نِيْحــــا الشّوف
جارةُ أيوبٍ النّبيّ وملجأ المظلومين
الهرامشةُ توطّنوا فيها ثم انتقلوا بعد معركة عين دارة إلى السمقانية
قلعتُها الشّهيرةُ حَمت أسرةُ الأمير فخر الدّين من الكُجك
وأولادَ الشّيخ بشير جنبلاط ووالدتهم من الأمير بشير وحلفائه
من يزُرها للمرة الأولى يشعر على الفور أنّه في بلدة سبقت زمانها من حيث ما تتميّز به من مظاهر الثّروة والعمران والتفنّن في بناء القصور والفيلات المنغرسة بصورة متناغمة مع طبيعتها الجبلية الخلابة. ويمكن القول دون حرج أنّ نيحا تبدو متقدّمة في نواحٍ كثيرة على معظم قرى الرّيف اللّبناني، فهي إلى جمال طبيعتها تمتاز بالنسبة المرتفعة من بيوتها التي أنشئت وفق طابع عمرانيّ يجمع بين الحداثة واحترام التّراث، وأحد مظاهر الرّخاء الاقتصاديّ في البلدة ظاهرة بناء الفيلّات والقصور الحجريّة المنتشرة في كلّ أرجائها جنباً إلى جنب مع بيوتها التّراثيّة والتقليديّة، وهو ما يضفي عليها رونقاً وجمالاً. ورغم التّباطؤ الاقتصادي في البلد وفي البلدان المجاورة ولاسيّما في الخليج فإنّنا نرى الورش العمرانيّة فيها مزدهرة وقد باتت البيوت السكنيّة الأنيقة والحجريّة تغطي كلّ المساحات الخضراء المخصّصة للبناء بموجب تصنيف الأراضي من قبل التّنظيم المُدُنِيّ، بدءاً من منطقة الحماري في باتر، مروراٌ بأراضيها المتداخلة بأراضي جباع. وعلى طول السّفح الذي يتكوّن منه عريض السّنديان الشّهير لجهة الشّرق، بما فيه الطّريق المؤدّي إلى النّبع الذي يروي معظم أراضيها. ومن هناك باتجاه الطريق التي تؤدي الى مقام النّبيّ أيّوب عليه السّلام، وفي التّلال المشرفة على وادي بسري، وجزّين وقرى الشّوف السّويجانيّ، وإقليم الخروب. وما يزيد في جمال موقعها، جبالها المكسوّة بأشجار الصّنوبر والسّنديان التي تحيط بها من معظم جهاتها الأربع.
وإذا كانت تلك صورة نيحا في حاضرها، فإنّ ماضيها الغنيّ بالمآثر الطّيبة لا يقلّ شأناً عن واقعها الرّاهن بحُلوه.
التّسمية والمَوقع
يرى المؤرّخ كمال أبو مصلح في كتابه معجم العربي المستعجم من أسماء القُرى والمدن والأماكن في جمهوريّة لبنان الكبير، على أنّ كلمة نيحا تعني المتمايلة الغصون. أما أنيس فريحة فرأى في كتابه معجم أسماء المدن والقرى اللّبنانية، على أنّ كلمة نيحا هي من أصل سريانيّ، ومعناه الهادىء والمستريح والحليم. وهي تقع على السّفح الغربيّ من جبال نيحا التي ترتفع عن سطح البحر 1853م وهي تعرف بـ “تومات نيحا”، المكمّلة لسلسلة جبال لبنان الغربية بين جبل الباروك لجهة الشمال، وجبل الرّيحان لجهة الجنوب. وتقدّر مساحة البلدة مع مشاعاتها بنحو 22,000 هكتار، أي ما يعادل220 كيلو متر مربع، وهي بحسب د. غنام تساوي 2 في المئة من مساحة لبنان. وتحدّها القرى التالية: جباع، باتر، بحنين، عارَيّْ، جزّين، عين مجدلي، دير المزيرعة، كفرحونة، عين التّينة، مشغرة، عيتنيت، مزرعة بمارع، وهي تقع كما أسلفنا على تقاطع محافظات جبل لبنان، والبقاع، والجنوب.
ويذكر المؤرخ الدكتور رياض غنّام، الباحث في تاريخ جبل لبنان، في كتابه نيحا الشّوف في التاريخ . إنّ أقدم الوثائق التي ذكرت اسم نيحا تعود إلى سنة 654 هجرية الموافق 1256 ميلادية. أي إلى بدايات عهد المماليك، وذلك في المنشور الذي وجهه الملك المعز عز الدين أيبك، إلى الأمير سعد الدين خضر بن محمد بن حجي بن بحتر أحد أمراء الغرب التّنوخيين،
ويرتبط اسم نيحا بتاريخ الأشواف وجبل لبنان ارتباطاً وثيقاً، وهي تأتي في مرتبة متقدّمة من حيث تكرر ورود اسمها في كتب التاريخ والمراجع التاريخية بعد المختارة، وبعقلين، ودير القمر، وبيت الدين، وعين دارة. والثّابت أنّ نيحا كانت مأهولة بالسّكّان منذ أيّام الرّومان، وهذا ما تشير إليه كثرة النّواويس والمغاور الموجودة في بَرِّيتها، ومعظمها منقوش في الصخر. وذلك قبل أن يأمر الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور مجموعة من القبائل العربية بالانتقال إلى مواقع مختلفة من جبل لبنان لتأمين حماية ثغور الدّولة ومواصلاتها من قراصنة الإفرنج وهجمات البيزنطييّن.
أبرز العائلات التي توطنت في نيحا
إنّ الأسماء الواردة في مخطوطة قواعد الآداب حفظ الأنساب لا تلحظ أية صلة بين العائلات التي تقيم في نيحا اليوم، والعشائر التي وردت في مدونات الأشرفاني، وابن سباط، وصالح بن يحيَ وغيرهم. وبرأي د. غنام وبعض المطّلعين على تاريخ البلدة، فإنّ ذلك لا يعني أنّ أسر نيحا القديمة قد رحلت عنها، أو أنّها استبدلت بعائلات أخرى، وإنّما هي نفسها انقسمت وتبدّلت أسماؤها وتحوّلت إلى جبوب وبطون وأفخاذ فقدت صلتها بجذورها القديمة واسم العائلة الأصليّ واتخذت بدلاً منه أسماءً جديدة باتت تمثل تركيبة العائلات والأسر الموجودة حاليّاً. والسّبب في ّذلك بسيط جدّاً فالعرب غالباً ما تغلب فيهم الكنية واسم الأب أو الجدّ على اسم القبيلة التي ينتمون إليها. ولعل أقدم الأسماء التي عرفتها نيحا تدويناً هو اسم سعد بن نبا الكسروانيّ، وكان والده يقيم في دير القمر، وله ثلاثة أولاد هم: مردان وجمعة، وسعد، وقد رحل عن دير القمر واستقرّ في نيحا، وكان لقبه أبو الفضل، ويبدو أنّه كان يستقبل الوافدين إلى نيحا بكرم وأريحيّة، فوفد إلى البلدة من كفرفالوس بني مبيع، وبني صيدان، ومنهم مونس وابن عمه إسماعيل، فحصلت بين سعد وإسماعيل مصاهرة إذ كان لسعد ثلاث بنين بلا زواج ولإسماعيل ثلاث بنات في سن الزّواج وصار لهم يوم فرح عظيم. وفي زمن الصّليبيين كانت نيحا ملجأ للهاربين من اعتداءاتهم، فلجأ أحد أمراء العرب ربيعة بن خالد مع جماعته إلى جزّين، لكنّهم تعرضوا للمضايقة، فرحلوا إلى أرض نيحا مستجيرين بسعد بن نبا فرحّب بهم فأقاموا في ربوعها، ويبدو أنّ إقامة ربيعة في نيحا لم تكن بدون بدل فخصّ سعد بقطيع كبير من المواشي مع عبد اسمه فرج يرعى له القطيع.
يؤكد الباحث أحمد أبو سعد أنّ اسم رُكَين هو عبارة عن تجمّع قبلي ضمّ عدّة أسر من الموحّدين الدّروز في نيحا يتفرّع منه عائلات: ماجد وسيف ومزهر وقيس وأبو شهلا وغيرهم. ثم انضمّت إلى هذا التجمّع بعض الأسر المسيحيّة منها: أبو راشد وعجيل. أما قعيق فهو اسم مشترك بين الموحّدين الدّروز في نيحا الشوف، والشّيعة في ياطر والنّبطيّة وتبنين والطّيبة ويتفرّع من الاسم في نيحا عدّة فروع: عسّاف وذبيان ومرشاد والخطيب والبراضعي وكليب وبدران.
قبيلة “بنو خميس” تفرّعت أصلاً من قبيلة أجشم التي انتقلت الى مجدل بَعنا ثمّ إلى بلاد الأشواف واستقرّت في نيحا، ومن فروعها آل غيث وأبو هدير وفرحات وعزام وغيرهم.
تتوزّع عائلات نيحا (حسب أصولها) على الشّكل التالي:
بنو قعيق: ويتفرّع منهم آل ذبيان وآل غنّام وآل كليب وآل مرشاد وآل الخطيب وآل البراضعي وآل الشّمندي وآل ابو شقرا وآل بدران وآل أبو رشيد وآل مصلح.
بنو خميس: ويتفرّع منهم آل عزام وآل فرحات وآل أبو هدير و آل غيث وآل عسّاف وآل عرنوس و آل أبي عجرم وآل الزّوَيْني وآل الحلبي و آل ورد و آل عبد الشافي و آل أبو زين وآل قيس وآل ملّاك وآل بوراس وآل ميّاس وآل يزبك وآل نعمان وآل عبد السلام وآل عماد وآل حسام الدّين وآل حمد.
بنو رُكين: ويتفرع منهم آل سيف وآل مزهر وآل عزيز وآل ماجد وآل أبو شهلي وآل نصار وآل قمر
عائلات سكنتها ثم رحلت عنها
آل جمّول وآل الجوهري وآل الدّاوود وآل طحموش وآل قسّام وآل الشارب وآل رحّال وآل الحنّاوي وآل المغوّش وآل هرموش..
التوطّن المسيحيّ في نيحا
يعود تاريخ التوطّّن المسيحيّ في نيحا إلى عهد الأمير فخر الدّين المعنيّ الثّاني، وفي دراسة أعدّها الدكتور لطيف لطيف عن معركة جلّ الشوك وانتقال الشّيعة من جزين يشير فيها إلى أنّ الوجود المسيحيّ في الشّوف يعود لتلك الفترة. مستشهداً بالزيارة التي قام بها بطريرك الرّوم الملكيين الكاثوليك مكاريوس الحلبي إلى بلاد الشّوف لتفقد رعيّته، وذلك سنة 1648 في عهد الأمير ملحم المعني وقد التقاه في بعقلين. وكانت نيحا المشهورة بقلعتها التي لجأ إليها الأمير فخر الدّين المعني الثّاني وحصاره من قبل الكُجك أحمد من بين القرى التي زارها. ومن أشهر العائلات المسيحيّة في نيحا آل الخوري، وآل الحدّاد، وآل العجيل الكاثوليك، وآل فرنسيس الموارنة.
نيحا في ظلّ الحكم الشّهابيّ
برز اسم محمود أبو هرموش المقيم في نيحا كواحد من دهاقنة العمل السياسيّ، وهو استطاع بعد انتقال الحكم من المعنييّن إلى الشّهابييّن إقامة علاقة وطيدة مع الأمير حيدر الشهابي، بعد القضاء على تمرّد آل الصّغير حكام جبل عامل، وقد عينه نائباً عنه على تلك الديار. لكن هذه العلاقة ساءت بعد أن تحالف أبو هرموش مع آل علم الدّين زعماء الحزب اليمني الذين حاولوا إقصاء الأمير حيدر عن الإمارة. وبعد معركة عين دارة وانتصار الأمير حيدر على خصومه اليمينييّن عمد إلى مصادرة خمس قرى كبيرة في الشّوف وتخصيص عائداتها مباشرة له.
كانت نيحا من بين تلك القرى إلى جانب بعقلين، وعين ماطور (عمّاطور) وبتلون، وعين دارة. كما قام بهدم بيوت الهرامشة في نيحا ما اضطرّهم للانتقال إلى السّمقانية. وفي عهد الأمير يوسف الشهابي حصلت عدّة مواجهات بين الدّروز والشيعة، وفي معركة النّبطية قتل من الدروز عدد وافر، بينهم عدد من شبّان نيحا، ومنذ ذلك الوقت شاعت عبارة “أرامل نيحا”. وتفيد المراجع التاريخية أنه في حمأة الصّراع على الحكم بين أولاد الأمير يوسف وجرجس باز من جهة، والشّيخين بشير وحسن جنبلاط من جهة ثانية، لجأ الشّيخ حسن إلى نيحا بعد ما لاحت بين الفريقين بوادر معركة غير متكافئة. وكذلك لجأ إليها مشايخ آل حمدان من حوران بعد غضب والي الشام صالح باشا عليهم. ولما تعرّض دروز الجبل الأعلى وحلب إلى مضايقات استهدفت القضاء عليهم سنة 1811 أرسلوا يستجيرون بالشّيخ بشير جنبلاط والأمير بشير الشّهابي الثاني فاتفقا على نجدتهم ونقلهم مع عيالهم إلى كنف الإمارة. وأوفد الأمير بشير إليهم بعثة من أربعة أشخاص وهم:
الشّيخ حسّون ورد من نيحا، والشّيخ حسين حماده من بعقلين، والشّيخ حسن أبو شقرا من عماطور، والشّيخ فارس الشدياق من الحدث، وتمكّن الوفد من المجيء بأربعمائة عائلة توزّعوا على قرى الشّوف، وعاليه، والمتن، ووادي التّيم، وبيروت، وعرفت هذه الأسر باسم الحلبي. وكان نصيب نيحا منهم 75 شخصاً ما زال أحفادهم إلى اليوم يحملون اسم الحلبي. أما الحادثة الأهم فكان مسرحها قلعة سانور في فلسطين، إثر الخلاف بين عبد الله باشا والي صيدا وهو حليف الأمير بشير وأهالي نابلس الذين تحصّنوا في القلعة، فأرسل إليه الأمير رجال الشّوف وبمساعدتهم تمكن من القضاء على المتمردين. وقد سقط نتيجة المواجهات عدد كبير من القتلى والجرحى كان لـ نيحا النّصيب الأوفر منهم. ومع اشتداد الصراع بين الأمير بشير الشّهابيّ والشّيخ بشير جنبلاط في العام 1824 لجأت زوجة الشّيخ بشير مع أولادها نعمان وسعيد وإسماعيل إلى نيحا ومكثت فيها فترة قبل انتقالها إلى حوران. ويذكر حنّا أبي راشد أنّ الشّيخ سعيد جنبلاط بعد تسلّمه حاكميّة الشّوفين كان مولعاً بصيد الحجل في برّية نيحا، قرب عين الحلقوم وإنّه رافق الشّيخ سعيد سنة 1858 في رحلة صيد امتدّت لشهرين وكان الشّيخ يسكن الصّواوين، وكان يتوجّه كلّ يوم مع الصّيادين. كما يذكر زيارة الشّيخ سعيد مع أولاده لمقام النّبيّ أيّوب للتبرّك وتناول الغداء ثم الرّجوع إلى نيحا.
معالم نيحا الطبيعية
تومات نيحا : يعتبر جبل التّومات أو ما يعرف بـ تومات نيحا أبرز المعالم الطّبيعيّة في نيحا وهو عبارة عن قمّتين مخروطيّتَيّ الشّكل يبلغ ارتفاع أعلاهما 1850 م أمّا الثانية فيبلغ ارتفاعها 1175م كانت تمر على سفحها إحدى الطّرق التي كانت تربط السّاحل بالداخل السّوري، وتُعتبر التلّة التي يقع عليها مقام النّبي أيّوب عليه السّلام من أبرز المعالم الطّبيعيّة الجميلة للبلدة. أمّا العريض، الواقع قبالة نيحا لجهة الشّرق فإنّه يُعدّ من أجمل المواقع الطّبيعيّة للبلدة، ومن المعالم التي تميّز بلدة نيحا عشرات الأجران والنّواويس والآثار المنتشرة في برّية البلدة والتي تُعتبَر أبرز شاهد على التّاريخ العريق للبلدة.
ثروة مائيّة هائلة
تُعتَبَر نيحا من البلدات الغنيّة بمياهها بحكم موقعها في سفح جبل الباروك الذي يلتقي بتومات نيحا فيشكّلان زاوية قائمة من التلال والآكام تختزن في جوفها ثروة مائية هائلة تفجرّت ينابيع وعيون يتساوى عددها مع عدد أيام السّنة وأهمّها:
1. نبع نيحا، ويقع شرق البَلدة يروي معظم البساتين الواقعة من حوله، وقد تمّ جرّ قسم من مياهه إلى البلدة منذ ما يقرب المئة عام.
2. عين الحلقوم، التي قام الأمير فخر الدين بجر مياهها إلى قلعة نيحا.
3. وهناك عشرات العيون والينابيع منها: عين علق،عين أبو يحيى،عين النّبعة، عين شاوية السّند، عين الخوري، عين شرشر، عين القاطعة (وتقع في وسط البلدة على الطريق المؤدّي الى مقام النّبيّ أيّوب) عين المغاير، عين عطشين، عين باطوم، عين فارس، عين النّهير، عين الحجل، عين المراحات، عين التّينة، عين النّعمان، عين الشّرفي، عين الموالح، ينابيع جل البرك،نبعة الفوّار، عين الباردة، عين مراح الخنازير، ينابيع المغاريق، ينابيع شِعب السيادة، عين القميم ، عين ملتقى السّواقي، نبعة عرق الجبل، عين القنيْبة، عين صخر، عين تركمان، عين الخوخ، عين ملاكي، نبعة صرة الدّحروج، عين الحمير. كما أنّ نهر الزّهراني الذي يروي مناطق شرق صيدا والنّبطية ينبع من تومات نيحا لجهة الجنوب.
مقام النّبيّ أيّوب
زاد من الأهميّة الجغرافيّة لنيحا، وجود مقام النّبيّ أيّوب عليه السّلام على كتف أحد تلالها الفائقة الجمال، تظلّله أشجار السّنديان التي يصل عمر الكثير منها إلى ألف سنة. ويُعْتَبرُ النّبيّ أيّوب أحد الأنبياء الممقدّسين لدى الموحدين الدروز يزورون مقامه للتبرك والنذورات. هذا بالإضافة إلى الزّيارة السّنوِيّة التي يقوم بها المشايخ الدّروز إلى المقام يتقدمهم سماحة شيخ العقل وممثل عن رئيس الجمهوريّة وهذه الزّيارة تُعْتَبَر من الأيام المباركة لدى جميع الدّروز، أمّا أهالي نيحا فإنّهم ينتظرون هذه الزّيارة بفارغ الصبر، وكأنّها يوم عيد بالنّسبة لهم.
أعلام نيحا
نيحا غنيّة بأعلامها ورجالاتها عبر تاريخها الطّويل وإذا كانت بعض الأعلام برزت في تاريخها الوسيط بالتّقوى والوَرَع وتبوّء المناصب العالية، أمثال مشايخ آل ورد، فإنّ تاريخها الحديث يزخر بالأسماء التي لمعت وتبوّأت أعلى المراكز في الدولة، بينهم مدراء عامّون، وعمداء، وضباط، من رتب عالية في الجيش اللّبناني وقوى الأمن الداخلي. وأصحاب مراكز هامة في دوائر الدولة وخارجها. ومن أبرز الشخصيات التي أنجبتها البلدة المرحوم الشّيخ بهجت غيث قائمّقام شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز 1992 – 2006 وقد عُيّن خلفاً لشيخ العقل الرّاحل محمد أبو شقرا. وفي القطاع الخاص برز من نيحا أيضاً رجال أعمال وأصحاب شركات ومؤسّسات كبيرة ومتوسّطة الحجم، أصابوا نجاحاً ملحوظاً في لبنان وخارجه، وهناك العديد من الأطبّاء والمحامين والإعلامييّن والأدباء والفنّانين، وأهل فكر وقلم وعلم وعمل. وأصحاب مِهن كبيرة ومتوسّطة الحجم. وباختصار فإنّ طموح شباب نيحا لا حدود له، وهو واضح في كلّ ما يمارسونه من أعمال ومن حالة الرّخاء والازدهار التي تعمّ القرية وتظهر في عمرانها وحياتها الاجتماعية.
وديع الصافي
مطرب لبنان الأوّل وديع الصّافي 1921 – 2013 يُعَدُّ من عمالقة الفنّ العربيّ وما زال صدى صوته الصّافي يرنّ في كل أقطار العالم. رصيده الفنّيُّ 5,000 أغنية ولحن. ولمّا توفاه الله أصرّ وجهاء البلدة على دفنه في تراب نيحا.
تاريخ العمران
تبعد نيحا عن بيروت نحو 65 كلم وقد وصلت طريق العربات إليها في عهد المتصرّف مظفّر باشا بين عاميّ 1902 و1907 وبلغ عدد سكان البلدة في إحصاء 1910 في عهد المتصرّف أوهانس باشا 1113 نسمة. عدد الدروز 876 نسمة والموارنة 173 والرّوم الأرثوذكس 64 وكان عدد المنازل153 معظمها بني بجدران حجريّة مزدوجة. وقد بدأت الهجرة في نيحا منذ زمن مبكّر، وفي العام 1910 أحصي عدد المهاجرين من نيحا إلى الأميركيتين وبعض الدّول الأوروبيّة وأفريقيّة وسورية فبلغوا 167 شخصاً منهم 79 من طائفة الموحّدين الدّروز و39 من الطائفة المارونيّة و49 من طائفة الرّوم الأرثوذكس.
يحا المعاصرة
توسّعت بلدة نيحا في كلّ الاتّجاهات وامتدّت حتّى أطراف باتر خصوصاً مع تملّك أثرياء ومغتربين من نيحا لمساحات زراعيّة شاسعة في باتر قسم كبير منها تمّ شراؤه من آل الحمدان الملّاك الأساسييّن للأراضي الزّراعية في باتر لأكثر من ثلاثة قرون من الزّمن، وتزايد عدد سكّان البلدة ليصل في إحصاء سنة 2000 إلى 5,230 نسمة. أمّا اليوم وبسبب الهجرات المتوالية فقد أصبح العدد نحو 2800 نسمة ويبلغ عدد منازل البلدة 580 بيت وعدد الناخبين 2810 ناخباً، وسبب زيادة عدد الناخبين عن عدد السكان هو أنّ الكثير منهم هم من بين المهاجرين من السّكّان الذي غادروا البلدة إلى أماكن سكن بديلة في لبنان أو إلى المغتربات لكن لا زالت أسماؤهم تَرِد على لوائح الشّطب. ويوضّح التناقص الكبير الذي أصيبت به البلدة في سكّانها المقيمين حجم النّزف الذي تعاني منه البلدة بسبب جاذبيّة الاغتراب، وقد ساهم وجود عدد كبير من مغتربيها النّاجحين في الخارج في اجتذاب العديد من شبّانها للعمل مع أقاربهم أو في أعمال مستقلّة في المهاجر. لكن رغم الأثر البشريّ الواضح لحركة الاغتراب فإنّ آثارها الإيجابيّة بادية في حركة العمران والرّخاء التي يتمّ تمويلهما من تحويلات المغتربين إلى البلدة.
مؤسّسات عامّة واجتماعيّة
في نيحا مركز لقوى الأمن الدّاخلي تشمل صلاحيّاته قرى باتر وجباع ومرستي.
وهناك مدرسة ثانويّة وأخرى تكميليّة ومركز لرابطة العمل الاجتماعيّ ويضمّ مستوصفاً خيريّاً ومكتبة عامة للمطالعة ومركزاً لشركة الهاتف (أوجيرو) ومكتباً للبريد ومركزاً للدّفاع المدنيّ ومركزاً لجرف الثلوج في موسم الشتاء.
قلعة نيحا..إن حكت
حصن الأمراء وملجأ المظلومين
استخدمت كحصن من قبل الرومان والصليبيين والمماليك وفخر الدين لكن انكشاف مصدر المياه السري أفقدها قيمتها كملجأ في الملمات
لا يمكن الحديث عن نيحا من دون الحديث عن قلعتها الشهيرة التي تدعى أيضا “ شقيف تيرون” وذلك بسبب الأدوار الكثيرة التي لعبتها هذه المغارة الحصينة في تاريخ لبنان والمنطقة، وقد تعاقب على استخدامها أو اللوذ بها ملوك وأمراء وقادة جيوش كما استخدمها الفارّون من الحروب أو النزاعات، لذلك فقد امتلأت المصادر المصادر التاريخية التي تحدثت عنها كثيرة. وحسب تلك المصادر فإن قلعة نيحا تعود إلى العهد الروماني، والبعض الآخر يرى إنّ كلمة تيرون يونانية وتعني الصخر الكبير. أما إبن سباط فيقول: إنّ القلعة تسمى شقيف تيرون وهو اسم رجل وقد نحتت في صخر أصم وهي في شاهق جبل يحتوي على كهف عظيم لا يمكن بلوغه إلا بصعوبة ، ولا يمكن لمن بداخلها التسلق إلى سطحها، ولا يناله أحد لا بالسهام ولا بالمدافع، وحتى لو أصيبت أو هدم قسم منها فإنه لن يستطيع أحد من المهاجمين أن يدخلها. والقلعة مشيدة على جبل شاهق يبلغ ارتفاعه 350م وليس لها سوى مدخل ضيق، لا يصلها الإنسان إلا بواسطة سلم خشبية، وكانت تصلها المياه من عين الحلقوم بواسطة قناة سرية، وكانت تعتبر من أهم المعاقل والحصون الموجودة في لبنان وهي الآن من أهم وأشهر المواقع التاريخية التي يحرص الناس على زيارتها وتفقدها لما تحمله من مغازي تاريخية وسياسية.
أما الأهمية التاريخية للقلعة فبدأت كما يبدو من الأدلة في أيام الرومان، حيث استخدمت حصناً لإمارة الجنادلة لأكثر من نصف قرن، ثم احتفظ بها المسلمون 110 سنوات، قبل انتقالها إلى الصليبيين. ثم تمكن سلطان المماليك الكبير الظاهر بيبرس من استرجاعها وإعادتها إلى سيادة الدولة الإسلامية. وتحولت القلعة إلى أهم قلاع الأمير فخر الدين المعني الثاني في عهد الإمارة المعنية، وقد اختار قبل سفره الى توسكانا في نوع من المنفى الاختياري، أن يضع فيها إحدى زوجاته وهي ابنة علي بن سيفا مع أولاده. كما نقل إليها الكثير من ممتلكاته الثمينة، وبعد عودته إلى البلاد وتعاظم شأنه وجهت إليه الدولة العثمانية حملة كبيرة بقيادة الكجك أحمد، فلجأ إلى قلعة نيحا بنفسه هذه المرة محتميا بموقعها الحصين. ويروي الأمير شكيب أرسلان كيفية إكتشاف الكجك أحمد لمورد المياه المدفون تحت الأرض فقام بتعطيش الخيل فحملتها شدة العطش على التفتيش عن المياه وعندما شمّت رائحة المياه راحت تضرب الأرض بسنابكها، عندها أمر الباشا بحفر المكان حتى ظهر المجرى المائي المطمور تحت الأرض، وهو قام عندها بنحر بعض الأبقار ورمي في المجرى نفايات مختلفة حتى أفسد الماء وجعلها غير صالحة للشرب، الأمر الذي اضطر الأمير إلى الاستسلام لجيش الوالي العثماني.
وفي عهد الإمارة الشهابية، وبعد أن كشف النقاب عن مصدر المياه الذي يغذيها فقدت قلعة نيحا أهميتها الإستراتيجية كحصن، لأنها لمن تعد تمتلك مصدر مياه آمن يحمي المستجيرين بها من الموت عطشا. كما أن الأسلحة الحربية شهدت تطورا كبيرا خصوصا مع تصنيع المدافع الثقيلة وتطور قوتها التدميرية.
ومن مفارقات القدر أن هذه القلعة التي كانت ملجأ للملوك تحولت في وقت ما إلى زريبة يستخدمها الرعاة لإيواء قطعان الماعز، كما تعرضت القلعة التي تقع على فالق زلزالي شهير هو فالق روم إلى هزة عنيفة لا زال أهالي المنطقة يستذكرونها ويتحدثون عن هولها وقد اتت الهزّة على قسم منها، وتكفل بالباقي القصف المدفعي الذي تعرضت له القلعة في الحرب العالمية الثانية أثناء الحرب بين جيش حكومة فيشي وجيش فرنسا الحرة والقوات البريطانية ولعل الأجزاء التي لحقها الدمار والتخريب هي التي نراها اليوم في الواجهة الغربية للحصن المشرفة على مرج بسري والمناطق المحيطة به، وخصوصاً الأجران الكبيرة من مياه عين الحلقوم. ولحسن الحظ فقد استيقظت الهيئات الأهلية على الأهمية التاريخية للقلعة وأهمية الحفاظ عليها وتحركت بصورة خاصة رابطة العمل الاجتماعي في نيحا، ونجحت في إدخال قلعة نيحا في نطاق محمية أرز الشوف، بينما قامت بلدية نيحا بترميم بعض أجزائها وتأمين طريق آمنة إليها، وتحويلها إلى معلم تراثي سياحي.
ونحن ندعو الجميع إلى زيارة هذا الأثر الطبيعي الذي يحفل بالذكريات وقصص البطولات التي سطرها القادة المسلمون وأمراء الموحدون الدروز عبر التاريخ وعلى رأسهم الأمير فخر الدين المعني، ليس في لبنان فحسب وإنما في سائر منطقة بلاد الشام. يقول شاكر الخوري إنّ قلعة نيحا كانت ساعة بكاسين، أي عندما تصل الشمس الى وجهها الغربي يكون الوقت ظهراً.