صناعة الأسلحة الدّفاعيّة في جهاز المناعة مُتْقَنَةٌ لدرجة أنّ بُنية العنصر المجهريّ الدّخيل وبُنية السّلاح المُنتَج لتدميره تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتــاح!
مع اندحار العدوّ تأمر “شرطة الانضباط” بوقف إطلاق النّار وتدعو سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها لكي لا يستمرّ الجسم في وضعية تعبئة مُكلفة وغير مجديـــة
تسامُح الجهاز الدّفاعي مع ملايين البكتيريا النّافعة وقدرته على تمييزها وعدم مهاجمتها هي مُعجزة مُبهرة لم يتمكَّن العلم بكلِّ وسائله من فهم أسرارها
قال تعالى: }وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ (الجاثية: 4) يريد بذلك أن يحثّ المؤمن على التفكّر في آيات الخلق باعتبار ذلك أحد أهمّ طرق اليقين بوجوده وهو أيضاً سبيل الاتِّضاع له والتّسليم لسلطانه ولهدي حكمته ورسالاته. فهذا الكون الهائل الذي يسير منذ الأزل وفق قوانين دقيقة وتلك المخلوقات التي لا تُحصى في البرّ والبحر والتي يمثل كلّ منها ومن أصغر بكتيريا إلى الإنسان نفسه عوالم كاملة لا يُسْبر غورُها ومعجزات ناطقة بعظمة الخالق وقدرته لا يمكن عند النّظر عن قرب في أيّ منها إلّا الخشوع والتّسليم التّام الشّاكر الحامد لمبدع الكون. لقد أراد بعض الضَّالّين المـُضِلِّين استخدام العلم لإنكار وجود الخالق إتّباعا لأصنام نفوسهم وظلمة عقولهم لكنّ العلم نفسه الذي يريدون وضعه في مواجهة الإيمان يصبح يوماً بعد يوم، وكلّما اكتملت حلقاته وتعمّقت اختباراته، أكبر ناصر للإيمان؛ لأنّ التّمَعّن في آيات الخلق والمخلوقات في ضوء العِّلم يوفّر براهين لا تردّ على أنّ كلّ ما في الوجود ليس من فعل الصّدفة إنّما هو آيات إعجاز الخلّاق العظيم }لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا{ (الفرقان:62). كذلك جاء في الآية الكريمة }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56) أيْ ليعرفون، وفق شرح إبن عباس. وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل من الكون ومعجزة الخلق آيات ليس للنّظر إليها بعين البصر أو التّمتّع بها مثل ما تفعل الأنعام بل للتفكر في ما تشير إليه من حقيقة الخالق وتجلّيات عظمته وبراهين سلطانه، فيكون التفكّر بآيات الخلق بذلك هو سبيل معرفة الخالق ونتيجة ذلك الإقرار بالعبودية وبشرف العبادة وتصديق الرّسالات والرّسل والتزام هَدْيِهم.
وبالنّظر لأهمّية إعمال العقل والتفكّر في آيات الوجود تدخل مجلّة “الضّحى” مع هذا العدد قسما علميّاً يتناول تسليط الضّوء على آيات الخلق والكون ليظهر مع كلّ موضوع نتناوله مدى الإعجاز في كلّ مظاهر الوجود صغيرها وكبيرها ولعلّ ذلك يكون حافزاً لمزيد من التفكّر والتأمّل، وسبيل عقليٍّ إلى ثبات الإيمان في القلب وسطوع براهين اليقين.
“الضّحى”
مُعْجزَةُ نظام المناعة
بينما نمضي في حياتنا اليوميّة تعمل جيوش المناعة
بنظام بديع على صدّ هَجمات آلاف الأجسام المُعادية
جنود الدّفاع المَناعي يتلقَّوْنَ في الأمعاء «تدريباً»
يعلّمُهم تمييز البكتيريا النّافعة وعدم مهاجمتها!
ينصرف الإنسان كلّ يوم إلى حياته العاديّة فيستيقظ ويتناول طعامه ويذهب إلى عمله ثم يعود إلى حضن الأسرة أو لملاقاة الأصحاب أو لإجراء بعض التّمارين في النّادي أو غير ذلك من الأعمال، لكن بينما يعيش الإنسان يومه وليله بطمأنينة فإنّه قد لا يكون على بيِّنة من أنّ جسده مهدّد في كلّ أوان من أعداء كثيرين، وأنّه مُحاط في منزله أو في مدينته أو في مكان العمل أو في السوق أو أيّ مكان يقصده بأخطار تتمثل في البكتيريا والفيروسات والأجسام الميكروسكوبية التي توجد بالملايين في كلّ مكان: في الهواء الذي نستنشقه، وفي الماء الذي نشربه، وفي الطعام الذي نأكله، وفي المحيط الذي نعيش فيه.
لكنّ هذا الشخص قادر على أن يستمر في حياته العاديّة دون قلق بفضل نظام المناعة المعقّد والمتطوّر جدّاً الذي يحميه في كلّ لحظاته دون أن يدري عنه شيئاً أو حتى يشعر بخدماته العظيمة. ومثل القلب أو الكبد أو البنكرياس التي تقوم بوظائفها دون أن نشعر بها أو نفهم طبيعة عملها، كذلك يعمل نظام المناعة المعقد دون أن نشعر به مع فارق أنّ هذا النّظام ليس عضواً معيّناً بل هو نظام بديع للدّفاع والهجوم وجمع المعلومات وتبادل التّنسيق وتوزيع الأدوار لا يماثله في دقّته أيّ نظام بشري على الإطلاق. فنحن نتحدّث هنا عن جيوش حقيقيّة مشكّلة من “جنود” عدّة ومن أجهزة استخبارات وأسلحة موجَّهة عن بُعد وعن شبكة اتّصالات وفرق “مٌهمّات خاصّة” أُسندت لكلٍّ منها مهام محدّدة وهؤلاء الجنود أو المحاربون مدرّبون تدريباً ممتازاً وهم يستعملون في دفاعهم عن الجسم تكنولوجيا متطوّرة ويحاربون بأسلحة فعّالة بيولوجيّة وكيميائيّة.
حروبٌ مستمرّة
وفي كلّ يوم، أو بالأحرى في كلّ دقيقة، تنشب وبشكل متتابع “حروبٌ” بين هذه الجيوش وبين الأجسام المجهريّة المعادية التي لا يمكننا رؤيتها لكنّها تحاول على الدّوام التسلّل إلى جسدنا وإيذائنا. وقد تقع هذه الحروب على شكل مناوشات داخليّة بسيطة، لكنّ المناوشات قد تتطوّر إلى اختراق بكتيري فتنشب الحرب على نطاق أوسع وتشمل المعارك الجسد بأكمله مما ينذر بالخطر. وتسمى هذه المعارك “أمراضا”.
وفي غالب الأحيان لا تتغيّر الطّريقة العامّة التي تنشب من خلالها هذه الحرب. فقد يحاول العدوّ خداع جهاز المناعة عن طريق التّمويه وهو يشقّ طريقه عُنْوة داخل الجسد. في مقابل ذلك فإنّ جهاز المناعة يعتمد على قوّات مدرّبة تقوم، وعند أدنى تسلّل أو اختراق بمهمّة تقصّي الحقائق لتحديد هُوِّيّة الأعداء. ويتمّ التعرّف على العدوّ وتحديد طبيعته ويبدأ فوراً تحضير الأسلحة المناسبة للقضاء عليه.
يمكن دون مبالغة تشبيه جسم الإنسان بقلعة محاصرة من قِبَل أعداء يبحث كلٌّ منهم عن نقطة ضَعف أو سبيل لضرب دفاعات القلعة واقتحامها ثم إيذاء من فيها، ويشكّل جِلدُ الإنسان جدارَ تلك القلعة وخطَّ الدّفاع الأوّل عنها.
الجِلْدُ خطُّ دفاعٍ أوّل
بفضل دور الجلد كخطّ دفاعٍ حصينٍ لا تتمكّن الكائنات الدّخيلة التي تصل إلى سطحه من شق طريقها إلى داخل الجسم. ومع أنّ الطّبقة الخارجيّة للجلد، والتي تحتوي على الغلاف القَرنيStratum Corneum تمَّحي باستمرار إلّا أنّها تتجدّد بالكامل كلّ أسبوعين إذ يتكوّن الجلد من تحتها ثمّ يصعد باستمرار لتأخذ الخلايا الجديدة مكان القديمة التي زالت.. وبذلك يتمّ طرد كلّ الزوّار غير المرغوب بهم (والذين شقّوا طريقاً لهم داخل الجلد) من الجسم مع طرح الجلد الميت، وذلك خلال مرحلة نموّ الجلد من الدّاخل إلى الخارج. ولا يمكن للعدوّ في هذه الحالة أنْ يقتحم الجسم سوى عن طريق جرح ما قد يصيب الجلد.
يُعْتَبَر الهواء أحدُ الطّرق التي تتمكّن من خلالها الفيروسات من ولوج جسم الإنسان، حيث يشقّ العدو طريقه إلى الجسم عن طريق الهواء الذي يستنشقه الإنسان. لكنْ هناك إفرازات خاصّة توجد داخل غشاء الأنف المُخاطي وأجزاء دفاعيّة “تبتلع” الخلايا الضّارّة داخل الرّئة (وتسمى البلاعم) وهي عبارة عن خلايا تبتلع الأجسام الغريبة وتقضي عليها قبل أنْ يستفحل خطرها. وتتمكّن الأنزيمات الهضميّة الموجودة في حامض المعدة والأمعاء الصّغيرة من صدّ وقتل عدد كبير من الميكروبات التي تحاول ولوج جسم الإنسان عن طريق الطّعام.
صراعٌ عنيف
وهناك عددٌ من الميكروبات التي تتمكّن من الاستقرار داخل جسم الإنسان، كتلك التي تستقر في الجلد وفي طياته وفي الفم والأنف والعين وقنوات التنفّس العليا وقناة الهضم والأعضاء التّناسليّة، وهي تبقى في حالةٍ كامنة لكنّها لا تتسبّب في المَرض.
لكنْ عندما يتمكّن عنصر مجهريّ دخيل من ولوج الجسم، ومن ثمّ التّكاثر وتحدّي عناصر الدّفاع اليقِظة، فإنّ هذا الاختراق يشعل على الفَور نار الحرب لأنّ نظام المناعة سيدفع بجيشه النّظامي إلى الجبهة لشنّ حربٍ خاطفة ضدّ العدو قبل أنْ يتحوّل إلى خطر حقيقي..
وتمرّ الحرب التي يشنّها جهاز المناعة بأربعة مراحل أوّلها تحديد هُوّيّة وخصائص العدوّ وثانيها تحصين الدّفاعات وإعداد الأسلحة الهجوميّة المناسبة ثم يتمّ شنّ الهجوم وتصفية العناصر المقتحمة الدّخيلة، وأخيراً يتعافى الجسم ويعود إلى حالته الطبيعيّة.
وتُسمّى الخلايا التي تبادر إلى مُجابهة الوحدات المُعادية “الخلايا البَلعَميّة”، وهي التي تقوم بمحاصرة العدوّ والالتحام معه وهذه أشبه بجيش المُشاة وهي تعتمد على كثرتها وسرعة حركتها. ثم يقوم فريق من هذه البلاعم بوظيفة وحدات الاستخبارات العسكرية، لأنّها تحتفظ بأفراد من العدوّ الذي تمكّنت من القضاء عليه وتقوم بتسليمهم
إلى وحدة استخباراتيّة أو ما يسمى بـ “مرسال” خلايا الـ T Cells الدّفاعيّة التي تقوم بتحديد هُوِّيّة العدوّ تمهيداً لعمليّة إنتاج الأسلحة الكفيلة بتدميره.
إعلانُ النَّفيرِ العام
إذا تبيّن أنّ قوّة العدوّ تفوق قدرة الدّفاعات الأولى أو الأمامية، فإنّ فرقة الفرسان (بلاعم الماكروفيتجز) تأتي لدعم الهجوم وتقوم بإفراز مادّة خاصّة. وتسمّى هذه المادّة “المُحِمَّة” التي تسافر طويلا حتى تصل إلى المخّ لتقوم بعمليّة التّنبيه والتّحفيز في وسطه، وبمجرّد وصولها يقوم المخّ بإنذار كافّة الجسم وتتولّد عن ذلك حُمَّى شديدة لدى الشّخص. إنَّ الحُمَّى الشّديدة جزء من نظام المناعة لأنّها تدفع المريض إلى الرّاحة ممّا يعني أنّ الطاقة التي يحتاجها الجيش للدّفاع عن القلعة لا تُصْرَف في أماكن أخرى، وقد لاحظ العلماء وجود تفاعل سريع بين مختلف أجزاء نظام المناعة وتواصل وخِطط توزيع مهمّات معقدة جدّاً.
عَقِبَ هذه التّعبئة تصبح المعركة بين العناصر المِجهريّة الدّخيلة وجهاز المناعة أكثر تعقيداً، وقد يصبح الجسم مهدّداً نتيجة قوّة الهجوم البكتيري وعدم كفاية الدّفاعات الأوّليّة؛ عندها تتدخّل “القوّات الخاصّة” وتُسَمّى الكريفاوات (وهي الخلايا “T” و “B”).
تقوم المخابرات (بلاعم الماكروفيتجز) بتزويد الخلايا “T المساعدة” بالمعلومات عن العدوّ. وتقوم هذه الخلايا بدعوة سامّ الخلايا وخلايا “B” إلى ساحة المعركة وهذه تٌعدّ من أكثر محاربيّ جهاز المناعة فعاليّة.
إنتاجُ الأسلحة
ولحظة حصول خلايا “B” على المعلومات المُتعلّقة بالعدوّ تقوم هذه بصناعة الأسلحة. وتمتاز هذه الصّناعة بالإتقان لدرجة أنّ البُنية الثّلاثيّة الأبعاد للعنصر المجهريّ الدّخيل والبُنية الثّلاثيّة الأبعاد للسّلاح المُنتَج تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتاح.
وتتقدم المُضادّات الحيويّة ِAntibodies وهي الأسلحة التي أنتجتها الخلايا B في اتّجاه العدوّ لتنقض عليه بإحكام تامّ. وبعد هذه المرحلة يتمّ القضاء على العدوّ كما يُفعَل بالدّبابة التي دُمِّرت عجلاتُها ومدفعُها وسلاحُها. وبعد ذلك تأتي فرق أخرى من جهاز المناعة لتقضي نهائياً على العدوّ المُندحر.
وهنا يجب التوقّف عند نقطة هامّة جدّاً قصد التّمعّن فيها. وهي أنّ أنواع العدو التي يتعامل معها جهاز المناعة تعدُّ بالملايين، لكنْ مهما كان شكل العدوّ أو خصائصه فإنّ خلايا جهاز المناعة قادرة على إنتاج السلاح المناسب للأعداء كافّة، ويعني هذا أنّ جهاز المناعة يمتلك المعرفة والقدرة اللّازمتين لإنتاج المفاتيح المناسبة للملايين من الأقفال. وتمتلك هذه الخلايا اللّاواعية القدرة على إنتاج الملايين من الأجسام المضادّة، والقدرة على استعمالها بأفضل الطّرق لإلحاق الهزيمة بالعدوّ.
ما بعدَ النَّصر
وعندما يندحر العدوّ تدخل “شرطة الانضباط” من الخلايا T ساحة العمليات، فتأمر جيش الدّفاع بوقف إطلاق النار كما تتحكّم في سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها. لهذا فإنّ الجسم لا يستمرّ في وضعية تعبئة غير مجدية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها تكون معظم خلايا “T” و “B”، والتي أنتجت خِصّيــصاً للحرب، قد أكملت دورة حياتها لتموت بعد ذلك. غير أنّ هذه الحرب الضّروس يجب ألا تُنسى دروسها. هنا يأتي دور مجموعة خلايا الذّاكرة التي تحتفظ بكل المعلومات عن العدوّ وهذه ستكون في تصرّف جهاز المناعة في حالة تكرار الهجوم من البكتيريا المعادية نفسها، لأنّ نظام المناعة سيُسارع عندها إلى حسم الموقف قبل أن يتمكّن العدوّ من تجميع قوّته. إنّ عمل ذاكرة جهاز المناعة هو الذي يفسر لماذا قد تصيبنا الحصبة مرة لكنّها لا تعاود الإصابة ثانية.
نظامُ المناعة ونظريّة التّطوّر
عند التأمّل في عمل جهاز المناعة يتبيّن لنا وجود خطّة خارقة تتحكّم بكلّ هذا النّظام العجيب وهي خالية من أيّ عيب أو نقص. فكلّ ما يعتبر ضرورياً لعمل هذا المخطّط متوفّر ولا يعتريه أيُّ نقصان: فكيف جاء هذا النّظام المُحكَم إلى الوجود؟
في هذا الشأن بالتّحديد لا يمكن لنظريّة التطور أن تقدّم أيَّ تفسير لأنّه لا يمكن لجهاز المناعة بأيِّ شكل من الأشكال أن يكون نشأ بفعل التطور والتدرّج. والسبب في ذلك أن أي نقص في أي من العناصر المكوّنة لهذا الجهاز يجعل هذا الجهاز يتعطّل تماماً ولا يمكن للشّخص أن يبقى على قيد الحياة بعد ذلك. لذا، فإنّ النّظام لا بدَّ أنَّه وجد مرة واحدة كاملاً شاملاً بعناصره ومن دون عيب أو نقص. وهذه الحقيقة تدحض فكرة الصّدفة التي تبدو في هذا المجال نظريّة فارغة لا قيمة لها.
تَمييز العدوّ من الصّديق
لنأتِ الآن إلى موضوع سيزيدنا حَيْرة وفي الوقت نفسه قناعة بأنّ نظام المناعة وكل حياتنا وكلّ مظاهر هذا الوجود إنّما هي أجزاء من نظام كوني بديع لا يمكن أن يعتريه خطأ أو نُقصان. وموضوعنا يتلخّص في سؤال هو كيف يمكن لنظام المناعة أنّ يفرّق بين بكتيريا عدوّة وبكتيريا نافعة أو صديقة؟ وفي جسمنا تعيش ملايين البكتيريات النّافعة في الأمعاء أو المعدة أو الفم أو الحلق وكذلك الخلايا التي تنتمي إلى أعضاء جسدنا، وهذه الكائنات المجهريّة تعيش وتزدهر في جسدنا دون أن يعترضها نظام المناعة أو تهاجمها فرق الدّفاع؟
على سبيل المثال فإنَّ 80 نوعاً من الكائنات (البكتيريا النافعة) الحيَّة تعيش في الفم والحلق واللّوزتين، كما أنّ هناك 200 نوع من الكائنات الحيّة التي تصون الصحّة الجيدة لأجسادنا باستمرار. وهذه الكائنات لا يهاجمها جهاز المناعة بل “يتسامح” معها أو يتعايش معها بسلام. وهذا ما يسمى “تسامح الجهاز المناعي”Immune System Tolerance وهذا النّظام يمكن وصف عمله كما يلي:
• الخلايا اللّمفاويةlymphocytes هي نوع من الكريّات الدّمويّة البيضاء في أجسامنا. وهي تقاتل كلَّ ما هو ضار بالجسم و تقضي على البكتيريا والجزيئات الخطيرة على أجسامنا.
• لكنْ أثناء تنفيذها لمهمّات الدّفاع والتّنظيف فإنّ هذه الخلايا لا تهاجم بطريق الخطأ مثلا خلايا الجسم الذي تنتمي إليه كما أنها لا تهاجم البكتيريا المفيدة للجسم.
• سبب ذلك أنَّ كلَّ خليّة من خلايا الجسم تحتوي على نظام محدّد للهُوّيّة الخَلويّة للتّعريف بنفسها (الجزيئات المحددَّة للذَّات) وهذه تُعرَف بـ “المستقبلات” Receptors. وعلى هذا الأساس فإنّ خلايا T المقاتلة يمكنها التّمييز بين جميع الخلايا الأخرى من خلال التَعرُّف على مستقبلاتها، كما أنّها تتعايش مع تلك الخلايا التي يحتاجها الجسم. وهذا ما يدعى بـ “التّسامح المناعي”.
• إنَّ التّسامح المناعي” هو في الواقع معجزة عظيمة لأنّه يعني أنّ جهاز الدّفاع قادر على التّمييز بين آلاف البروتينات التي يختلف بعضها عن البعض الآخر.
• فإذا واجهت خليَّة T مُدافعة خليّة أخرى من خلايا الجسم، فإنّها لا تقوم بمهاجمتها، بل تجعل من نفسها غيرَ فعّالة (أي تبطل مؤقتا خاصّيتها الدّفاعية) حتّى لا تهاجمها.
• وبنفس الطّريقة، إذا كانت هناك مادّة من الجسم تتصرَّف كأنَّها مضاد دفاعي antigen لكنّه قد يضرّ بالجسم فانَّ الخليَّة المدافعة لا تدمره و(لا تثير مشاكل للجسم) والسَّبب، كما كشفت الأبحاث العلميّة، هو أنَّ عنصر الدِّفاع الذي يضرُّ الجسم إمّا أنْ يموت تلقائيّاً أو يدمِّر نفسَه بنفسِه.
التّسامح المناعي في الأمعاء
الأمعاء عُضوٌ آخر يتسامح معه جهاز الدّفاع المناعي. بالرّغم من أنّ الجسم بشكل عام محميّ بأسلحة دفاعيّة دقيقة للغاية، فإن الملايين من البكتيريا تعيش في الأمعاء لدينا، لأن الطّعام الذي نأكله، والسّوائل التي نشربها يتمّ هضمها عن طريق تلك البكتيريا في الأمعاء الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذه البكتيريا توفّر طريقة طبيعيّة للحماية لأنّها تمنع تكاثر الجراثيم الأخرى التي يمكن أن تضرّ الجسم. بل إن الخلايا الدّفاعية تتعاون مع هذه البكتيريا من أجل تحقيق الفائدة للجسم. حتى ولو حصلت إثارة لجهاز الدّفاع المناعي وبدأت حرب في الأمعاء فإنَّ الخلايا T المقاتلة تتجاهل البكتيريا النَّافعة في الأمعاء الدَّقيقة وتمنع حصول تلك الحرب.
إذاً، كيف تتسامح الخلايا الدّفاعية مع البكتيريا النّافعة في جسدنا؟
اكتشافٌ أذهل مجلّة Science World
في ورقة بحث نُشرت في مجلة طبيعة المناعة (Nature Immunology)، وجد فريق من الباحثين بقيادة شانون تورلي (Shannon Turley) أنّ جهاز الدّفاع لديه آلية التّسامح المناعي وهي آلية في عمل الجهاز لم تكن معروفة من قبل. وهي تعمل بالشّكل التالي:
1. الغدد اللّمفاوية هي مثل “ثكنات تجمع الجنود” أو المعسكرات الإستراتيجيّة التي تحيط بالجسم كلِّه. أمَّا الخلايا اللَّمفاوية Lymphocites فهي جنود الدّفاع وهذه كما أثبت البحث تقوم بسحب مُضادّات الجسم إلى العُقَد اللّمفاوية ومحاربتها.
2. بالرّغم من ذلك، فإنَّ العُقَد اللّمفاوية الموجودة في الأمعاء تشبه مركزاً للتدريب أكثر من كونها معسكراً إستراتيجيّاً. المذهل هو إن الخلايا الأساسية الموجودة هناك تقوم بتدريب خلايا T والتي هي من جنود جهاز دفاعنا، بالتصرّف بطريقة مناسبة تجاه خلايا الأمعاء وبالتّالي عدم مهاجمة البكتيريا النّافعة التي تعيش فيها وتتكاثر بحرّيّة. وهذا يماثل تدريب الخلايا T على أنْ تُمَيِّز بين مئات البكتيريات النّافعة وبين البكتيريات الضّارة فتهاجم فقط الأخيرة بينما تترك الأولى تعيش وتتكاثر بسلام.
3. لا يمكن تفسير أنَّ مثل هذا النظام في هذا الجزء من الجسم يمكن أنْ يأتي إلى حيّز الوجود عن طريق المصادفات. كيف يمكن لعمليّة التَّدريب أنْ تحدث؟ لقد عجز العلماء عن فهم هذا الأمر رغم كلّ ما يمتلكونه من الوسائل التكنولوجيَّة الأكثر تقدّماً.
شانون تورلي، اختصاصيّة علم الأمراض في جامعة هارفارد والتي قادت ذلك البحث تَملّكتْها الدّهشة ممّا وجدته وأدلت بعد ذلك بتصريح مثير جاء فيه:
“إنَّ خلايا الجهاز المناعي (الخلايا T) إمَّا تتجاهل نسيج الأمعاء أو تتعامل معه بتسامح. ومع ذلك، فإنَّه لا يزال مجهولاً كيف يمكن لخلايا في الجسم أنْ تُعلِّم وتُدرِّب الخلايا T التي تُعتبرُ حسّاسة جدّاً للميكروبات أنْ لا تقوم بمهاجمة خلايا الأمعاء وأنواع البكتيريات الصّديقة التي تقيم فيها”.
إنّ الخلايا كائنات بيولوجيّة غير واعية، ولا تملك الذّكاء والوعي والقدرة التي تمكّنها من تعليم العملية البيولوجية لخلايا أخرى. إذاً ليس هناك أدنى شكّ في أنَّ وضع مثل هذا النّظام الذي عجز أكثر الباحثين والعلماء ذكاءً عن فَهمه يحتاج إلى تفسير أوسع يأخذ في الاعتبار مُعجزَة الخَلق والقدرة المطلقة لله تعالى وهو الذي } إذا قضى أمرا فإنَّما يقول له كُنْ فيكون{ (البقرة :117).
ملاحظة: استفاد هذا الموضوع من مراجع علميّة عّدة من بينها موقع العالم الفيزيائي عدنان أوكتار .