الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مَسْلكيّة الموحّدين الدّروز

مُحاضرة أُلقيت في مؤتمر الجالية الأميركيّة الدرزيّة ADS في ميامي فلوريدا في ٢٠١٦/٦/٣٠ وأُعيد إلقاؤها في لوس أنجلوس بطلب من اللّجنة المنظّمة للمؤتمر في ٢٠١٨/٦/٢٦.

أوقيانوس الصّفات النّبيلة، والأخلاق العالية، والمثاليات ومسلك الموحِّدين الدروز، كيف أُحيطُ به وأنتزِعُ الدُّرَرَ من لُجَجه؟؟ أمَا ترَوْنني بقصوري أعجزُ عن التّعبير؟؟ أسقطتم الكلمات، لِتسَطّروا على صفحات الخلود وبأحْرفٍ من نور، ذكرى أمجادَكم الخالدة إلى الأبد.

الموحّدون استلهموا الأخلاق الرّفيعة والدعوة السماوية الخالدة واستوحَوْها بِمَهداة العقل النيّر والفكر الثاقب الرّزين، وبنوْا على أساسها مجدهم وصانوا كرامتهم.

هي دعوة إلى معرفة الذات، دعوةٌ إلى المُثل والقِيم. دعوةٌ إلى الأصالة الأخلاقية عند الموحّدين الدّروز، وهي الرّكن الرَّكين والأساس المتين للشخصيّة الدرزيّة وللعادات والتقاليد الموروثة من الآباء والأجداد، وإنّه لَفخرٌ لي واعتزاز، أن أتكلَّم في أمريكا عن مسلك التوحيد لدى الموحدين وصفاتهم المُثلى ومسلكيّتهم الخلُقية، وتقرّبهم إلى الله تعالى، هذا التراث الكامل، هو مصدر شهامة وتَعالٍ لطائفة الموحّدين الدروز وإلى الأبد. الموحّد الدرزي إنسان آمن بالله، وحقّق وجوديته كاملة في خلال ألف سنة، فتوجّه بقدراته الإنسانية نحو الحقّ وبقي ذُخراً للحقيقة ومثالاً وعطاءً. إنّها حقيقة العقل الذي هو نور الله في جميع مخلوقاته فبِه هدانا الله إلى الخالق المبدع، وإنّه لصادِقُ العِلم… تجلّت منجزات العقل أيضاً بالعِلم في المُخترعات كآلة التلغراف والتلفون والراديو والطائرة، ثم بالانطلاق إلى القمر فالمريخ، وجعْلِنا نتبع مسلكيّة معينة ونؤمن إيماناً ساطعاً بالله «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» «عَقِلتم فآمنتم وأدركتم فوحّدتم» لِنَسلكَ الطّريق المستقيم وما يقتضيه العقل المستنير بالحق والصّدق والعمل الصالح لنميّز بين الأفعال المحمودة والمذمومة، وبين الحلال والحرام، وبين الحقّ والباطل، ونسير على هدى الله في مندرجات الرقي الرّوحيّ والثقافيّ والحضاريّ والأخلاقي للوصول إلى كرامة الإنسان وشرفه ونبله، وهو ثمرة الهداية والطاعة للباري جلّ وعلا فنصل إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. مسلكيّة الموحّد هي تهذيب النّفس وهي الإسُّ المتين والرّكن الرّكين في عمليّة معرفة الله لترقى إلى جوهرها، وتُحاسَب على أعمالها في اليوم الآخر يوم يُدان الإنسان بالحساب (الطّبري ص 25). قال عزّ وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِين﴾َ (الأنبياء 47)، والأمير السّيد(ق) يقول: «أن يصرف نفسه عن الشّهوات والمُحرّمات، وأن يعرف الله حق معرفته ويوحده ويُنزهّه»، قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النّحل 111).

عليك بالنّفـــــس فاستكملْ فضائلَهــــا        فــــــأنت بالنّفس لا بــــــالجسم إنسانُ

والدين مَعينُه في نفسي، يستحيل على إنسانٍ آخر أن يهديني الدّين، إذا لم تهدِني إليه نفسي، ومن يَقُل بلسانه الله ويعرف بقلبه الله، وتحبُّ روحُه الله، تتعلق بظاهره وبباطنه بين يدي الله. وليكن مطلب كلّ موحّد هو الله، وقصده هو الله، وذكره هو الله، ونطقه هو الله، وفكره هو الله، قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ﴾(العنكبوت 45). فالله فردٌ في أزليّته، لا ثاني مَعه، ولا شيء يفعل فعله. «مسلك التوحيد هو جوهرة غنيّة، رحِم الله من صقل هذه الجوهرة الثمينة إلى ذروة الإيمان التّوحيدي، إنّها تعاليم إنسانيّة راقية قديمة وحديثة» (نجيب العسراوي). التوحيد عُزلةٌ وسترٌ، التّوحيد آداب، التوحيد هو الإكثار من ذكر الله تعالى، مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت، عليكم أيّها الموحّدون بفناء وجودكم في اللّه، فَتُصْقَلُ مراياكم، وتنجلي حقيقتُكم.

التوحيد عقيدة علم، وفلسفة طريق سعادة. يا مُوَحّد، اِعمل بما أمرك به الله، والأديان منذ نشأة الكون لها هدف واحد: تعريف الإنسان بحقيقة دربه، وتعريفه على حقيقة ربّه: «خَلَقْت الوجود كلّه لأجلكم وخلقتكم لتعرفوني وتعبدوني». التّوحيد هو طريق النفوس النقيّة التقيّة والعقول المُدركة للأسرار، عقول من عرفوا الدنيا دار فناء، وعرفوا الحقّ إماماً فاتّبعوه، وميثاقاً وحُجَّة ودعوة استجاب لها الموحّد المؤمن المستجيب. التوحيد هو الارتقاء الكبير بين يدي النّور، على الموحّد أن يُدخل نورُ الحق والخير إلى قلبه حتى يحرق ما فيه من شهَوات، ويُجري فيه دماء الإيمان ونور اليقين، وإيمان الموحّد هو طريقه المستقيم، إيمانُه أبداً بالله سبحانه وتعالى، هو الحقّ، وأنّ الموت هو الحقّ، والقيامة حقّ؛ والميزان حقّ والجنة حقّ (شفيق أبو غانم). التوحيد أوّلُ ما أنزل الله من عِلم على جميع الأنبياء «أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تَرَه فهو يراك».

مسلك التوحيد لا يصحّ إلّا إذا شعرنا بهيبة الله تعالى، قال عزّ وجلّ: «أنا عند ظنّ عبدي بي، إذا كان خيراً فلَهُ، وإذا كان شرّاً فلَه»، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة 7 و8). الدين هو التوحيد، هو الصلة بين العبد والمعبود، الدّين هو الإيمان «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» هو منبع الفضائل في النفس والنور في القلب، الدين هو الطاعة ليسلك مسلك التوحيد للباري سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ﴾ (التوبة 33). مسلكيّة الموحّدين الدّروز أن يُحْيوا هذه القوة الكامنة في ثنايا هذه الروح، ليدركوا جوهر الدين، والبعد عن الخطايا والمعاصي. هو الدين، أرسله لنا بالهُدى والحقّ، فهو حقيقة الإرادة الإلهية، وعلى النّفس أن تعرفَ الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصّفات عنه.

مسلكيّة الموحّد هي الصّلاة وصدق اللسان، فالصّلاة هي الصّلة الروحيّة بين الله والإنسان، طَهّروا نفوسكم من الجشع والحسد والحِقد والنميمة، تَخلَّقوا بأخلاق الأنبياء والرسل الكرام، فيستطيعَ العالم الترقّي إلى درجات الكمال، والتقرّب إلى الله ذي الجلال والإكرام. فصدق اللّسان هو رأس الفضائل، هو التصديق بوحدانية الخالق وحده لا شريك له. الصادق يفي بالوعد والعهد، لا يكذب، لا يسرق، لا يشهد بالزور،
ولا يضرّ أحداً. الصدق منجاةٌ ولو تحت شفار السيوف، هو أفضل مكارم الأخلاق، ومن أقدس الواجبات عند الموحدين، لتبقى العبادة خالصة لوجه الله وحده. والعبادة المرتكزة على التربية الدينية الصحيحة، هي شرف للعابد، وأي شرف أغلى من صلة العبد بربّه، ليستقيمَ خلقه إنّها العبادة الحقيقية في الدنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان. من يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه تتجلَّى فيه الحكمة. إنّ التربية الدينية والوعي الخلاّق هي النّعم الوافرة. أمّا كسب المال الحلال فيكون بتجنّب الطمع والحسد، وهذان أساسا كلّ خطيئة، فتواضعوا يرحمْكُم الله، وابتعدوا عن التكبّر والإعجاب، لتصلوا إلى الرّضا والتّسليم فهما من أُسس التوحيد، والقناعة بالعدل الإلهي، وليُحبَّ كلٌّ منكم لأخيه ما يحبّه لنفسه. الخلق كلّهم عباد الله، فليسلّم المؤمن أمرَهُ لربه، راضياً بأحكامه، صابراً على بلواه بعيداً عن المحرمات، كالكذب والنميمة والطمع والكبرياء والسرقة والقتل وشهادة الزور، وليُمسك لسانه إلاّ عن الحق، وليعلم بأنّ اللّه جلّ وعلا ناصرٌ للحقّ.

«الصّدق في أقوالنا أقوى لنا والكذب في أفعالنا أفعى لنا». وأكبر الجهاد هو جهاد النّفس ومعرفتها: «من عرف نفسه عرف ربّه»، «العزّ في الطاعة والذلّ في المعصية» علينا بمخافة الله جلّ وعلا «رأس الحكمة مخافة الله»، والنبيّ هِرمس (النبي إدريس) دعا الناس إلى دين الله عزّ وجل، والقول بالتوحيد، وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب وأمرهم بالصلوات.

وكذلك كان النبي داود(ع)، «اختار من الكهنة والقضاة، مائتين وثمانيةٍ وثمانين كاهناً، يسبّحون للّـه، ليبقى ذكر الله دائماً». والصّلاة هي من أعظم الشعائر، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ﴾ (الأعراف 55)، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه 14). يا داود أعرف نفسك تعرفْني، «النفس المطمئنّة هي التي اطمأنت بذكر الله»، يا داود حذّرْ وأنذر قومك من الشهوات، فإنّ القلوب المتعلّقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عنّي. وعلى المرء ألّا يكون أسير المال والمُلك والموقِع. يقول الشيخ الفاضل(ر): «على المرء أن يسلّم أموره لله، ويتكّل عليه في السرّاء والضرّاء، ليرضَا بقضائه، ويصبر على بلائه ويستغفر ربّه، ويهذّب أخلاقه بالفضائل، وليُقْبل على الرزق الحلال، ويعتمد الصفاء والوفاء… فيكون صادق اللسان، حميد الخصال، حميد الفعال»، فمن جمع هذه الخصال نال عظيم المنال. قالت رابعة العدَويّة(ر): «نعبُده لذاته، ويكفينا نِعَمَه التي لا تُحصى، نخِّر له ساجدين»، ارتفعت رابعة عن درجة العبادة والزّهد إلى درجة الرّضا. كانت في رضاها أروع وأصلب العباد «سُئلت يوماً كيف أرضى بالله؟ أجابت: «يوم تفرح بالنّعمة كما تفرح بالنّقمة لأنّ كليهما من عند الله، وأردفَت: «ثمرة العِلم الرّوحي هي أن تصرف وجهك عن المخلوق كيماتوجهه الى الله الخالق وحده، لأن المعرفة هي معرفة الله». «من عرف خالقه تهذّبت أخلاقه، ومن أستغفر من ذنبه، قَبِل الله وسيلته، ومن بادر إلى التّوبة، لم يَعُد إلى الذنب»، «لا تأنَسْ بغيري إذا ما وجدتني، وستجدني حيث تطلبني، ولا تخشَ سلطاناً ما دام سلطاني».

والأمير السيد(ق) يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله، له البقاء والدوام، وله الحمد على ما أعطى ومنع، وعليه الاتّكال وبه المُستعان. قبول أوامره طاعة وصبر، والاتّكال عليه عزٌّ ونصر، فهنيئاً لمن أطاع وصبر». صاحب الخُلُق الرفيع، رزقه حلال، عقله يقوّيه بمقابلة العلوم الحقيقية، ونظره بمقابلة المُنعم ورؤية جماله، مستأنسٌ بالله عزّ وجل، فلا خطايا ولا ذنوب ولا مجال للشرّ، والله العلّيُّ القدير، هو العَوْن والنّصير، ولا يخَفْ أحدكم إلّا ذنبَه ولا يرجُ إلّا ربّه (نايف عبد الخالق) الدّنيا تطيب بذكره والآخرة بعفوه. حَسَنُ الخُلق لا يَغْضبُ، ومن كفّ عَصَبَه، كفّ الله تعالى عنه عذابَه «تواضعوا يرحمْكم الله، واعفوا يعزّكُمُ الله، وتصدّقوا يرحمْكم الله، وابتعِدوا عن التكبّر والإعجاب. أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النبي داود(ع): «لا تجالس المُتكبّرين ولا النمّامين، وإنّما الكبرياء لي، وأنا صاحب العزّة والعظمة والجبار الأعلى»، لا تحتقروا الفقير، ولا تسخروا من غيركم، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات 13).

هي التقوى، اتَّقوا الله حتى يُصلحَ لكم أعمالكم، ويغفرَ لكم ذنوبكم. إنّ الله يحبّ المتّقين، ويُنْجي الذين يتَّقون والجنّة خُلقت للمُتّقين، لا تَحاسَدوا ولا تباغَضوا وكونوا عند الله إخواناً. فالموحّد الخَلوق مع إخوانه وجيرانه وقومه رؤوف شفوق، لا يتأخّر عن واجباته في التّعزية والفرح، يُسَرّ لِسرورهم ويحزن لحزنهم ويمدّهم بالعَون المادي والمعنوي، ويتّقي ربّه في السرّ والعلانية فللفرائض قُدسِيّتُها. يُرحّب بالضّيف، فالضّيف عنده ضيف الله، يؤمن بالقدَر وبالعمر المحتوم. الصادق الديّان صاحب الخُلُق الرّفيع، لا يُهمل العلم الرّوحاني ساعةً واحدة لأنّها ثمرة الرّوح وبه حياتها، وهو نور البصيرة وبدونه تستولي الظّلمة على النّفوس. الموحّد الحقيقيّ هو الزّوج العطوف والأبُ الحنون، حريصٌ على الكرامة، ونَيْل الرّزق الحلال، يعمل لتأمين أُسرته ورفع العوز عنها. والموحّدة الحقيقيّة، صفاتها صفات الموحّد، فهي الحانية على أولادها، المُخلصة لعائلتها، المتعاونة مع زوجها، تُتقن وتتمّم واجباتها الدينيّة والدنيويّة وشعارها «الكدُّ أمام العائلة عبادة ثانية». هي مهذّبة كريمة، عفيفة النفس، لا تلهيها بَهرَجةُ الدنيا عن عبادتها والأمير السيّد عبد الله التنوخي(ق) قد أمر بفتح المدارس للفتيات قبل الفتيان. وهو يعلم علم اليقين، أنّهنّ الركن الركين والأُسّ المتين في عملية بناء الأوطان المبنية على التقوى والفضيلة وتنشئة الأولاد والتّربية والتعليم والآداب والأخلاق العالية. فتاتَكم؛ هذّبوا خُلُقَها، ورَقُّوا نُهاها، وارفعوا قدرَها ولا تهملوها، هي بنتٌ لكم وأُختٌ وزوجة وهي أمٌ يطيب فيها بنوها.

إذاً، نستنتج إنّ مسلكيّة الموحّد والموحّدة الخُلُقيّة هي مسلكيّة حضارية، هي احترام للحياة العائلية، لا تفكيراً بالخروج عن الآداب الزّوجية. بيئةُ الموحّدين بيئةٌ نظيفةٌ، فيها عِفَّةٌ وعزّةٌ للنفس وبذلٌ للمعروف وصبرٌ ولينٌ وكرامةٌ وجِدٌّ ورِفقٌ، وصدقٌ مع النّفس ومع الآخرين، والتزامٌ بحسن التّعامل، «عامِلِ الناسَ بالتي هي أحسن، وبمثل ما تحب أن يعاملوك به». ومَن هو المسؤول عن بناء الأسرة وتربية الأطفال؟؟ لا شك أنَّ المسؤولية تقع ليس فقط على أكتاف الأمِّ وحدَها، بل على عاتق الأب والأم، في التأديب والتعليم والمراقبة. الولدُ أمانة عند والديه فإنْ عُوِّدَ الخيرَ نشأ عليه، وإنْ عُوّد الشرَّ نشأ عليه (الامام الغزالي). على الأهل أن يُحْسنوا التربية منذ الصّغر، لتترسّخ فيهم عادات السلوك الشّريفة وإشراق نور العقل وصفاء القلب، وذلك بفضل التربية الخلقية واستشعار هيبة الله، (الله معي، الله ناظري الله شاهدي)، وكذلك يقول الأمير السيّد(ق) «بدء الكلام بذكر الله: بسم الله، الحمد لله»، وأيَّة رسالة أشرف وأنبل وأعظم من رسالة العبادة للّـه.

والعبادة شرفٌ للعابد، هي صلة العبد بربّه ليستقيمَ خُلقه، إنّها السعادة الحقيقيّة في الدّنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان والدِّين، يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه، فتنجلي فيه الحكمة السامية، فيستطيع العالم الترقّي في درجات الكمال، والتقرّب إليه ذي الجلال والإكرام. إنّها النّعم الوافرة في معرفة علوم الدين التي أمدّنا الله بها عزَّ وجلَّ، لكسب المال الحلال، توصُّلاً إلى تمام النعيم بتجنُّب الموبقات والمعاصي، التي هي أساس كلّ خطيئة «فجنّات النعيم دوماً وأبداً لمن عمل الصّالحات».

إنَّها الثقافة التوحيدية الخلقية التي يجب أن تُعمّم، والصّلة الروحيَّة التي يجب أن تُحتَرم، لتكوِّن الموحِّدَ ذا الخُلق الحَسن:

وإنَّمــــــا الأممُ الأخـــــلاقُ مـــــــا بقيت         فــــــإن همُ ذهبت أخـــــلاقُهم ذهبـــــوا

وإذا أصيب النــــــــاس في أخــــــلاقِهم          فـــــــــأقِمْ عليهم مأتمـــــــــاً وعويـــــــــلاً

والله العليّ القدير هو العَوْن والنّصير، فتقرّبوا إليه بالعِلم والعمل، إنّها البُشرى، إذْ يعلم ويعمل فتحصيلهما هو الكمال الحقيقيّ، وهما مطلبان يقرّبان إلى الرّضا الإلهيّ. فالجهل يُخفِضُ أمّة ويذلُّها والعلم يرفعها أجلّ مقام. العلم فرح وسعادة، ونور، والعلم هو مِن نِعَم الله تعالى، والله سبحانه وتعالى اختار آدم، لِسرِّه المكنون وعلمهِ المخزون، فاعلمي يا نفس أنّك لم تُخلَقي إلّا للعلم والعمل. اقتران العلم بالعمل هو من الثوابت الأساسية في مسلك التّوحيد، وهما متلازمان. ﴿أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ مُعَلِّمُكَ لِتَنْتَفِعَ، وَأُمَشِّيكَ فِي طَرِيق تَسْلُكُ فِيهِ﴾ (سفر إشعياء ١٧:٤٨)، فالسيد المسيح كان يعلّم تلاميذه كلّ يوم في الهيكل. جاء في القرآن الكريم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه 114). فغاية العلم: التّوحيد، الذي هو علم الحقيقة، ويهذّب النفس إلى المعرفة، لتسيرَ في مسالك الارتقاء الرّوحي ولتصلَ إلى مفاهيم التوحيد التي هي العدل والحق والخير. العلم الحقيقي هو المنبثق من أمر الله، هو الغذاء الروحيّ للنفس والعقل وسلّماً للارتقاء من فيض الحكمة الربّانية لنصل إلى الغاية المُثلى التي حضّنا الله عليها. إنّ مسلك المُوَحِّد يوجب عليه العمل الصالح بما يقتضيه التوحيد من واجبات مسلكيّة والتزامات أخلاقيّة. قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النحل 111)، هو البرهان الصّادق على حقيقة نواياه، وتصديق قلبه بالحقّ وإيمانه الرّاسخ بوجود الله.

تلك هي باختصار مسلكيّة الموحّد وأخلاقيته وأُهيب بكم إخواني وأخواتي، احترامها حيث كنتم، فالتوحيد غير محصور بمكان أو زمان أو لُغة. هو نزعةٌ في القلب وتوجُّهٌ في العقل، نحو الارتباط بالعقل الكُلِّي، فهنيئاً لمن يستطيع التألُّق في رحاب عليائه.

علينا أن نقرأ تراثنا، ونحاول بثّ هذه الحقائق بين أفراد مجتمعنا، خاصّة في هذه الأيام التي فُقدت فيها التربية الدّينية والأخلاقية وطغت المادة على الأخلاق والقيم الرفيعة، وأصبح شبابنا وشابّاتنا في ضياع، لأنّهم لا يفقهون شيئاً من علوم الدّين، وأصبح القابض على الدين في هذه الأيام كالقابض بيده على الجمر ذلك موضوع مُهِمّ ولا مجال للتوسّع في البحث فيه الآن. أمّا مسألة استمساك أمّة التوحيد بأخلاق الدّين كما أمر بها الله تعالى فهو أمرٌ شهد لهم فيه القاصي والداني، بأنّهم أعفُّ الخَلق بفضل خَشيتهم لله عزّ وجلَّ ومحبّته الممزوجة بدمائهم إنها خيرُ أمَّة خصّها الله بالمكرُمات.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي