مثلما يبزغُ ضوء النّهار من عتمة اللّيل الحالك، هكذا بزغ نجم صلاح الدّين الأيوبيّ من عتمة الحقبة التاريخيّة السالفة بكلّ آلامها وسوداويّتها، فكانت «معركة حطين» (في 4 تموز 1187) لؤلؤة انتصاراته، و«بداية النّهاية» للوجود الفَرنجي (الصّليبي) في هذه المنطقة.
إذ إنّ المكان الجغرافي يبقى مجرّد جغرافيا فقط إذا لم يكن هناك إنسان يُدخله التاريخ، هكذا هو الحال مع «حطين» التي كان للقائد صلاح الدين شرف إدخالها التاريخ من بابه العريض، فغدت بذلك «جغرافيا تاريخيّة» و«تاريخاً جغرافيّاً» بامتياز، وعلى هذا الأساس تبقى حِطّين دائماً أكبر من كلّ ما كُتب وما سيكتب عنها.
فلا تاريخ بلا جغرافيا، ولا جغرافيا بلا تاريخ، ولا تاريخ وجغرافيا بلا إنسان يعطي الجغرافيا أهميّتها التاريخيّة، ويعطي التاريخ أهميّته الجغرافيّة؛ بمعنى التّلازم الوثيق بين المكان والزّمان والإنسان. هكذا هي «حِطِّين» (كموقع جغرافي)، و4 تموز 1187 (كزمن تاريخيّ) وصلاح الدين (كإنسان قائد كبير).
ولعلّ المُستشرق البارز هاميلتون جيب كان مُصيباً في قوله: إنَّ «صلاح الدين الأيوبيّ نجح في كلّ ما نجح فيه ليس لأنّه استراتيجيّ عسكريّ باهر، أو سياسيّ تكتيكيّ ماهر، فقط، بل لأنّه تمسّك أولاً وأخيراً بالمُثُل الأخلاقيّة، وبضرورة لمّ الشمل وتوحيد الكَلِمة». فماذا عن معركة حِطّين وقائدها صلاح الدّين؟ وماذا عن البُعد الاستراتيجي لها؟ وما الدروس والعِبَر المُستخْلَصَةُ منها على الصعيد الغربيّ، وعلى الصعيد العربيّ، وعلى الصعيد الإسرائيليّ الصهيونيّ؟
تُعْتَبر معركة حِطّين من أهمّ المعارك في التّاريخ التي أثارت اهتمام العالم الغربيّ والعربيّ والإسلاميّ، ولا تزال دروسها ومآثرُها جديرة بكلّ اهتمام.
فعندما تتفرّق الكلمة، تضعف المواقف، وتنهار القوى، وتتزعزع الإرادات، وتضيع الأوطان، وتُهان الهوية. وإذا توحدت، يحصل النقيض، وتحتفظ أيّة أمّة بكيانها وهيبتها وهويّتها، ولقد عرفت بلادنا العربية وأمتنا هذين النقيضين في القرن الحادي عشر للميلاد، لمّا كان كلّ حاكم عربي يغنّي على ليلاه، ولا يفكّر إلا بشخصه ومُلكه ونفوذه، بعيداً عن مصلحة الجماعة، في الوقت الذي توحّدت فيه قوى الغرب لشنّ حربها على الشرق بغية «انتزاع الأماكن المقدّسة من أيدي المسلمين».
لقد خيّم على بلادنا، في ظل أولئك الحكّام، جوٌّ من التّفرقة والتمزّق، بينما كان جوّ الوحدة يخيم على الغرب رغم كثير من الخلافات والعداوات بين ملوكه وأُمرائه، الذين أوجدوا قاسماً مشتركاً فيما بينهم ضدّ المسلمين والشرق.
تذرّع الفرنجة – الذين أُطلق عليهم اسم الصّليبييّن – بحججٍ وذرائعَ شتّى في سبيل الاستيلاء على بيت المقدس وانتزاعه من أيدي المسلمين. ولمّا كان للعامل الدينيّ أثره الأوّل والأساس في ذلك العصر، فقد كان لكلمة البابا أوربانوس الثاني ودعوته إلى تجنيد الجيوش لهذا الغرض، إضافة إلى دور الرّهبان والقساوسة ورجال الدّين المسيحيين، فقد كان لكلّ ذلك تأثيره المهمّ على سير الحملات التي عُرفت بـ «الصليبية» بدءاً من سنة 1096 ميلادي، مع أن العوامل الأخرى – غير الدينيّة – كانت لها أهميتّها الأولى غير الظاهرة. فوق كلّ ذلك، ورغم هذا الخطر الذي كان يهدد الأقطار العربية والإسلامية، إذ كانت هذه الأقطار موزّعة بين خلافتين: الخلافة الفاطميّة في مصر، والخلافة العباسيّة في بغداد…، أمّا الأندلس فقد كانت تتعيش حالة من التمزّق والانحدار نحو السقوط المتدرّج في عصر ملوك الطوائف وعموماً فقد كانت خلافة بغداد والقاهرة كلتاهما تعانيان من الوهن وتردّي السلطة وشيوع الفرقة ما يغري بالإغارة عليهما واستباحة حماهما، ولقد جاءت الغزوة الصليبيّة الأولى على الشرق العربي/الإسلامي سنة 1096، ونجحت في تكوين مملكة لاتينيّة في القدس بقيادة «غودفروا دي بويون» ابن كونت بولونيا، كما نجح الفرنجة فيما بعد بتأسيس عدد من الإمارات كإنطاكية والرّها وطرابلس.
انتشى الصليبيّون بنشوة النّصر، وتتالت غزواتهم، وما أن كانت الحملة الثالثة التي قادها ريتشارد الأول ملك إنكلترا، والملقّب «بقلب الأسد»، والى جانبه ملك فرنسا فيليب أوغست، حتى كانت الأمّة العربيّة والإسلامية تعيش وضعاً أفضل من زمن الغزو الأوّل (عام 1096) في ظلّ قائد شجاع، تمكّن من إدراك مكامن الضّعف والقوّة فوحّدها وانتشلها من الحضيض، وأعاد لها هيبتها الزاهية، ذلك هو صلاح الدين الأيوبيّ، الذي وجّه للصليبييِّن ضربة قاضية في معركة من أكبر معارك التاريخ الفاصلة؛ هي معركة حطين في 4 تموز 1187.
ولد يوسف بن نجم الدين أيوب (الذي حمل لقب صلاح الدين فيما بعد) في قلعة تكريت التي كان والده حاكماً عليها، وقد انتقل مع والده إلى الموصل على أثر خلاف بين الوالد وبين «بهروز» حاكم بغداد الفعلي تحت اسم خلافة عباسيّة صُوَرِيّة لادور لها، ودخل وأخوه شيركوه في خدمة عماد الدين زنكي حاكم الموصل، ولما شبَّ صلاح الدين انخرط أيضاً في خدمة هذا الحاكم العظيم.
كان صلاح الدين من القادة الموهوبين عسكريّاً، ذا شخصية فذّة، وإرادة قويّة، ومعرفة في فنون الحرب والسياسة، وكان ذا خُلق متين، يتميّز بإنسانيّة ونبل، قلَّ أن وُجدت في تلك الفترة التي عاش فيها، وقد نال إعجاب خصومه وأعدائه وتقديرهم قبل أصدقائه، وإنّ أفضل حُكْمٍ ما نطقت به الأعداء قبل الأصدقاء – كما يقولون-.
كان صلاح الدين الأيوبي يصحب عمّه في غزواته ويتولّى قيادة قسم من الجيش، ويُبلي البلاء الحسن. وكانت له وقائع مشهورة في تلك السنّ المبكرة، وخاصة بما وُفِّق فيه من دفع الصليبييّن عن الاسكندرية في إحدى غاراتهم البحرية.
ولم تكن ناحية القيادة وحدها هي التي لفتت الأنظار إلى صلاح الدين، بل إنّ شجاعته وإقدامه وآدابه وحسن معاملته للأهالي قد جعلت له منزلة محمودة، فقال في ذلك أحد المؤرخين:
«والذي أدهش المسيحييّن من أمر صلاح الدين هو مروءتُه وشهامته وكرامته وكرمه وحلمه ومحافظته على العهود» ففي تلك الفترة كانت مصر تتخبّط في حالة من الفوضى والاضطراب لا توصف، فدفع إليها نور الدين زنكي جيشاً لإنقاذها بقيادة أسد الدّين شيركوه، وكان صلاح الدين في عداده، وقد اشتبك هذا الجيش عدّة اشتباكات مع الصليبييّن في غزوتين، أمّا في الغزوة الثالثة فقد استولى شيركوه على مصر بدون دماء، وخلع عليه العاضد، آخر خليفة فاطمي (وكان هذا في حالة من الضعف والمرض لاحول له ولا طول)؛ بالوزارةَ لمباشرة مهام الأمور فيها.
وعلى أثر موت شيركوه، لم يعد يصلح للوزارة في مصر غير صلاح الدين، فصدر إليه أمر الخليفة الفاطمي في 23 آذار / مارس / سنة 1169، وقد جاء فيه: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجة عند الله لديك، فأوفِ بعهدك وخذ كتاب أمير المؤمنين بيدك». وكان اللقب الذي عُرف به صلاح الدّين: «الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدّنيا والدين يوسف بن أيوب».
ولم يكن صلاح الدّين حين قُلِّد الوزارة أربى على الثانية والعشرين من عمره، ولكنه عمرٌ حافلٌ بخبرة الحرب والقيادة والإدارة، وقد استطاع بحنكته أن يظفر بحبّ المصريين، وألّا يفقد ثقة سيّده في الشام والعراق نور الدين زنكي.رغم دبيب الرّيب بينهما.
ولعب القَدَرُ دوره إلى جانب صلاح الدين، عندما تُوفّي نور الدين زنكي والخليفة الفاطمي العاضد وآموري ملك القدس، فخلا له الجو وأصبح السيّد المطلق في مصر، والقائد الأقوى بين جميع قادة المسلمين آنذاك، فراح يجمع الصفوف ويحشد القوى ويستعدّ للذّود عن حياض العروبة والإسلام. وكان أمله الكبير يتمثّل في توحيد مصر وسورية وفلسطين. وبذلك وحده يمكن إنقاذ البلاد ودفع الخطر الصليبيّ عنها.
بلغت قوة صلاح الدين ذروتها، مما دفع الصليبيين إلى أن يعقدوا معه هدنة مدّتها أربع سنوات بدءاً من عام 1185. إلا أن سياسة «أرناط» الصّليبيّ صاحب حصن الكرك وانقضاضه على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق، عام 1187م كانت سبباً مباشراً في خرق الهدنة وإعلان الحرب،فكانت «معركة حِطّين» هي الفاصل الرّئيس بين استمراريّة التهديد بالتوسّع الصليبيّ في المنطقة ، وبين حياة التخلّص من ذلك الكابوس المُذل…
والحقيقة أنّ صلاح الدين كان قد فرغ من إحياء الجبهة الإسلامية المتّحدة بعد أن دانت له الموصل بالطاعة، واستطاع توحيد مصر والشام والعراق والجزيرة، الأمر الذي جعل الفرنجة في فلسطين مطوّقين من الشمال والجنوب والشرق، وزاد من سوء وضع مملكة الفرنجة في بيت المقدس، اضطراب أوضاعها الداخلية نتيجة لوفاة ملكها المريض «بغدوين الرابع»، وقيام ملك قاصر هو «بغدوين الخامس» الذي لم يلبث أن توفي هو الآخر ممّا أدى إلى سلسلة من المؤامرات الداخليّة بين الفرنجة انتهت بتنصيب «غي لوسينيان» على عرش المملكة الصليبيّة سنة 1186 م، وكان غي هذا رجلاً ضعيفاً لم يستطع أن يحظى باحترام أمراء دولته وعلى رأسهم «أرناط» صاحب حصن الكرك، الذي لم يشأ أن يترك الفرنجة في فلسطين ينعمون بفرصة الهدنة لتصفية خلافاتهم الداخليّة، واختار أن ينقضّ على قافلة المسلمين تلك التي أُشير إليها، فعجّل بالمعركة الحتمية بين صلاح الدين والفرنجة برفضه إطلاق سراح أسرى رجال هذه القافلة، ولما اتضح لصلاح الدين عجز الملك «غي لوسينيان» عن ردع «أرناط» وإجباره على ردّ الأسرى لم يعد أمامه إلا القتال؛ فقام بحركة تعبئة شاملة لقواته التي أخذت تتوافد عليه من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر، ولمّا اكتملت قواته خرج على رأسها من دمشق في آذار 1187 ليهاجم حِصْنَيِّ الكرك والشّوبك، فاصطدم بالفرنجة عند صفوريّة في موقعة سقط فيها معظم أفراد جيشهم بين قتلى وأسرى، في حين عَدّ المسلمون هذا النصر «باكورة البركات».
أمّا الصليبيون فقد ثابوا إلى رشدهم بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، فوحّدوا صفوفهم، وحاولوا أن يتناسَوْا خلافاتهم، وحشدوا قواتهم عند صفوريّة، وهنا ظهرت براعة صلاح الدّين العسكريّة مستفيداً من دروس أسلافه القادة العرب، فقرّر ألّا يتقدم نحو الصليبييِّن لمنازلتهم، واختار أن يستدرجهم ليسيروا نحوه فيصلوا إليه مُنْهَكين من طول الطريق وحرارة الجوّ وقلّة الماء، ولذلك بادر صلاح الدين بمهاجمة مدينة طبريّة وإحراقها – وكانت في أيدي الفرنجة – الأمر الذي استثارهم فزحفوا لتخليصها في ظروف قاسية. وكان صلاح الدين ورجاله ينتظرونهم قرب طبريّة ناعمين بالماء الوفير والظلّ المديد، مدّخرين قواهم لساعة الصفر، وعندما سمع صلاح الدين بأن الصّليبييِّن شرعوا في الزّحف إليه، تقدّم على رأس رجاله نحواً من خمسة أميال ليرابط غربيّ طبرية عند قرية حطّين، الواقعة في منطقة غنيّة بالمرعى وفيرة الماء، بها قبر النبي شُعَيب، وكان ذلك في تمّوز 1187، في يوم راكد الهواء، شديد الحرارة، بلغ فيه الفرنجة «سطح جبل طبرية» المشرف على سهل حطّين، وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300 مترٍ ولها قِمّتان أشبه بالقرنين، ممّا جعل العرب يُطلقون عليها اسم «قرون حِطين». وقد حرص صلاح الدين على أن يقف رجاله بحيث يحولون بين الفرنجة والوصول إلى ماء بحيرة طبرية في وقت «اشتد بهم العطش»، ثم أمر صلاح الدين بإشعال النار والأعشاب والأشواك التي تكسو الهضبة، وكانت الرّيح تهبُّ باتجاه الفرنجة، فحملت حرّ النار والدّخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش، وحرّ الزّمان، وحرّ النار، والدّخان وحرّ القتال» على حد قول ابن الأثير.
وعندما أشرقت شمس يوم السبت، الرّابع من تموز 1187، اكتشف الفرنجة أنَّ صلاح الدين استغلَّ ستار الليل ليضرب نطاقاً حولهم حتى أحاطت بهم قواته «إحاطة الدائرة بقطرها». وبذلك بدأ الهجوم الشّامل على الفرنجة وهم في أسوأ الظروف فأخذتهم سهام المسلمين، وكَثُر فيهم الجراح وقوي الحرّ وسامهم العطش الفرار» حسب قول المؤرخ ابن واصل.
وقاتل الجيش الفرنجي ببسالة لا نظير لها متحمّلاً عطشه ونار خصمه، لكنّ هجمات المسلمين ظلت تتكرّر دون أن تترك للعدو مجالاً لالتقاط أنفاسه فانهزم مشاتُه، أمَّا فرسانه فقد لاذ قسم منهم بالفرار مُخترقاً صفوف المسلمين بقيادة «ريموند» أمير طرابلس، وارتدّ قسم آخر نحو تلّ حطين حيث نُصبت خيمة الملك «غي» والتفّ حولها نحو ماية وخمسين فارساً يدفعون المسلمين عنها، وأدرك صلاح الدّين أنّ هزيمة الصليبيين تتم ساعة تُدَكّ خيمة مليكهم، فأرسل إلى تلك الخيمة وحاميتها موجة من الجند المهاجم إثر موجة، حتى رآها تُدَكّ، ويقع الملك «غي» وسائر الأمراء والفرسان الصليبييِّن، وفي مقدمتهم «رينو دي شاتيّون» المعروف عند العرب بـ«أرناط» (صاحب حصن الكرك)، كلّهم وقعوا أسرى بين أيدي الجنود المسلمين، وقد سيقوا مع غيرهم من أكابر الفرنجة (خاصة جيرار مقدّم فرسان الدّاوية) الى صلاح الدين في مخيّمه، فأحسن استقبالَهم وأمر لهم بالماء المثلّج ليرووا ظمأهم، لكنّه قطع رأس «أرناط» بسيفه تنفيذاً لوعد قطعه على نفسه إذا وقع هذا الأميرُ في قبضته، وذلك لخيانته الميثاق الذي كان قد سبق وارتبط به معه، ولجرائمه السابقة في قتل الأسرى، وكان صلاح الدين قد ذكّر أرناط بجرائمه وقرَّعه بذنوبه وعدّد عليه غَدراته.
ويختلف المؤرّخون في تقدير عدد قتلى الصليبييِّن وأسراهم في هذه الوقعة حيث ذكر بعضهم «إنَّ عدد قتلاهم كان اثنين وعشرين ألفاً، وذكر آخرون أنّه كان خمسين ألفاً». كما ذكر أنّ المسلمين قتلوا ثلاثين ألفاً وأسروا مثلها، لكنّ أدقّ وصف يمكن اعتماده في هذا المجال هو قول المؤرخ ابن الأثير: «وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحداً، وكذلك قال المؤرخ «أبو شامة» في كتابه «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين».
في الواقع، لقد أثبت صلاح الدين الأيوبيّ أنّه ليس هناك سلام بغير قوّة، وأن احتلال الأراضي لا يقضي على الأمم، ولكن الذي يقضي عليها هو احتلال إرادتها، وليس بعدد السنوات يُقاس عمر الشعوب والأوطان… (وقد استردّ صلاح الدين بيت المقدس بعد نحو 90 سنة على احتلال الصليبييّن لها). ولكن، ماذا أدخل صلاح الدين في القاموس العسكريّ من مصطلحات جديدة من خلال معركة حطين؟ وما الأهمية الكامنة فيها؟
أولاً: كرّس بما لا يقبل الشّكَّ تأثير العوامل الجغرافيّة وتضاريس الأرض على سير المعارك والحروب، والرَّبط والدمج بين الجغرافيا والحرب في العلم العسكريّ.
ثانياً: استخدم استراتيجيّات جديدة سبق الغرب الأوروبيُّ (والأميركي فيما بعد) فيها بأكثر من 800 سنة (كاستراتيجية الحرب الاستباقيّة (أو الوقائيّة) + واستراتيجيّة الأرض المحروقة، قبل الروس والألمان (والأميركييّن فيما بعد) + واستراتيجيّة «السلاح الكيماوي» البدائي الممثل بحرائق الأشجار والأعشاب الجافّة + استخدام «سلاح التعطيش» ضد الصليبييِّن و«طمر الينابيع» وتدمير صهاريج المياه وتلويث الآبار فأصبح أعداؤه بين حرَّين، وهم عطشى: حرّ النار وحرّ الصيف. يضاف إلى ذلك «سلاح الاستدراج» الذي استخدمه صلاح الدين ضد أعدائه، إلى المكان الذي اختاره هو، وفق استراتيجيّة السيطرة على الموارد المائيّة والزراعيّة)… وصولاً إلى توصية هامّة تقول: وكم من أرض قتلت جاهلها فعلاً.
ثالثاً: لم يتفرّد صلاح الدين برأيه وموقفه الشّخصيّ في معاركه – ومن بينها معركة حطين بالطبع-، بل كانت استشارته لمعاونيه ومساعديه (المستشارين) ذوي الخبرة في الشؤون الجغرافيّة والمسالك والبحر من أهم العوامل المساهمة في الانتصار أيضاً … ولعلّ أشهرهم كان القاضي الفاضل…
رابعاً: إنّ هذه السياسة العسكريّة التي اتبعها القائد صلاح الدين كانت نتيجة «المدرسة العسكرية الصلاحيّة النوريّة» حيث من هذه المدرسة تخرّج أيضاً العادل والكامل والمظفّر الذين انتهجوا «استراتيجية المياه» (التعطيش + طمر الآبار + تلويثها وتسميمها + إغراق الأراضي بالمياه لتصبح مستنقعات موحلة تعيق تحركات العدوّ العسكرية). بالإضافة إلى «استراتيجيّة الاستدراج» + وسلاح طوبوغرافية الأرض + والمناخ والأمطار والحرارة + واستراتيجية تخريب وتدمير (وفق سياسة «الأرض المحروقة» المعروفة اليوم) + وحرق الأعشاب والغابات لإنتاج الدّخان الخانق (كسلاح كيماوي طبيعي…)…
في ضوء ذلك، نتساءل: ماذا أفرزت معركة حطّين من نتائج ذات طابع استراتيجي غربياً وعربياً وإسرائيلياً؟ وما هي العبرة المركزية منها على مختلف الصّعد؟
على الصعيد الغربي:
أولاً: إدراك القوى الغربيّة ذات الطابع الاستعماري العنصري لأهمية الموقع الجغرافي (الجيو-سياسي والاستراتيجي) للمنطقة العربية بين القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا، فضلاً عمّا تزخر به من طاقات بشريّة وطبيعيّة دفينة تشكل خطراً داهماً في وجه القوى الدولية إذا امتلكها شعب هذه المنطقة وتحكّم بها، إضافة إلى ما تتميّز به على صعيد الممرّات المائية والبحار والمضائق كعصب مهم جداً مستقبلاً.
ثانياً: شكلت «حروب الفرنجة» (المعروفة بالحروب الصليبيّة) رأس الحربة للغرب ضد هذه المنطقة تحت حجج وذرائع شتّى. وهذه الحروب هي ذاتها التي أفرزت أخطر وأقدم وصيّة لضرب العرب والمسلمين منذ نحو ثمانية قرون، ولا تزال تُدَرَّس في الغرب، وهي المتمثّلة بوصيّة الملك الفرنسي لويس التاسع (قائد الحملة الصليبيّة إلى مصر وقد اعتُقِل على أثرها وسجن بين جدران دار ابن لقمان لمدّة شهر كامل في جزيرة الورد عام 1250)، حيث قال فيها – بعد تأمّل وتفكير عميقين – موجّهاً كلامه إلى الغربيين: «إذا أردتم أن تهزموا العرب والمسلمين فلا تقاتلوهم بالسّلاح وحده. فقد هُزِمتم أمامهم في معركة السّلاح. ولكن حاربوهم في عقيدتهم ووحدتهم، فهي مكمن القوّة فيهم»…
هذا، وقد شكّلت هذه الوصيّة أخطر وثيقة في هذا الاتجاه (وهي محفوظة في دار الوثائق القوميّة في باريس)، وهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عمليّة التبشير والاستشراق.
كما أوصى في نهايتها بضرورة «العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً، وأنطاكيا شمالاً، ثمّ تتجه شرقاً وتمتد حتى تصل إلى الغرب»…
ثالثاً: على أساس وصيّة الملك لويس التاسع وأهميّة المنطقة العربيّة في مشروع الشرق الأوسط، كان مؤتمر «كامبل بنرمان» (رئيس الوزراء البريطاني) عام 1905، الذي دعا إليه كبار المفكّرين والاستراتيجيين الغربييّن، طارحاً عليهم السؤال الوحيد وهو: «ما هي الوسائل الكفيلة بتأخير سقوط الامبراطوريات الاستعماريّة، كي لا تنهار مثلما انهارت امبراطوريتا الإغريق والرومان؟». وبعد عامين على هذا المؤتمر صدر التقرير الذي عُرف فيما بعد بـ «تقرير كامبل بنرمان» (عام 1907) حيث جاء فيه إنّ من يسيطر على منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسّط، يستطيع التحكّم في العالم. حيث في هذه المنطقة يتواجد شعب واحد، تتوفر عنده كلّ مقومات الأمّة والقومية، وفي أرضه ثروات هائلة تشكّل عصب حياة الغرب والغربييِّن، وهي بالنّسبة لهذا الشعب بمثابة «روحه»، ويجب على الغرب التحكّم بهذه الروح والسيطرة عليها. كما يجب العمل على إبقاء هذا الشعب بحالة من التمزّق والتّفرقة والتقسيم والقتال الدّاخلي.. وكانت التّوصية الأخيرة في تقرير بنرمان هذا شبيهة تماماً لوصيّة الملك لويس التاسع، حيث تقول: «يجب العمل بكل الإمكانات لخلق حاجز بشري قوي وغريب، يفصل الجزء الآسيويّ عن الجزء الأفريقيّ في المنطقة العربيّة، عدوّ لسكان المنطقة، وحليف للغرب»… وبعد أربعين عاماً كانت ولادة «إسرائيل» في هذه المنطقة المحدّدة بالضبط، وحقيقة الأمر أنه على أساس ذلك، كانت اتّفاقية سايكس -بيكو (1916)، ووعد بلفور(1917)، ومؤتمر فرساي (1919)، ومؤتمر سان ريمو (في إيطاليا 1920) الذي وزّع الانتدابات على الدّول العربيّة وكانت فلسطين من حصّة بريطانيا تمهيداً لقيام «الوطن القومي اليهودي» فيها. والغرابة «أنّ قلّة بسيطة في الوطن العربي تعرف بأن اتفاقية سايكس-بيكو كانت صهيونية مئة بالمئة» ولو كانت الواجهة لها بريطانيّة فرنسيّة.. وكذلك الحال بالنسبة لوعد بلفور البريطاني عام 1917، حيث يجهل الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين, أنّ وعداً فرنسيّاً أعطي لليهود الصهيونييّن في باريس (هو وعد جولز كامبو) قبل خمسة أشهر من وعد بلفور البريطانيّ (وتحديداً في حزيران 1917) رفعه كامبو إلى سوكولوف بعد اجتماعات عدّة حضرها رئيس الوزراء الفرنسي يومها (ريبو)، حيث كان كامبو يومها السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة، في الوقت الذي كان فيه ناحوم سوكولوف، ممثّل الحركة الصهيونيّة في فرنسا…
وهكذا، في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 1917، نشرت الحكومة الفرنسية الرّسالة- الوعد التي أرسلتها إلى ممثل الحركة الصهيونيّة في فرنسا، وفيها إعلان صريح من جانب الحكومة الفرنسيّة عن عطفها على المخطط الصهيونيّ، والرسالة موقّعة من قبل السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة كامبو، جاء فيها:
«لقد تفضّلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم له، والذي يهدف إلى تنمية الاستعمار اليهودي في فلسطين. إنّكم ترَوْن أنّه إذا سمحت الظّروف من ناحية، وإذا توافر ضمان استقلال الأماكن المقدّسة من ناحية أخرى، فإنَّ المساعدة التي تقدّمها الدّول المتحالفة من أجل بعث القوميّة اليهوديّة في تلك البلاد التي نُفِيَ منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة، ستكون عملاً ينطوي على العدالة والتعويض».
وتضيف الرّسالة: «إنّ الحكومة الفرنسيّة التي دخلت هذه الحرب الحاليّة، للدفاع عن شعب هوجم ظلماً والتي لا تزال تواصل النّضال لضمان انتصار الحقّ على القوة، لا يسعُها إلّا أن تشعر بالعطف على قضيَّتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء، إنَّني سعيد لإعطائك مثل هذا التأكيد».
وقليلون جداً في الوطن العربي هم الذين أدركوا صهيونيّة مارك سايكس وجورج بيكو، كما يعترف كريستوفر (ابن مارك سايكس) بصراحة في كتابه الذي صدر عام 1953، ويتناول فيه ريتشارد سبثورب أحد رجال الكنيسة في القرن الماضي، كما تتناول دارسته الأخرى حياة والده مارك (وعنوان كتابه هذا: دارسة مأثرتين) حيث يقول عن والده في جهوده نحو الصهيونيَّة «كان قد اعتنق الصهيونيّة سنة 1915» (أي قبل توقيع المعاهدة بسنة واحدة) اعتناقاً لم يَدْرِ به العرب، وكانت مساعيه من أقوى العوامل في حصول اليهود على وعد بلفور.
كذلك الحال بالنسبة للرَّئيس ويلسون الأميركي صاحب المبادئ الأربعة عشر المتضمِّنة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، فإنّه لعب دوره الخطير إلى جانب الوطن القومي اليهودي من خلال وعد بلفور وهو الذي قال عن اتفاق سايكس بيكو إنّه ظاهرة من ظواهر الاستعمار وعمل مناقض لحقِّ الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وعن طريق المفاوضات التي جرت بين بريطانيا وأميركا بصدد وعد بلفور والنص الذي يجب أن يصدر به كان للرئيس ويلسون دوره الأول في اختيار الكلمات التي تضمّنها هذا التصريح حيث انتقاها كلمة كلمة، فأتت بما هو معروف اليوم بوعد بلفور وبشكل كتاب رسمي موجّه من بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد الصهيوني، وقد تلقّى ويلسون رئيس الولايات المتحدة من لويد جورج ومن وايزمن نصَّ ما اتُّفق عليه من عبارات وعد بلفور فوافق على ذلك وباركه قبل أن يصدر الوعد رسميّاً في 2 ت2 سنة 1917. وعلى هذا الأساس، كانت أميركا الدّولة الأولى التي اعترفت «بقيام إسرائيل» فور إعلان دافيد بن غوريون عن قيامها 1948. وكذلك كان حال أوّل مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين عام 1920، الصهيوني هربرت صموئيل، تمهيداً لقيام هذه الدولة على أرض فلسطين العربيّة تنفيذاً لوصيّة الملك الصليبي لويس التاسع عام 1250، وتقرير كامبل بنرمان 1907… ولقد قال حاييم وايزمن عن هربرت صموئيل: إنه صموئيلنا. نحن عيّنَّاه في هذا المنصب…
رابعاً: أَلَمْ يقُل الجنرال غورو الفرنسيّ أمام قبر صلاح الدّين الأيوبي في دمشق (بعد معركة ميسلون) عام 1925: ها نحن عدنا يا صلاح الدين؟ وكذلك فعل الجنرال اللّنبي حين دخل فلسطين والقدس بعد الحرب العالميّة الأولى ومطلع عهد الإنتداب؟
خامساً: أَلَيْسَ مشروع المستشرق الأميركي برنارد لويس اليوم حول تقسيم الشرق الأوسط بموافقة الكونغرس الأميركي بالإجماع، الدليل الحيّ للحفاظ على أمن وسلامة إسرائيل في المنطقة، والانتقام من معركة حطين وقائدها صلاح الدين الأيوبي في القدس وتهويدها؟
على الصعيد العربي:
أولاً: كان قيام دولة الاحتلال الصهيونيّ على أرض فلسطين العربيّة سنة 1948، ردّاً صليبيّاً جديداً على معركة حطِّين وقائدها الأيوبيّ، واستمراراً للحروب الصليبيّة ومُكَمّلاً لها…
ثانياً: العمل بكلّ الجهود الغربيّة والصهيونيّة على جعل فلسطين «دولة يهوديّة» وتهويد القدس ردَّاً على «مملكة القدس الصليبيّة»… والإبقاء على الشعب العربي والدّول العربيّة في حالة انقسام وتمزّق وتفتيت وخلاف، ليسهل على «إسرائيل» التحكّم بمقاليد الأمور.
ثالثاً: أعادت حرب تشرين الأول 1973 الرّوح إلى معركة حطين… وكان توحيد الجبهة السوريّة المصريّة بقيادة الرئيس حافظ الأسد والرّئيس أنور السادات هو التَّجسيد الحيّ للوحدة السوريّة المصريّة التي أفرزت الانتصار في معركة حطّين… وهذا هو الدرس الهامُّ من «الوحدة السياسيّة والعسكريّة» حيث يستبسل الجنديُّ العربي عندما يتوفّر له القرار السياسيّ بالقتال… وكان من الممكن أن يلاقي الإسرائيليّون نفس الهزيمة الصليبيّة في حطّين، وقد عاشوا حالة الهزيمة هذه بتفاصيلها الدقيقة لولا الجسر الجوّي الأميركي الذي أنقذ أسرائيل من نهاية قاسية… وبدأت التفكير باستخدام السلاح النّووي…
رابعاً: هذا، وفي ذكرى مرور ثمانية قرون على معركة حطين احتفلت القاهرة بهذه الذكرى عبر ندوة فكريّة مهمّة بدعوة من منظّمة تضامن الشعوب الآسيويّة والأفريقيّة تحت عنوان «حطين صلاح الدين ومستقبل العمل العربيّ الموحّد»، شارك فيها عدد كبير من الباحثين والمفكّرين العرب والأجانب، وقد أشرف على التحضير لها أحمد حمروش رئيس اللجنة المصريّة للتضامن من الآسيوي الأفريقي، وعبد المجيد فريد رئيس مركز الدّراسات العربيّة في لندن (شارك فيها: شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وبابا الاسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسيّة البابا شنودة الثالث والكاتب الكبير محمّد حسنين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوي وأحمد شوقي ود. عبد العال الصكبان ود. محمّد حسن الزيّات ود. قاسم عبده قاسم…).
على الصعيد الإسرائيلي الصهيوني:
من هذا المنطلق، ليس صدفةً أبداً أن تعمد القيادات الإسرائيلية وبمناسبة مرور 800 عام على معركة حطين، إلى إعداد احتفال أقامته أكاديميّة العلوم التاريخية في تل أبيب: دعت إليه عدداً كبيراً من المؤرخين والأساتذة والباحثين من شتى أنحاء العالم. وهذا نموذج يدلّ على مدى الوعي الصهيوني بأهميّة استخدام التاريخ ضمن أسلحة الصّراع ضد العرب. كذلك كان طبيعيّاً أن يطرح الصهاينة سؤالهم عن الأسباب التي دفعت الصّليبييِّن إلى الجلاء عن بيت المقدس بعد حوالي قرنين من الزمن، كي يتلافَوْا هم، نفس المصير الذي لاقاه الصليبيّون في ذات البلاد التي اغتصبوها باسمهم ضمن عملية الثأر التاريخي. حيث إنّ المكوّنات الأساسيّة بين الحركة الصليبيّة والحركة الصهيونيّة متشابهة.
وقد اكتشف الإسرائيليّون أنّ الصليبييِّن هُزموا وجَلَوْا عن هذه البلاد بسبب الخلافات بين أُمرائهم من جهة، وانقطاع الروابط بينهم وبين القوى التي تزوّدهم بالمال والسلاح وأسباب البقاء، لذلك تعلّمت إسرائيل الدرس وعملت – وتعمل – على إبقاء الروابط الخارجيّة وتدعيمها، ولهذا تشترك في برنامج حرب النجوم الأميركي واتفاقيّة منظَّمة التجارة الحُرّة وتسعى للانضمام إلى الحلف الأطلسيّ… كما يقوم الكيان الصهيونيّ بدرس المستوطنات الصليبيّة بمنظور معاصر ليحاول من خلالها فهم المشكلات التي أدّت إلى فشل الكيان الصليبيّ باعتباره كياناً دخيلاً…
خلاصة عامّة:
في الواقع، إنّ معركة حطّين بالنّسبة إلى الفرنجة كانت أضخم من كارثة حربيّة لأنّه لم ينتج عنها أسر ملكهم وضياع هيبة مملكتهم وسلطتها الفعليّة في فلسطين وحسب، وإنّما نتج عنها نقص واضح في الفرسان المحاربين، بعد أن سقط زهرة فرسانهم بين قتيل وأسير، وهكذا غدت فلسطين عقب معركة حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبيَّة واحداً بعد آخر، حتى توّج جهاده بتحرير بيت المقدس في سنة 1187، وتابع فتوحاته نحو بيروت حيث كان التنوخيّون الموحّدون في إمارتهم إلى جانبه بقيادة الأمير حِجى وبعد فتحها لمس صلاح الدين رأس حجى قائلاً له «ها نحن أخذنا بثأر آبائك فاطمئِنّ»، ثمّ أقطعه المقاطعات التي كانت لآبائه باستثناء بيروت.
هذا، ولا بدَّ من الإشارة إلى أهمّيّة بيت المقدس في نظر صلاح الدين الأيوبيّ والمسلمين قاطبة، عندما ردّ على الملك الإنكليزي، ريتشارد قلب الأسد أثناء المفاوضات بينهما قائلاً له بشكل قاطع: «أمّا القدس فهو لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم ممّا عندكم. ففيه مسرى نبيِّنا ومجمعُ الملائكة… فلا تتصوّر أنّنا ننزل عنه! أمّا البلاد فهي لنا في الأصل، واستيلاؤكم عليها كان طارئاً لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الحين».
فهذه هي رسالة صلاح الدين الأيوبيّ، قبل ثمانمئة وثلاثين عاماً تقريباً. وهي رسالة صالحة لأيّامنا هذه رغم مرور هذه المدّة من الزّمن… ونقول: ما أشبه اللّيلةَ بالبارحة… بمعنى: أنَّ بلاد العرب للعرب وحدَهم وأنّ وجود الصهيونييِّن ظاهرة شاذَّة كوجود الصليبييِّن بالأمس.
وهدف الرسالة هو توحيد الصّفوف وجمع كلمة العرب لكي نفوّت الفرصة على الصهيونيّة ومن ورائها الاستعمار، ويُقضى على كلّ نفوذ أجنبي القضاء النهائي.
ويبقى أخيراً سؤالُنا الكبير: متى يستفيق العرب، ومتى يتعلّمون الدّرس والعِبرة من معركة حطِّين، وصلاح الدين الأيوبيّ ويجسّدونها عملياً على الجغرافيا نفسها لتخدم التاريخ نفسه؟ مع إيماننا العميق بأنّ الأمّة التي أنجبت صلاح الدّين الأيوبيّ قادرة على أن تأتي بأمثاله… ونحن شعب محكومٌ بالأمل شرط ألّا يدبّ اليأس والإحباط إلى القلوب والإرادات…
المراجع:
1- ابن الأثير «الكامل في التاريخ»، القاهرة 1303هـ. 2- أبو شامة «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين»، القاهرة 1287 هـ. 3- الموسوعة العسكريّة. الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 1981، ص 821-822. 4- الموسوعة الفلسطينية / أنيس صايغ / دمشق 1984، ص 249-250. 5- صبحي عبد الحميد «معارك العرب الحاسمة»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، طبعة ثانية 1980، ص 112-130. 6- السيد فرج «أدهى رجال الحرب في الشرق والغرب»، مطبوعات دار الشعب، القاهرة، 1970، ص 119-131. 7- خالد الفيشاوي «800 عام على حطّين، صلاح الدين الأيوبي والعمل العربي الموحد» مجلّة «الفكر الاستراتيجي العربي»، العددان 21-22 تموز – تشرين الأول 1987، ص 295-204. 8- مجلّة «المنابر» البيروتية. 9- مجلّة «الجيل» (قبرص)، العدد 9 أيلول 1987. ص 90-97. وهاميلتون جيب «التيارات الحديثة في الإسلام» (Modern Frends of Islam) («الجيل»، المرجع السابق، ص 72). 10- قدري قلعجي «صلاح الدين الأيوبي»، دار الكاتب العربي، بيروت، 1966. 11- السير هاملتون جيب «صلاح الدين الأيوبي»، دراسات في التاريخ الإسلامي»، حرّرها يوسف إيبش، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1966. 12- إرنست باركر «الحروب الصليبيّة» تعريب الدكتور السيد الباز العريني، بيروت، دار النهضة العربية 1967، ص 180 -182.
حقوق الملكية الفكرية والفنية: هل لا تزال محميّة؟ وكيف؟!
مقالات
أجهزة الوعي
مقالات
شهر كانون أول، ذكرى مولد: الأمير شكيب أرسلان (الرابعة والخمسون بعد المئة)، والمعلّم كمال جنبلاط (السادسة بعد المئة): ما مثّلا؟ وما الباقي من نهجهما وتراثهما المشترك!
مقالات
وادي التَّيم أرضُ القداسة
مقالات
مشاريع الطوائف ومستقبل لبنان
مقالات
حقوق الملكية الفكرية والفنية: هل لا تزال محميّة؟ وكيف؟!