الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مقاما المحبة والصدق في مسلك التوحيد

رغم ما يجمع الحبّ إلى المحبة؛ فهما متمايزان، دون أن يكونا متناقضين.
المحبة أوسع من الحبّ. الحبّ جزئي، المحبة مطلقة.

الحبّ هو الودّ أو الإيجاب، أو الشوق المحدد، في المكان والزمان، المتّجه إلى غرض مقصودٍ بعينه دون سواه غالباً؛ وأحياناً على حساب سواه. هو أمرٌ جيّد محمود، لكنه يبقى محدداً، محدوداً، لا يتعدّاه، بل لا يخلو غالباً من تعلّق شخصي، نفعي، ظاهر، ولا يخلو من «الأنا» تحديداً.

أما المحبة (في معناها القريب) فهي الودّ، أو الإيجاب، أو الشوق بالمطلق غير المحدود بغرض مباشر، أو منفعة شخصية، أو غاية جزئية.

المحبة هي التخلّي عن «الأنا»، نحو المُطلق؛ والتوجّه بكلِّيتنا نحو ما هو أسمى من «الأنا»، والشوق، والتعلّق، بما هو أسمى من الظاهر والمتغيّر والجزئي والمحدود.

ولعل أظهر أشكال المحبة، محبة الإنسان لباريه، خالقه. وليست المحبة هنا عبادة في عدم، بل هي أبسط واجبات العبد تجاه خالقه، خالق كل شيء، مُوجِد كل موجود، فيضٌ من وجوده وخيره وكرمه…. ومحبته.

فمحبة الخالق سابقة لمحبة المخلوق. فمن محبة الخالق كان المخلوق، وكان معها وبها كل ما يجعل حياة هذا المخلوق، بل وجوده، أمراً ممكناً، مثمراً، جميلاً، ويبعث في نفسه الرضا وراحة البال والسلام والسعادة (وهي الغاية العملية لكل إنسان)، ولكن شرط أن يتوفّر لديه (أولاً) الإيمان الحق والمعرفة الحق – لا الإيمان اللفظي، أو المعرفة الجزئية القاصرة – وأن يتخلّق (ثانياً) بسلوك عملي نابع من المعرفة الحق والإيمان الحق، يعكس التزامه الداخلي، الطوعي، بهما، في كل شأن، صغير أو كبير. ويندرُ في آيات القران الكريم أن يرد مصطلح «الذين آمنوا»، إلا ومعها مباشرة «والذين عملوا الصالحات». فلا خير في علمٍ لا يلحق به عملٌ بالموصَفات والإلزامات نفسها. وهو عموماً مدارُ علم الأخلاق.

أمّا إذا توسّعنا أكثر في مفهوم المحبة – وهو خارج وظيفة هذه الفقرة المحدودة – فسنجد أن المحبة صفةٌ من صفات الله تعالى (وإن لم تُذكر حرفيا). ففيضُ الله في خلقه، وعلى خلقه، هو في باب المحبة، ولا تفسير آخر له غير ذلك. وقد ألمح القرآن الكريم إلماحاً يقترب من حد الإيضاح التام، إذ ورد في الآية الكريمة: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً» (مريم).
وكما في القرآن الكريم، كذلك في الأناجيل التي سردت عِظات يسوع الرسول، وكلها دالةٌ إلى حب الخالق لمخلوقه، ومنها قوله: «من يحبُ أخاه يثبتُ في النور؛ أما من يبغضُ أخاه فهو في الظلمة».

حبّ الخالق لمخلوقه بستدعي، في أبسط الواجبات، حب المخلوق لخالقه. وطالما أن الخالق مستغنِ بطبيعته عن أي أمرٍ أو شأن، وجبَ أن يتحول حب المخلوق نحو خلق الله في كل الأحوال، لا بشراً فقط بل في كل ما يحمل آثار فيض الله، في طاعة ما أمر به، وتجنّب ما نهى عنه.

هذه مجرد مُقدَّمة تُدخلنا إلى ما أسهم به، بتمكنٍ وعمق، المرحوم الدكتور سامي مكارم. وسنخصص الفقرة التالية لنصٍ مطوَّلٍ من كتابه «مسلك التوحيد».

وفق الدكتور مكارم «على الموحّد إذ يسبح في بحر التوحيد أن يملأ قلبه بالحب….ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا تجاوز الموحّد علمه إلى معرفة يقينية، وذلك لا يكون إلّا يحبّه للواحد الأحد حُبّاً كما يحبّه الواحد الأحد، أي حُبّاً مُتبرِّئاً من «الأنا»، متوجّهاً إليه سبحانهُ الذي لا موجود غيره. هذا الحبّ لا يصلُ المرء إليه بتكلّفِ الحبّ أو بتكلّفِ وسائلِ الحبّ تكلّفاً. لا يصلُ الإنسانُ إلى هذا الحبّ إلآ بالصدق، وبحفظِ حقوقِ أخيه الإنسان وهدايته إلى الخير وإرشاده إلى العدل وإعانته على قيامه بما هو حقٌّ وصلاحٌ وقضاء حاجاته المادية والروحية والعقلية بقدر الإمكان، ونهيهِ عن الشرّ والظّلم ومنعهِ من العدوان ومخاطبتهِ بالتي هي أحسن وقبولِ نُصحه وإرشادِه. كذلك، لا يصلُ المرء إلى التوحيدِ الحق إلا بالتخلّي عن عبادةِ العدم، وعن السيرِ على طريق البهتان والظلمة والغَيبة عن وجود الحق. فإذا تمّ له ذلك حقق التبرُّؤ من الإبليسية التي تعوقه عن التوجه إلى الحق. والإبليسية إنما تكمنُ في الأنانية التي تجرّهُ إلى طغيان الرغائب الدنيئة عليه. فإذا حقق الإنسان هذه الخصال دخل حالة من السلام الداخلي وانعتق من استبعاد الأهواء والشهوات والرغبات له التي تعوقه عن تحقيق كماله الأخصّ به، وارتقى في سلّم المعرفة وحقق الحرية؛ فإذا هو إنسان سيّدٌ على نفسه، مستغرقٌ بصفات الناسوتية الحق، أهلٌ لإدراك غايته ووعي حقيقةِ وجوده؛ فيعرف الله بوحدانيته الأحدية ويدرك أن لا موجود إلّا الله، فيحقق التوحيد الحق. وتنقله هذه الحالةُ المعرفية التوحيدية إلى حالة من الرضا، إذ يكون قد أيقن أن الله في وحدانيته هو الخيرُ المَحض، وأن ما يصدرُ عنه تعالى إنَّما هو مظهرٌ من مظاهر وجوده، وأنه حقٌ وخيرٌ وجمال؛ فيسلمُ ذاته إليه، إذ يدركُ أنه في ملكوتِ الله العالّ لكلّ علّة، الموجودُ الواحدُ الأحد الذي لا غيرَ له ولا حدّ.» (مسلك التوحيد، ص 121)

هذا في مقام «المحبة»، على أن نكمل البحث لاحقاً بمقام «الصدق»: وجهان لحقيقة واحدة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي