الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

2 من ذاكرة جبل العرب

خيال بخيال

من طرائف القضاء العشائري في جبل العرب

الزمان عشّية القرن التاسع عشر؛ أواخر عهد السيطرة العثمانية على بلاد العرب، أي منذ نحو مئة عام ونيّف.
المكان منطقة البلقاء شمال الأردن؛ جنوبي حوران من ولاية الشام.
زيد شابٌّ هو ابن أحد وجهاء قبيلة من قبائل أهل الشمال؛ وهؤلاء قبائل بدويّة مواطن حلّها وارتحالها بين الحجاز جنوباً وحوران إلى الجنوب من دمشق شمالاً. كان زيد قد استيقظ في مضارب أهله مبكّراً عند الفجر على حلم مثير، لم يرغب أن يعود للنوم ثانية بعد رؤياه تلك، فبادر يطبخ القهوة المرّة في المضيف، بينما رعاة والده انطلقوا يسوقون قطعان الإبل والأغنام والماعز إلى مراعيها، وما أن ارتفعت شمس الصباح قليلاً حتّى تنبّه شابٌّ آخر من العشيرة هو صاحب لزيد؛ الى حركة صاحبه في المضيف المشرع على الشمس. كان زيد قد أنجز طبخ القهوة، فقدِم إليه صاحبه للمسامرة؛ هما صديقان؛ يكاشف كل منهما صاحبه بما يخفيه عن سواه.
قَوّكْ (أي قواك الله – وهذه تحيّة بدويّة بقاف ملكونة؛ أي ملتبسة بجيم مصريّة)
يا هلا؛ قالها زيد؛ وأردف: “تفَضّل فُتْ (أي أدخل).
وما أن جلس الصاحب حتّى قصّ زيدٌ عليه قصّة حلمه؛ ذلك انّه رأى نفسه عريساً لـ “شمسة” وأنه شاركها السرير في ليلة عرسهما، أمّا شمسة تلك؛ فهي شابّة فائقة الجمال وابنة لأحد وجهاء عشيرة أخرى في القبيلة.
أيّامٌ قليلة مضت، شاعت على أثرها قصّة حلم زيد في أوساط القبيلة، قصّة تناقلتها النّسوة همساً بادئ الأمر، ثمّ انتشرت بين الرّعاة وتناقلها الرّكبان (أي المسافرون على ظهور الإبل في أرجاء البوادي) وطارت الحكاية بين آذان الإبل؛ كما يقول المثل البدوي.
اعتبر أهل الفتاة القصّة مسألة كرامة، أغار شقيقا شمسة على إبل لعشيرة زيد صاحب الحلم، ونهبا بعض الجمال والمواشي واحتجزاها رهينة ً أو يُنظرَ في الأمر عند قاضٍ؛ وإلاّ فالشّرُّ والعراك بين العشيرتين.
بادر والد زيد إلى إبلاغ رجال عشيرة الفتاة عن طريق وسيط بالتّريّث؛ والاحتكام لقاضي القبيلة في الأمر تجنّباً للقتال وسفك الدّم.
قاضي القبيلة رأى في المسألة عقدة غير مسبوقة، ولم يرَ لها من حلّ عنده، فحوّلها عنه، ولمّا كانت النّوايا سليمة عند رجال القبيلة؛ فإنّ الرغبة باسترداد الإبل المنهوبة بالقوّة كانت مسألة مُؤجّلة حقناً للدّماء، لذا أُحيلت مسألة الاحتكام إلى قاضٍ آخر من قبيلة أُخرى، لكنّ هذا لم يجد عنده باباً للحكم فيها. فحوِّلت الدعوى إلى “ابن زهير” وهذا قاضي قضاة قبائل أهل الشمال، نظر الرجل في القضيّة مَليّاً، أنظرَ المختصمين شهراً لعلّه يجد حلّاً يرضيهم، لكنّه لم يصل إلى حل، ولكي يؤجّل عراكاً مُحتملاً بين القوم قال لهم: “لا يقدر على حل مشكلتكم هذه إلاّ القاضي الشيخ سلامة الأطرش في الضّلع؛ في قرية العانات (الضّلع؛ تسمية كانت تطلق على جبل الدّروز – محافظة السويداء حاليّاً – من قِبَل القبائل البدويّة في تلك المنطقة، لأنّ النّاظر إليه من جهة الجنوب والشمال يراه ممتدّاً في الأفق على شكل قوس أزرق لطيف يشبه الضّلع، أمّا العانات فهي قرية تقع في أقصى جنوب الجبل ممّا يلي بادية الحماد الأردنيّة؛ وتبعد عن مدينة السويداء نحو أربعين كيلومتراً باتجاه الجنوب).
قَبِلَ المختصمون بما أشار ابن زهير عليهم، وما هي إلاّ اْيّام حتى توجّهوا إلى الضّلع قاصدين قرية العانات، وصلوا ضيوفاً وعرضوا الأمر على القاضي، قال لهم: مَلّكوا. “أي: أن يرضى كل من الفريقين بتقديم عطاء من جِمال ومواشٍ اْو مال دلالة على قبول كل منهما بما سيحكم به القاضي.” فقبلوا، (والتمليك هذا يخسره من يخسر الدعوى، ويُرَدّ لمن يربحها)، كما طلب القاضي من أهل الفتاة ردّ الإبل المرتهنة لأصحابها مع ما أنجبته من خلائف، فوافقوا مقابل القبول بالحل الذي سيقضي به الرجل. وضرب لهم موعداً ليأتوا إليه مع كل ما يملكه والد الفتى من خيل ومواشٍ ومال.
ذات عصرٍ بعد نحو شهر قَدِمَ المختصمون إلى القاضي الاْطرش في العانات، أودع كل منهم ما يحمل من سلاح لديه، كانت القصة قد شاعت في قرى الجبل، ووفدَ الناس ليرَوْا ما سيحكم به الشيخ سلامة في المسألة المثيرة للنزاع.
في الصباح التالي ومع شروق الشمس كان القاضي قد طلب من والد الفتاة أن يقف على الحافّة الشرقيّة لمطخ العانات (البرْكة)، بحيث تكون الشمس من خلفه، وبحيث ينطبع خياله وخيال كل ما يمرّ من خلفه على صفحة الماء أمامه.
أمرَ القاضي الأبَ ألاّ يلتفت وراءه بتاتاً، وأن يحصي كل ما يمرّ أمامه من خيالات تظهر على صفحة الماء، وفي الوقت ذاته طلب من أهل الشاب أن يُمَرّروا من خلف الرجل فرساً ثُبّتَتْ فوق سَرْجِها بارودة، يتبعها عشرون من النوق، ومثلها من الجِمال، ومئة رأس من الغنم، ومثلها من الماعز، وكان القاضي كلّما مرت أعداد من المواشي خلف الرّجل يؤكّد عليه: اضبط عَدَّك، فيجيبه: إيْ والله قد ضبطت.
كان العمل بتمرير مواشي أبي زيد من خلف والد شمسة قد انتهى، هنا سأله القاضي هل ضبطت العّدّ؟
نعم.
أمُتأكدٌ أنت ممّا عَدَدت؟
إيْ والله.
كم عَدُّكَ؟
فرس وبارودة وعشرون ناقة وعشرون جَمَلاً، ومئة من الغنم ومئة من الماعز.
قال له القاضي: حسناً، لقد وصلك حقّكَ واستوفيت.
صُدِمَ الرجلُ:
كَيْفَ وصلني حقي وأنا لم استلم شيئاً ؟
خيالٌ بخيال، أردف القاضي قائلاً: هذا حقّك، زيد رأى خيالاً في منامه، وأنت رأيت خيالاً على الماء، هذا كل ما في الأمر.
كان القاضي قد أعدَّ وليمةَ مصالحةٍ للحاضرين، وجمعَ الفريقين على الطعام، وأنهى بذلك نزاعاً بين قوم من أهل الشمال كاد أن يقودَ إلى حربٍ قَبَلِيّةٍ في بلاد لم يكن للدولة فيها من وجود إلاّ في المدن الكبرى.

موت النّمر الأخير في جبل العرب

بدوي يرعي أغنامه
بدوي يرعي أغنامه

منذ زمن لا يتعدّى قرناً وبضع عشرات من السّنين، نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان البدوي صبرا الصّبرا من قبيلة العظامات التي اعتادت الارتحال بين بادية الحماد وأطراف سهل حوران شتاءً وحتّى أوائل الربيع ثمّ تعود مصعّدة ًإلى الجبل في أواسط الربيع والصيف؛ قد خيّم قرب قرية حبران التي ترتفع نحو 1400 متر فوق سطح البحر، جنوب شرق السويداء بحوالي خمسة عشر كيلو متراً قرب الطريق إلى صلخد. كانت الأحراش تغطي معظم السفوح والقمم الجبليّة آنذاك، وكان هذا يوفّر حِمًى غنيّاً لكثير من الوحوش والأحياء البرّية المتنوّعة.
صبرا هذا رجل عصاميّ، امتلك ثروة من الغنم والماعز عبر المشاركة في الحصول على ربع مواليد المواشي التي يرعاها في أراضي بني معروف(الدّروز)؛ بالإضافة إلى عدد من الجمال التي ينقل على ظهورها أمتعته ومؤونته، وثلاثة عشر كلباً لحراسة مواشيه ومضاربه.
نهض صبرا مبكراً كعادته، لم يسمع صوتاً لأيّ كلب من كلابه الثلاثة عشر!. دهش البدويّ؟!، إذ لم يحدث له مثل هذا من قبل، سريعاً؛ ارتدى عباءته المنسوجة من وبر الجمال اتّقاء برد الصباح الجبلي القارص، تناول بندقيّته وخرج إلى الخلاء مستريباً؛ نادى كلابه بأسمائها؛ لا سِمرْ، لا جَدَع، لا جَدّوع، ما من مُجيب؛ لا نُباح ولا عُواء. صاحَ بأعلى صوته: “يا عيال شَيْ غريب بها الدّيرة”.
وعلت أصوات وساد في المضارب هرجٌ ومرج.
ما إن ابتعد الرجل قليلاً عن الزرائب حتّى وجد أحد كلابه مقتولاّ وقد ضرّجته الدّماء، لحق أثَرَ عراك على الأعشاب والتراب بين الأشجار الحرجيّة، وجد كلباً آخر مقتولاً أيضاً !، سأل نفسه مذعوراً: “ يا الله وِشْ ها البليّة” ؟ مشى بضع عشرات من الأمتار. هذا كلب قتيل. تذكّر صبرا أنّ الرعاة ما أخبره الرعاة من أنّ نمراً كان يعدو على المواشي بين حين وآخر، فتوجّس ريبة مما يحدث ومضى يلحق مَجَرّ العراك، أدرك بحدسه الفطري أنّ ما يراه يدلّ على أنّ معركة ٍ ضارية بين كلابه وبين وحشٍ أكثر شراسة من الذئاب التي تعوّدت على صدّها بخسائر لا تقارن بما يرى أمامه.
تابع جريرة العراك. كلب رابع قتيل. كان همّ الكلاب إبعاد النمر عن الزرائب. لا بدّ أنّه كان جائعاً. البدويّ لاييئس ولا يتشاءم إذا ما هاجم الذئب قطيعه، هو إنسان يؤمن بقضاء الله، هناك مثلٌ بدويٌّ يقول: “ شاة الذيب للذيب”.
استمرّ صبرا يتبع أثر العراك. كلب خامس. فسادس؛ فسابع. فتاسع وعاشر؛ وحادي عشر وهلمّ جرّاً؛ تابع سيره؛ لابدّ أنّها مهارشة مميتة مع وحش شرس، كان بعض كلابه قد نفق؛ آخرون يلفظون أنفاسهم، وَلْوَلَ الرجل؛ فخسارته لكلابه مصيبة، الكلب جزء هام من ثروة مالك الغنم؛ وكل من يقطن في هذه البقاع الموحشة. كل من في الحي فزع إليه، الجميع يتبع آثار العراك إلى جانبه؛ بل أخذ بعضهم يباريه ويسابقه بحذرٍ ودهشة وخوفٍ دفين مما يرون، ابنه الشاب “فيّاض” سبقه في تقصّي أثر المُهارشة، وصل إلى حيث انتهت المعركة، أدهشه المشهد، كان النمر قد ارتمى أرضاً؛ منهكاً مُدمًّى عاجزاً عن الحركة، يئنّ أنيناً خافتاً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ مهارشة الكلاب قد هدّت قواه، وقريب منه الكلب الثالث عشر؛ كبير الكلاب “سِمْر” ملقًى على الأرض؛ دامي الوجه والجسد يئنّ أنين طفل يطلب الغوث من ذويه. في فوران الغضب والخوف وشهوة الانتقام؛ استكبر فيّاض حجراً؛ أهوى به على رأس الوحش، نظر حوله مذعوراً؛ قفز إلى أعلى رُجْمةٍ من حجارة بالقرب منه؛ خلع ثوبه الأوحد الذي يستر جسده وأخذ يلَوّح به عارياً ينادي القوم أن يسرعوا إلى حيث يقف.
لم يلبث أن وصل صبرا إلى حيث انتهت المعركة كان النّمر لم ينفق بعد؛ خاصرته لم تزل تنبض؛ أطلق إلى رأسه رصاصة رحمة من بارودته، ثُمّ التفت إلى كلبه المُدَمّى؛ مشى إليه؛ قرفص فوق رأسه النازف؛ رفعه قليلاً عن العشب الرّطب وقبّله دامع العينين؛ وخاطب ابنه فيّاض : “هيّا رُحْ يا ولد؛ اذبح فطيماً (خروف صغير) وأطعم الكلاب التي لم تَمُت بعد عسى الله يشفيها”..
كانت الشّمس قد قاربت الضّحى في سماء قرية حُبْران في ذلك اليوم الدّامي؛ منذ نحو مئة وثلاثين عاماً من عامنا هذا، ومنذ ذلك اليوم لم يَعُدْ أحد يذكر أنّه شاهد نَمِراً في جبل العرب..

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading