الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مقابلة مع د. غسّان العيّاش

هل زادت أعباء مصرف لبنان اليوم وتحدّياته عما كانت عليه يوم كنتم نائباً للحاكم؟

من حيث الشكل، إنّ المهام التي يواجهها مصرف لبنان اليوم تشبه إلى حدّ بعيد المهام والتحدّيات التي كانت قائمة في مرحلتنا، أي فترة 1990 – 1993. فلا زال المطلوب من مصرف لبنان حماية الاستقرار النقدي وسط العجز المتمادي في المالية العامّة في ظل دولة لا تملك الإرادة أو الخطّة لإصلاح أوضاعها المالية وتضييق الهوّة بين إيراداتها ونفقاتها. وليس استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية وحده هو غاية السياسة النقدية في الماضي والحاضر، بل أيضا المحافظة على معدّلات فائدة معتدلة لضمان نشاط اقتصادي معقول وحماية المجتمع من التضخّم.

لكنّ اليوم، بعد مرور خمس وعشرين سنةً على استمرار المشكلة، أصبحت المهمّة أكثر صعوبة وتعقيداً، بما لا يقاس. فقد تدهورت الأرقام والمؤشّرات تدهوراً خطيراً وباتت التحدّيات في وجه مصرف لبنان شاقّة وبالغة الصعوبة. فخلال ربع القرن الأخير ارتفع الدَّين العام 28 مرّة مقابل ازدياد النموّ الاقتصادي 9 مرّات فقط، فارتفعت نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي القائم من 50 بالمئة سنة 1993 إلى نحو 150 بالمئة في الوقت الحاضر. دَيْن الدولة الذي كان في مستوى ملياري دولار وقتها بات الآن في حدود 85 ملياراً.

هذه التطوّرات المقلقة انعكست على ميزانية المصرف المركزي نفسه، إذ وصلت التزامات المصرف تجاه القطاع المالي إلى مستوى تاريخي لا سابق له وتجاوزت مبلغ 125 مليار دولار، فيما كانت هذه الالتزامات في مرحلتنا محدودة وتقتصر على الاحتياطي الإلزامي على ودائع المصارف بالليرة اللبنانية فقط. وتواجه ربحيّة مصرف لبنان وضعاً صعباً بسبب اضطراره باستمرار لمساعدة الدولة على تمويل عجزها وفي الوقت نفسه حماية سعر صرف اللّيرة اللبنانية، وتعزيز احتياطاته النقدية بالاستدانة بكلفة عالية.

الوضع الاقتصادي العام في لبنان يشهد منذ ٢٠١٢ تراجعاً خطيراً في مؤشّراته كافة، هل هي انعكاس لأزمات المنطقة والنزوح إلى لبنان، أو لأسباب اقتصادية وسياسية محلّية؟

الظروف الصّعبة التي يعيشها لبنان اليوم هي نتيجة تزامن وتزاوج الأوضاع الإقليمية المتفجّرة مع السياسات الداخلية السيّئة. الأوضاع المضطربة من سورية إلى الخليج (حرب اليمن) أدّت إلى تقلّص السياحة التي يعوّل عليها الاقتصاد اللبناني كثيراً، وأصيبت الاستثمارات الخارجية المباشرة بتراجع من 10 بالمئة من الناتج المحلّي سنة 2010 إلى 3 بالمئة تقريباً في الوقت الحاضر. وخسر لبنان في فترة قصيرة نصف صادراته الصناعية والزراعية، بسبب تعطّل الطرق البرّية وكذلك بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية في الخليج العربي.

لا ننسى بالطبع العبء الكبير الذي وقع على كاهل لبنان جرّاء نزوح أكثر من 1.2 مليون سوري إلى لبنان هربا من أتون الحرب السورية. انعكس هذا العبء على ماليّة الدولة وعلى الخدمات إضافة إلى ارتفاع مُعدّل البطالة بسبب منافسة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانيّة.

لكن هذه الظروف الإقليميّة غير الملائمة ترافقت مع ظروف داخليّة غير ملائمة أيضاً. فالأزمة الإقليمية لم تشكّل حافزاً للدولة لتصحيح أوضاعها بل استمرّت في تمويل عجزها بالدَّين، كما أخفقت في تخفيض منسوب الفساد والهدر في الإنفاق وفشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الخدمات العامّة كالكهرباء والنفايات. لا نُغفل توالي الأزمات السياسية في زمن المحنة الاقتصادية. وقد أدّت هذه الأزمات إلى تعطيل المؤسّسات الدستورية تباعاً، فتأجّلت الانتخابات النيابية وعُرْقل تشكيل الحكومة مرّتين وشهدت انتخابات رئاسة الجمهورية فراغاً لمدّة تزيد على السنتين.

د. غسّان العيّاش | نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً.

يتصدر الوضع المالي واجهة المشهد في لبنان، ما تقويمك للوضع المالي في لبنان بعامّة، وبخاصّة في موضوع الهوّة الواسعة بين المداخيل المحدودة ومتطلّبات الإنفاق الكثيف؟

الإنفاق المستمر سنة بعد سنة دون إيرادات كافية هو الطريق إلى الانتحار المالي والاقتصادي. أودّ أن أوضح هذه المسألة بصورة أدقّ. يجب أن يكون الدَّين العام متناسباً مع حجم الاقتصاد، أي أن يبقى في الحدود التي يستطيع الاقتصاد تحمّلها. في اتفاق الوحدة الأوروبية مثلاً لا يجوز للدين العام في أية دولة أوروبية أن يتجاوز 60 بالمئة من الناتج المحلّي، وقد اعتُبر هذا المقياس معياراً دوليًّا لأنّه مبني على دراسات معمّقة. في لبنان باتت نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي أكثر من 150 بالمئة من الناتج. لذلك، فتعليقي السريع على الوضع المالي للدولة اللبنانية أنّ دينها بات يتجاوز قدرة الاقتصاد اللبناني على احتماله. ولهذا الأمر نتائج سلبية مالية واقتصادية واجتماعية، لا يتّسع المجال الآن لتعدادها.

كما أنّ المسار المالي للدولة يحمل ظلماً فادحاً بحقِّ الأجيال اللبنانية القادمة. فقد استقرّت القواعد المالية في الدول المتقدّمة على أنّ النفقات الجارية يجب أن تموّل بالضرائب والإيرادات الأخرى للدولة، ولا يجوز أن تستدين الحكومة إلّا لتمويل نفقات الاستثمار. فالنفقات الجارية تقع على عاتق الجيل الذي ينفقها لأنّ الأجيال القادمة لا تستفيد منها. أمّا نفقات الاستثمار فيجوز تأجيل سدادها لأنّها تزيد الثروة الوطنية فيستفيد منها الجيل الحاضر والجيل القادم.

واقع الحال في لبنان، ومنذ سنوات، أن النفقات الجارية لا يموّلها الجيل الحاضر كلّها، بل يُترَك قسمٌ منها لأبنائنا وأحفادنا دون وجه حقّ. خلال ربع القرن المنصرم لم تكن إيرادات الدولة كافية لرواتب الموظفين وخدمة الدين العام وحدها. إنّ كل إيرادات الدولة تساوي 70 بالمئة من النفقات الجارية ويترك القسم الباقي مع نفقات الاستثمار للأجيال المقبلة. حُكْم أبنائنا وأحفادنا سيكون قاسياً علينا بدون شك لأنّنا حمّلناهم بعض ما أنفقناه لمصلحتنا، إضافة إلى كلفة الهدر والفساد.

ما حقيقة ومدى خطورة الوضع المالي الآن؟

باختصار، الوضع المالي في لبنان، كما أسلفنا هو وضع خطير ومضرّ بالاقتصاد والمجتمع. ولكنّي لا أشارك الذين يقولون بأنّ لبنان على حافة الانهيار أو أن الانهيار المالي قدرٌ محتوم. فلا زال هناك وقت للإصلاح وتخفيف المخاطر، وإن كان هذا الوقت ليس طويلا. لِنرَى ما ستفعله الحكومة الجديدة التي قدّمت من خلال بيانها الوزاري وعوداً كبيرة للإصلاح المالي، وهو ليس بالأمر السهل.

كيف تُقيّم الهندسات المالية لمصرف لبنان في السنتين السابقتين، هل كانت لمصلحة مصارف وأشخاص أم كان لا بد منها؟

كان الهدف من الهندسات المالية التي ابتكرها مصرف لبنان منذ أواسط سنة 2016 تعزيز احتياطاته النقدية، وسط تراجع رصيد ميزان المدفوعات والنّزف الذي يتعرّض له المصرف المركزي. هذا مفهوم. إلّا أنّ النقد الذي وُجّه إلى هذه الهندسات أنَّ كلفتها عالية، وهي لا تشكّل حلّا دائما بل تسعى إلى شراء وقت محدود فقط. لم يكن الهدف من الهندسات المالية إفادة مصارف أو أشخاص معيّنين، لكن البعض استفاد من هذه الفرصة المستمرّة بمبالغ ضخمة أحياناً، وهم بعض المصارف، ومودعون كبار محظوظون. صندوق النقد الدولي والمؤسّسات المالية الدولية تفهّمت القيام بهذه العمليات استثنائياً في ظل الفراغ في رئاسة الجمهورية، لكنّها طالبت مصرف لبنان بوقف هذه العمليات الاستثنائية ومعالجة المشاكل بالطرق الطبيعية والعادية المتّبعة في عمل المصارف المركزية.

ما حسنات وخطورة الدّور المتزايد الذي بات للمصارف اللبنانية في الملاءة المالية للدولة في لبنان؟ هل هو وضع يد على الدولة؟

يجب التدقيق في ما إذا كانت المصارف تضع يدها على الدولة أم أنّ الدولة تضع يدها على المصارف، من خلال امتصاص نسبة كبيرة من موجوداتها بغرض تمويل العجز.

الحسنة الوحيدة التي أراها هنا أن المصارف كانت حاضرة دائما لتمويل عجز الموازنة في ظل قصور الإيرادات العامّة عن تلبية احتياجات الدولة ومتطلباتها. ما عدا ذلك لا أرى إلّا السلبيات. فإنّ امتصاص ودائع المصارف بمعظمها من قبل الدولة أضرّ إضراراً كبيراً بالاقتصاد والنموّ الاقتصادي وبخلق فرص العمل. فالقاعدة أنّ المصارف هي وسيط يجعل الادّخارات في خدمة القطاع الخاص، لتمكينه من القيام بنشاطه وتوليد النموّ والوظائف. إنّ استئثار القطاع العام بالقسم الأكبر من موجودات المصارف اللبنانية كان عبر السنين عاملاً مُضرّاً بالنموّ الاقتصادي وسبباً في تراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع معدّل البطالة في البلاد.

ما اقتراحاتكم لمعالجة التأزّم الحاصل في لبنان، في الحقلين الاقتصادي والمالي؟

على الصعيد المالي تتمثّل المشكلة كما أسلفنا بالعجز المتمادي والمتواصل في موازنة الدولة، دون أية خطوات إصلاحية لتضييق الهوّة بين النفقات والإيرادات. بالتالي فإنّ العلاج البديهي هو زيادة الإيرادات وخفض النفقات، أوّلا عن طريق منع الهدر ومكافحة الفساد ثم إلغاء النفقات التي يمكن الاستغناء عنها. إنّ مكافحة التهرّب الضريبي مفيدةٌ جدّا خصوصاً أن عدداً من المراجع المطّلعة يقدّر هذا التهرّب بمبلغ أربع مليارات دولار سنويًّا، ما يوازي ثلاثة أرباع عجز الموازنة. ويتركّز التهرّب الضريبي في الجمارك والضريبة على القيمة المضافة وضريبة الدخل.

ومن المتّفق عليه، نظريًّا، أنّ الرصيد الأوّلي للموازنة، أي النفقات من دون خدمة الدين العام، يجب أن يحقّق فائضاً سنويًّا كافياً لِلَجم نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي القائم، وهذا أمرٌ غير متوفّر حاليا.

شخصيّاً لن أتقدّم باقتراحات إضافية وسط «سوق عُكاظ الاقتصادي» الذي تعيشه البلاد وكثافة الاقتراحات والاجتهادات والأرقام التي تنهال من كلّ حدب وصوب. بل أكتفي بتأييد التعهّد الذي قدّمته الحكومة اللبنانية إلى «مؤتمر سيدر» بخفض عجز الموازنة بدءاً من السنة الجارية بنسبة واحد بالمئة سنويًّا، وهو التعهّد الذي كرّرته الحكومة في بيانها الوزاري أمام المجلس النيابي. إذا تمكّنت الحكومة من تنفيذ هذا التعهّد فإن عجز الموازنة سيصبح في مستوى معقول بعد خمس سنوات.

هل أنت متفائل بقدرة الحكومة على تنفيذ تعهّدها؟

المُقلق أنّ الحكومة تقدّم هذا التعهّد أمام البرلمان وفي المُنتديات الدولية الداعمة للبنان دون أن تبيّن كيف ستصل إلى هذه النتيجة، خصوصاً ألّا وقت لديها ويجب أن تبدأ العمل دون إبطاء. فاعتباراً من موازنة سنة 2019، التي يُفترض إقرارها في القريب العاجل، يفترض أن تُعْلِن الحكومة عن الإيرادات التي تنوي زيادتها والنفقات التي تفكّر في إلغائها، مع العلم أنّ هذه الخطّة إذا كانت حقيقية ستفجّر بدون شك نوعاً من الصّراع الاجتماعي خارج الحكومة، وربّما داخلها.

فإنّ ممثلي الطبقات غير الميسورة بدأوا أساساً بالاعتراض على أيّة ضرائب تصيب الفئات الشعبيّة أو المساس برواتب موظفي الدولة أو صرف الموظفين.
لا يمكن الاطمئنان قبل أن تُفصح الحكومة عن خطّة حقيقية معزّزة بالأرقام بشأن نواياها حيال الإيرادات والنفقات، وهذا ما يجب إعلانه في الأيام والأسابيع المقبلة. بالنسبة للوضع الاقتصادي الصّعب، لا يمكن التكهّن بتحسينه ورفع درجة النشاط الاقتصادي والخروج من حالة الركود الراهنة قبل لجم مشكلة المالية العامّة، فيما التطوّرات المالية لا تبشّر بالخير في ضوء الارتفاع المتواصل في معدّلات الفائدة. حيث هناك فوائد مرتفعة لا مكان للأمل بانتعاش الاقتصاد ورفع مستوى النموّ الاقتصادي.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي