذا ما كنت محقاً فعلاً لو أنني قمت بذلك فإن تبيّن لي أن ذلك حق فإنني سأعمل للنجاة بنفسي، وإن تبيّن أنه عمل غير محق فإنني سأمتنع عن ذلك، أما عن الاعتبارات الأخرى التي ذكرتها مثل المال (الذي عرض أصدقاء سقراط توفيره بهدف إنقاذه) وخسارة السمعة (أي اتهام الناس لهم بالتخلي عن معلمهم) وواجب تعليم أطفالنا فكلها حسب نظري تدخل في اهتمامات عامة الناس (ولا علاقة لها بالمسألة الأخلاقية في موضوع محاولة الفرار من السجن). والعامة كما تعرف مستعدون دوماً لأن يدعوا الناس للحياة، إن كان ذلك في مقدورهم، أو أن يدفعوا بهم إلى الموت ومن دون حاجة لسبب وجيه. لذلك، فإن المسألة الأهم التي يجب النظر فيها هي هل يجوز لنا أن نفرّ من السجن أو أن نحمّل الآخرين عبء مساعدتنا في ذلك عبر توفير الأموال أو تقديم الشكر للمعنيين أم أن ذلك يعتبر عملاً خاطئاً وآثماً؟ وفي حال كان ذلك العمل خاطئاً فإن ما يمكن أن ينجم عن بقائي هنا من مصيبة أو موت لا ينبغي أن يدخل في الاعتبار أو يؤثر على صحة حكمنا على الأمور.
يضطر كريتو هنا للموافقة على الفرضيات التي وضعها سقراط، لكنه ما زال يحمل الأمل -وإن كان أمله يتضاءل مع تطور المحاورة- بإمكان إقناع الحكيم بالقبول بخطة تهريبه من السجن.
يسأل كريتو: أعتقد أنك على حق لكن ما العمل في هذه الحال؟
سقراط: لنتابع تقييم المسألة معاً، فإما أن تُظهر خطأ موقفي إن استطعت، وعندها فإنني سأقتنع بدعوتك لي أن أفرّ من السجن رغم إرادة الأثينيين. والحقيقة هي أنني راغب وبإخلاص في أن تنجح في إقناعي، لكن على أن لا يتعارض موقفك وحجتك مع ما أعتقد أنه الموقف الصواب.
هنا يطلب سقراط من كريتو أن يجيب على بعض الأسئلة التي سيطرحها عليه، وسنرى أن الحكيم يدخل هنا إلى صعيد جديد يتعلق بالفضيلة وبواجب الفرد في أن لا يتصرف خطأ أو أن يؤذي أحداً.
سقراط: يمكننا القول بأنه علينا أن لا نقوم مطلقاً بارتكاب عمل خاطئ وأن السيئات دوماً تجلب الشرّ والعار لفاعلها؟ هذه المبادئ التي اتفقنا عليها من قبل هل علينا أن نلقي بها جانباً الآن؟ وهل أجرينا كل تلك الحوارات عبر سنوات حياتنا بجدية تامة لنكتشف ونحن في هذا العمر أننا لم نكن في حقيقة الأمر أفضل من أطفال يلهون أم نبقى على قناعتنا الثابتة، وعلى الرغم من النتائج التي قد نتعرض لها، بصحة كل ما كنا نقوله وبأن الظلم دائماً ما يجلب الشرور والعار لكل من يرتكبه. هل نتفق على ذلك؟
كريتو: نعم بالتأكيد
سقراط: إذن يتحتم علينا أن لا نرتكب الخطأ
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: ويجب علينا أن أوذينا أن لا نسبب الأذى في المقابل كما يعتقد الكثيرون، لأن الواجب أن لا نؤذي أحداً على الإطلاق.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: وماذا عن الردّ على الشرّ بالشرّ كما هو اعتقاد أكثرية الناس ، هل هذا حق ؟
كريتو: كلا
عند هذه النقطة يسعى سقراط لامتحان صدق كريتو في إجاباته لأنه سيواجهه بعد قليل بنتيجة موافقاته للحكيم. سأله ما إذا كان على ثقة بأنه موافق على أنه لا يمكن الردّ على الشرّ بالشرّ مهما كان حجم الأذى الذي نتعرض له وينبهه إلى أن هذا الرأي لا يشاركه فيه إلا قليلون بينما الأكثرية هم مع فكرة الردّ على الأذى بالأذى. لهذا يسأل سقراط كريتو سؤالاً محدداً:

”  هل من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟ “

سقراط: هل أنت موافق فعلاً على المبدأ الذي عرضته لك وهل أنت مستعد لأن تعتبره العامل الفصل في مناقشتنا أم أنك ستختلف معي بشأنه؟ فإن كنت مع الرأي الآخر دعني استمع إلى ما ستقوله وإن كنت ستبقى على موافقتك لي فإنني سأتابع عرض حجتي.
وإذ يؤكد كريتو أنه لم يبدّل رأيه ينتقل سقراط إلى سؤال آخر هو: هل ينبغي للمرء أن يتمسك بما يعتقد أنه الحق أم يمكنه أن يتنصل منه ويخون مبدأه؟ يجيب كريتو بأن الصحيح هو العمل بما يعتقد المرء أنه الحق.
هنا يأتي سقراط إلى بيت القصيد مخاطباً كريتو:
سقراط: لكن إذا كان ذلك المبدأ صحيحاً، كيف نطبقه؟ إذا غادرت السجن رغم إرادة أهل أثينا هل أكون على حق أم على باطل؟ أو هل أكون بذلك قد سببت الأذى إلى أولئك الذين يجب أن يكونوا آخر من أفكر بإيقاع الأذى بهم؟ الا أكون بذلك قد خنت المبادئ التي توافقنا معاً على أنها يجب أن تتبع؟ ماذا تقول؟
يتفاجأ كريتو بهذا الانعطاف في حديث الحكيم ولا يقوى رغم ما قاله من موافقته لسقراط أن يجيب بالإيجاب على سؤاله وهو يختار بدلاً من ذلك موقفاً متردداً فيجيب: لا يمكنني الإجابة على ما تقول لأنني لا أعلم .
هنا ينتقل سقراط إلى أسلوب قوي في مواجهة كريتو بالحقائق وخطاب الضمير.
سقراط: لنفترض إذاً يا كريتو أنني قررت الهرب من السجن وقبل أن يحصل ذلك جاءتني قوانين أثينا وحكومتها للتحقيق معي في الأمر وهم سيبدأون حديثهم معي على هذا النحو: قل لنا يا سقراط – سيقولون- ما الذي أنت في صدده؟ هل حقاً عزمت على أن تعطل بقرار فردي منك قوانين البلاد ؟ هل تعتقد حقاً أنه من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟
هنا يوجه سقراط كلامه إلى كريتو ويسأله: ألا تعتقد أن اي خطيب مفوّه يمكنه أن يقدم مطالعة طويلة حول الشر الذي ينجم للدولة عن تجاهل قوانينها والتي تتطلب أن أي حكم تصدره يجب أن يتبعه التنفيذ؟ ربما وددت لو أنني أردّ على ذلك الاتهام بالقول: لكن الدولة هي التي سببت لنا الأذى بإصدارها لحكم ظالم!
كريتو: أحسنت يا سقراط!
سقراط: لكن القانون سيجيبني: هل هذا هو ما اتفقنا عليه؟ أم أن عليك أن تقبل بتنفيذ حكم الدولة ضدك؟ سيتابع القانون القول: قل لنا يا سقراط أي جرم ارتكبناه ضدك يبرر لك أن تقوم بتدميرنا وتدمير الدولة؟ بادئ الأمر لسنا نحن الذين سهلنا لك فرصة وجودك ؟ لقد تزوج والدك والدتك بمساعدتنا، وبما أنك اتيت إلى الحياة بمساعدتنا ونحن الذين اهتممنا بمعيشتك وبتعليمك، أليست قوانين الدولة التي جعلت من واجب والدك أن يقدم لك أفضل تعليم وأن يعلمك الرياضة والموسيقى؟ سأجيبهم: نعم . وعندها سيتابعون الحديث بما أننا وفّرنا لك الوجود والتربية وكل شيء هل يمكنك أن تنكر أنك لهذه الناحية ابننا وعبدنا كما كان أبوك وأجدادك من قبلك؟ وإذا كان صحيحاً أنك تتمتع بحقوق تزيد على ما نتمتع به أو أن من حقك أن ترد على الأذى الذي أوقعناه بك بأذى أكبر هل يمكنك أن تطبق ذلك المبدأ على والدك أو سيدك (لو كان لك سيد)، وإذا كنا نعتقد أنه من حقنا أن نميتك هل تعتقد أن لك الحق أن تدمرنا في المقابل؟ هل يغيب عن فيلسوف كبير مثلك أن للوطن قيمة أكبر وأقدس وأعلى من أي والد أو والدة أو أسلاف، وأن على المواطن حتى وإن لم يكن مقتنعاً بعمل الدولة أن يظهر الطاعة لها؟ وعندما توقع الدولة بك قصاصاً فإن عليك أن تتحمله بصمت، كذلك في المعركة، فإنه من العار على أي جندي أن يتمرد وأن يترك مكانه في القتال رغم ما قد يواجهه من خطر الجراح أو الموت. إن عليه أن يعمل ما يأمره به وطنه وكما إنه من غير المقبول أن يعتدي المرء على والده فإنه من غيرالمقبول أن يعتدي على بلده.
قدّم سقراط هنا مطالعة بليغة وموجزة في احترام الدولة والقانون وفي أسبقية الوطن على الفرد وأسبقية قوانين الدولة على مصلحة أو رغبات الأفراد، ومما لا شك فيه أنه في هذه الأفكار تطورت فكرة الديمقراطية الأثينية إلى درجة لا تقل نضجاً وتطوراً عن مفهوم الدولة في عصرنا الحاضر.

منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم
منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم

وجد كريتو نفسه هنا في موقف صعب للغاية، لقد استدرجه سقراط أولاً للتوافق معه على جملة من المبادئ التي وجدها منطقية مثل عدم الرد على الشر بالشر والتزام ما يعتقد الإنسان أنه الحق، لكنه يجد نفسه وقد باغته سقراط بالإنتقال إلى أهمية تطبيق تلك المبادئ بغض النظر عن النتائج التي قد تصيبنا من جراء ذلك. وها هو كريتو يجد نفسه أمام نتائج لتلك المبادئ لم يكن يتوقعها! بل إن سقراط بدا في مطالعته وكأنه يدافع فعلاً عن الدولة التي أذته وحكمت عليه بالموت، مقدماً بنفسه المثال على أن الموقف من الدولة والقوانين (وأي من شؤون الحياة) لا يمكن أن يكون استنسابياً ومرتبطاً بمصلحة أو تقدير الفرد. وبالطبع يرتقي سقراط في هذه المطالعة إلى ذروة التجرد إذ يرفض بصورة قاطعة عرض كريتو وبقية أصدقاء سقراط له مساعدته على الهرب من السجن، وهو لا يبدو مبالياً بالمرة بمصيره الشخصي وبحقيقة أن مؤدى ما يقوله يعني أنه يؤيد بنفسه تنفيذ حكم الإعدام الجائر. أليس هو من قال أمام المحكمة أن على المرء أن يلتزم الصدق والحق حتى ولو ترتب على ذلك أن يدفع حياته ثمناً لذلك؟ ثم ينتقل سقراط الآن إلى حسم الموضوع فيسأل كريتو: هل ما تقوله القوانين صحيح أم لا؟
كريتو: أعتقد أن ما تقوله صحيح
يردّ سقراط بتقديم المزيد من الشرح لنظريته في احترام الدولة – ومن زاويته هو عدم التمسك بالحياة لأي سبب كان- وهو يعطي لكلامه قوة خاصة بدعوة كريتو لتخيل ما سيقوله القانون في الامر مشروع تهريبه من السجن قبل يوم من تنفيذ حكم الإعدام.

تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا
تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا

سقراط: سيقول القانون بعد ذلك: فكر يا سقراط معنا بأن محاولتك الهرب من تنفيذ القانون تسبب لنا أشدّ الضرر، لأنه وبعد أن سببنا قدومك إلى هذه الدنيا ورعينا طفولتك ووفرنا لك التربية والتعليم وأعطيناك مثل أي مواطن حصة من خيرات البلد ، فإننا كنا نعلن دوماً بأن أي مواطن أثيني يبلغ الرشد ويكون قد تعرف على طريقة حياة المدينة ونظمها ومع ذلك لا يجد نفسه موافقاً على كل ذلك يمكنه السفر إلى أي مستعمرة أو مدينة أخرى يفضلها وأن يأخذ معه متاعه ولن يمنعه من ذلك أحد. لكن عندما يتعرف الرجل على المدينة ونظمها وقيمها ومع ذلك يختار أن يبقى فيها فإنه يكون قد دخل ضمناً في عقد يلتزم بموجبه تنفيذ كل ما تأمره به الدولة، ومن يتمرد على هذا الالتزام فإنه سيكون آثماً من ثلاثة وجوه. أولها أنه بتمرده علينا يكون كمن تمرد على والديه وثانيها لأننا نحن من وفّرنا له التعليم وثالثها لأنه دخل في تعاقد معنا يلتزم بموجبه تنفيذ ما يطلب منه لكنه لم يفعل.
يأتي سقراط إلى وجه آخر من الحجة عندما يجعل القانون يتابع حديثه الإفتراضي له فيقول: هناك أكثر من شاهد ودليل يا سقراط على أن القوانين والمدينة لم تكن تضايقك بأي حال، فأنت من بين الأثينيين جميعاً كنت أكثر من يقيم في المدينة بصورة دائمة، وأي مكان تمكث فيه فلا بدّ أنك تحبه ، وأنت لم تغادر أبداً المدينة سواء لمشاهدة الألعاب أو لأي سبب باستثناء مغادرتك المدينة لتأدية الخدمة العسكرية على الجبهات. أضف إلى ذلك، أنه كانت لديك الفرصة لاختيار عقوبة النفي بدل الإعدام لكنك أعلنت أنك تفضل الموت على النفي وانك لست قلقاً إزاء احتمال الموت لكنك تبدو وقد نسيت الآن تلك المشاعر البليغة وقررت ان تظهر الإحتقار لنا (الدولة) او لقوانيننا والتي تريد تدميرها. وها أنت تقوم بما يمكن فقط لعبد بائس أن يقوم به وهو الفرار والتمرد على الإتفاقات والعهود التي التزمت بها.
هنا يعود سقراط ليضع كريتو أمام الحقيقة متوقعاً منه أن لا يستمر في حالة الخوق والشعور بالخسارة الذي يعتريه مع بقية أصدفاء سقراط إزاء التنفيذ الوشيك لحكم الإعدام. ومن أجل شرح موقفه الرافض بصورة أقوى ينتقل سقراط إلى أسلوب جديد أكثر وضوحاً في عرض حجته .
سقراط: سيقول قانون أثينا : لتفكر جيداً يا سقراط، لو قررت أن تخرق القانون وتهرب بهذه الطريقة فأي منفعة ستأتيك أو ستأتي أصدقاءك من جراء ذلك. إن أصدقاءك سيحكم عليهم بالنفي وسيحرمون من المواطنية الأثينية، أو ستنزع ملكياتهم، هذا مؤكد تقريباً، أما أنت فإنك إن هربت إلى مدينة يونانية ثانية مثل طيبة أو ميغارا وكلاهما يطبقان أنظمة حكم جيدة فإنك ستأتي إليهم كعدوّ لأنهم سينظرون إليك كشخص مخرب للقوانين وستثبت للقضاة الذين حكموا عليك أن حكمهم كان صائباً، لأن من يفسد القوانين يمكن بسهولة أن يكون مفسداً للشبيبة وعقولهم. وفي نهاية المطاف هل نيل بضع سنوات من العمر يستحق كل هذا العناء؟ ثم لو فكرت من دون خجل بالهرب إلى مدينة أخرى أقل نظاماً مثل ثيسالي حيث توجد درجة كبيرة من الفوضى فإنهم سينظرون بعين الإعجاب إلى قصة هروبك من السجن مرفقة طبعاً بتفاصيل مضحكة مثل كيف تمّ تهريبك ملفوفاً بجلد ماعز أو غيره من سبل التخفي. وقد لا يكون هناك من سيذكرك بأنك وأنت في سن الشيخوخة هذه فعلت ما فعلت من أجل بضع سنوات من العمر، وقد يأتي بعض الرجال الغلاظ ليقولوا لك أشياء كثيرة مهينة. صحيح أنك ستعيش لكن كيف؟ ستعيش كمتزلف لجميع الناس وكخادم لهم، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب في ثيسالي!وهل قطعت كل تلك المسافات من أجل وجبة عشاء؟ وأين ستكون مشاعرك النبيلة حول العدالة والفضيلة آنذاك؟
يختم سقراط مرافعته بإسم قانون أثينا ودولتها فيتابع بالقول على لسان القانون: إسمع يا سقراط.لا تفكر بالحياة أو بالأسرة أولاً بل فكر بالعدل أولاً إن لم تفعل ما يطلبه منك كريتو (أي الهرب من السجن) فإنك بقبولك الحكم تغادر هذه الحياة بكل براءة، كشخص مظلوم وليس كمرتكب للشرور، ليس كضحية للقانون بل كضحية للناس، لكن إن قررت أن تبادل الشر بالشر والاذى بالأذى مخالفاً كل العهود والعقود التي عقدتها معنا فإننا سنكون على عداء معك ما دمت حياً، كذلك، فإن أشقاءنا وهم قوانين العالم الآخر سيستقبلونك (عند موتك) كعدو لأنهم سيعلمون أنك فعلت كل ما في وسعك لتدميرنا، لذلك نقول لك استمع إلى ما نقوله ولا تستمع إلى كريتو.

من آثار أثينا القديمة
من آثار أثينا القديمة

رفضه الهرب من السجن وهي مطالعة بارعة لأن سقراط لم يعرض الحجج على لسانه بل جعل القانون نفسه يتكلم ليعطي للحجة قوة أكبر وليضع كريتو في موقف يفقد فيه الأمل بإمكان تحقيق مشروعه. حقيقة الأمر أن سقراط لم يكن مقتنعاً من البدء لكن الحكيم يمتلك من الصبر ومن أسلوب الحوار المتدرج الذي اشتهر به بحيث يجعل محاوره يصل إلى النتيجة التي يكون هو على قناعة تامة بها.
لذلك تنتهي محاورة كريتو بكلام صريح من سقراط لمريده:
سقراط: هذا الصوت (أي الحجة التي ساقها ضد فكرة الهرب) هو الذي يطن في أذني وهو يمنعني من سماع أي صوت آخر وأنا على يقين بأن أي شيء إضافي قد تدلي به سيكون مما لا طائل تحته، لكن تكلم إن شئت إن كان بقي لديك أي شيء تقوله.
كريتو: لم يعد لدي شيء أقوله.
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه أمر الله.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading