معجزة الـ DNA
عمليّةُ نسخِ الخصائص الوراثيّة للإنسان تتكرر دون خطأ
مليــارات المرّات في فتــرة عمــر الكائــن الحــيِّ الواحـــد
أنزيمات متخصصة تبحثُ عن الأخطاء في نقل المعلومات
من شريط وراثيّ إلى آخر جديد ومن ثم تقوم بتصحيحها
في شريط الخصائص الوراثيّة ست مليارات معلومة مخزنة
في حيِّز لا يمكن رؤيته بأقوى الميكروسكوبات الضوئية
في العام 1953 تمكّن عالما الأحياء فرانسيس كريك وجيمس واطسون باستخدامهما الأشعّة السّينية من كشف تركيب الحمض النّووي ووجدا أنّ كامل مواصفات أجسام الكائنات الحيّة والتي تزيد على ست مليارات “شيفرة” وراثية مكتوبة بطريقة رقميّة على شريط طويل ودقيق من الحمض النّووي مخزن في نواة الخليّة وهو من الصّغَر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئيّة.
وبهذا الاكتشاف التاريخي الذي استحق العالمان عليه جائزة نوبل تمكّن العلم من فكّ أعظم سرّ من أسرار الحياة وهو الكيفيّة التي يتمّ من خلالها توريث مواصفات أجسام الكائنات الحيّة وكذلك فهم الطّريقة التي يتمّ بها تَكوّن كائنات جديدة كاملة ابتداء من خليّة واحدة تنقسم وتتكاثر إلى مليارات الخلايا التي يتحدّد لكلّ منها وظيفة خاصّة وتذهب بالتالي لصنع عضو معيّن أو قطعة معيّنة في هذه الفسيفساء العظيمة للجسد.
وبعد أن بدأ علماء الأحياء بدراسة تركيب شريط الحمض النووي والطريقة التي يستخدمها في تخزين المعلومات الوراثيّة والآليات التي يستخدمها في تنفيذ البرامج المخزّنة عليه وجدوا أنّ فيه من الأسرار بل من المعجزات ما تعجز أكبر العقول البشريّة عن فكّها. ولقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد هذين العالمين وهو فرانسيس كريك الذي نال مع زميله واطسون في عام 1962 جائزة نوبل في الفسيولوجيا تقديرا لاكتشافهما تركيب هذا الشّريط المعجز حيث قال في كتابه طبيعة الحياة “إنّ أيِّ إنسان نزيه ومسلَّح بكلِّ المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أنّ نشأة الحياة تبدو شيئاً أقرب ما يكون إلى المعجزة”.
ما هو الـ DNA؟
يوجد جزيء DNA داخل نواة كل من الـ 100 تريليون خليَّة الموجـودة في جسمنا، وهذا الجزيء الذي لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئية يحتوي على جميع الصّفات الوراثيّة للكائن الحيِّ التي ورثها عن آبائه وأجداده والتي سيورثها لأبنائه وأحفاده، فلو أخذنا نباتاً معيّناً فإنّنا سنجد أنَّ الشّيفرة الجينيّة المختزنة في الـ DNA الموجود في خلاياه قد كُتِب فيها بقدرة الله كيف سيكون حجم البذور وطريقة إنباتها، ومدّة الإنبات، وموسمه، وشكل البادرات، ونوع الأوراق وتركيبها الخارجيّ وتشريحها الداخليّ، وطريقة ترتيبها على الساق، وملايين العمليّات الحيويّة التي تحدث فيها، والتّفاعلات التي تُنتجها، وكمية الماء التي تحتاجها، والبراعم وأعدادها وتركيبها، والأزهار وألوانها ورائحتها وتركيبها، وثمار عقدها ولونها وطعمها وتركيبها الكيماويّ الحيويّ، والبذور وعددها وشكلها وتركيبها، وملايين الصّفات الوراثيّة الأخرى. وكل تفاصيل تلك العمليّات الحيويّة مكتوبة في هذا الجُزَيء الصّغير الذي لا يمكن أن يُرى حتى بأقوى الميكروسكوبات.
إنّ جُزيء الـ DNA الموجود في كروموزوم واحد من أصل الـ 46 كروموزوم الموجودة في كلّ خليّة من مئات مليارات الخلايا في جسم الإنسان يحتوي على معلومات حيوية عن الكائن الحيّ تعادل المعلومات الموجودة في موسوعة ضخمة مكوّنة من مليون صفحة مليئة. والعجيب أنّ هذا الجزيء أُعطِي الصّلاحية لصُنع نَسَخ مشابهة تماماً له من سيتوبلازم الخليّة، وهو أمر حيويّ لاستكمال تكاثر الخلايا مع نفس الخصائص الوراثيّة حتى تكوُّن المخلوق التّام والذي قد يكون بشراً أو حيواناً أونباتاً.
وتوجد معطيـات الحمض النّووي المتعلّقة بعضو أو بروتين معيّن ضمن مركّبات خـاصة تُدعى المورّثات أو الجينات. فمثلاً، المعلومـات المتعلّقة بالعين توجد ضمن متتالية من المورّثـات الخـاصّة، بينمـا توجد المعلومـات المتعلّقة بالقلب ضمن متتالية من المورّثـات مختلفة تماماً عن الأولى وهكذا دواليك.
لكنْ هنـاك تفصيل دقيق ومهمّ هنا وهو أنّ أيّ خطأ في ترتيب النّكليوتيدات المُكَوّنة لمورّثة جينيّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى إعطـابها وتعطيل وظيفتها، وإذا وضعنا في الاعتبار بأنّه يـوجد 200 ألف مورّثة في الجسم البَشريّ، يتّضح جليًاً استحـالـة أن تتموضع صدفة ملايـيــن النّكليوتيدات المكوّنة لهذه المورّثـات حسب التّرتيـب التّسلسليّ الصّحيـح. عالـم الأحيـاء التّطوريّ فرانك ساليسبوري يشير لهذه الاستحالة بأنّ احتمال أن يحصل مثل هذا الترتيب العجيب بالصّدفة وعبر مليارات السّنين هو بكلّ بساطة احتمال واحد من من 1 متبوعاً بستماية صفر وهو رقم يفوق الخَيال ويساوي بعلم اللوغاريتم صفراً مطلقاً. ويضيف سالزبريالقول:”إنّ احتمـال التكوّن العشوائيّ لبروتين واحد أو حمض نووي ضئيل جدًا، أمّا ظهور سلسلة كاملة مترابطة من البروتينات فهو أمر لا يمكن تصوّره حتى بالخيال”.
بالإضافة إلى كلّ هذه الاستحـالات، يصعب أن يدخل الحمض النّووي في تفـاعل معيّن بسبب شكله الهندسيّ الحلزونيّ ذي السلسلة المزدوجة. كما أنّه لايمكن أن يُسْتَنسَخ الحمض النّووي إلا بمسـاعدة إنزيمات يمكن إنتاجها فقط بواسطة المعلومات المُرَمّزة في الحمض النّووي نفسه ولأنّ كلا الجُزيئين يرتبط وجود أحدهما بالآخر، فإنّهما إمّـا أن يكونا قد وُجدا في الوقت ذاته من أجل التولّد، وإمـّا أنْ يكون أحدهما قد”أُوْجِد” قبل الآخر وعندها فإنّ التّفاعل الضّروريّ لا يمكن أن يتمّ بسبب حتميّة الوجود المتزامن للعنصرين. عالم الأحياء الأميركي جاكوبسون يقدّم ملاحظاته حول الموضوع :
”كلّ التّعليمات الخاصّة بإنتاج التّصاميم والطّاقة المحرّكة واستخلاص بعض الأجزاء من البيئة المحيطة وترتيب مراحل النّمو والآلية المنفِّذة التي تحوِّل التّعليمات المشفّرة إلى نموّ، كلّ ذلك يجب أن يتواجد آنيّاً في ذات لحظة (بدء الحياة).وهو ما يعني أنّ اندماج الأحداث صدفةً هو أمر مستحيل الاحتمال، بل يجب أن يُنسَب إلى القدرة الإلهية.”
كتب جاكوبسون ملاحظته هذه بعد سنتين من اكتشاف بُنية الحمض النّووي بواسطة جيمس واطسون وفرانسيس كريك. وبعد أكثر من 63 عاما على ذلك الاكتشاف التّاريخي لا زالت ملاحظة العالم الأميركي سارية المفعول، لأنّه وعلى الرّغم من كلّ التقدم العلميّ الذي تحقّق منذ ذلك الحين لا زالت معجزة الحمض النّووي والشيفرة الجينيّة وطريق عملها في توليد الكائنات والأنواع واستمرارها في الزّمن لُغزا مُحيِّرا ومعضلة كشفت الأرضيّة الهشّة التي تقوم عليها نظريّة “التّطوّر بالصّدفة” التي حاولت إيجاد تفسير ماديّ لنظرية الوجود لا تقوم على الإيمان بمبدأ الخلق والخالق. وحول هذه النّقطة يقول عالمان ألمانيان هما جانكر وشيرر بأنّ تخليق كلّ الجزيئات التي يحتاجها التّفاعل الكيميائي (لتكاثر الخلايا واستنساخ الشيفرة الجينيّة) يتطلّب شروطًا وظروفاً تختلف كثيراً في ما بينها، وأنّ احتمال اجتماع تلك العناصر في بُنية وظائفيّة بمحض الصّدفة هو صفر”
صدمة لنظريّة التّطوّر
إنّ أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحمض النّووي هو أنّ الطّريقة التي تمّت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات هي الطريقة ذاتها التي يستخدمها الحاسوب الرّقميّ لتخزين مختلف أنواع المعلومات في ذاكرته وفي تنفيذ برامجه. ولقد ترتّب على هذا الاكتشاف العظيم تحوّل كبير في المفاهيم المتعلّقة بالطّريقة التي تمّت بها عمليّة خلق الكائنات الحيّة وخاصّة تلك المتعلّقة بنظريّة التّطوّر والتي أصيبت بصدمة كبيرة بعد هذا الاكتشاف.
ويعود سبب الصّدمة إلى اكتشاف العلماء أنّه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحيّ مهما بلغت بساطة تركيبه إلّا من خلال تعديل مليارات الشّيفرات الوراثيّة المرتّبة بدقّة في جُزيء الـ DNA وهذا الأمر يتناقض تماماً مع النظريّة التطوريّة، أولاً لأنّ الصّدفة التي لا عقل لها لا يمكنها أن تقوم بإجراء التّغييرات المطلوبة في مليارات الشّيفرات الوراثيّة ضمن عمليّة التّطوّر، وثانياً لأنّ كلّ العناصر والمركّبات والأربطة والتّعليمات التي تدخل في صُنع جُزيء الـ DNA لا بدّ أن تكون موجودة معاً في الوقت ذاته لكي تنشأ الحياة ولا يمكن أن تتجمّع بفعل الصّدفة بصورة تراكميّة.
وهذه الكثافة في تخزين المعلومات غاية في الضّخامة إذا ما تمّت مقارنتها بكثافة المعلومات الرقمية المخزَّنة على الأقراص المغناطيسيّة أو الضّوئيّة الحديثة والتي يمكن لأفضل أنواعها أن تخزن نصف مليون حرف ثنائيّ في كل سنتيمتر وهذا مع العلم بأنّ عرض شريط القرص المغناطيسيّ يزيد بعشرين مرة عن عرض الشّريط الوراثيّ. ولكي يدرك القارئ ضخامة هذه الكثافة نذكر له أنّ الشّريط الوراثيّ للإنسان يتكوّن من ستة مليارات حرف وراثي مخزّنة في حيِّز لا يمكن رؤيته بالميكروسكوبات الضّوئيّة بينما لو تمّت كتابته على الورق باستخدام الأحرف الكتابيّة لاحتاج إلى مليون صفحة ورقيّة. وقد أوضح أحد علماء الأحياء هذه الكثافة بقوله إنّ الحيِّز الذي يمكن أن تحتلّه الأشرطة الوراثيّة لجميع أنواع الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض الآن وتلك التي انقرضت يمكن احتواؤه في ملعقة شاي صغيرة.
ولا بد لنا هنا من أن نؤكّد على أنّ استخدام نظام التّشفير لحفظ المعلومات عمليّة واعية بكلّ معنى الكلمة ولا يمكن أن تتم بأي حال من الأحوال من قبيل الصّدفة، فأقصى ما يمكن للصّدفة أن تعمله هو جمع بعض المكوّنات مع بعضها البعض لتنتج مكوّنا أكثر تعقيداً،ﹰ أمّا أن تقوم باختراع مثل هذا التّمثيل الرّياضي فهذا أمر لا يقبله العقل. كذلك فإنّ عمليّة النّسخ التّلقائية للمعلومات الوراثيّة لا يمكن أن تُختَرع إلّا من قبل عاقل يهمه أن يحتفظ بهذه المعلومات لأهداف لاحقة يريد تحقيقها، لأنّ الصّدفة مجرّد “حادث” أو مجموعة حوادث تخضع لقانون الاحتماليّة ولا يوجد للصّدفة “مخطّط” أو “ذاكرة” أو “تصميم” ثمّ إن سرّ الحياة الأعظم يكمن في قدرة الشّريط الوراثيّ على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السرّ تستطيع الخلايا الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها.
ولولا هذه الخاصيّة الفريدة لهذا الشّريط لَما أمكن للحياة أنّ تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السّنين وإلى أن يشاء الله، فالمعلومات الوراثيّة التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حيّ يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشّريط في كلّ خليّة قبل انقسامها إلى خليّتين وعندما يعطي الشّريط أوامره إلى الخليّة لكي تنقسم إلى خليّتين عليه أوّلاً أن يُصْدر الأوامر لتصنيع جميع الجُزيئات اللّازمة لبناء شريط جديد يودعه إحدى الخليّتين. فعلى سبيل المثال فإنّ عملية تصنيع شريط جديد في إحدى خلايا جسم الإنسان يتطلّب من الخليّة أن تقوم بتصنيع ستّة مليارات جزيء سكّر وستّة مليارات جُزيء فوسفات وذلك لبناء السّلسلتين الجانبيّتين ومن ثم تصنيع ستّة مليارات حرف وراثيّ بِنِسَبٍ محدّدة من أنواعه الأربعة إلى جانب تصنيع الأسطوانات البروتينيّة التي سيتمّ لفّ الشّريط الجديد عليها. إنّ هذا العدد الضّخم من الجُزيئات يجب أن يتمّ تصنيعه وحفظه في داخل نواة الخليّة التي لا يتجاوز قطرها الميكرومتر أوجزء من ألف من المليميتر..
كيف يَسْتَنْسِخ شريط الـ DNA نفسه؟
إنّ مجرّد تصنيع الجُزيئات التي يُبنى منها الشّريط الوراثي بالأنواع والأعداد المطلوبة يُعتَبَر معجزة من معجزات الحياة، ولكن هذه المعجزة لا تقاس أبداً بالمُعجزات الموجودة في الطّريقة التي يتمّ بها بناء الشّريط من هذه الجُزيئات. يبدأ الشّريط الوراثيّ عمليّة تصنيع نسخة جديدة عن نفسه وذلك بعد أن يتأكّد من توفّر الأعداد اللّازمة من الجزيئات المكونة للشّريط الجديد حيث يقوم إنزيم خاص بالعمل على فتح الشّريط الوراثيّ من أحد جانبية ليفصل السّلسلتين الجانبيتين بما تحملان من أحرف وراثيّة عن بعضهما البعض. ومن ثم تتولّى إنزيمات أخرى بناء سلسلتين جديدتين وتثبيت الأحرف الوراثيّة عليهما بحيث تكون الأحرف الجديدة على كل سلسلة مكمّلة للأحرف القديمة المرتبطة بإحدى السّلسلتين القديمتين.
ومن ثمّ تتحد كلّ سلسلة من السّلسلتين الجديدتين مع سلسلة أخرى من السّلسلتين القديمتين مكوّنتين شريطين وراثيّين يحتوي كلّ منهما على سلسلة قديمة وأخرى جديدة. إنّ عملية نسخ المعلومات عن الشّريط القديم وتخزينها على شريط جديد تتمّ بسرعة عالية نسبيّاً حيث تتراوح بين ألف حرف في الدّقيقة في الإنسان ومليون حرف في الدّقيقة في البكتيريا. وهذا على عكس المتوقّع فحجم المعلومات المخزّنة على شريط الإنسان يزيد بملايين المرّات عن حجم المعلومات على شريط البكتيريا فكان من المُفتَرض أن تكون سرعة النّسخ في الإنسان أعلى منها في البكتيريا.
ولكنّ تقليل سرعة النّسخ في الإنسان هدفه تقليل نسبة الخطأ في المعلومات المنقولة لأنّ السّرعة العالية للنّسخ في البكتيريا كفيلة بإتمام عمليّة نسخ شريطه في دقائق معدودة ولكنّ نسخ شريط الإنسان بمعدّل ألف حرف في الدّقيقة يحتاج لما يقرب من ستّ سنوات وهذا يعني أنّ تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة يحتاج لما يقرب من ثلاثمائة عام.
ولكن بقدرة الخلّاق العظيم أصبحت المدّة التي يحتاجها الشّريط الوراثيّ لإنتاج نسخة جديدة عنه لا تتجاوز نصف ساعة وقد تم ذلك من خلال إجراء عمليّة النّسخ بشكل متوازٍ لجميع الكروموسومات المكوّنة للشّريط الوراثيّ وكذلك من خلال إجراء عمليّة نسخ الكروموسوم الواحد في عدد كبير من المواضع. وبهذه الطّريقة الذّكيّة تمّ تقليص مدّة تصنيع إنسان جديد ابتداء من خليّة واحدة من ثلاثمائة عام إلى تسعة أشهر!
أنزيمات مُتخصّصة بتصحيح الأخطاء
ولقد وجد العلماء أنّ معدّل الخطأ في نقل المعلومات عند نسخ الأشرطة الوراثيّة في خلايا الإنسان قد يصل إلى خطأ واحد في كل ألف حرف وإذا ما تمّ حساب عدد الأخطاء الكلّيّة المحتملة في كامل الشّريط فإنّ الرّقم يبلغ ثلاثة ملايين حرف. ولكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ فعمليّة تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة تتطلّب تكرار عمليّة النّسخ هذه عند كلّ انقسام لكلّ خليّة من خلاياه والتي يصل عددها في الإنسان الكامل إلى ما يقرب من مائة ألف مليار خلية (مائة ترليون)..
وعلى هذا فإنّ مجموع الأخطاء في الأشرطة الموجودة في خلايا جسم الإنسان سيبلغ عند اكتمال تصنيعه مائة وخمسين مليون خطأ أيّ ما نسبته خمسة بالمائة من مجموع عدد أحرف الشّريط الوراثيّ للإنسان وهذه النّسبة العالية من الأخطاء كفيلة بفشل عملية تصنيع جسم الإنسان بالكامل. ولكنْ إحدى معجزات الإتقان التّام في صنع الإنسان والحياة عموماً أنّ نظام تكاثر الجُزيئات مزوّد بنظام يعمل على تصحيح الأخطاء النّاتجة أثناء عمليّة النّسخ فبعد أن يتمّ إنتاج نسخة جديدة من الشّريط الوراثيّ تقوم مجموعة من الأنزيمات بالبحث عن الأخطاء الموجودة على الشّريط الجديد ومن ثمّ تقوم بتصحيحها.
إنّ وجود نظام لتصحيح الأخطاء في عمليّة نسخ الأشرطة الوراثيّة تدحض دحضاً كاملاً أن تكون الصّدفة تقف وراء عمليّة خلق الحياة على الأرض كما يدّعي أنصار نظريّة التّطوّر.
كما أنّ اكتشاف جُزِيء الدّنا DNA وخصائصه أثبت أنّه لا توجد خليّة بدائيّة وخليّة متطوّرة (وهذا الافتراض هو الرّكن الأساسيّ في نظريّة تطوّر الأنواع) وأنّ الفارق الرّئيسيّ بين الخلايا الحيّة هو فارق في عمليّة البَرمجة يتجسّد في جُزَيْئات الأحماض النّووية بالخليّة ومنها الحمض النّووي الدّناDNA.
إنّ الله تعالى هو }فاطر السّماوات والأرض{ الذي }إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُنْ فيكون{ وهو الّذي }أحسن كلَّ شيء خلقَه{ هل الذي أبدع كلّ تلك الأنظمة التي لا تشوبها شائبة، ووضع كلّ التّفاصيل تماماً في مكانها الصّحيح، وتكفّل بأنْ تعمل كلّها معاً في توافق تامٍّ كما تعمل كافّة أجزاء الكَوْن الأخرى ابتداءً بالمجرّات والأفلاك والعوالم اللامحدودة وانتهاءً بأصغر الكائنات المجهريّة وملايين المخلوقات والأنواع.
مصادر أساسية
الشّيفرة الوراثيّة سرّ الحياة الأعظم- الدّكتور منصور أبوشَريعة العبادي جامعة العلوم والتّكنولوجيا الأردنية جامعة الأميرة سُمَيّة للتّكنولوجيا
هارون يحي – الخليّة أرض العجائب
هارون يحي – هذا الجُزيء المعجزة : الحمض النّووي (دي. إن إي)
لغز الحياة في الـ دي إن إي. الدكتور نظمي خليل أبو العطا موس
جزيء الـ DNA
أكبر بنك معلومات في العالم
يُعْتَبَرُ جُزَيء الحمض النّووي أكبر بنك معلومات في العالم، ويحتوي على بيانات ملفوفة حول ما يقارب الـ 25 مليون ربطة.
الآن، لنفكّر في جميع الخُطوات التي علينا اتّخاذها لإيجاد كتاب معيّن عندما ندخل مكتبة ضخمة تحتوي على عشرات الآلاف من المؤلّفات وعلى قاعدة بيانات تحتوي على كافّة المعلومات المتعلّقة بالكتب، ورفوف منظّمة، وملصقات، والأهمّ من ذلك عدد من العاملين الجاهزين لمساعدتك في البحث.
لننتقل الآن لمقارنة ذلك مع ما يجري في كل وقت في أي خليّة من ترليونات الخلايا التي تكوّن جسدنا، وحيث تقوم أنزيمات الخلايا بالعثور على معلومات محدّدة في بنك المعلومات الوراثيّة، وهذه الأنزيمات المسمّاة أنزيمات RNA تقوم بالبحث وتجد ضالّتها في الظُّلمة الشّديدة، وهي تذهب للمكان الصّحيح من بين 25 مليون ربطة تؤلّف بنية نظام المورّثات الجينيّة، وتعثر على المعلومات المطلوبة وتأخذ نسخة منها لنفسها، وتحدث هذه العملية 2000 مرّة في الثانية الواحدة في الـ 100 تريليون خليّة الموجودة في أجسامنا. إنّه لأمر مدهش جدًا كيف أن إنزيمًا غير عاقل يستطيع إيجاد سطور قليلة من المعلومات في جُزيء الحمض النّووي الذي يحتوي على ثلاثة مليارات رسالة، وكأنه وضعها في أماكنها بنفسه؟