الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نَجْوى الغُروب

نَجْوى الغُروب

طفلك أنا يا ربّي.
وهذه الأرضُ البديعة، الكريمة، الحنون
التي وضعتني في حضنها
ليست سوى المهد
أدرجُ منه إليك.
إلاّ أنه ليس مهدي وحدي
بل تشاركني فيه
ربوات وربوات من مخلوقاتك.
بعضُها على صورتي ومثالي،
وهو القليل القليل،
وبعضها يختلف عني صورةً ومثالاً،
وهو الكثير الكثير.
وهذا القليل القليل،
وهذا الكثير الكثير، كلّهم دون استثناءٍ
يمتصّ رحيق الوجود
من ثديٍ واحد
هو ثديُ الحياة – حياتك.
فكأنهم العنقودُ في الكرمة
مهما تكاثرت حبّاتُه
وتفاوتت لوناً وحجماً وطعماً،
تبقى لكل حبّة عنقٌ تصلها بالعنقود
وبها تمتصّ عصير البقاء.
وتبقى للعنقود عنقُه التي تصلهُ بالكرمة،
والتي بها يمتصُّ الحياة
ويوزّعها على حبّاته وحُبيباته.
وتبقى للكرمة جذورُها
التي بها تنهلُ إكسير الحياة
من التراب والبحر والشمس والهواء
وكلّ منظورٍ وغير منظور في الفضاء.
وهذه الشراكة في الرضاعة
كانت وحدها قمينة
بأن تجعلَ من مخلوقاتك جميعها
أسرةً تسدُّها بعضها إلى بعض،
وتشدُّها إليك،
أواصرُ محبة لا يقوى الزمان،
ولا الموت،
على فصمها.
ولكن….
على من أعتب من مخلوقاتك
إذا هو تنكّر لأخوّةِ الثدي،
وبالتالي للمحبة؟
أأعتبُ على الذئبِ لا يؤاخي الحمَل؟
أم على الصقرِ ينسى أنه والعصفورُ
أخَوَان في الرضاعة؟
أما على الهرّ يفتكُ بالفأر
وكلاهما ياكلُ من معجنٍ واحد؟
لا. لا أعتبُ على أي مخلوقٍ دون الإنسان.
وأعتبُ على الإنسان.
فهو وحدَهُ بين سائر مخلوقاتك على الأرض
مؤهّلٌ لأن يقيم وزناً لأخوّة الثدي،
وأن يعرفَ أي قوةٍ خارقة
هي المحبة النابعة من تلك الأخوّة،
وأن يؤمنَ بحتمية تلك المحبة،
فيجعلها الأساس الذي تقومُ عليه علاقاته
مع إخوانه الناس
ومع باقي شركائه في بركات الأرضِ والسماء.
وحدَه الإنسان بستطيعُ أن يوسّع ذاته
إلى أن تشملَ كل ذات.
فيباركُ لاعنيه،
ويعطفُ على مبغضيه،
ويشفقُ على حاسديه،
ويطعمُ عدوّه إذا جاع،
وينفذُ حياته إذا تعرّض للخطر.
لأن هؤلاء جميعهم
هم منهُ وفيه.
بهم يحيا،
وبه يحيون.
وحده الإنسان يستطيعُ أن يدرك
عظمة المحبة وجبروتها،*
فهي إن لم تكن في بؤبؤ العين
كان كلّ ما تبصرهُ العين ضباباً في ضباب.
وهي إن لم تكن في طبلة الإذن
كان كلّ ما تسمعهُ الأذن نشازاً في نشاز.
وهي ما لم تدفع اللسان على الكلام
كان كلّ ما يقولُه اللسان هذياناً في هذيان.
وهي ما لم تحرّك أصابعَ اليد
فلا قيمة لكلّ ما تعملُه
ولكلّ ما تعطيه أو تأخذهُ اليد.
وهي ما لم تكن في حبّة القلب
كان كلّ ما يحبّه القلب
سراباً في سراب.
كم كنتُ أتمنى، يا ربّي، –
ورسولُكَ بات على قيد باعٍ مني، –
لو كان لي أن استقبله
وليس في بؤبؤ عيني،
أو في طبلة أذني،
أو في لساني،
أو في أناملي،
أو في حبّة قلبي
إلاّ المحبة!
لبته كان في مستطاعي
أن أمحو من ذاكرتي
كلّ صورة،
كلّ فكرة،
كلّ نية،
كلّ شهوة،
كلّ لذة،
كلّ شكوى،
كان فيها شيءٌ من التجديف على المحبة!
ليته كان في مستطاعي أن أفعل ذلك
حتى إذا جاء رسولُك
ليقطعَ الأمراسَ التي تشدّني إلى الأرض
فتحتُ له صدري،
ومددتُ إليه يدي،
ومعاً قطعنا الأمراس.
على أنني، وإن جدّفت على المحبة
في ما عبرَ من أيامي،
ففي نفسي اليوم
إيمانٌ عميقٌ جداً –
إيمانٌ لا يتزعزع –
بأن المحبة وحدها هي المفتاح
لكلّ ما علّي من أسراري
وأسرار الكون.
وهي وحدها الدواءُ الشافي
لكلّ ضروبِ القلقِ والحيرة والتمزّق
والخوف من سوء المصير.”
(يتبع جزء ثان)

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي