حبُّه للطبيعة
والعمل في الحديقة
تُظهر يوميّات يوسف بك حسن في اليمن حبّه الشديد للطبيعة وهو يصف بتفصيل شاعري أحيانا أسفاره الطويلة، والمضنية على ظهر حصان أو بغلة في شعابها الوعرة، ووهادها ووديانها، ويتوقف أمام جداول المياه التي كان يصادفها، وإن كان يشدّد على طبيعتّها الجافة وعلى فّقرها، وقد أورد في إحدى يومياته أنّ 80% من اليمنيين يقتاتون بأوراق الأشجار، وبعض ما تجود به الطبيعة، لكنّ الموضوع الذي يحتلّ اهتمامّه الأول كان الحديقة التي كان يُنشِئُها في أي مكان يحلّ فيه ويتخذه مقراً إدارياً، وكان يأتي بالتربة الصالحة من مسافات أحياناَ لإثراء البستان، ويعتني بالزرع والأشجار معتبرا ذلك النشاط “سلواه الوحيدة” في تلك البلاد الموحشة والصعبة. في ما يلي على لسانه ما أورده في يومياته عن ذلك الجانب:
يقول في إحداها: “ولكثرة شَغَفي بالطبيعة، ومحبتي للخُضْرة والزهور، أصبحت كثير الاهتمام ببستاني الكائن في باحة الدار، ولذا ازداد نموا وقد ابتدأت بجني ثماره”.
وفي ما سجّله أيضا قوله: “بالرّغم من ضغط العمل الرّسمي فإنّني كثير الاشتغال في الجنينة التي في دار الحكومة، وقد أتقنتها، ووزّعت بها زراعات وأشياء كثيرة من زهور وخضار. وضعت سُرادِقاً للعريشة التي بها، وقد كانت مُهْملة، ففي كلّ صباح أنزل إليها، أريِّض النفس بها قليلا قبل افتتاح العمل. وهذه سلواي الوحيدة في هذه الأيام.
” عن قبائل اليمن
إذا رأوْا ميلا نحوهم ازداد غُنْجُهم،وإن رأوا خِرقة تهرب قلوبهم
وعقول القبائل في أعينهم، ما رأوه فقنعوا به “
” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة “
“عن هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب
صِرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة المُلك والرُّبّان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.”
يوسف بك حسن في يومياته اليمنية
رجل إقدام ونزاهة ورحمـة
في غابة من الفَقر والجهل والفساد
لــولا ضـــرورة استــدراك إعاشــة العسكـــــر
لوجدت تحصيل المال من النـــاس حرامـــاً..
الشِّدّة هي الدواء لمن عقله في عينه!
القراءة في يوميّات يوسف بك حسن في اليمن عمل يجلب ولاشكّ المتعة للنّفس، لكنّها قد تكون أحد أفضل السّبل لفهم يَمن بدايات القرن العشرين من الداخل، والذين يتابعون بذهول الحروب العبثيّة والمدمّرة التي يغرق فيها اليمن منذ سنوات ربما يجدون في يوميات هذا الرجل الفذّ ما يعينهم على فهم جذور المعضلة اليمنية السياسية والاجتماعية، وهذه المختارات من مدوّنته الطويلة التي استغرقت نحو 12 عاماً تسلّط الضوء أيضاً على شخصيّة الكاتب، ورؤيته الأخلاقية وشجاعته وإيمانه العميق، وتظهر اليوميات أيضاً رجل دولة مُحنّك، وعلى قدر من الدهاء السياسي (وهو ما سمح له بترويض الطبيعة المتخلّفة الصّعبة المراس لليمنيين) ويظهر صاحب اليوميّات لنا من خلال ما سجّله رجلاً ذا فطرة إنسانية عميقة، وعنفوان وشاعرية مرهفة، وحدب كبير على الفقراء والمظلومين. لكنّ يومياته تُظهر أيضاً عدم تردّده في البطش والمواجهة الشّجاعة؛ سواء في الحرب أم في حملات تأديب وإخضاع المتمرّدين والعُصاة.
وقد اخترنا من حديقة يومياته الوفيرة بعض اللّمعات المُلفته في تصويرها لشخصيته الغنية، أو في تسجيلها لمشاعره تجاه بعض أهم الأحداث التي مرّ بها في تلك الفترة الانتقالية الخطيرة، فترة انهيار الدولة العَلِيّة (والخلافة الإسلاميّة ) تحت ضربات الغرب والمتآمرين من كل نوع. ونحن ننصح كلّ قارئ مهتمّ باقتناء هذا الكتاب النفيس الذي لا نشهد في هذه الأيام صدور ما يوازيه أهمية وجِدَّة وإمتاعا إلاّ لماما.
رئيس التحرير


مختارات من اليوميات


الخميس 24 أيلول 1914:
بدأ الناس يقطفون السنابل الحاصلة لأجل سد الرّمق حيث لم يعد في يمكنهم الانتظار إلى وقت الحصاد، فالله يبعد عن خلقه الجوع والبلاء.
4 تشرين الأول 1914:
ازداد قلقنا من الإشاعات بأن الدولة العليّة (يقصد العثمانية)دخلت في مواقع القتال السائدة الآن، وإنها في حالة حرب مع الإنكليز، وهي تجهّز الجنود في جهة “المُخا” و”المندب” على حدود الإنكليز. فأشعرت بعض الأصدقاء طالبا تحويلي إلى “المُخا” ،أو تلك الجهات لأجل الاشتراك في الحروب المحتمل حصولها؛ لأنني أوَدّ أن يكون لي نصيب في الجهاد ضدّ الإنكليز كما جاهدت ضدّ إيطاليا.
الأربعاء 14 تشرين الأول 2014:
خرجنا هذا اليوم إلى أطراف القرية، وأجرينا تمرين الرماية بإلصاق ورقة بيضاء صغيرة على حجر، وقد توفقت لرميها برمية واحدة، وقد أُعجِبَت بذلك القبائل ولاسيّما الشيخ “حسين هوّاش”، ولسان حالي يقول “رِمَية من غير رامٍ”.
الجمعة 16 تشرين الأول 2014:
محلّ إقامتي في حيّ اليهود الذين يربو عددهم عن السّتين، والكنيس قريب منهم، فلا نسمع ليلا ونهارا إلاّ أصوات عبادتهم سيّما يوم السبت. وفي الحقيقة ترى اليهود في بيوتهم ولباسهم أكثر نظاما ولطافة؛ مع أنهم أفقر من المسلمين، وهذا من شدّة تعلّقهم ومواظبتهم على العبادة، ومع كثرة التحقير الذي ينالهم من الأهالي، والتّنظير عليهم في أمر اللّبس، وعدم اقتدارهم على ركوب الخيل في القرى، والتزيّي بزي المسلمين. تراهم صابرين مُتوكّلين. ونسبة لسواهم تراهم مُرفّهين، وكافة الصنائع في أيديهم.
السبت 5 كانون الأول 2014:
اجتمعنا عند العصر بمدير المال مع البينباشي والطبيب وكثير من المأمورين، وعملنا مجلساً للقات الذي أنا منه بَراء، براءة الذئب من دم يوسف الصّدّيق.
الثلاثاء 8 كانون الأول:
الأمور بغاية الرَّداءة والتحصيلات خاربة (أي معطّلة)بسبب مَلْعَنَة الحاكم، وقلّة ناموس مدير المال، فكم أتوسّل الله تعالى أن ينقذني من هذه الحالة.
الجمعة 11 كانون الأول 1914:
لقد وفيت كثيرا من الديون التي عليّ بسبب تراكم معاشاتي، إذ مضى خمسة أشهر لم تُدفع لي، وقد أصبحت في ضيق شديد بسبب عدم وجود نقود لاستبقاء معاشي.
الجمعة 18 كانون الأول 1914:
صمّمت النيّة على العزم إلى “نجرة” لأجل التّحصيلات، وتدارك شيء من المعاش للتّمكن من العزم، وقد خاطرت بنفسي بسبب كثرة حماس القبائل المشارقة ضد الحكومة من تأخير معاشاتهم، وقد بلغنا أنهم يريدون شرّاً. وقد حصلت مناوشة شديدة بين رؤسائهم وبين “الإمام” والوالي، قاتل الله الجهل لأنه لا يُقدِّر هؤلاء ما هي الدولة وما تعانيه من الأهوال.
الثلاثاء 7 نيسان 1915:
تناقشت كثيرا مع بعض المشايخ بشأن مباحث دينية، وقد تمكّنت من إقناعهم، وإزالة ما رسخ بأذهانهم من الخرافات. وإني لا أفَوِّت فرصة بهذا الشأن، لأنّ أعظم شيء يهمّني هو الخدمة لأبناء جنسي وتنويرهم.
الاثنين 13 نيسان 1915:
أصدرت إعلانات للأهالي بكفّ يد المشايخ المذكورين عنهم، ورفع كلّ تعدٍّ وكسر الحجاب الذي يمنع ضعفاء الخَلق عن أبواب الحكومة.


الجمعة 17 نيسان 1915:
تهافت عليّ الأهالي يطلبون النِّصفة (العدل) من ظلم “محمد بن علي باشا”، فأعطيتهم آيات النجاة.
وكان اجتماعي مع خَلق كثير تحت أشجار التّمر الهندي، وأحضِر لي كرسي طويلة، وهي تخت من حبال ورق النخيل، يُنام عليه في تهامة وجوارها، فأشبهت في تلك الوضعية كأنني مَلِك الجِنّ.
الجمعة 24 نيسان 1915:
الأمور تُساق بأسلوب حَسَن، فقد رفعت يد كلّ متجبِّر. إنّما شاهدت في الأهالي جوعاً عظيماً. ولولا ضرورة الحال الحاضرة، وضرورة تدارك إعاشة العسكر العثمانية المنقطعة عن سائر الجهات؛ لكنتُ أرى تحصيل أموال من الأهالي حراماً بسبب عدم استحقاق هذا.
الجمعة 29 أيار 1915:
قرأت خطبة الجمعة في جماعة عظيمة، خطبة تليق بالزمن الحاضر، حثثت بها القوم على الاتفاق والبدار إلى الجهاد، وأوضحت لهم الحال التي هي عليها الأمّة الإسلامية، فكان تأثيرها شديدا، حتى أنني رأيت القوم في شهيق ونحيب، وقد صمّموا العزم إلى الجهاد والتفاني في حفظ الدين والبلاد.
الاثنين 7 تموز 1915:
وردتني برقيّة من الوالي يظهر تشكُّرَه وتقديره من الخدمات والشجاعة التي أظهرتها في الزّحف على “لحج”. ومع هذا لا أنتظر مثل هذا التقدير، بل خدمتي لِلّه ولوطني ولشرفي، وكلٌّ يعمل على شاكلته.
السبت 15 آب 1915:
ولم نَكَدْ نصل مع القوّة (الجيش)ونحن نجول مع القومندان والقائمقام قدري بك، إلاّ والعدوّ الإنكليزي قد أقبل بقوّة عظيمة وثمانية مدافع، فاستَعَرَتْ نيران الحرب أطراف “الوهط” وقد ثبت الإنكليز ثباتا حسَناً، ولكن استحضارنا للموت، وشدّة هجومنا هدّ عزمهم ففرّوا منهزمين. أمّا أنا “العاجز”، فاستصبحت قليلاً من المجاهدين وتوغّلت بهم بين العدوّ، فاستوليت على مدفع ومربط لهم يبعد ساعة من “الوهط”، فأشغلت العدوّ الذي هُزِم شرّ هزيمة.
الأحد 16 آب 1915:
حين وصولنا “الدّرب” تحقق أنّ العدو كانت قوّته من المشاة أربعة آلاف، وثمانية مدافع وأربعمائة فارس . وفي الحقيقة كانت هذه الحرب (حرب لحج) من الخوارق؛ لأنّ العدد المقاتل منّا لا يبلغ الخمسمائة. والمجاهدين أكثرهم أبْلَوْا بلاءً حسناً.
الاثنين 23 تشرين الثاني 1915:
مدير “حبيش” هو ضيفي، والبيت مملوء من الخدامين، لذلك فالمصروف زائد لكن الله الستّار، وأنا لا أخشى من فَقْد المال أو الرّزق مادام البيت مفتوحاً، والبَرَكة تقع في المال الذي يأكل منه الضيف، والقناعة بالمال الحلال هي السعادة بعينها.
خلاصة سنة 1915:
كنت في هذا السنة كثير الأسفار والأتعاب، وحائزا على شُهرة لم تتيسّر إلاّ للقليل، حيث من أوّلها إلى آخرها ونحن نخوض في غَمَرات الوقائع الشهيرة من حرب الجبلين، إلى تأديب كافة أنحاء القضاء، والانتقال من ذلك إلى ساحة الجهاد والحَوْزَة (أي السيطرة) على “لحج”.
والحمد لله الذي عصمني من التنزُّل إلى أخذ شيء من الغنائم، كما فعل سواي من الرؤساء، إلاّ بعض كتب نفيسة وآلة غناء، وبعض عاديّات لا يعرف قدرها إلاّ ذووها. وإنني أشكر الله الذي طوى عاما من عمري بمثل هذه الغوائل، ونزّهني عن الوقوع في شُبُهات الحرام، ومع ما حصل بيدي من أموال، وخصوصاً حاصلات الأراضي في “لَحْج”.
الثلاثاء 11 كانون الثاني 1916:
الحمد لله على التوفيق لإلقاء الرّهبة في القلوب، وهذا لِشدّة اهتمامي بالضّعفاء من الأهلين.
السبت 19 شباط 1916:
خرجنا من “الرميد” الساعة الثالثة مع السيد “أحمد باشا” ومعه سائر المرافقين، قاصدين عزلة “السارة”، أرادوا منعنا من المرور فلم نحفل لهم، كانوا هم على مرتفع حيث أطلقوا عليّ رصاصتين أصابت إحداهما فخذ البغلة التي أمتطيها، والثانية خرقت طرف الصمّاتة وأصابت حجرا طارت شظاياه عَليّ. فحمدت الله على النجاة من هذا القضاء، فوالله ما عدت أخشى الموت ما دام في الأجل مهلة.
جاء بعض المشايخ يعتذرون عن جهالة الفاعلين.
الاثنين 13 آذار 1916:
كانت ليلة أمس ليلة طَرَب لا تُحدّ ولا توصف، وكان الجميع سُكارى ما عداي، فلم أمسَّ شيئا رغماَ عن إصرار الجمهور.
الجمعة 31 آذار 1916:
خُلاصة آذار أسفار وأخطار وزيارات كبار وصغار، وطيُّ البراري والقفار والمُنجّي العليّ الجبّار.
السبت 8 نيسان 1916:
أطالع كتاب “ثمرة الحقيقة في التصوّف” للشيخ أحمد الزّيلعي المدفون في “اللُّحَيّة” (مدينة على البحر الأحمر شمال ميناء الحُدَيدة) والمعروف وهو كتاب عميم النّفع.
الجمعة 5 أيار 1916
في “اللُّحَيّة”، تاجر مُهمّ اسمه “يوركي” يوناني الأصل وهو هنا منذ اثنتي عشرة سنة، كان فارّاً من الحُدَيدة، فلما سمع عن حُسن معاملتنا ومحافظتنا على التجّار رجع وحانوته تحت بيتنا، وهو مملوء بالبضائع.
الجمعة 19 أيار 1916:
تفكّرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خِضَمّ الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أقارع الأهوال، ولقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركةً استعملت بها المدافع، أربعاً منها في “المُخا” مع السفن الإيطالية سنة 1327،وأربعاً في “بيت الفقيه”، ( مدينة على الساحل الغربي لليمن على البحر البحر الأحمر) مع “ قبيلة الزَّرانيق” المشهورين بالتمرّد، وثلاثة منها مع القبائل، وأربعاً منها في سفر “لحج” مع الإنكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً مع سفن الإنكليز في “اللّحَيّة”، أما الوقائع التي لم تستعمل فيها المدافع فهي كثيرة والمسلِّم الله.
الثلاثاء 23 أيار 2016:
عندما كنت مُخْتَلياً في مقصورتي العليا، تأمّلت الكوارث التي تحيط بي وما استولاني من الحنين إلى الوطن. عزمت فجأة على تبديل مسلك الإناءة بالانتباه الشديد، والتصلّب في تلقّي الحوادث والحروب ليلاَ نهاراً إلى مراقي العلا. إنّ الإنسان رهين الأعمال لا الآمال، وقد عَوّلت على طرد كلّ حادثة من شأنها الهزيمة، وأبدَلْتُها بعزيمة توجِب الكفاح، وعلى الله الاتّكال، وأحمده على هذا الإلهام.
” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة. “


الجمعة 26 أيار 1916:
أشعر بصلابة في نفسي على كبح جِماحِها، لذلك أرى نفسي بغاية الانشراح، لا همّ إلاّ الوظيفة، ولا مسرح لأفكاري إلا فضاء التعالي، واكتساب المَحمَدة التي هي من فطرة كل إنسان.
الاثنين 5 حزيران 2016
أصبح كثير من النساء والأطفال يتضوّرون جوعاً وفي حالة مُريعة من الجوع والحرارة والغلاء. فرأيت من الديانة الإنسانية النّظر لحالهم. فدعوت كبار البلد والمأمورين واقترحت مأوى للفقراء لجمعهم في مكان خاص يُنفق عليهم من مال الجمعية الذي يُحصَّل من بعض رسوم على الواردات من أموال التجّار ومن التبرعات التي تجود بها أيدي أهل الإحسان ودَعَوْنا الجمعية “جمعية إعانة الفقراء”.
فتشكلت الجمعية برئاستي وقد هيّأت برنامجا لأعمالها وابتدأنا بجمع التبرعات وعلى أن يسلِّم كلٌّ مِنّا قدرا معيّناً كلّ أسبوع… وتداركنا بناءً للإيواء.
الجمعة 9 حزيران 2018
افتتحنا اليوم ملجأ الفقراء وبلغ عددهم ستين شخصا، وحضر الاجتماع المأمورون والأعيان. تَلَوْت الدّعوات وألقيت خطابا مُذَكِّرا بالواجب تجاه المعوزين والفقراء وإيثار الصّدَقات، مُسْتنداً على أوامر الشريعة الغرّاء، فكان لذلك تأثير كبير. وهنالك تناولنا الإعانات وتناثرت الصدقات وقد شعرت بالارتياح.
أخذت كتاباً مسهباً من سعادة الأمير شكيب أرسلان، ويعرب عن امتنانه مع أحمد جمال باشا من خدماتي.
الاثنين 19 حزيران 1916:
ومن هذه التجربة وغيرها؛ علمت أنّ الكثير من أعيان اليمن لا يهمّهم إلا مصالحهم الخاصة، وذلك للجهل المتفشّي بينهم.
الاثنين 31 تموز 1916: (عيد الفطر)
خلاصة شهر تموز:
1. عَزَمْت أن أعمل كلّ ما يؤول إلى تمجيد ربّي؛ ليعود عليّ بالفائدة والنفع طول إقامتي في هذا الوجود، دون إعارة والتفات إلى تقوّل الناس وعرقلتهم
2. عَزمت أنْ أقوم بكلّ ما أراه واجباً، عليَّ إتمام خدمة الوطن ونفع أبنائه.
3. عَزمت أنْ لا أعمل شيئا كنت أَمنع عنه، ولو كنت في آخر لحظة من العمر
الاثنين 14 آب 1916:
عند كل فرصة أتمتّع بقراءة كتاب “الجامع الصغير للأسيوطي المتضمّن أحَدَ عشرَ ألف حديث عن النبي العربي، وإني لأُدهَش كما لا شكّ يُدهش كل مُفكِّر من ما حواه النبي من بعد النظر، والقدرة السياسية والعمرانية، فإنّه بمثابة قانون مشروح ومُفسَّر، لأنَّه لم يترك أمراً من أمور الدين ومسائل الدنيا إلا طرق بابه، فأوصى به، فلو عمل أبناء مِلَّته الكسالى بموجبه؛ لأصبحوا نبراس المدنيّة الحاضرة كما كان أسلافهم في الغابر.


السبت 7 تشرين الأول 1916
الأربعاء 8 تشرين الثاني 1916:
أكرّر درس العَروض والقَريض في وقت الفراغ، فأرى نفسي وقد سَهُلَ عليّ النظم وسَبْك المعاني التي أتصوّرها في قالب الوزن، ومهما تعسَّر المعنى وكان دقيقاً لا يُعجزني. أتابع المطالعة حتى يكون الشِّعر لي سليقة، والنثر بيدي مملوك والله على كلّ شيء قدير.
الخميس 8 كانون الأول 1916:
اجتهدت في إنجاز ما بقي من ضروب بالشِّدّة حتى نحصل على القسم الوافر من التحصيلات ثم حبست المشايخ وهكذا يُرى أن الشدة هي الدواء لمن عقله في عينه1
الأحد 21 كانون الثاني 1917:
حالة القبائل أشبه بحالة الأطفال الّذين لا يعرفون الغثّ من السّمين، فإذا رَأَوْا مَيْلاً نحوهم من زعمائهم ازداد غُنْجُهُم،وإن رَأوْا خِرْقَة فلا بد أن تهرب قلوبهم وعقول القبائل في أعينهم، ما رَأوْه فقنعوا به، فمن الأمور مشكلة إدارة هؤلاء في هذا الوقت، الحكومة مشغولة والعدوّ يهددنا برّاً وبحراً وبإفساد القبائل بالرشوة.
وقد جمعت مشايخ وعقال “بني عديّة” وتَلَوتُ عليهم درساً يتعلّق بلزوم الاتحاد مع “بني جامع” قبيلتهم الأصليّة فرأيت منهم آذانا صاغية.
الأربعاء 21 آذار 1917:
في هذا اليوم يتساوى فيه الليل والنهار، وقد تجلّت به الغزالة في برج الحَمَل ولمّا أعدت الفكر للماضي ولمّا كان تجربة الخلفاء العباسيين في هذا اليوم من أسباب التّرَف والزينة ونفيس الهدايا لأرباب دولتها، وهذه عادة أُخِذَت من الأعجام ويُسّمونه “النّيْروز”ولا يخفى أنّ أهمّ رجال العباسيين من الأعجام الذين انتصروا لهم ليس حُبّاً بل انتقاماً من العرب والإسلام إذْ قوّض دينهم القديم وهدم شوامخ عزهم الذي كانوا يظهرون به على العرب.
الجمعة 13 نيسان 1917
أصبحنا كالعائم في اليم على خشبة لا يدري ما هو جارٍ بأحوال العالم لسبب تناقض الأخبار التي تردنا وإننا لا نعوِّل على ما يُحدق بنا من المهالك لأننا قررنا الوصول إلى هذه الدرجة فهي منتظرة لدينا؛ لا تأخذنا الدهشة لأن المأمول من تسامح الحكومة وعدم اعتدادها للطوارئ الوصول إلى مثل هذه الحالة,
الجمعة 27 نيسان 1917:
بعد المعايدات الرّسمية بدار الحكومة توجّهت ومعي الجَمّ الحاضر في المعايدة إلى حيث تُحفر الآبار، وكان منها ثلاث آبار صار قابل استعمالها، فَوَصَلنا إلى إحداها التي تمّ بناؤها، فبعد أن تكلّمت بكلام مناسب استخرجت بيدي أول دلو شرب منه جميع من كان حاضراً، وكان الماء عذباً، فحمدنا الله على إنعامه الذي لم تَنَلْهُ “اللّحَيّة” منذ بنائها. رجعنا وعموم الأوجه تَتهَلّل بشرا والأهلون يضاعفون الدّعاء.
الاثنين 30 نيسان 1917:
انصرفنا أمس ليلاً من “العَطَن” ونحن في انشراح وقد أثبتنا للأهالي وخصوصاً القبائل أَنّنا لسنا كالذين سبقوا. نحن لا نعبأ إلاّ براحة ضمائرنا وأنّ السّعي يوجِدُ في الرمال القاحلة جِناناً خضرة ورياضاً نضرة. وقد وصل رجل حَضرَميّ اسمه “سعيد سالم” وقد ذكر أنّ أهل “لَحْج” عموماً في حنين نَظراً لما رَأوْه أثناء إقامتي هناك من حسن المعاملة ويرون فرقاً بيِّناً عمَّن خلفني، وكذلك عموم أعيان اللواء التَّعِزي، فالحمد لله على حُسْن الذِّكْر وهذا ما ينسيني الامتحان الذي أراه من غير العارفين.
الاثنين 21 أيار 1917:
هنيئاً لِمن اقتفى أَثرَ أبي العلاء الذي أقول بأنه قد أجال طَرْفَ العقل في سوح الكائنات وما ترك من مَهامِهِ الدّنيا مفازة إلاّ سَبَر غَوْرَها، فرجع وهو ظافر بالحقيقة التي تختبئ غالباً في أحْفَر الزوايا، ولذلك أراني مضطرّاً، ولأجل تخفيف جشع النفس، إلى تتبّع آثاره والاستضاءة بمنارِه رحمه الله من عالمٍ بالله.
الجمعة 25 أيار 1917:
اعتدت صباحاً وفي غالب الأحيان أن أمُرّ على دائرة الجُمرك لأجل مشارفة أحوال الإعانة الجهادية فأتذاكر مع “أحمد عاكف أفندي” مدير الجمرك، وهو أضاع سنوات في اليمن استعمل في حياته ضروب الخلاعة، إلا أنه لم يبقِ من جسده إلاّ الحثالة ومن ماء الحياة إلاّ الوَشَل.


الأحد 3 حزيران 1917:
ما زالت أشغالي مُنْحَصِرَة في تَرِكَة “محمّد ياسين” وإظهار لصوصية المحكمة الشرعية وأبت الاستقامة إلاّ القيام بما يوجِبُه الوجدان الحيّ الذي تجرّد منه قاضي “اللّحَيّة” “أبو طالب” الرّشوة لقاء دُرَيْهمات، ولابدّ أن أُرْجِع جميع السرقات إلى حيِّز الإشهار وسيرى (القاضي) ما يجعله يقول:”هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون”!
الأحد 10 حزيران 1917:
ولقد حَميَ الوطيس بيني وبين الحكومة لسبب ارتشاء في تركة “محمد ياسين” وقد أكدت إشعار المُتَصَرّفيّة والولاية بشأن ذلك، ولم تزل التحريات جارية لإخراج المكتوم من التركة، وإثبات سوء استعمال القاضي مع الكاتب اللذين ظهرا أنهما لِصَّان كبيران لا يخشيان الله، فسأتغلب عليهما بإذن الله ما دمت على حقّ وأذيقهما صابّ عملهما.
الجمعة 16 تشرين الثاني: 1918
مضى شهر على تاريخ عقد الهدنة بين الدول ولم نقف على شيء جديد وما علمنا على ماذا أسفرت مخابرة الإمام مع الإنكليز في عدم تسليم القوة العسكرية للإنكليز حسب أمر الباب العالي، فصرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة الملك والرُّبان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.
فاتحة سنة 1919
ربّنا عليك توكّلت وإليك أنبنا؛ ربنا الأعلى أنر أبصارنا للسير على طريقتك المثلى، ربّنا أيِّدنا بالحقيقة، واجعل الشهامة في كل أعمالنا لنا رفيقة. أهدنا إلى الحق، وصبِّرنا على مرارة الصِّدق. ربّنا يسِّر لنا اتصال القول بالفعل ومحبّتنا للفضيلة راسخة. ربّنا أبعد عنا أهل الخَنا، والإفك ومعرّة قول أنا. وإِشر الغنى وأوصلنا لرحمتك بعد الفَنا، على طريق مستقيم دون انحناء ولا عنا، واجعل يمن هذه السنة لنا.