السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

صوفر

صوفر

حيث يلتقي التاريخ الغني
بالجغرافيا النادرة!

صوفر
صوفر

جغرافية صوفر

في قلب جبل لبنان، وربما في قلب لبنان – بالتمام والكمال – وفي أعلى نقطة من جرد قضاء عاليه، وكما لو كانت واسطة العقد، ومفترق الطرق الإلزامي، بين جهات الوطن الأربع، تتموضع بلدة صوفر لكيلومترات ستة أو سبعة امتداداً، وكيلومترين عرضاً، لا أكثر، بين اتجاه البقاع شرقاً واتجاه العاصمة غرباً، وبين المتن شمالاً والشوف جنوباً.
وعلى مسافة لا تزيد عن 21 كيلومتراً عن العاصمة غرباً، و15 كيلومتراً عن شتورة (مركز محافظة البقاع) شرقاً، تمسك البلدة الاستراتيجية بمفارق الطرق التي تذهب في كل اتجاه. وعلى علو متدرج يصل إلى 1250 متراً، تتربع صوفر الجبلية على قمة هضبة حادة يستطيع الناظر من أعلاها أن يرى في نصف دائرة نصف جبل لبنان تقريباً، من بحر جبيل وبلدات هضاب صنين شمالاً إلى العاصمة بيروت وبحرها ومحيطها في الوسط، إلى عشرات البلدات والقرى الشوفية بدءاً من تلال الدامور الساحلية صعوداً إلى دير القمر وبعقلين وقرى العرقوب، فالشوف الأعلى وتومات نيحا، وصولاً إلى جزين المترامية في أقصى المشهد الجنوبي.
ومن شرفة “كورنيش صوفر”، المورفة بظلال الحور الباريسي الذي يكاد يبلغ المئة سنة من العمر، والممتد لثلاتة كيلومترات، تطل صوفر على بحر صنوبر وادي ’لا مارتين’ المتني، وقراه القرميدية السقوف، يمتد أمامك فتكادُ تحصي شجيراته واحدة واحدة، وصولاً إلى مياه البحر المتوسط الزرقاء الممتدة من شاطئ جبيل شمالاً إلى شاطئ الدامور والسعديات جنوباً.
أما جناحا صوفر، فجبل صنين من جهة وجبل الباروك وغابة أرزه الكبرى من جهة مقابلة، وبكامل ثلجهما الأبيض طيلة فصل الشتاء. وعليه، ففي وسع الساهر على إحدى شرفات قصور صوفر أن يستقبل القمر ساعة يولد من خلف ثلوج جبل الباروك ثم يودعه فجراً عند أبعد أفق حالم في المتوسط، ودون أن يغيب لحظة واحدة عن ناظريه. ولذلك، فقمرُ صوفر ليس كباقي الأقمار، ولن ترى ما يشبه جلال طلته، أو زرقة محياه، وبخاصة حين يكون بدراً.
وبعد، فليس غريباً في شيء أن تجعل فرنسا صوفر مقراً لسفارتها صيفاً (في حرج شربين مساحته 33 ألف متر مربع قبل أن تتخلى عنه قبل بضع سنين)، وأن يكون قصر الدونا ماريا (الإيطالي الطراز المعماري) مقراً صيفياً لرئيس الجمهورية اللبنانية في الخمسينيات، وأن يكون “فندق صوفر الكبير” مقر إقامة عشرات الحكام والقادة العرب منذ إنشائه سنة 1885، وإلى جواره سكة حديد بيروت – صوفر- شتورا تحمل من العاصمة، وحتى من مصر، قبل إنشاء الكيان الإسرائيلي، الساسة والتجار والصيارفة والفنانين يقضون في صوفر بعضاً من أحلى أيام فصل الصيف.
وإلى ذلك أيضاً، بضع عشرات أخرى من فيلات ومنازل لمعظم رؤساء الحكومة اللبنانيين السابقين، ولحكام وأمراء خليجيين وعرب، ولمواطنين من أطياف الوطن كافة، تتوزع جوانب البلدة الصيفية الصغيرة الهادئة، التي كانت شاهدة عيان لمعظم الأحداث العربية المعاصرة، منذ إقامة جمال باشا في فندق صوفر الكبير، إلى اجتماعات لجان تأسيس “جامعة الدول العربية”، إلى “اجتماع اللجنة العسكرية” غداة تأسيس الكيان الصهيوني، إلى قمم واجتماعات وأحداث سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، إلى استضافة الشاعر الفرنسي لامارتين والريحاني وفريد الأطرش وأسمهان ولائحة طويلة من الشخصيات البارزة في كل مجال والتي اختارت صوفر مقر إقامة دائمة أو صيفية مؤقتة، لمناخها الصحي، أو الثقافي، أو السياسي، وفي فترة مبكرة جداً، فتشكلت في فندق صوفر الكبير، أو في الدونة ماريا، أو في فنادق وقصور أخرى جزء كبير من صورة لبنان والمنطقة العربية حتى صيف سنة 1976، حين أقفل قسراً كتاب صوفر “التاريخ الغني والجغرافيا النادرة”، على أمل أن يُفتح الكتاب الجميل ذاك من جديد، وبهمّة الشباب المحلي المخلص هذه المرّة، وفي طليعتهم رئيس البلدية الحالي الأستاذ كمال شيّا.

تاريخ صوفر

ظلّت صوفر حتى عام 1924 تعرف بعين صوفر، الوارد تعريفها في معجم اسماء المدن والقرى اللبنانيّة وتفسير معانيها، على أنها “عين صيّاد الطير من Sefra: طائر صغير أو عين العصفور، والجذر الذي يجب أن يرد إليه الاسم هو “صفر” وله معان عدّة: الصّفر ومنها العصفور، والصفرة (اللون) والصباح، والظفر. ويجب أن تكون إما عين العصفور Sefar، أو الصباح Scar.
في عام 1857م، حصل الكونت “ادمون دو برتوي”، وهو ضابط سابق في البحرية الفرنسية، مقيم في بيروت، من السلطنة العثمانية، على إمتياز شق طريق للعربات (الكارات) والحوافل (الدليجانس)، بين بيروت ودمشق، لصالح الشركة الفرنسية “شركة طريق الشام العثمانية”، بموجب الفرمان السلطاني المؤرخ في 20 تموز 1857، وبالفعل بدأت الشركة المذكورة العمل تحت إشراف المهندس الفرنسي ديمان، وكان تدشين الطريق البالغ طولها 112 كيلومتر وعرضها سبعة أمتار، في الاول من كانون الثاني عام 1863. وبهذا التدشين، ترسّخ دور عين صوفر كمحطة إستراحة أساسيّة على هذا الطريق، خاصّة وأنها آخر محطة قبل الصعود الى ممر ضهر البيدر بإتجاه البقاع فدمشق، وأقيم في عين صوفر وقتها خان أبو خطّار في رويسات صوفر وخان أبو زهران. ومع إنشاء خط سكّة الحديد بين بيروت ودمشق، التي افتتحتها “الشركة المساهمة العثمانية لخط بيروت دمشق الاقتصادي”، في الثالث من آب عام 1895، مخفضّة تكاليف النقل الى الثلث تقريباً، وبالتالي نمو حركة التبادل التجاري والتنقل بدافع السياحة أو الزيارة أو غيره من الدوافع، تكرّست عين صوفر واحدة من أهم المحطات على هذا الخط، ولا تزال بقايا محطة القطار ماثلة ليومنا هذا.
والحدث الأهم تأثيراً في تشكّل ونمو عين صوفر كقرية مأهولة، والواقع بين حدثي فتح طريق العربات وخط سكّة الحديد، كان إنشاء فندق صوفر الكبير عام 1885م، الذي شكّل حجر الزاوية، في قيام عين صوفر كقرية بحدّ ذاتها، وليس مجرد محطة إستراحة، إذ، ومع بدء العمل بفندق صوفر الكبير، بدأ المصطافون العرب واللبنانيّون، بتشييد منازل لهم في عين صوفر للاستمتاع بالهدوء واعتدال المناخ ونقاء الهواء، وهذا استتبعه قدوم كثر من أهالي قرى الجوار، بهدف تأمين المنتجات الزراعية والخدمات للمصطافين وأيضاً للعمل في فندق صوفر الكبير وغيره من الفنادق. واستمر المسار التصاعديّ لعين صوفر، لتصبح في النصف الأول من القرن العشرين، درّة مشّعة الى جانب قريناتها من مدن وقرى الاصطياف اللبنانيّة، واستقبلت بين حناياها كبريات الأحداث والشخصيات التاريخيّة، من لبنانيّة وعربيّة ودوليّة. ولعلّ من أهم محطّات هذا التحول، كانت المضبطة الإدارية لتشكيل مجلس بلدي في عين صوفر، عام 1913م، لكن انتخاب هذا المجلس الذي كان محدداً في 23/8/1914، لم يحصل، بسبب ظروف الحرب العالميّة الأولى. وانتظرت عين صوفر حتى عام 1922م لتشهد ولادة أول مجلس بلديّ فعليّ، بموجب القرار رقم 1458 الصادر عن حاكم لبنان الكبير “ترابو” بتاريخ 25 تموز 1922. وبعدها بسنتين كان تأسيس بلدة صوفر، وذلك بموجب القرار رقم 2775 الصادر عن حاكم لبنان الكبير “الجنرال فندنبرغ”، والقاضي بجمع “الأمكنة المعروفة باسم عين صوفر المقسومة حتى الآن ما بين قضاءي الشوف والمتن والموضوعة تحت ادارة شيخي قريتي شارون وقبيع”، لتصبح “قرية واحدة تسمى قرية صوفر”، وتلحق مباشرة بلواء جبل لبنان.

ومع بزوغ فجر الجمهورية، ظلّت صوفر مقصداً لكبريات العائلات اللبنانية والعربية، واتخذها ثلاثة من رؤساء الجمهورية، هم إميل اده، الفرد نقاش وأيوب تابت، مقراً صيفياً لهم، بالاضافة لعدد كبير من الشخصيات اللبنانية والعربية والدولية.

وفي عهد الاستقلال، حافظت صوفر على موقعها، واسطة عقد قرى الاصطياف اللبنانية، مستضيفة سلسلة من الاحداث والمناسبات الهامة، كمثل الاجتماع العربي الذي انبثقت عنه “اللجنة العربية العسكرية” عام 1944، والتي شكلت نواة قيام “جامعة الدول العربية” عام 1945م. وفي أواسط الخمسينيات، تمّ تحديد صوفر الى جانب بعض المدن والقرى الاخرى، كمراكز اصطياف، بموجب المرسوم رقم 8610 تاريخ 10 آذار 1955. واستمر الألق السياحيّ لصوفر حتى منتصف السبعينيات، عندما حلّت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، معلنة بداية مرحلة مؤلمة من تاريخ لبنان، تركت آثارها على مختلف الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

لقاء مع رئيس بلدية صوفر
الأستاذ كمال شيا

الأستاذ كمال شيا
الأستاذ كمال شيا

في صوفر مختاران، السيد وجيه شيّا والسيد وجيه فياض، يكرسان وقتهما مجانا لخدمة البلدة وأهاليها. وفي صوفر مجلس بلدي مؤلف من اثني عشر عضواً موزعين على لجان لتوفير ما تحتاجه صوفر من خدمات، وفي المقدمة رئيس المجلس البلدي كمال شيّا، خريج الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، أحد ناشطي منظمة الشباب التقدمي لفترة طويلة، ثم أحد ناشطي المجتمع المدني، ومسؤول واحدة من الجمعيات المعنية بالتنمية المحلية في البقاع والشمال ومخيمات اللاجئين وسواها. يتولّى منذ 2016 رئاسة بلدية صوفر مع صحب مخلص ومصمم على تحقيق ما يصبو له أهالي صوفر ومنطقتها وما ينعش من جديد حاضرها بعد ماض كانت فيه حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي درة بلدات الأصطياف اللبنانية.
بعد أكثر من 100 سنة على قرار إنشاء بلدية صوفر كيف يقيّم رئيس بلديتها عمل بلدية لها تاريخ طويل وما هي النجاحات والاخفاقات والطموحات:
ما أهم انجازات بلدية صوفر في السنوات الأخيرة؟
شبكة الصرف الصحي، مركز الجرد للتنمية والثقافة، والذي نأمل أن يتحول مركزاً ثقافياً مستداماً ليس لصوفر وحدها وإنما لمنطقتها أيضاً خصوصاً أنه مجهز تقنياً وفيه بداية مكتبة ورقية وألكترونية.

هل من خطط لدى البلدية لحفظ تاريخ صوفر الحديث والأمكنة التي استضافت أهم الأحداث العربية واللبنانية؟
لدينا اقتراح لإقامة متحف إلكتروني في منزل قديم. لدينا اقتراح لوزارة الاشغال بترميم موقف سكة الحديد وخزان المياه التابع له وتشجير الأرض التابعة له وإقامة طريق ذات طابع بيئي للمشاة والرياضة والدراجات.

هل من خطط لتوسعة الحدائق العامة التي بدأت بها البلدية؟
هناك الآن حديقتان في صوفر، حديقة المرحوم الشهيد كمال جنبلاط، وحديقة المرحوم الدكتور بشارة الدهان، الطبيب والمناضل التقدمي والقومي ورئيس جمعية كل مواطن خفير. ولدينا مشروع إقامة محمية صغيرة لسوسنة صوفر: irissefrana

السؤال دائماً عن فندق صوفر الكبير بعد 30 سنة من تدميره لماذا لم يجر الترميم؟
بدأ العمل من قبل مالكيه آل سرسق. لكن العمل بطيء بسبب الوضع. لديهم دراسة جدوى اقتصادية.

وكذلك قصر الدوناماريا الذي كان بمثابة القصر الجمهوري صيفاً؟
انتهت الدراسة الفنية لترميم القصر. الآن يقوم المالكون وهم من آل كوكرين بالمعاملات اللازمة بدعم ومساعدة من البلدية.

ما هي خططكم لوضع صوفر على خارطة السياحة اللبنانية الحديثة؟
أقمنا مواقع الكترونية متعددة للبلدة. المشاريع التي أشرنا إليها والترميم للمواقع التاريخية تساعد في هذا الصدد. ونحن نتعاون مع معنيين وجمعيات صديقة لصوفر لتسويق المواقع الطبيعية والأثرية والتاريخية الموجودة في صوفر على لائحة الوجهات السياحية المطلوبة. وللتذكير فكورنيش صوفر هو أحد المواقع المعروفة على مواقع “الأرض” ومواقع أخرى شديدة الحضور سياحياً. كما أن بلدية صوفر حرصت دائماً على ألّا يتعارض اي نشاط اقتصادي مع طابع صوفر البيئي والتراثي.

هل من مشاريع أخرى تودون التحدث عنها للضحى؟
هناك مشاريع وأفكار كثيرة لتطوير البنى التحتية وتحسين خدمات مياه الشفة، وإعادة صوفر إلى خارطة السياحة البيئية، وخصوصاً مع مهرجان “‘سوسنة صوفر”.

عائلات صوفر:
طربيه، فيّاض، حمدان، الأعور، ميرزين، الأحمدية، بو فخر الدين، الصايغ، فليحان، دلّان، بو ملهب، معوض، نخلة، بو جودة، النوّار، سرسق، مطر، عبد الملك، جورجس، طراد، حمصي، الأعور، شيّا، أبو فراج، عبد الخالق، البنا، أبو عمار، أبو جمعة، أبي المنى، الدمشقي، عز الدين، نادر، أبو جودة، أبي عبد الله، نجم، متى، بوتاري، كحالة، مقبل، السهلي.

من اهم المواقع في صوفر:
֎ فندق صوفر الكبير
֎ قصر الدونا ماريا
֎ قصر جنبلاط
֎ كورنيش الرئيس اميل ادّه
֎ عين صوفر
֎ حديقة كمال جنبلاط العامة
֎ حديقة الدكتور بشارة الدهان العامة
֎ كنيسة سيدة الانتقال للروم الكاثوليك
֎ كنيسة الرسولين بولس وبطرس للروم الارثوذكس
֎ كنيسة السيدة العذراء للموارنة

هل من موسوعة أو ثُبْت على الأقل بالقادة العرب واللبنانيين الذي سكنوا صوفر؟
اللائحة طويلة لمئة سنة، ولكن يمكن تذكر أبرز القادة، الرسميين، رجال الأعمال والفنانين الكبار الذين سكنوا صوفر، ومن بينهم:
رؤساء جمهورية:
إميل إده، ألفرد نقاش، أيوب ثابت، بشارة الخوري، كميل شمعون
رؤساء حكومة:
رياض الصلح، رشيد كرامي، صائب سلام وشفيق الوزان.
سياسيون وشخصيات عامة لبنانيون:
فيليب تقلا، كمال جنبلاط، مجيد أرسلان، بهيج تقي الدين، عمر بيهم، عبد الحميد كرامي، ريمون وبيار وكميل إده، ألفرد وميشال وابراهيم وجرجي سرسق، محي الدين النصولي، رشيد جنبلاط، بيار دكاش،
ملوك ورؤساء وشخصيات عرب:
الملك الأردني حسين بن طلال، الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بك، الزعيم المصري سعد زغلول، أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الامير عبد الله بن عبد العزيز، الشيخ ناصر الصباح، الشيخ عبد الله الغانم، الاميرة مريم ناصر الصباح، الشيخ خالد المرزوق….
سياسيون وضباط عثمانيون وفرنسيون:
جمال باشا، انور باشا، الوالي علي منيف، المفوض العام الجنرال كاترو، مدير أعمال المفوضية الفرنسية القاضي روبير دي كاي….
فنانون عرب ولبنانيون:
محمد عبد الوهاب، فريد الاطرش، أم كلثوم، ليلى مراد، سامية جمال، صباح، سميرة توفيق…وآخرون.

لوحات فنية طبيعية ترسمها فصول السنة في صوفر

بلدة عَنْز الأَثريّة

تقع بلدة عنز على السفوح الجنوبيّة من جبل العرب، وهي إحدى بلدات المقرن القبلي من محافظة السويداء، وتتبع ناحية الغاريّة. يبلغ ارتفاعها 1250م فوق سطح البحر، وتُقسم أراضيها الزراعية إلى قسمين:
1 ــ الأراضي الواقعة شمال البلدة باتجاه الجبل وتتّصِف بوعورتها وكَثرة حِجارتها البازلتيّة وتتّجه للارتفاع كلّما اتّجهنا شمالًا، ممّا يلي صلخد وتلّ عبد مار الذي يتربّع على قمته مقام مقدس لـ “عبد مار، أو: مار عبدا” الذي يزوره الموحّدون الدروز والمسيحيون معا.
ويمكننا القول إنّ القرية القديمة الأولى التي تعود لما قبل عصور الأنباط بُنيت على تلّة بازلتيّة هي مدخنة بركان خامد يتربع على الضفة الغربية لـ “وادي العاقب” الذي يعبر إلى الشرق من القرية القديمة قادمًا من أعالي القمم الجبليّة لجبل حوران، فيملأ مطخًا واسعًا متوسط العمق؛ كان يستفاد منه في توفير المياه لسقاية المواشي.

2- أمّا إلى الجنوب من البلدة فتميل الأراضي إلى السّهولة نسبيّاً باتجاه الحدود الأردنيّة، وعنز بالأصل كانت قرية قديمة العمران حيث كان الأنباط أوّل من مارس الزراعة والعمران فيها بل وفي القسم الجنوبي من الجبل منذ القرون الأخيرة للألف الأوّل قبل الميلاد.
يدلّنا على هذا عمرانها القديم الذي بقيت منه آثار معبد وَثَني يعود لما قبل المسيح، ولكن مع انتشار المسيحيّة ” لم يتخلّ كلّ السكّان عن تقديس آلهتهم الموروثة من المرحلة الوثنية، ففي عام 362م وعندما أباح الامبراطور الرّوماني جوليان Julien العودة للوثنيّة، سارع الناس إلى تجديد معبدهم وممارسة طقوسهم الدّينيّة فيه. وبعد أن ترسّخت المسيحية فإنّ كنيسة عَنْز تُعْتَبر أحسن نموذج لكنيسة بيزنطيّة قرويّة، إذ تتألّف من قاعة مستطيلة ذات ثلاث قناطر لحمل السّقف وفي نهايتها قدس الأقداس، وهو مستطيل الشّكل وقد فُصِل عن الكنيسة بقنطرة أضيق من القناطر الأخرى وترتكز على قواعد أعلى من قواعد القناطر الأخريات، ويفصل الكنيسة عن مسكن رجال الدّين في الشّمال من المبنى باحة مبلّطة يقود منها قبو في المسكن إلى الشّارع”(1). وبعد الفتح العربي الإسلامي بني جامع إسلامي قديم العهد قريب من الكنيسة الأثريّة.

تتألّف مادة البناء القديم في القرية الأولى من الحجر البازلتي المقصوب بشكل متقن مما يدل على حياة مستقرة كانت تسود المنطقة، وكذلك لم تزل بعض السقوف من البلاطات (صفائح مستطيلة من البازلت بطول نحو مترين ونصف وعرض نحو 30 سنتمرأ) تُصَفّ منحوتة متلازمة ببعضها فوق القناطر بحيث لا يمكن لإبرة أن تدخل بين سقيفة وأخرى، وكان للقرية الأثريّة سوران داخلي وخارجي لم تزل بعض الجوانب منهما ماثلة للعيان، كما كان لها أربع بوابات ممّا يدلّ على أهميّتها التّاريخيّة التي لم تأخذ حقّها من الدّراسة بشكل كاف، وتقع القرية الأولى على طريق القوافل التي كانت تتحرّك جنوبًا وشمالًا من وإلى شبه الجزيرة العربية، وشرقًا وغربًا إلى العراق في العصور القديمة وفيما بعد بين مملكتي الغساسنة في الشام وكان مركزها مدينة بصرى إلى الغرب منها على مسافة بضعة عشر كيلومترًا، ومملكة المناذرة في الحيرة في العراق إلى الشرق منها. وفي العصور الإسلامية بقيت عنز ممرًّ للقوافل بين جنوب سورية وبغداد والبصرة… كما كانت ممرّا تجاريًّا ناشطًا للقوافل التجاريّة بين الجبل وشبه الجزيرة العربية إلى نحو تسعين عامًا مضت قبل أن توضع حدود سايكس بيكو المشؤومة موضع التّطبيق بعد عام 1916.

وفي دار السيّد نبيل الأطرش إلى الشرق من التلة الأثريّة للبلدة وخارج سوريها وعلى سهل منبسط بقايا جدار لخان (فندق)، يروي العارفون بأنّ الطابق الأرضي منه كان مُعَدًّا لدواب المسافرين، والطابق العُلْويّ للمسافرين أنفسهم… أمّا اسمها “عنز” فقد يكون مشتقًّا من “العَنَز” أي الارتفاع (والبلدة القديمة مبنية على مرتفَع)، والعنَز: الأكَمَة السّوداء (وهذا صحيح)، والأرض ذات حُزونة ورمل وحجارة (2) وهذا التّفسير لاسم البلدة الحالية هو الأكثر واقعية من التأويلات التي تخبط في ضباب من التخيّلات.
عَنْز كانت بلدة وفيرة المياه والينابيع
كان المطخ الكبير الذي مَيّز البلدة بالإضافة إلى عدّة ينابيع لم يزل بعضها ينبض بالماء رغم فترة الجفاف المسيطرة منذ عقود عديدة، ففي البركة المسمّاة بالسوريّة التي تقع شرقي القرية القديمة جوار العنزاوي إلى الغرب منه، نبع ماء هو اليوم شحيح يشاهد عيانًا، وقد ازداد شِحًّا بعد أن جاء شخص يدعى “القُدسي” قُبَيل منتصف القرن الماضي، استعمل هذا لغمًا بدعوى أنّه سيقوّي النبع، لكنّه أضعفه بعدها. وهناك بئر نبع لآل النّجم. بالإضافة إلى نبع بئر طرنجة إلى الغرب من القرية الأولى والذي كان في زمن مضى يفيض إلى سهلة المرجة غرب البلدة الأثريّة وهي عبارة عن سهل خصب صغير منبسط يتميز باخضراره الدائم ممّا يوحي بأنّه يتغذّى من عروق مياه باطنية تحته.

السُّكّان في عنز
في مطلع القرن التّاسع عشر لم يكن من عمران في عنز؛ فقد كان العمران لا يتعدّى بلدة القريّا في القسم الجنوبي من الجبل وكانت صلخد خرابا عندما زارها بيركهاردت عام 1810، ومن صلخد التي بُدِئ إعادة إعمارها من قبل الموحّدين الدّروز بشكل نهائي بعيد منتصف القرن التاسع عشر قدمت أغلبية العائلات المعروفيّة التي أعادت إعمار البلدة التي كانت خربة بسبب انعدام الأمن وغياب سلطة الدّولة وغزوات البدو وفوضى مواشيهم التي تتنافى مع حياة زراعية مستقرّة؛ ولكنّ بني معروف بفضل تماسكهم الاجتماعي تمكّنوا من تحقيق الأمن والحدّ من غزوات البدو ممّا سمح بقيام زراعة راسخة في المنطقة وليس لدينا جدول زمني دقيق يحدد قدوم المُعَمّرين الجدد إلى البلدة، ولكن من المرجّح أنّ ذلك حدث خلال العقد السابع من القرن التّاسع عشَر بعد إعمار صلخد. ومن العائلات المعروفيّة التي سكنت عنز واستقرّت فيها بالإضافة إلى آل الأطرش، آل النّبواني وهم أصلًا من جبل لبنان ينتمون لآل البتدّيني. وآل وهب وآل عمّار وآل القاضي ارتحلوا عام 1888من قرية المطلّة الواقعة على الحدود اللّبنانية الفلسطينيّة بعد أن باعها مالكها الإقطاعي الصيّداويّ من آل رزق الله إلى المتموّل اليهودي روتشيلد أواخر القرن التاسع عشر، ويلاحظ أنّ معظم العائلات المعروفيّة في عنز تعود لأصول لبنانيّة كآل الأطرش والنّجم وفليحان وحديفة والجمّال والصبّاغ والحجلي(صعب) وجمّول ورباح.
والعائلات السنّيّة هم: آل الحْمُود، والابراهيم والنّعسان والنّصار والعُقْلَة والنّابلسي والعبد الله. وهناك أسرة بدوية هم آل الحَمَد.
أمّا الأسر المسيحيّة في عنز فهم: آل الشمّاس والعسّافين والخوري والعَوَض والعَوْدي وعَصفور والنّويصر وإلياس وحدّاد والعيّا والعطيّة والدّاود والرّباع والظّواهري والصّايغ.
يبلغ عدد سكّان البلدة نحو3800 نسمة، المقيمون منهم 2500، وبتأثير الأزمة السورية فقد عادت كثير من الأسر التي كانت قد اتّخذت من العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية سَكَناً لها، إذ كان الجبل هو الأكثر أمنًا من سائر المحافظات السّوريّة. ويشكل عدد الموحّدين المسلمين الدّروز نحو 50% من سكان البلدة، والمسلمون السّنة الرّبع ومثلهم المسيحيّون من أرثوذكس وكاثوليك، وكان محمّد بن اسماعيل الأطرش شيخ صلخد قد أرسل بعض العائلات المسيحيّة والسّنّيّة إلى ولده نايف في عنز وأوصاه بهم خيرًا: “أرسل إليك كم واحد من ها الحوارنة بسيطين مساكين، اهتمّ بهم وملّكهم أرضًا”.
بلديّة عنز
تبلغ مساحة المخطّط التّنظيمي للبلدة 2015 هكتارًا، وأطوال الشّوارع المعبّدة 11كلم، وتوازيها أطوال شبكة المياه التي تخدّم سائر بيوت البلدة، كما أنّ سائر بيوت عَنْز مُخدّمة بالكهرباء.
أمّا المحلاّت التّجارية والحرفيّة فتتوزع بين: محلّات تجارية(دكاكين) 15، نوفوتيه 1، عصرونيّة1، محلّ بيع فرّوج مذبوح 1، حدّادة أفرنجيّة 1.
وفي البلدة مدرسة ابتدائيّة واحدة باسم مدرسة الشّهيد أديب الخوري. وتتألّف من 4 شعب، وعدد تلاميذها 85 تلميذًا وتلميذة. ومدرسة إعداديّة واحدة باسم الشّهيد سالم عَمّار من 6 شعب وعدد طلّابها 122 تلميذًا وتلميذة.
كما توجد في البلدة نقطة طبّيّة تقدّم الخدمات لمواطنيها من قبل 6 ممرّضات وموظفات.
بالإضافة إلى مجلس/ جامع للمسلمين الموحّدين الدروز، وجامع للسّنّة، وثلاث كنائس؛ كنيستان أرثوذكسيّتان وكنيسة كاثوليكيّة.
العائلات في عنز: آل الأطرش، وهم العائلة المشْيَخية التي تزعّمت نشاطات الدّروز السّياسيّة والاجتماعيّة في الجبل منذ نحو أواسط القرن التّاسع عشر، وبرز دورهم أكثر بعد إقصائهم لآل الحمدان زعماء الجبل من قبلهم فكان منهم شيوخ قرى المقرن القبلي المُعترف بهم اجتماعيًّا، وأوّل من وفد إلى عَنْز شيخًا هو الشاب نايف بن محمّد الأطرش شيخ صلخد، وقد اهتمّ نايف بالعمران في عَنْز، فاستقدم بنّائين مَهَرة من ظهور الشّوير في لبنان، ولكنه لم يعمّر إذ مات شابًّا على أثر قفزه من فوق قناطر كانت قيد البناء وغير موثقة البنيان فانهارت به ومات في الثّالثة والثلاثين من عمره.

الزّراعة في عنز:
يبلغ المعدّل المطري في بلدة عَنز 220 مم3 /سنة وذلك استنادًا إلى أرقام الوحدة الإرشادية الزّراعية فيها، ولكن تذبذب كميّات الأمطار بين عام وآخر يؤثّر سَلْبًا على الإنتاج الزّراعي، وخاصّة أنّ متوسّط ما يحتاجه القمح البعليّ هو 250مم3 / بالسنة.
تبلغ المساحة العقاريّة لأراضي عَنْز 42800دونماً، منها 1000دونم مشجّرة حرجيًّا. أمّا الأرض المستثمرة زراعيًّا فتبلغ مساحتها 25000 دونم.
متوسّط مساحة المزروع قمحًا بالسّنة 9000دونم، ومتوسّط إنتاج القمح 60ـ 70 كلغ للدّونم، و7500 دونم للحمّص، إنتاج الدّونم الواحد منه 35 كلغ، ونحو 4000 دونم للشعير، إنتاج الدونم 80 كلغ، والباقي سبات (تُفلح إراحة) للسّنة القادمة.
الأشجار المثمرة: مساحة المزروع بالزّيتون 470 دونمًا، بالإضافة لما يزرع منه في حدائق المنازل، وتبلغ كمّية الإنتاج بين 40ــ 50 طنًّا بالسنة. وتبلغ المساحة المزروعة باللّوز 230 دونمًا متوسّط إنتاج الشّجرة الواحدة 10 كلغ. ومساحة الكَرمَة 70 دونمًا والتوت 13. أمّا الأشجار المثمرة الأخرى كالفستق الحلبي والتّين وغيرها فهي زراعات تحميليّة أو تزرع في الحدائق المنزليّة التي حلّت من حيث اهتمام الأهالي بها على حساب الكروم القديمة بسبب توفّر المياه في المنازل؛ هذا في الوقت الذي تقلّصت فيه كميّات الأمطار الهاطلة خلال العقود الأخيرة. وحيث تُزرع فيها الكَرْمة على شكل عرائش تعويضًا عن الكروم التي ضربها الجفاف. حيث تتوفّر المياه من الشبكة العامّة المُغَذّاة من الآبار الارتوازية التي حفرتها الدولة.

لآبار الارتوازيّة
في خراج البلدة أربعة آبار ارتوازيّة تتبع لمؤسّسة المياه الحكوميّة، تغذّي بلدات عَنْز والغاريّة والمشقوق، ومنها بئر آخر لسقي الأشجار (لوز وكرمة وتين وفستق).
الوحدة الإرشاديّة: يقوم موظّفوها المختصّون بتقديم الإرشاد الزّراعي والبيطريّ المجّانيّ للمزارعين، ويعملون على التّوجيه والمشاركة في مكافحة فأر الحقل ودودة الثّمار والسّونة ودبّور ثمار اللّوز وذبابة ثمار الزيتون.

خطّة زراعيّة لمواجهة الجفاف
تبنّت منظمة أكساد التّابعة لجامعة الدّول العربيّة ومنظّمة إيكاردا التّابعة للأمم المتّحدة تّوجيه المزارعين إلى خطّة زراعيّة تقوم على زراعة الأرض في منطقة الدّراسة على الشّكل التالي:
سنة فلاحة، تليها سنة قمح، ثمّ سنة حمّص تليها سنة فلاحة. وينصح في السنوات الأخيرة بسبب غلبة الجفاف على مناخ المنطقة عمومًا بزراعة الشّعير الذي يتحمّل الجفاف ويعطي إنتاجًا مضمونًا أكثر من القمح.

آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
مدخل الكاتدرائية الأثرية
مدخل الكاتدرائية الأثرية

تربية الحيوان
إن تربية الحيوان كالأبقار الحلوبة من سلالات فريزيان، وفريزيان هولشتاين هي مصدر إضافي للرزق في عّنز، حيث تعطي الواحدة منها ما متوسّطه نحو 40 كلغ يوميًّا لمدّة سبعة شهور، ويبلغ ثمن البقرة الواحدة ما يعادل ثلاثة آلاف دولار تقريبًا، وإنتاج البقرة الواحدة يغطّي دخل الأسرة إلى حدٍّ ما، وأمّا مولودها فيسمّن العجل منه ليباع لِلّحم بسعر يتراوح بين 500$ إلى 800$ تقريبًا حسب درجة التّسمين.
كذلك تربية الأغنام والماعز في البلدة بالمشاركة مع رعاة من البدو ويبلغ عدد رؤوس الأغنام 1045 رأسًا، وإنتاجيّتها من الحليب واللّحم منخفضة لعدم توفّر الأعلاف الخضراء ولقلّة المطر، ولكون تربيتها تعتمد الرّعي التقليدي في البرّية لا في حظائر نموذجيّة للتّسمين. والماعز 200 رأس، وما ينطبق على تربية الأغنام ينطبق على تربية الماعز في البلدة وخراجها.
وتقدّم الدولة لقاحات دوريّة مجّانيّة لحماية الثّروة الحيوانيّة الرّيفيّة كما تقدّم الأعلاف بأسعار منخفضة. بالإضافة إلى أنّها تعمل على تحسين السّلالات بواسطة كِباش مُحَسّنة للتّلقيح، وتيوس للماعز من مركزين للأبحاث تابعين لمنظّمة إيكاردا الأمميّة في كل من حماة ودرعا. وتُقام ندوات توجيه توعية دوريّة للمربّين بإشراف بيطريّ مجّاني.
وإلى ذلك تربية الدّواجن: ويُرَبّى في البلدة حاليًّا نحو 1000طير من الدّجاج البلديّ، ونحو 100 طير من الحمام، و100 طير حبش، وسعر زوج من الحبش البالغ؛ نحو 25ــ 30 ألف ل.س، والصّوص منه 3000 ل.س، وتُعتبر تربية الدّواجن من مُستلزمات تكملة حاجات الأسرة الرّيفيّة.

تربية الرّاماج: يبلغ عدد مربّي طيور الرّاماج في عنز 20 مُرَبًّيا. وقد قامت الدّولة بمنح قروض تشجيعيّة من 70000 إلى 100000 ل.س لمربّي الرّاماج بغية تشجيع الناس على عدم الهجرة، وتساهم تربية طيور الرّاماج في تحسين دخل الأسرة الرّيفيّة، إذ لا تحتاج تربيته إلى يد عاملة كثيفة.
عَنز، باختصار، وريثة تاريخ غني عريق وأصيل عمره مئات السنوات، وربما أكثر. لكن تحديات الحاضر أمام سكانها ليست بالقليلة وهم مضطرون للتكيّف مع ضرورات العيش والتقدّم المستجدة بوسائل عدة، وبجهود مضنية.

المسجد العمري القديم في البلدة (بعدسة أكرم الغطريف)
المسجد العمري القديم في البلدة
(بعدسة أكرم الغطريف)
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين

سعيد أبو الحُسْن

سعيد أبو الحُسْن
حياة مليئة بالحيوية الفكرية والفاعلية الاجتماعية

رجل معروفي أصيل، عروبي النزعة لعب دوراً مؤسساً في تنمية الوعي الوطني الأصيل بعروبة مستنيرة

هو ذاكرةٌ نابضةٌ بما يختزنه بنو معروف من كَمٍّ متراكم من النّضالات يتوارثه الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل، ويورّثونه لمن يليهم. يعبّر الكاتب عن ذلك في كتابه الذي عرض فيه لمواقف من سيرة حياته التي تحتاج إلى أكثر من مجلّد فيما لو أريد توثيقها بتفاصيلها؛ لغناها بالمضامين المؤشّرة على شخصيّة وافرة الثراء من الجانب الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ. فهو منذ طفولته الباكرة عينٌ ساهرة ترصد ما حولها من وقائع وأحداث تأثّر بها، وأثّر فيها فيما بعد مع تقدمه عبر مراحل العمر. يقول في ص 8 من كتابه نيران على القمم: “أوَّل مشهد وعيته منذ ولادتي ولم يفارق ذاكرتي أبدًا هو مشهد عدد من البغال الدّهماء المزيّنة صدورها وأعناقها بعقود جِلديّة مزيّنة بالوَدَع الأبيض، في حوش دارنا، فكأنّما ارتبطت حياتي بالكوارث منذ بدايتها. سألت والدي عن تلك البغال فأفهمني بلغة يدركها الأطفال أنّها لأقارب لنا من أسرتنا في لبنان، وأنّهم قادمون لنقل القمح من بلادنا إلى بلادهم لحدوث مجاعة كبرى بسبب الحرب العالميّة الأولى وانقطاع الواردات من الخارج ومصادرة السلطة العثمانية الحاكمة آنذاك جميع المحاصيل لحساب جيشها، ولولا بسالة أهل بلادنا ــ جبل حوران ــ لما بقي في البلاد حبّة من القمح لنا أو لسوانا. وكان بعض الأقارب من لبنان يُقْدِمون للإقامة بيننا طوال مدّة مجاعة الحرب ومن هذا المشهد الأوّلي الذي تفتّح عليه وعيي، انطلقتُ أحدّد مكاني من الدّنيا: إذا كان هؤلاء هم أقاربي من لبنان فنحن إذن من أصل لبنانيّ ــ من المتن بالتّحديد ــ ووجودنا في جبل حوران بالذّات وجود طارئ نسبيّاً، وهذ الوجود تفسّره هذه الهجرة الجزئيّة التي شهدتها بذاتي: فنحن إذن ــ بوجودنا كلّه ــ نتائج كوارث قديمة: حروب ضدّ الدول الغازية، أو حروب أهليّة، أو معارك قَبَلية”.

ولادته ودراسته وتميّزه
وُلِد سعيد أبو الحسن في 12/11عام 1912 في قرية عرمان، وفيها درس المرحلة الابتدائية في كُتّاب القرية، في عام 1929 نال منحة دراسيّة لتفوّقه أهّلَته للدّراسة في كلّية القدّيس يوسف في بيروت، وفي عام 1937 جرى تعيينه في مديريّة المعارف (أي التّربية اليوم) في السويداء حتّى بداية عام 1940، عمل بعدها مساعدًا عدليًّا مُترجمًا لتضلّعه باللّغة الفرنسيّة حتّى أوّل عام 1943، وخلال عمله الوظيفي ثابر على دراسة الحقوق، وحصل بنتيجة ذلك عام 1942على إجازة من معهد الحقوق الفرنسيّ في بيروت. عام 1948عُيّنَ معاوناً للنائب العام في مدينة القامشلي، ليستقيل من الوظيفة الحكومية في العام التالي 1949 ويعمل بعدها في مهنة المحاماة في المدينة ذاتها حتى عام 1960 إذ انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة فيها منذ العام 1961 وبقي في وظيفته تلك إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.
أثناء وجوده في القامشلي عام 1948 واطلاقاً من ميوله الثّقافيّة أصدر مجلّة نصف شهريّة أسماها “الخابور” تيمّناً بنهر الخابور العريق الذي يعبر المدينة، وفيما بعد أسماها “المواكب” تيمنًّا بجبران الذي كان يحبّه.

لقد حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأشرف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر

سمات شخصيّة ورساليّة مميّزة
تميّز سعيد أبو الحسن بعفّة لسان وبتهذيب عالٍ قلّ نظيره، وبنقده الجاد لتقاليد مجتمع غلب عليه التخلّف، ولكنّه لم يعتبر التخلّف قَدراً لا فكاك منه؛ لأنّه كان يرى أنّ تَسَلُّح الأجيال بالعلم والثّقافة والمعرفة سبيل لقهر التخلّف، وكان يجد غرابة عندما يرى أنّ بعض من يعرفهم يقرأون ولا يكتبون، لأنّ القراءة عنده نوع من الفعل النّقدي (1).

التّعليم في عصره
يوثّق لنا نمط التعليم إبّان الاحتلال الفرنسي فيقول: “جاءنا أستاذ يرتدي اللّباس الأوروبي، ويدرّسنا العربيّة والفرنسيّة وعلى الأصحّ يدرّسنا كلّ شيء بالفرنسيّة، واللّغة العربيّة تُدرّس كلغة فقط، أمّا العلوم فكلّها بالفرنسيّة.. والحديث كلّه بالفرنسيّة. كان يتدرّج من الإلزاميّة المُتساهلة حتى الإلزاميّة المؤيَّدة بالعقوبة، كانت هناك إشارة Signal وهي كناية عن قطعة خشب بحجم حجر الدّومينو تُعطى للتلميذ الذي يلفظ كلمة ما باللّغة العربيّة بدلاً من الفرنسيّة، وبهذا يصبح هَمُّه أن يتخلّص منها فيبحث عن مخالف آخر ليعطيه إيّاها، وهكذا يعاقب المخالفون في اليوم التالي(2) من قبل المعلّم المرتبط بالاستخبارات الفرنسية والمكلّف بفَرْنَسَة تلاميذه”.
عندما انتقل ليدرس في بيروت يقول: ” كانت الثانويّة اليسوعيّة تتبع تقليداً عظيماً وهو إعطاء طُلاّب الصفّ المُنتهي فترة أسبوع خلوة للاعتكاف والتّفكير في المستقبل، وَوَضْعِ شبه خطّة للحياة، وتحديد الأهداف والطّرق المؤدّية إلى تحقيقها…
لقد حدّدت موقفي ذِهنيًّا، حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأَشْرَف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر من أجل الوطن والأمّة”.

تراث كفاحي في الأسرة؛
قتال ضدّ العثمانيّين والفرنسيّين
كانت البيئة التي نَشَّأتْ سعيد أبو الحسن بيئة مشحونة بالهمّ الوطني النّضالي، فعرمان؛ قريته، إحدى أهم حواضر الجبل في مواجهة الاستبداد العثمانيّ والاستعمار الفرنسيّ، ووالده محمّد أبو الحسن كان أحد وجهائها، وهو واحد من أربعمئة رجل من مقاتليّ بني معروف نفاهم العثمانيّون بُعَيْد الهزيمة المدويّة التي ألحقها أهالي قريتهم وقرى المقرن القبلي والشرقي بحملة عثمانيّة انتقاميّة ضدّ الدروز، ممّا تسبب برد فعل عثماني حاقد وبحملة انتقام ثانية قادها الجنرال ممدوح باشا. كان النّفي إلى طرابلس الغرب من نصيب والده الذي كان نَصيراً للتّغيير الاجتماعيّ أيضاً، فهو إلى جانب موقفه التحرّري من المحتلّ العثمانيّ كانت لديه نوازع ثورة على واقع مجتمعه الإقطاعيّ لا تقف عند حدود اقتسام الأرض وتملّكها، بل تتعدّاها إلى محاولة تغيير ذلك الواقع والسّعي إلى ما هو أفضل: فهو لا يقبل بالعادات قبولاً أعمى، بل يناقش صَلاحَها وهذا ما أدّى إلى الإكثار من خصومه ومُنتقديه حتى من بين أقاربه.

صُوَر من ذاكرة الطّفل عام 1925؛ تحدّي أهل عرمان للطّيران الحربي الفرنسيّ
الطّفل سعيد؛ ابن الثلاثة عشر عاماً شاهد صادق على عصره، يقول: “كان يومها سلطان باشا ورفاقه ضيوفاً في “عرمان”، وكانت تلك الزيارة حربية تعبويّة للهجوم على صلخد وتحريرها والزّحف إلى السّويداء.. يومها ضجّت سماء القرية بطائرتين حربيّتين فرنسيّتين قَدِمَتا لِرَصد تحرّكات سلطان ورفاقه، قفز كلّ رجل مسلّح إلى سطح منزله وبدأ إطلاق النّار على الطائرتين وكان والدي من أسرع القافزين إلى السّطح وأنا معه، أخذ يطلق الرّصاص وأنا أجمع الفَشَك (الخرطوش) الفارغ.. وفي لحظة قال لي بعد إحدى الطّلقات: لقد أصيبت الطّائرة. كان قد خرج دُخان من بيت النّار منها؛ رأيته بأمّ عينيّ..”.
من هو الثائر المجهول الذي أصاب الطّائرة؟! من يدري؟! قد يكون والدي الذي رأى الإصابة لحظة حدوثها.. وقد يكون غيره من أبناء القرية الذين كانوا عدّة مئات فوق سطوحهم وكلّ رجالنا رُماة مَهَرَة، المُهمّ أنّ الطائرة أصيبت.. وسقطت في قرية “امتان” المجاورة وأُسِرَ طيّاراها الاثنان. كان ذلك يوم 19 تموز 1925″.

الطالب سعيد: مواجهة مع
الأمن الفرنسيّ
لَعلّه كان أوّل من انتبه إلى أهمية العمل التطوّعي التّعاونيّ في تحسين واقع الناس، يقول: “عدت في تموز 1935 لقضاء العطلة الصّيفية في قريتي عرمان. وصلت إلى القرية واستدعيت أوعى شابّين فيها، بحثت معهما واقع بلادنا وضرورة العمل على تغييرة، فعلينا أن نعمل انطلاقاً من قريتنا ونتوسّع شيئاً فشيئاً. قرّرنا تأسيس جمعيّة سرّيّة سمّيناها “جمعيّة الأمل” واتّفقنا على إبقاء الجمعيّة سرّيّة، وأن يكون عملنا الأوّل تمثيل رواية اجتماعيّة.
صارت حفلتنا حديث الناس في القضاء كُلِّه وخارجه. بعد بضعة أيّام جاءني رجلٌ مسرعاً يقول: “المستشار الفرنسي يريدك..”، ذهبت في الموعد إلى صلخد، وبدأ الحوار الهجوميّ على النّحو التالي: “أبَلَغَتْ بك الجرأة أن تدعو إلى حفلة تقوم بها جمعيّة سرّيّة غايتها توعية الناس وتحريضهم ضدّ فرنسا؟
– لم يكن هذا قصدي.
– لا.. لا تحاول

أن تُنْكر فأمامي نظام جمعيّتك كلّه. كان الإنكار هو الوسيلة المثلى للدفاع. قلت: “كل ما في الأمر أنّ الجمعيّة ترمي إلى تحسين أوضاع القرية من جميع الوجوه، وهذا ما تقولونه أنتم أنفسكم حين تبنون المدارس، وتَشقّون الطّرق وتجرّون المياه.
– نحن نفعل وحدَنا ما نراه مناسباً.
– ولكنّني أعرف الكثير عن مبادئ ثورتكم (يقصد مبادئ الثورة الفرنسية) وليس فيها ما يُقِرُّ الذي تقوله لي الآن.
– هذا ما تقرأه في كتبنا، ولكنّ الكتب كُتِبَت لتطبّق في فرنسا لا خارجها، ثمّ أريد أن أسألك: “لماذا يتّصل بنا رفاقك ولا تتصل بنا أنت!”.
أنا مشغول بتدبير عائلتي قبل أن أعود إلى المدرسة، نهاري في البيت والبيدر، وليلي في الكَرْم، ولست أبحث عن زعامة في عرمان حتى تكون لي اتّصالات بالمسؤولين السياسيين، أي بكم أنتم..
– متى ستعود إلى المدرسة؟
– في أوائل تشرين الأوّل.
– حسناً… ستبقى في القرية حتى يوم سفرك. لن تغادر القرية إلى أي مكان ومهما تكن الأسباب، هل هذا مفهوم؟
– مفهوم طبعاً، إقامة جبريّة داخل القرية حتى نهاية العطلة الصّيفيّة.
– أراك فهمت جيّداً. انصرف الآن واعلم أنّنا نرى كُلّ شيء ونعرف كلّ شيء.
خرجت من مكتب المستشار رأساً إلى عرمان، وكانت حصيلة التّجربة الأولى في حقل العمل العام، هي أنّ اختيار الأشخاص يجب أن يتمّ بعناية أكبر، والكفّ عن الحفلات العامّة، والاكتفاء بالعمل السرّي، وأنّ القاعدة في النضال السّياسي السّلبي هي: التدرّج في نشر المعلومات.

شاب ورجل مجتمع
كان سعيد أبو الحسن واسع الاهتمامات والتّأثير في البيئة التي يتواجد فيها، فهو قُطب ثقافيّ وسياسيّ كبير في همّه القوميّ النّهضويّ، وبهذا فقد كان له دور رِياديّ فعّال في أحداث الجبل الاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة والسياسيّة، إذ كان في طليعة شباب الجبل العاملين في سبيل وحدة الوطن السّوريّ آنذاك، ورفض فكرة الدّويلات الطائفيّة التي سعى بها الاحتلال الفرنسيّ، ومن هنا كان تأسيسه عام 1942 فرعاً لِعُصبة العمل القوميّ في السّويداء بلغ عدد أعضائه ثلاثة آلاف شاب وكان من أهدافها إقامة دولة عربيّة من المحيط الأطلسيّ إلى الخليج العربي، وقد ساهمت العصبة بنشاط بارز إلى جانب القادة الذين نفّذوا عمليّة انقلاب الجبل الناجحة والأولى في سورية على الإدارة الفرنسيّة عام 1945.
كما كان من مُشجّعي التّعليم العصريّ وتعليم المرأة والعمل كسبيل لنهضة المجتمع، وانطلاقاً من نزوعه الثّوريّ إلى التّغيير في مجتمع تسيطر فيه العلاقات الاقطاعيّة واحتكار مقاعد التّمثيل النّيابي فقد شارك في توسيع نشاطات هيئة الشّعب الوطنيّة في الجبل منذ العام 1943، عام نضوج وعيه السياسي، وتحديد توجّهاته الفكرية يقول ” عام 1943 وضعت مُسَوّدة كتيّب بعنوان (ما بعد الحرب) وحتى عام 1946 عام تحوّلها (أي هيئة الشعب) إلى مسمًّى جديد هو “الحركة الشّعبيّة”، ضمّنته أفكاري الاشتراكيّة، وقلت: إنّ حلّ جميع مشاكل العالم بعد الحرب سيكون بالنّظام الاشتراكيّ، وحدّدت موقفي من الاشتراكيّة على أساس قوميّ، بعيداً عن الأمميّة التي كانت الشّيوعيّة متمسّكة بها كثيراً في تلك الأيّام ــ وقد أرسلت مُسوّدة الكتاب إلى الشيخ فؤاد حبيش (في لبنان) لعلّه ينشره في منشورات “دار المكشوف” فأجابني: إنّ مثل هذه الأفكار سابقة لأوانها وربّما تُسبّب لي بعض الإزعاجات ــ وأعاده إليّ”.

قيادي ناشط في الانقلاب على الفرنسيين وتحرير الجبل في 29 أيّار 1945
عمل الشاب الثّوري سعيد أبو الحسن وتنظيمه عصبة العمل القومي إلى جانب الأمير حسن الأطرش محافظ السويداء الذي قاد الانقلاب على الفرنسيين حينذاك، ففي حفل استقبال أقامه الأمير المحافظ جرى بينه وبين المسؤول الفرنسيّ في المحافظة (سارازان)، حوار دلّ على مدى وعي الشاب أبو الحسن وحنكته السياسيّة. يقول “كنّا أربعة أو خمسة من الأصحاب نتحدّث وقوفاً بالقرب من أحد الأعمدة، وإذا بـسارازان يتقدّم من حلقتنا ويُحيّينا ثمّ يوجّه إليّ فجأة من دون مقدّمات السؤال التّالي: “ما رأيك في كيفيّة إنهاء الوضع في البلاد بمعاهدة أو بلا معاهدة؟ فأجبته جوابًا حاسمًا مقتضبًا: بلا معاهدة.
– ولماذا؟
– لأنّ عَهْدَنا بنقضكم العهد ليس ببعيد، فمعاهدة عام 1936 تمّت لمصلحة فرنسا ومع هذا فقد نَكَلتم بها، وألغيتم تواقيعكم، فكيف يكون الأمر لو كانت المعاهدة بكلّيتها لمصلحتنا؟ إنّ قبولنا بالمعاهدة بعد التجربة الأولى يعني أنّنا أغبياء لا أكثر ولا أقلّ وأنّنا لا نفيد من التجارب، وأنت تعرّف ولا شكّ ما أعنيه بقولنا “لا يُلدّغ المؤمن من جُحْر مرّتّين”.
– ولكنّ الكثيرين من شعبكم يقولون غير ما تقول، يقولون بضرورة عقد معاهدة مع فرنسا والإبقاء على نوع من الوجود الفرنسيّ في بلادكم لمصلحة هذه البلاد بالذّات.
– من هم هؤلاء الكثيرون من شعبنا؟
– كثيرون كتبوا بهذا الموضوع…
– أنت تدري أنّهم من عملاء مخابراتكم، واحتدم النّقاش حتى لَفَت انتباه الآخرين فانضمّ إلى الحلقة عدد من الضبّاط وغيرهم من المدعوّين وكان المحافظ صاحب الدّعوة قد انضمّ إلينا وسمع آخر ما قلناه.
فوجّه سارازان الحديث إليه وسأله: ما رأي سيادتكم في الموضوع؟
فأجابه المحافظ بلا تردّد: أنا من رأي فلان ــ أي من رأيي ــ فيجب أن ينتهي الوضع حسب وعودكم من دون معاهدة، ولا امتيازات. امتعض سارازان وبلعها وغيّر موضوع الحديث.
ويعقّب الشاب المتحمّس سعيد “كان موقف المحافظ مفاجأة سارّة لي وضعتها في كفّة التّعاون الممكن معه في مقبلات الأيّام”.

نبوءة الشاب الجذري القادم من الرّيف، واحتكاكه بزعامات دمشق التقليديّة!!
ينقل إلينا سعيد أبو الحسن الخريطة السياسيّة للعاصمة دمشق عام 1946حيث كانت الكتلة الوطنيّة آنذاك تواجه أحزاباً معارضة لها أقدمت على تشكيل تجمّع باسم “اتّحاد الأحرار”، كان ذلك الاتّحاد يضمّ عصبة العمل القوميّ، ممثّلاً بفهمي المحائري وجماعة الأحرار ويرأسهم منير العجلاني والدكتور سامي كبّارة والدكتور صبري القبّاني، وكان الدكتور سامي كبّارة ذا قلم أمضى من السّيف في جريدته (النّضال)، وإلى جانبه عدد من كبار المستقلّين أمثال الأستاذ رئيس مجلس الشورى سابقًا سعيد حيدر والأستاذ نبيه الغزّي المحامي الذي سيصبح قاضيا ثمّ رئيساً لمجلس الدولة فيما بعد والأستاذ سعيد محاسن محام ووزير سابق والأستاذ نزهة المملوك والأمير جعفر الحسني الجزائري رئيس المجمع العلمي العربي فيما بعد والأستاذ علي بوظو من شباب حزب الشعب والأستاذ زكي الخطيب وزير العدل السابق وكان يتعاون مع هذا التجمّع حركة البعث الاشتراكي والحزب العربي الاشتراكي.
كان تجمّع الأحرار هذا قد اتّخذ لنفسه مكتباً في شارع العابد حيث كانت أوّل مناسبة لظهوره يوم الثامن من آذار عام 1946 يوم ذكرى إعلان استقلال سورية (بحدودها الطّبيعية: بلاد الشام) كما أقرّها المؤتمر السوري عام 1919، وقد ألقى الأستاذ فهمي المحائري خطاباً عنيفاً هاجم فيه الحكم على كلّ مستوياته، وأُلْقِيَتْ خُطب عديدة منها خطبة الشاب سعيد أبو الحسن، الذي كانت تغلب على خطبته المسائل الراهنة، ولكونه وجهاً جديداً في ذلك الوسط الدمشقي التقليدي، فقد أثار رَيْبة ما؛ في مجتمع سكوني يسوده قادة تقليديون ينتمون إلى فئة مُلّاك الأراضي والبورجوازية التجارية العائدة إلى العهد العثمانيّ والاحتلال الفرنسيّ، يقول أبو الحسن: “.. سمعت بعض القوم يتهامسون: تُرى هل سيخلقون لنا زعامات جديدة؟”.
مثل هذا الموقف النّكوصيّ من أولئك القوم الدّمشقيّين الذين يشير إليهم أبو الحسن أثار في نفسه المرارة، وهو الشاب العروبيّ الذي يتجاوز بوعيه العُلَبَ المذهبيّة والطائفية ونزعة المدينة المنغلقة على نفسها وعلى زعاماتها؛ تلك النّزعة الموروثة من العهد العثمانيّ القروسطيّ.
يقول مشخّصاً الأمر الواقع حينها، ومتنبّئاً بما سيكون عليه المستقبل “إذن هذا كل ما يهمّ هؤلاء الناس: زعاماتهم!، وهذه الزّعامات يجب أن تكون دمشقيّة معروفة، وإلّا فهي مرفوضة مبدئيّاً؛ ويومها أدركتُ الأسرار كلَّها: أدركت لماذا يتحدّث المؤرّخون عن (معركة) ميسلون ولا يتحدّثون عن (معركة) المزرعة، أدركت لماذا يُعَتّمون على معاركنا الرّائعة خلال العهدين العثمانيّ والفرنسيّ ويبرزون أقلّ تظاهرة تجري في دمشق ولو اشترك فيها عَشَرة من الصّبية، إنّها عصبيّة إقليميّة، عمياء مُغرضة هي مرضُنا نحن العرب، وهي التي ستكون سبب كلّ هزائمنا الداخليّة والخارجيّة”.
في حقل عمله الوظيفي بعد عمله في القامشلي عام 1948 في القضاء ومن ثم في المحاماة عام 1949 حتى عام 1960 انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة في دمشق منذ العام 1961 وبقي فيها إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.

لقاؤه مع علي ناصر الدين
وحسين أبو شاهين
عام 1947كان استحقاق انتخابات؛ سياسيًّا كان سعيد أبو الحسن منظِّماً حزبيّاً وسياسيّاً وقائداً سابقاً عصرَه في ميدان النّشاط الاجتماعيّ، فهو من الجيل التّابع لجيل الثّوار الآباء، وكان قد تعرّف في لبنان بحكم دراسته في الجامعة اليسوعيّة وبحكم أصوله اللبنانيّة المتنيّة على علي ناصر الدّين وزميله في النّضال حسين أبو شاهين عام 1934، وعليٌّ هذا هو مؤسّس عُصبة العمل القومي ذات التوجّهات العروبيّة والوحدويّة، وقد تأثّر سعيد بأفكاره. يقول “كان لهذه الزّيارة أثرها البعيد في نفسي مدى عمري كلّه. لقد وجدت هناك صورة حيّة لما أفكّر وما أريد، وتزوّدت بالقوّة والوعي بمشاكل الأمّة العربيّة، وفي طليعتها مشكلة التّجزئة وأمراض الطّائفيّة والإقطاع والعمالة والجهل والمرض والفقر والتخلّف بكل مظاهره، وحدّدت هُويّتي الوطنيّة، وعقيدتي القومية، ومنذ ذلك التّاريخ صرت أعمل كأنّي فرد من العصبة”.
على هذا أسّس سعيد أبو الحسن العصبة في الجبل عام 1942 بدأ بأفراد قلائل، تكاثروا فيما بعد، يقول: “وقد سبق أن قلنا إنّ العُصبة ضُربت وشُتّت قادتها واستتر أعضاؤها. فكيف السّبيل إلى إعادة الحياة إليها؟ نحن من الوجهة القوميّة لم يكن لدينا أيّ فرق بين ارتباطنا بالعصبة في لبنان، وارتباطنا بالعصبة في دمشق أو في أيّ قطر عربيّ آخر، ذلك بأنّنا وحدويّون تساوت في نظرنا وأعماقنا جميع أجزاء وطننا الواحد، فَذَرّة الرّمل في حضرموت، والحجر الكلسيّ على شواطئ المتوسط والشاطئ المقابل لأوروبا على المحيط الأطلسيّ، كلّها في عقيدتنا مُتساوية وتستحقّ أن نناضل من أجل تحريرها، وأن نموت من أجل وحدتها وسيادتها”.
لقد كانت شخصيّته القياديّة الآسرة عنصراً مؤثّرًا في توسّع المنظّمة، من حيث النّوع قبل الكم، فلم يأتِ آخر عام 1944 حتى كان قد انتسب إلى العصبة نُخبة طليعية من الجبل، بلغ عددهم ما ينوف عن الثلاثة آلاف عضو من المعلّمين والطلّاب والموظّفين وصغار الملّاكين ــ وهم أبناء وأحفاد فلاحي الثّورة العامة في العقد التاسع من القرن التاسع عشر ويمكن القول: إنّه لم يبرز شخص من محافظة جبل العرب من الأربعينيّات إلى الستينيّات إلّا وكانت له صلة قديمة بالعصبة، أو تخلّق بأخلاقها وترعرع في جوّها.

نزوع للتغيير الاجتماعي
لم يكتفِ سعيد أبو الحسن فقط بالعمل ضدّ المحتلّ، يقول: “كانت تختمر في ذهني أفكار بعيدة عن الاهتمامات المباشرة لرجال المعارضة، كان يجب أن نبدأ الثّورة الاجتماعيّة في الجبل، فما عاد يجوز القبول بالوضع العشائري العائلي الإقطاعيّ القائم، كان الحكم أضحوكة، مَهزلة، فالقانون لا يُطبّق على أحد من الزّعماء، ويُطبّق على أبناء الشّعب العاديّين… كلُّ شيء سيّئ، كلّ شيء يحتاج إلى تغيير أو إصلاح؛ هذه كانت قناعة الجميع، ولكن من يبدأ؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟ كل هذه العيون كانت تتطلّع إلينا وتنتظر أن تستأنف هيئة الشّعب الوطنيّة نشاطها وتبدأ معركتها: ولكن على أساس أن نكون نحن الطّليعة ونحن العمود الفقريّ لها”.
وهكذا فقد كان الرّجل واحداً من أبرز مُحَرّكي الأحداث في جيلهِ بالاستناد إلى التّنظيم المُتماسك ــ عصبة العمل القوميّ ــ الذي يقوده، ويذكر رفاقاً كانوا إلى جانبه في قيادة العصبة أبرزهم جادالله عزّ الدّين واسمه الحركي(أنت) وذوقان قرقوط (أنا) وهو، أي سعيد، واسمه الحركي (هو)، وقد لعب رفيقاه هذان أدواراً بارزة في حياة الجبل الاجتماعيّة فيما بعد.
كانت الانتخابات البرلمانيّة مقبلة في صيف عام 1947، والنّاس في شبه تربص وترقّب، يقول: “أصدرت بياناً، حدّدت فيه المشاكل الاجتماعيّة التي يعاني منها مجتمعنا وكيفية حلّها، وركّزت على ضرورة تحلّي المناضلين بأخلاقيّة مُتميّزة صارمة وختمته بهذه الفقرة: “أيّها الإخوان هذا هو برنامجكم فاحرصوا على تنفيذه وليعلم كلّ واحد منكم أنّه مسؤول عن تنفيذ هذا البرنامج كلّه فإذا سكت أحدكم على ضيم، وصبر على ظلم ورأى اعوجاجاً ولم يفضحه، ورأى خيانة ولم يحاربها ورأى دسيسة تُحاك ضدّ الأمّة والوطن ولم يقاومها، فليعلم أنّه خان رسالته ومبادئه وواجبه القومي المقدّس”. وفي هذا نفهم منه أن الروح الحزبية في زمنه كانت نقيّة لم تُسْتَلحَق بسلطةٍ بعد.
وممّا يدلّ على ا لمنهج الاجتماعيّ الجادّ للرّجل؛ تصريحاته المتناثرة في بيانات عصبة العمل القومي وأقواله: “سنحارب كلّ اعوجاج نراه، وسنقاوم كلّ إجحاف نصادفه وسندافع عن كلّ حق هَضيم وعن كل مشروع نافع”.
وممّا كان يؤلمه بعد تَحقُّق الاستقلال، غياب الإنصاف بين المواطنين، يقول: يالَضياع الدّماء والأرواح إذ كان يسيطر يوم عيد الجلاء رجال كانوا مع الأجنبيّ قبل (ميسلون) وقبل (المزرعة) وقبل (أيار 1945) ثم شاءت سياسة التّرضية، سياسة الوصوليّة والمحافظة على الكراسيّ، السياسة الرّأسماليّة الاستثماريّة شاءت أن يبقى هؤلاء في مراتبهم وأن تتّسع صلاحيّاتهم وأن يتصرّفوا في شؤون الوطن العامّة فسيطروا على مصالح الأفراد والجماعات..”.

الدّعوة إلى سياسة صائبة
ولأنّ شخصيّة الرّجل شخصيّة قياديّة ذات هم اجتماعيّ يقول” علّمتنا التجارب أنّه علينا أن نتدخّل في كلّ شأن من شؤون الجبل، لأنّ موقف الحياد من مشاكل الحياة يجعلنا على هامش الحياة، ولأنّ عدم الاهتمام بشؤون الحياة جهل مطبق بأمور الحياة كلّها، لأنّ السياسة تسيطر على كلّ شيء في هذا العصر فلا علم ولا عمل، ولا خبز ولا تقدّم ولا نظام، ولا أمن إذا لم تكن هناك سياسة صالحة موجّهة؛ دلّوني على عمل يمكن أن يقوم به الإنسان بدون أن يصطدم بمشكلة سياسيّة، بمشكلة قانونيّة لها صلة متينة بالسّياسة نفسها؟”.
انطلاقًا من هذا الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ العميق لسعيد أبو الحسن نما جمهوره في عصبة العمل القوميّ التي يقودها وتعاظم الدّور السياسيّ الذي اضطلعت به، إلى أن وصل الأمر إلى مواجهة اجتماعيّة دامية في الجبل بين أنصار القديم وأنصار التّجديد ــ على حد تعبير الأستاذ عارف النّكدي محافظ الجبل آنذاك ــ على أثر انتخابات نيابيّة جرى تزويرها عام 1947، وقد نصحه حينها بالابتعاد قليلاً عن الجبل، وعلى هذا الأساس تمّ تعيينه معاون نائب عام في القامشلي في أقصى الشمال السّوري عام 1948.

مواقف يساندها
سلطان باشا الأطرش:
كان الاستقلال قد تَحقّق ولكنّ الآمال لم تتحقّق ممّا دعا الأستاذ فهمي المحائري رئيس العصبة في دمشق إلى انتقاد السّلطة بشخص رئيس الجمهوريّة (شكري القوّتلي) آنذاك، فأحيل إلى المحكمة وعندها تظاهر المحامون، وتطوّع للدّفاع عنه نحو خمسة وثمانين محامياً، ورفضت الحكومة إخلاء سبيله بكفالة فكان لابدّ من الضّغط الشّعبي، عندها أعدّ سعيد برقية شديدة اللّهجة تضمّنت دفاعاً عن حرّية المواطنين وعبارة “يجب إخلاء سبيل فهمي المحائري” وقام جميل كوكاش بحمل البرقيّة إلى سلطان باشا فوقّعها متضامناً، وطُيِّرَت البرقية إلى دمشق وبعد 24 ساعة من وصولها إلى رئيس الجمهوريّة؛ أُخْلِي سبيل الأستاذ المحائري.

إسقاط المرسوم 50
كان سعد الله الجابري أيّام أصبح رئيساً لوزراء سوريّة قد أصدر المرسوم 50 الذي يصادر الحُرِّيّات ويجعل من حليفه صبري العسلي نوعاً من دكتاتور، كانت الغاية من ذلك السّيطرة على نتائج الانتخابات القادمة، وعلى الأثر تنبّه الوطنيّون في دمشق لنوايا الجابري والعسلي، فَقَدِم كلٌّ من الأستاذين سعيد حيدر ونزهة المملوك إلى سعيد أبو الحسن في السويداء بصفته شخصيّة وطنيّة، ورئيس فرع عصبة العمل القومي في السويداء، وأوضحا له أنّ إلغاء هذا المرسوم بحاجة إلى وِقفة من سلطان باشا نظير وِقفته من قضيّة فهمي المحائري، وبالفعل ذهب الثلاثة إلى القريّا مَعْقِل سلطان، وعقدوا معه اجتماعًا سِرِّيًّا، وبَسطوا له الوضع، قائلين: “إذا بقينا ساكتين وظلّت الحكومة سائرة في غِيِّها فسيأتي يوم نترحّم فيه على أيّام الانتداب والاحتلال” فاستجاب سلطان باشا لِطَلَبِهم ووقّع بيانًا نُشر في الصّحف ووزّع على نطاق واسع، يوم 6 تشرين الثاني عام 1946، وسقط المرسوم”.

سعيد أبو الحسُن العروبي ورجل المجتمع والسياسة، أديب وشاعر أيضاً
هو شخصيّة مُتعدّدة المواهب إذ كتبَ القِصّة والمسرحيّة وجمع الشعر الأصيل إلى ما سبق ذكره، ففي ديوانه القيّم “الديوان، من الرَّباب إلى السيمفونيّة” والذي يمثّل شهادة الشاعر على عصره؛ ويضمّ مئة وثماني وثلاثين قصيدة معظمها من الشعر العمودي، بعضها من الشعر الحديث، وجميعها من الشعر الجيد المتعدّد الأغراض بين الوطني القومي والاجتماعي والتاريخي والذاتي والعاطفي ــ الأسري، وله نظرة جادة في الشعر يعبّر عنها بقوله “الشعر بمضمونه وليس بشكله”، هذا مع أنّه التزم في شعره بإتقان الشكل والمضمون معاً، وهو يعرّفنا على موقفه من الشعر بقوله: “هل صاحب هذا الديوان شاعر سياسيّ أم سياسيّ شاعر؟ ولعلّ الإجابة الصحيحة هي أنّه مواطن وإنسان قبل كلّ شيء يعيش آمال أمّته وآلامها، يحسّ بؤسها وينتشي بانتصاراتها ولا يقبل بنظريّة الفن للفن، أو الشعر غير الهادف” ويلخّص رأيه بقوله: “إنّه يؤمن بالأدب في خدمة الشعب، لا الشعب في خدمة الأدب”. ومن قصائده اللافتة في الموضوع الوطني ــ القومي قصيدته “جراح وآمال” ولها مناسبة طريفة يقول فيها: استمعت إلى الشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري وهو يخاطب دمشق في لهفة وكأنّه لا يصدّق أنّه استطاع الوصول إليها، فتجسّدت في نفسي مأساتنا القوميّة الكبرى، وكتبت هذه القصيدة (نُشرت عام 1979) مهداة إليه نقتطف منها قوله:
أَتـــرَعتُ من لَهبِ الجوى أقداحي وشربتُ حتى صِرتُ بعضَ الرّاحِ
ورأيتُـني فـوق السـحاب غمامـــةً حمـراءَ تنشرُ في السّماء جـراحي
جُــرحُ الحــدودِ قديمُـها وحديثُـها جثـمت عـلـى الأجســـادِ والأرواحِ
والقصيدة مُطوَّلة، ومن بعض عناوين قصائده “بلدتي عرمان” و “وادي بردى في الخريف” و “يوم التضامن مع الفلسطينيين” و “تحيّة إلى جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله” و “أَبَيْتُ الذلّ” و “النصر أو الكفن” و “تحيّة عربية إلى هانوي” و “إلى غزة المناضلة” و “جبل الشيخ رفيق الأزل” و “المتن” و “إلى رفيقة العمر مي (زوجته) بعيد ميلادها” و “إلى أمي” و “وقصائد إلى “أميرة في عيد ميلادها وقصائد أُخرى إلى أحفاده دينا ولارا ورامي …
حقّاً لقد كان سعيد أبو الحُسن شخصًا سابقًا عصره، لكنّه على تَمَيُّزه لم ينل حقّه في حياته بسبب ظروف الفترة القلقة المليئة بالتقلّبات والإرهاصات التي عرفتها سورية، تلك الفترة التي عاشها هذا الرّجل الموهوب.
إنّ الحديث عن دوره وتأثيره الاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ يحتاج مُجلّدًا ضخماً، لا مقالة محدودة بعدد ما من الصّفحات، فحقيقة الرّجل ساطعة سطوعَ شمسٍ في رابعة النّهار.

رشيد طليع

أحد أبرز أركان الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927

رشيد طليع
إداريّ قائد، وسياسي عربي مُتَعدّد المواهب

هو رشيد بن علي بن حسن بن ناصيف طليع، ولد في قرية جديدة الشّوف بلبنان عام 1876م، وتلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة القرية ثم انتقل إلى المدرسة الداوديّة في عبيه وبعدها في المكتب الإعدادي في بيروت عام 1892 فنال شهادته بتفوّق، ومنذ أيام الدراسة تلك برزت لديه إمارات الذّكاء والنُّبوغ،
بعد المكتب الإعدادي، بعثته الدّولة مع بعض أبناء العشائر إلى الآستانة ليلتحق بمكتب العشائر ومعهد الإدارة والمال وكانت مدّة الدِّراسة ثماني سنوات ، فتخرَّج سنة 1900، وعاد إلى بيروت فَعُيِّنَ برتبة مأمور معيّة لولاية سورية، وفي عام 1901 عُيِّن وكيل قائمّقام بعلبك، وفي عام 1902 عين قائمقامًا للزّبَداني، وفي 1903 قائمّقامًا لراشَيّا وفي عام 1906 قائمقامًا لحاصبيّا ثم قائمقامًا في جبل الدّروز (كما كان يُدعى آنذاك) في بلدة عاهرة (عريقة اليوم) بين عامي 1907و 1909وفي سنة 1910 نُقِل قائمّقامًا إلى المِسِمْيَة (في اللّجاة) ومن ثم مُتصرّفاً في لواء حوران(درعا) عام 1912 وقد انتخب عضواً في “مجلس المبعوثان” (مجلس النّواب العثماني) عن لواء حوران في العام نفسه ، وفي آب عام 1914عيّن مُتَصَرِّفاً على طرابلس الشام وفي 13 تموز 1915 عُيّن متصرّفاً لِلِواء الإسكندريّة (الإسكندرون ــ أنطاكية) وعندما سقطت الدّولة العثمانيّة عام 1918 آبَ إلى موطنه لبنان (1).
وهو سليل أسرة وجيهة أنجبت رجالاً مُمَيّزين منهم الشّيخ حسن طليع الذي كان شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز بين عامي 1917 وإلى تاريخ وفاته عام 1949.
في أثناء وجوده في الآستانة، وفي فترة عُضْوِيّته في البرلمان العثماني عام 1912، كان لرشيد موقف يُحسب له في باب نقده أخطاء الحكومة العثمانيّة (2). وفي تلك الفترة التقى بالأمير فيصل بن الحسين الذي كان نائباً عن مدينة جدّة (في الحجاز). وفي العام ذاته أُعيد إلى الوظيفة مُتصرّفاً لدرعا بعد حلِّ مجلس المبعوثان.. وفي العام 1913 كان له دور مؤثِّر في انتخاب الأمير شكيب أرسلان نائباً عن لواء حوران في مجلس النوّاب العثماني، وفي عام 1914 جرى تعيينه مُتصرّفاً لطرابلس الشام. وفي العام التالي نقل ليكون متصرّفاً في اللاذقية حتى عام 1918. كانت سرعة التنقلات للولاة سُنَّةٌ عثمانيّة قديمة لمنع استئثار الولاة في ولاياتهم أو تفكيرهم في الانفصال.
وعلى أثر يأس العرب من الإصلاح العثماني، انتسب رشيد إلى “الجمعية العربية الفتاة” عام 1918، وهي جمعيّة عربيّة انتقلت من المطالبة بالحكم اللّامركزي في إطار الامبراطوريّة العثمانيّة إلى الدّعوة للانفصال عن الحكم العثماني. وفي العام نفسه عُيّنَ حاكماً عسكريّاً لحماة.

تعارُف الأزمة بين رجلين كبيرين
المُتَصرِّف رشيد باشا طليع والشّاب سلطان الأطرش
حصل التّعارف بين الرّجلين عَبْر أزمة نزاع على الأرض، فقد كان سلطان الشاب وسائر الدّروز آنذاك في حالة يأس من عدالة الدّولة العثمانيّة التي جرّدت عام 1910حملة انتقاميّة على الجبل بذريعة “حوادث فرديّة (بين الدّروز والحوارنة) كان حلُّها مُمْكِنًا”(3)؛ أسفرت عن إفقار مُتَعمّد و دمار وسلب وقتل في مجتمع جبل الدروز وإعدامات لستّة من زعمائه، بينهم ذوقان الأطرش والد سلطان. ومن التُّهم التي وُجِّهَتْ إليهم تُهْمة الخروج على الخلافة والكفر بالإسلام، وقد تمكن رشيد بحنكته من حل الخلاف بين الدروز والحوارنة وإعادة الأرض المستولى عليها بالتراضي لأهل القريا.

رشيد بك طليع
رشيد بك طليع

اللّجوء إلى جبل الدروز
والإعداد للثَّوْرة السُّوريَّة الكُبرى
لم يكن رشيد طليع لينسى الغاية العربيّة الاستقلاليَّة التي انضمَّ إلى الجمعية العربيَّة الفتاة من أجل تحقيقها، ولم ييأس الرّجل من هدفه ذاك حتى بعد احتلال غورو لدمشق وسقوط الحكومة العربية فيها، وكان بحكم معرفته لمواطن الفعل المؤثِّر في بُنى المجتمع السُّوري يرى في الجبل عامّة، وفي سلطان والفريق الملتفّ حوله منذ أيام الثورة العربيّة على العثمانيين بؤرة وطنيَّة مناسبة لمواصلة النِّضال لبلوغ هدفه الاستقلاليِّ العروبيّ، وعلى هذا فقد تَوَجَّه مُتَخَفِّياً إلى السّويداء بعد فشل ثورات الشّمال السوريّ.
يذكر علي عبيد وهو من العاملين على التَّأسيس للثّورة السُّوريَّة الكبرى إلى جانب سلطان في مذكِّراته أنّ رشيد طليع حضر إلى بيته في السُّويداء في تلك الفترة من عام 1920 وبقي “في بيته مدة تنوف على أربعة أشهر مُسْتَصْحِباً رفيقه (الدّمشقي) الشّهم الهمام نبيه بك العظمة وبدأوا يبثُّون نصائحهم بين الدروز لعدم الانصياع إلى وعود الدّولة الأفرنسيّة”(4).
كان لجوء رشيد طليع إلى الجبل إلى جانب قيادات من الحركة العربيّة عقداً للهيئة على المقاومة، وتطبيقاً لما كان عليه الاتفاق من الإقامة في حوران أو شرق الأردن، وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة (5).
وقد ذكرت الوثائق البريطانيّة أنّ رشيد طليع أرسل منشوراً إلى قرى جبل الدروز يطلب من رجالها الاشتراك في الهجوم الذي سيقوم فيه الأمير عبدالله بن الحسين على الفرنسييِّن و”أنّ الفرنسيين طالبوا بطرده “. كذلك اندفعت “السُّلطات الفرنسيّة إلى إنذار زعماء الدّروز بضرورة طرد رشيد من الجبل فوراً وإلاّ ستدمِّر بلدة السويداء على من فيها إذا بقي رشيد طليع يوزع المناشير الدّاعية لحركة الأمير عبدالله والانتساب إليها”. ذكرت ذلك صحيفة التايمس اللّندنيّة بتاريخ 10 آذار 1920، مشيرة إلى جهود رشيد طليع في تطويع المجاهدين العرب ونقلهم إلى الأردنّ (6)، إذ كان الجبل لم يزل باقياً على عهده إلى جانب الثورة العربيّة التي لم تخمد شعلتها فيه بعد، وكان الفرنسيُّون يَرَوْن فيه “ملجأً للمجرمين من كلِّ المناطق المجاورة (يقصدون بذلك لجوء رجال الحركة العربيّة إلى الجبل بعد ميسلون 1920)، وبحيث أنّ حكم الجبل يبدو أكثر صعوبة عليهم بسبب عدم انضباط زعماء عائلة آل الأطرش وأبرزهم الأمير سلطان”(7). حقًّا كان سلطان باشا وفريقه من زعماء الجبل يقفون في صف فريق رشيد طليع العروبي الاستقلالي، وكان نشاط هؤلاء العروبيين الذين يرفضون معاهدة سايكس بيكو يضع عبدالله بن الحسين حليفهم بادئ الأمر الذي كان يدعو لتحرير سورية من الفرنسييِّن في مو قف حَرِج، فإمّا أنْ يرضى بشروط البريطانييِّن وهم أقوى طرفي سايكس بيكو، وإلاّ فهو سيخسر إمارة الأردن إن استمرَّ في التعاون مع رشيد طليع وفريقه من الاستقلاليين العرب.
شكّل اعتصام رشيد طليع في السويداء عام 1920 إلى جانب عدد من قيادات الاستقلالييّن ومن ثم انتقاله بعدها مُكْرَهاً إلى عمّان على أثر ضغوط الفرنسييِّن بضرورة إخراجه من الجبل فترة تهيئة الأرضيّة بالتّعاون مع سلطان ونخبة من طليعة الرّجال الوطنييِّن في الجبل للإعداد للثورة الاستقلاليّة المقبلة. وظهر دوره الرئيسي جَلِيًّا في حزب الاستقلال في إمارة الشَّرق العربي (كما كانت تدعى الأردنُّ آنذاك)، إذ أصبحت بعد ميسلون موئلًا للسياسييِّن العروبييِّن في تلك الأيّام العصيبة، إذ حَلَّ بها سياسيُّو الحكومة العربيّة التي أطاح بهم الاحتلال الفرنسيّ لدمشق، ورجالات سوريّة، أي ” عصبة الاستقلالييِّن” التي اضطُرَّت إلى التشتّت إثر انهيار الحكم العربيّ. وفي محاولة منهم للتجمّع استقرّوا في عمّان وأبرز رجالاتهم الذين كانوا يجتمعون معاً: رشيد طليع وأحمد مريود والأمير عادل أرسلان ونبيه العظمة وسامي السرَّاج وعادل العظمة وخير الدين الزِّركلي وفؤاد سْليم، وأحمد حلمي عبد الباقي وعثمان قاسم وآخرون، وقد شكلت عصبة الاستقلالييِّن هذه لجنة مركزية لحزب الاستقلال تتولَّى قيادة النّضال ضد الانتداب الفرنسيّ (في سورية) مؤلّفة من زعماء الحزب: أحمد مريود ورشيد طليع وعادل العظمة وعادل أرسلان وغيرهم.. وكان رشيد طليع المرشّح الأول باسم الحزب لرئاسة أوَّل حكومة عربيّة في شرق الأردن وقد مثّلت اللَّجنة المركزيّة تلك وجود الرّجال الاستقلالييِّن (دعاة استقلال سورية كاملة بحدودها الطِّبيعيّة) من نواحٍ عربية مختلفة على امتداد سورية والعراق وفلسطين ولبنان، وقد اتَّخذوا من عمّان مقرًّا ومُنْطَلقاً.
لقد كان رشيد طليع أمينًا لمُنْطَلق الثّورة العربيّة على العثمانيين عام 1916 وفي السَّعي للتّحرُّر من أيّة سيطرة أجنبيّة، ومن هنا كان تقبّله لدعوة عبدالله بن الحسين التي أطلقها “للجهاد والتّحرير”، لتحرير سورية من الاحتلال الفرنسي. إذ وفد إلى عمّان على رأس “جمع كبير من فرسان الجبل في 27 آذار 1921، هم الذين كانوا يأخذون دعوة الأمير عبدالله لتحرير سورية على أنها أمر محتوم، وفيما بعد فإنّ رشيداً وسائر رفاقه الاستقلالييِّن اضطروا لمواكبته على مضض بعد رضوخه لمطالب بريطانيا إثر اجتماعه بـ ونستون تشرشل (وزير المستعمرات حينها) في بيت المقدس في 29 آذار 1921، لكنهم ظلّوا يعملون في الباطن على هدفهم العروبيّ.

رشيد طليع وفريقه في امتحان الخيار الصَّعب
لم يكن أمام أولئك الاستقلالييِّن العروبييِّن من خيار آخر، فَهُم “قَدِموا إلى الأردن، وأكثرهم لا يملك مكان الخطوة التالية (ملجأ) إذا انسحب من عمّان وغدا في مركز حَرِج، وبخاصّة أنّ هؤلاء الإخوان مبعدون من الدِّيار أو محكومون بالإعدام من السّلطة الفرنسيّة، أو هم غير مرغوب بإقامتهم في المناطق الخاضعة للنفوذ الإنكليزي”(8).
لقد كانت العلاقة بين الأمير عبدالله والاستقلالييِّن علاقة بين مضعوفين كلٌّ بحاجة للآخر، كما أنّ بريطانيا كانت ترى أنّهم “يَحْظَوْن باحترام أهالي البلاد ويتمتّعون بِصِلات ممتازة مع زعمائها ووجهائها، وكانت لهم في الغالب كلمة مسموعة ومقدرة بالغة التّأثير في الحياة العامّة إضافة لذلك فهم يملكون خبرة طويلة في العمل السياسيّ وتنظيمًا سياسيًّا اجتمع فيه وحوله العديد من السياسييِّن المتمرِّسين والإدارييِّن والعسكرييِّن المُحترفين”(9). لكنّ الافتراق قارب أن يقع أخيرًا بين الأمير والاستقلالييِّن.

رشيد طليع على رأس الحكومة الأردنيَّة
كان الاستقلاليّون قد طلبوا من الأمير عبدالله أن “يستدعي رشيد طليع بصفته رئيس حزب الاستقلال”، وبصفته أوسع رجل عربي في الأهليَّة والكفاية ليؤلِّف الحكومة” (10).
وكان رشيد طليع حينها يرأس حزب الاستقلال العربيّ ، ولهذا فقد أقنع رفاقه الاستقلالييِّن أن يقبلوا بتأليف حكومة عاديّة في الظاهر ثوريّة في الباطن مستندة إلى تأييد الأهلين والعشائر، وذلك من أجل تحقيق هدف حزب الاستقلال في “سوريّة دولة مُوَحَّدة مستقلّة”.
وفي شمال الأردن، كان اللّواء علي خلقي الشرايري رئيس حكومة إربد (المحلّيّة) لا يثق بعلاقات عبدالله ببريطانيا، وهو من جماعة حزب الاستقلال وعنده ريب من بريطانيا ومن عبدالله، ولكنّ رشيدًا (بِحِسّه العمليّ) أقنعه بدخول الوزارة إذ كان يرى أنَّها فرصة يواظب عبرها الاستقلاليُّون على تأكيد وجودهم وتحقيق هدفهم الوطنيّ.
كان عبدالله قد طلب من رشيد أن يقوم بتأسيس حكومة في المنطقة بينما يتقدمون إلى سورية (لتحريرها من الفرنسييِّن وكان هذا هدف الاستقلالييِّن أصلاً) فوافق (رشيد) على طلبه واشترط (على عبدالله) شرطين: الأوَّل أن تكون الحكومة دستوريَّة ذات مجلس نيابيّ، والثاني أن يبقى حُرًّا بالعمل في جبل حوران محافظةً منه على الحالة الولائيَّة التي كان قابضًا على ناصيتها (منذ أيام لجوئه إلى الجبل عام 1920) فوافق الأمير” (11).
كانت فرنسا تعلم نوايا حكومة رشيد طليع ضدّها فشّجعت تمرّد منطقة الكورة (في شمال الأردن الذي كان أساسه التّمنُّع عن دفع ضرائب متوجِّبة) وهو التمرّد الذي تزعّمه الشيخ كليب الشَّريدي ضدّ الحكومة ووقف الأمير عبدالله والبريطانيون موقف الفرجة (المتفرّج!) أثناء تحضير المسير بالحملة لتأديب الكورة وعدم مدّها بالسلاح والعتاد (12).

حاكماً عسكرياً في حماه
حاكماً عسكرياً في حماه

سَعْيُ رشيد طليع للاستغناء
عن المساعدة البريطانيّة وإقالته!
يقول خير الدين الزّركلي: “إنّ رشيد طليع شَمَّر عن ساعد الجدِّ ونظّم الحكومة في شرق الأردن على أساس الاقتصاد في النّفقات بحيث لم يَزِد أعلى مُرتّب (أي راتبه الشَّخصي) على أربعين جنيهًا في الشّهر (كان هذا يعادل 4 مرات مرتَّب المعلّم الأول يومها في مدارس عمّان الابتدائيّة)، مُراعيًا في ذلك قلّة موارد البلاد، وعدم إرهاق الأهالي بالضّرائب، والاستغناء عن طلب المساعدة الماليَّة من الحكومة البريطانيّة” (13).
من جانب آخر كان إنفاق الأمير عبدالله (شهريًّا) في حدود عشرة آلاف جنيه استرليني تقريبًا في حين أنّ المساعدة الشهريّة البريطانيّة له 5000 جنيه، وكان الأمير يُنفق بكرم على أتباعه وزوّاره وهذا الوضع كان يرهق حكومة رشيد طليع (بينما الأمير يضنُّ على الحكومة بقليل من المال تسدُّ فيه أرماق الجنود)، فتراكمت عليه الدّيون وكان البريطانيُّون يلوّحون بين حين وآخر لوقف مساعداتهم أو أن ينسجمَ الأمير مع شروطهم ليبقى أميرًا ضمن خطط سياستهم التي تقضي في بعض توجُّهاتها أن تكون للأمير عبدالله القدرة على التخلُّص من السورييِّن (وهم رجال الثورة العربيّة الذين خرجوا من دمشق بعد الاحتلال الفرنسيّ لسورية، والذين ناصروا الشّريف حسين في ثورته عام 1916على العثمانييِّن وكانت بريطانيا تسعى للتخلّص منهم ومن تأثيرهم في إمارة عبدالله الذي وجد نفسه في موقع القبول الاضطراريِّ بالشّروط البريطانيّة) وهذا ما جعله (أي عبدالله) يتحرَّك بالسُّرعة اللّازمة للافتراق عن رشيد طليع وإقالته (14). أضف إلى ذلك الشُّبهة اللّاحقة برشيد طليع وجماعته من الاستقلاليييِّن بأنَّهم من اتّخذ القرار بتنفيذ عمليَّة محاولة اغتيال غورو الذي “اتُّخِذَ في مجلس الوزراء” وأنّه بعد مناقشات طويلة ومطوّلة تحَمّل أحمد مريود مَسْؤوليَّة التَّخطيط والتَّنفيذ، وهناك من ينقل أنّ فكرة اغتيال غورو كانت سِرِّيَّة بين رشيد طليع رئيس الوزراء وأحمد مريود وزير العشائر (في إمارة الأردن)…
ولمّا لم تنجح المطالبات الفرنسيَّة والبريطانيَّة في تسلُّم المطلوبين من حكومة الأردن التي يرأسها رشيد طليع طلب هربرت صموئيل المندوب السامي (الصهيوني) البريطاني في فلسطين من (أبرامسون) المعتمد البريطاني في الأردن في 2 آب 1921، أن يُبلغ الأمير عبد الله “أنّ المستر تشرشل (وزير المستعمرات) أُحيط عِلمًا بأنّ الحكومة الأردنيّة أخفقت في اعتقال أيِّ شخص من المطلوبين، وأنّه يُصِرّ على استقالة رشيد طليع رئيس المشاورين (أي: الوزراء) وأنّ هناك بيّنات قويّة تدلّ على أنّ رشيد طليع يحوك المؤامرات مع الدُّروز ضدّ الفرنسييِّن” (15). كان البريطانيّون قلقين من طموحات رشيد طليع كونه “قادراً جداً وطموحاً جداً” (16).
وفي جوهر الأمر فإنّ رشيد طليع رئيس لجماعة حزب الاستقلال، وهؤلاء هم العروبيون الذين ثاروا على الدّولة العثمانيّة من أجل دولة عربيّة وهو كرئيس وزراء لحكومة عربيَّة في الأردن تتاخم فلسطين من الشّرق وسورية من الجنوب؛ لم يكن شخصًا مُريحاً للبريطانييِّن الذين يهيِّئون لتسليم فلسطين للصَّهاينة، ولم يكن مُريحاً للفرنسييِّن الذين احتلّوا سورية وأسقطوا الحكم العربي فيها. وفوق هذا فإنَّ لِرَشيد طليع صلات وطيدة بسلطان باشا الأطرش وفريقه من العروبييِّن في جبل الدّروز أولئك الذين لم يكن خافيًا أنّهم يحضّرون للثّورة على الفرنسييِّن.

لقاء بين رشيد طليع
وسلطان باشا في الأردن
لجأ سلطان باشا الأطرش إلى الأردن على أثر ثورته الأولى على الفرنسييِّن مع عدد محدود من رفاقه في 23 تموز عام 1922 لإعدامهم ضيفه “أدهم خنجر”، ولقتله الضابط الفرنسي “بوكسان” وثلاثة من مرافقيه، وهناك رصد الفرنسيُّون اجتماعًا له برشيد طليع والأمير عادل أرسلان. لكنّ سياسة الأردنّ كانت تسير على غير ما يهوى الاستقلاليّون الذين لم يزالوا على خُطى الثّورة الاستقلاليّة العربيّة، إذ كانت فرنسا وبريطانيا تُثَبِّتان حضورهما في المشرق العربيّ، ولمّا اضطُرَّ الأمير عبدالله (بناء على لوم من بريطانيا له بسبب وجود سلطان في الأردن) أن يطلب من فريدريك بيك قائد القوة البريطانيّة المرابطة في عمَّان (الموجودة بدعوى حماية الأمير) إخراج سلطان من الأردنّ بالقوّة؛ فإنّ طلبه ذاك أحبطه كلٌّ من رشيد طليع والأمير عادل أرسلان وأحمد مريود، وحديثة الخريشة ومثقال الفايز وطراد بن زبن (والثلاثة الأخيرون هم من شيوخ قبيلة بني صخر الوازنة في الأردنّ) وصبحي العمري وصبحي الخضرا وحسيب ذبيان وسعيد عمّون (17). يقول سلطان: “وصلنا إلى ديار بني حسن وخيّمنا في خربة “رِحاب” حيث مكثنا عَشَرةَ أشهرٍ كنّا خلالها موضع احترام العشائر المجاورة وحفاوتهم.. ولم يَفُتْنا أنْ نُعلِم الحكومة الأردنيّة بنزولنا في أرضها وقد كتبنا لها رسالة بهذا الخصوص ونقلها أخي علي إلى عمّان وعاد يحمل إلينا جواباً يتضمّن الموافقة والتَّرحيب غير أنّ السّلطة الإنكليزيّة لم تكن راضية عن ذلك، فحاولت إخراجنا وتسليمنا إلى الفرنسييِّن لو لم يعمل الأمير عادل أرسلان على إحباط مساعيها بالتَّعاون مع رشيد طليع وحديثة الخريشا ومثقال الفايز وطراد بن زبن وغيرهم من رؤساء العشائر العربيَّة في الأردن والتي كانت تربطنا بهم الصداقة منذ أيام الثورة العربيّة الكُبرى وفي تلك الأثناء ازدادت أواصر الصّداقة بيني وبين الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع فكنت أجد فيهما كلّ مزايا الصِّدق في القول والإخلاص في العمل والاندفاع في خدمة القضايا العربيَّة (18)، وشهادة سلطان هذه تؤكِّد أنَّ التَّنسيق بين رشيد وسلطان قائم على الهدف الاستقلاليّ العروبي”.

التَّضييق البَريطانيّ على رشيد طليع
بعد استقالته من رئاسة حكومة الإمارة، كانت إقامة رشيد طليع تترجّح بين عمان ومُدن فلسطين، ولم يتلقّ عرضاً لعمل ما، نتيجة حظر شامل فرضه البريطانيُّون على وجوده في الحكم (19)، بل كان حاكم القدس (البريطاني) يعيّن له المكان الذي يسمح له الإقامة صيفًا فيه (20)، بحيث كان تحديد المكان يبدو إبعاداً وَنفيًا إلى أماكن كانت تضايق رشيد طليع ولا تتَّسع له في خُلُق أو صِحّة أو سياسة.
هكذا كان رشيد طليع بشخصيّته الوطنيّة العروبّية يثير رَيْبَ الإنكليز والفرنسيين معًا، وعلى هذا فَهُم قد حَمّلوه تَبِعَة أحداث وقلاقل جَرَت في الشّوف عام 1921 (21).

البَريطانيّون يطلبون مغادرته فلسطين
لم تطُلْ إقامة رشيد في فلسطين، إذ أوردت صحيفة المُقَطّم “أنّ حكومة فلسطين أنذرته بمغادرة البلاد والسفر خلال أسبوع إلى مصر .. والسَّبب؛ رغبة الحكومة الفلسطينيَّة المُسَيَّرة بالسياسة البريطانيّة في استرضاء السّلطة الفرنسيَّة التي لا تنظر بارتياح إلى إقامة السورييِّن في فلسطين” (22).
لكنّ رشيدًا بقي في فلسطين بعد أن رفع “على الحكومة قضيّة أمام محكمة العدل العليا لمخالفتها في أمر إبعاده مبادئ الحقوق الأوّليَّة، “فاتفقت معه على أن يقطن غزَّةَ حيث احتفى الغزيّون بعطوفته مُرَحِّبين بالسياسيّ العربيّ النَّابغة” (23). خلال تلك الفترة لم يكن رشيد منقطعًا عمَّا يدور في سورية وهو المحكوم بالإعدام من قبل الفرنسييِّن بدعوى التَّفاهم مع العدو الذي يقصدون به (الملك فيصل والحكومة العربيّة في سورية قبل احتلال غورو دمشق!).

الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.
الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.

رشيد طليع: مُساهم ومُؤَسِّس
في التَّحضير للثّورة السّوريّة الكُبرى
مرَّ معنا أنّ رشيد طليع أقام شهورًا في الجبل في بيت المجاهد علي عبيد في السويداء على أثر احتلال الفرنسيين دمشق بهدف التّأسيس مع قادة الرأي الحرّ فيه للتحضير المستقبلي لمقاومة الفرنسيين وبقي مدة أربعة أشهر يتنقَّل من قرية إلى أخرى ويجتمع بالناس وينشر أفكاره الوطنيّة .. ويدعوهم إلى عدم تصديق الفرنسيين ووعودهم ويحضهم على الإعداد وعلى التمهيد للقيام بالثّورة وطرد المستعمر وتحرير البلاد فوافقه كثير من الوطنيين، وأقسموا على يده يمين الإخلاص للوطن ومنهم سلطان الأطرش.. (24). ولكنّه بسبب نشاطه هذا الذي ضاق الفرنسيون به اضطُرَّ للّجوء إلى شرق الأردن والتَّعاون مع عبدالله على أساس دعوته لتحرير سورية تاركًا خميرة تنضج مع تطور الأحداث وتؤسِّس للثّورة السوريّة الكبرى التي بادر فيها مجتمع جبل الدروز.
وفيما بعد جاءت مظالم كاربييه لتحلّ على مجتمع الجبل الذي كانت كبرياؤه حينها لم تتعوّد الانحناء أمام إدارة الدّولة الأمنية القمعيّة التي أدارها بشكل فظ، إذ إنَّ العشرين شهراً من حكمه التَّعسّفي “عرفت فرض العمل القسريّ على نطاق لم يُعرَف من قبل، وباتت الضّرائب وللمرة الأولى في تاريخ الجبل تُجبى بكاملها، كذلك فُرِضت رقابة صارمة على تنقّلات الأفراد بين القرى وشاع استخدام معلّمي المدارس كمُخبرين، وكانت العقوبات حتى بالنّسبة للإساءات التافهة تعسّفية وخاضعة للنّزوات. وقد تعرّضت الكبرياء الدرزيّة الحسَّاسة للإهانات مراراً (25).
في تلك الفترة ظلَّ الجناح المعارض لفرنسا بقيادة سلطان في الجبل مخلصًا للقضيّة العربيّة وعلى مواقفه السابقة منها، وقد استمرَّ على علاقته بالوطنييِّن السورييِّن في دمشق وحلب وعمّان (26)، ولم يكن رشيد بحسب موقعه الوطني بصفته رجلًا من رجال حزب الاستقلال الذي كان في صُلب المواجهة مع الفرنسييِّن بعيدًا عن تلك الأجواء حتى وهو في القاهرة التي كانت حينها “مدير دفّة الحركات الوطنيَّة منذ ما قبل الحرب العالميَّة الأولى” (27).
كان رشيد طليع (واستنادًا لنشاطه السابق وتَتَبُّعُه لمسار تطوّر الأحداث) يتوقّع الثَّورة في الجبل، ويتخوّف من نشوبها قبل أوانها؛ إذ ينقل أسعد داغر عن موقفه من أجواء الجبل في العشيّة البعيدة للثَّورة السوريّة الكبرى (أي في أواخر عام 1924)، قوله: “وعلى كلّ حال لا أعتقد أنّ الثورات تكون دائمًا نتيجة استعداد وتنظيم، بل هي على الأكثر انفجارات تنشأ عن شدّة الضَّغط وأنا أخشى أن يقع هذا الانفجار قبل الأوان” (28).
وبالعودة إلى دور رشيد طليع في الإعداد للثّورة السوريّة الكبرى، فإنَّ الموقف الأكثر وضوحاً يأتي كذلك من مرويّات أسعد داغر إذ يكتب مُتَذكّرًا بعد سماعه عن تفجّر الثّورة في جبل العرب:
“وقد خُيِّل إليَّ لأوّل وهلة أنّي فوجئت بإعلان هذه الثَّورة مفاجأة ولكني لما راجعت ذاكرتي أدركت حقائق كثيرة شهدتها ولم أفطن لها حال وقوعها وفي مُقدَّمة هذه الحوادث أنِّي ذهبت مرّةً إلى الإسكندريّة لمقابلة رشيد طليع في موضوع خاص وذلك قبل نشوب الثَّورة السوريّة في جبل الدّروز بستّة أشهر أو أكثر، فرأيته شديد الانهماك برسائل تلقَّاها من الجبل ولمّا سألته عن السبب قال لي إنَّ الحالة أصبحت لا تُطاق في سورية وإنَّ بعض زعماء الدّروز عازمون على القيام بوجه السُّلطة وأنّهم يسألونه رأيه في الموضوع فقلت: وما هو رأيكم في ذلك؟”.
قال: “إنّ البلاد على استعداد الآن للقيام بعمل واسع النّطاق وإنّه يسعى لتنظيم هذا العمل من مدّة ولكن مساعيه لم تُكلَّل بالنَّجاح المطلوب حتّى الآن..” (29).
عند نشوب الثّورة في تموز 1925 انتقل رشيد إلى القدس، إذ كان على اتصال وثيق ببعض زعماء الجبل فالمكاتبات “بين طليع وسلطان كانت مُطَّردة لا تنقطع وهي جدّ خاصة مكتومة لا يطّلع عليها أحد وكلّ موضوعاتها تتعلّق باستيقاد نار الثّورة عندما تسنح الفرصة لها” (30).

رشيد طليع وإسناد الثورة عبر فلسطين
لم يكن رشيد ببعيد عن تطوّرات الثّورة السوريّة منذ أيام التأسيس عام 1920 إذ إن اعتصامه في الجبل إلى جانب قيادات الحركة العربيّة كان إصرارًا للهيئة (أي: حزب الاستقلال العربي)على مقاومة الاحتلال وتطبيقًا لما كان عليه الاتّفاق من “الإقامة في حوران أو شرق الأردنّ وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة” (31). ومن هنا فقد شكّلت إقامة رشيد طليع في القدس عند إعلان الثّورة السوريّة ذراعًا داعمًا لتلك الثّورة، وإسنادًا لها من خارج الجبل من نواح ماليّة وسياسيّة وعسكريّة؛ لكون الرّجل يمتلك علاقات سياسيّة وشخصيّة واسعة ندر أن امتلكها غيره تعود لسعة أفقه الشّخصيّ وأصالته العروبيّة وانتمائه إلى “العربيّة الفتاة” عشيّة العهد العثمانيّ، وإلى “حزب الاستقلال العربيّ” أيّام الحكومة العربيّة في دمشق ولاحقًا بعدها، وموقعه في طليعة القيادة منها، وكذلك من تَبَوُّئِه مواقع إداريّة مُتصرّفًا ووالياً في مناطق واسعة من سورية أيام العثمانييِّن، ومن تسلُّمه وزارة الداخليّة في حكومة دمشق العربيّة، وفيما بعد من فترة تولّيه رئاسة الوزارة الأردنيّة الأولى في تاريخ شرق الأردن، واغتنت من تنقُّله بعد استقالته من رئاسة الحكومة الأردنيّة في مدن فلسطين، وقد وصلت تلك العلاقات إلى المدى العربيّ الأوسع في إقامته الطّويلة نسبيًّا في مصر حتى عشيّة انطلاقة الثّورة السوريّة (32).
وعن دور رشيد طليع المؤسِّس في الثّورة السّوريّة الكبرى يقول حسن أمين البعيني: “إنّ اتّصالات سلطان مع خارج الجبل انحصرت برشيد طليع رئيس وزراء الأردن سابقاً وكان يطّلع أيضاً على المحادثات السِّرِّيّة التي تدور حول الأوضاع في سورية، وضرورة إشعال نار الثورة بين زعماء دمشقيين وزعماء من الجبل يقيمون في دمشق أو يؤمُّونها هم حمد ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش ويوسف العَيْسمي، إلاّ أنّ قرار الثّورة وتاريخ البدء بها لم يكونا مجال بحث بين سلطان وبين أحد بل كانا رهن تطوّر الأوضاع ورهن إرادته وحده” (33).
يقول أسعد داغر “إنّ رشيد طليع قام في القدس بأعمال جبابرة فإليه يرجع الفضل الأوّل في تأليف لجنة الإعانة التي استطاعت أن تكفل لجرحى الثوّار ونسائهم الأغذية والملابس والعقاقير، وفي تنظيم الثورة بواسطة الضبّاط الذين ساعدهم على الالتحاق بها كالمرحوم فؤاد سليم وغيره، وفي إرشاد زعمائها إلى خير الخطط التي يجب أن يسلكوها، والتوفيق بينهم وبين جيرانهم (يقصد الدّماشقة والحوارنة والبدو) الذين كانوا خصومًا لهم (نتيجة الدَّسِّ العثمانيّ القديم بين فئات المجتمع في بلاد الشام)، وتوسيع نطاق الحركات الثوريَّة شمالًا وغربًا حتى سيطر الثوّار على أكثر من نصف البلاد السوريّة (34).
وكلّ هذا دفع بالجنرال أندريا إلى أن يشير إلى خطورة قيادة الفريق المثلّث الرّؤوس: “الشهبندر والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع” وكان هؤلاء يجتمعون يوميًّا ولم تكن ثورة الجبل إلاّ جزءًا من مخطّطهم، وكانوا يطمحون لإشعال الثورة لتشمل كلّ سورية. ويشير عجاج نويهض إلى العلاقة الوُثقى بين رشيد طليع والحاج أمين الحسيني مُفتي فلسطين وقد استثمرها رشيد في دعم الثّورة الماليّ والعسكريّ. ففي الجانب العسكريّ كان مقرّ رشيد في القدس مركز إسناد للثّورة وامداد بالأسلحة والخرطوش الملائم للبنادق من صنع ألماني التي كانت بأيدي الثّوار (كان الثوّار بحكم خبرتهم الميدانيّة يفضّلون البندقيّة الألمانيّة الصُّنع) بالتّنسيق مع الأمير شكيب أرسلان ومركز إعلام ومعلومات عن الثّورة ومعاركها وامتداداتها، ومركز تجميع ومعسكر انطلاق للمقاتلين الملتحقين بالثّورة من خارج سورية، والمثال الأبرز في ذلك يأتينا من كتابة رشيد طليع للقائد المقاتل أحمد مريود الموجود في العراق “لينتقل إلى جبل العرب”(35).
وعلى هذا كان الفرنسيّون دائمي التّشكّي من أنّ المواصلات بين مصر وجبل الدّروز مستمرّة عن طريق فلسطين وشرق الأردن وأنّ الذخائر تهرّب إلى الجبل عن الطّريق نفسها ولم تتوقّف إمدادات الأسلحة تلك إلّا بعد اتفاق فرنسي بريطاني جاء فيه: “.. ونعتقد أنَّ الأراضي الأردنيّة لن تكون بعد اليوم طريقًا للأسلحة والذّخيرة التي يشتريها الدّروز على حسابهم” (36).
أمّا من حيث الدّعم الماليّ وبالإضافة إلى ما كان يأتي من بلاد العرب والعالم الإسلاميّ، فقد كان رشيد طليع مُحَرِّك حركة الجباية في المهاجر الأميركيّة (37). وإلى أهمِّيَّة الدّعم المالي للثّورة يشير سلامة عبيد إلى أنَّ المقاومة المسلّحة ظلّت مستمرّة تغذِّيها أموال الإعانات التي كانت تصل بواسطة رشيد طليع من المهاجر “كان دور الدّعم الماليّ للثَّورة الذي يشكّل رشيد طليع مُنَظّمَه ومحرِّكه الرَّئيس يمنحه هيبة يغار منها الجنرال أندريا قائد الحملة الفرنسيّة ضدّ الجبل (الذي كان رأس حربة الثّورة السورية الكبرى). يقول أندريا: “كانت المنطقة تستقبل سلطان الأطرش أحسن استقبال لاسيَّما بعد أن جعل لكلِّ رجل ينضمّ إلى الثَّورة معاشاً شهريًّا يعادل المعاش الذي نُعطيه لجنودنا .. تلك دعاية ماهرة اختبأت خلفها شخصية رشيد طليع ..الذي حمل إلى الجبل مبالغ ضخمة من المال مجموعة من اللِّجان الإسلاميّة ( يقصد لجان دعم الثورة السوريّة) في القاهرة والهند وأميركا تساوي خمسين ألف ليرة ذهباً وُزِّعَت على الجبل منذ عودتنا إليه (آذار 1926)” (38). وبناء على ما سلف يستنتج منذر “وإذا ما تجاوزنا قضايا القيادة والتَّجنيد التي كانت من مهمّات القيادات في الدّاخل فإنّ اليد الطّولى في قضايا التّسليح وتأمين الذّخيرة كانت لرشيد طليع أثناء وجوده في فلسطين والقدس وكذلك كان دوره في توزيع المؤن والرَّواتب للمقاتلين بعد التحاقه بالدّاخل السوري” (39).
كان رشيد يبحث عن أيِّ إسناد للثّورة حتى إنَّه تفاوض مع مُفَوّض شيوعيّ مُكَلّف من قبل السّوفييت في القدس، وكان الاتفاق قد تمّ بين الاثنين على المساعدة بتقديم السّلاح على الطّريقة التي عاملوا بها مصطفى كمال في حرب الأناضول (كان الشيوعيون قد دعموا أتاتورك في حربه التي شنَّها ضدّ مشروع الغرب لتقسيم تركيّا على أثر الحرب العامّة الأولى وهذا ساعد في الحفاظ على كيان تركيا الحاليّ)، لكنَّ المفوَّض الشّيوعي وضع شرطًا ينصُّ على تطبيق مبادئ الشّيوعية في الثَّورة، فقال له رشيد: “ولكنَّكم لم تشترطوا هذا الشرط على مصطفى كمال، ونحن ليس في مصلحتنا تطبيق هذا الشرط في جبل العرب أو في أي مكان من سورية، ووقف الاتّفاق بين رشيد طليع والبلاشفة عند هذا الحدّ رغم محاولات لاحقة بلا جدوى” (40).
وفي معرض الخلافات التي كانت تجري بين قادة حزب الشَّعب والاستقلال العربي حول:
1ــ الثّبات في ميادين القتال:2ــ الذَّمِّة الماليّة 3ــ الارتباط المشبوه أمام قوى الخارج؛ فإن رشيد طليع كان يوم تأزُّم الثّورة يقف في صفوف الصِّدام والمواجهة على الرّغم من انحراف صِحَّتِه واعتلال جسمِه وهو خارج الاتّهام بأيِّ واحدة من تلك الكبائر الثّلاث. (41).

رشيد طليع في معمعان القتال
ومع وصول رشيد إلى الجبل اتّخذ لنفسه اسمًا حركيًّا (المقداد) وهو أحد صحابة النبيّ الأشداء و”عاون سلطان ووقف إلى جانبه واصطلحت الأمور بين سلطان والأمير عادل، وكان رَأْبَ الصّدعِ بينهما من هموم رشيد طليع، وحتى قبل وصوله إلى الجبل كان رشيد يُبَرِّد علاقات الطّرفين، وكذلك كان الرَّجل نقطة توازن بين قيادات الثَّورة المُتَنازِعِيْنَ في الغوطة، (ومنهم) محمد سعيد العاص وفوزي القاوقجي ونسيب البكري ومصطفي وصفي السمان وكان الخلاف (يدور بينهم) على الزّعامة والمناصب وكلٌّ منهم يتصلّب برأيه” (42).
ولم يكن النّجاح في الوصول إلى “الاتّفاق التّام” لدى قيادات الغوطة بعد إدارة شؤون المخابرات (الاتّصالات لتضييق الخلاف) فيما بينهم شأنه في ذلك شأن إدارته التّعارضات في الجبل والنّجاح في موازنتها وضبطها ولم يكن بعيدًا البتَّةَ عن صفاء مواقف رشيد طليع كمدخل أوّل، وعن قدرته في اكتساب احترام الآخرين فيصبح جلاء مواقفه في نظر المُتعارضين معه وسيلة إلى لقاء أكبر والتقاءات دائمة (43).
وأمّا عند وصوله إلى الجبل فقد أخذ رشيد موقعه القياديّ والقتاليّ في صفوف المواجهة ضد قوّات الفرنسييِّن داخل الجبل الدُّرزيّ وخارجه “إلى غوطة دمشق وعلى امتداد المواجهة ما بين الجبلين الدرزييّن في سورية ولبنان(44) إذ تردّد أنَّه وصل إلى منطقة الشُّوف في جبل لبنان .

قائد ميداني في صفوف الثوّار
التحق رشيد بالثورة قائداً ميدانيًّا بعد احتلال الفرنسييِّن للسويداء في أواخر نيسان عام 1926، أي في المرحلة الأكثر إحراجاً لمجاهدي الجبل. فبالرغم من سوء حالته الصحيّة، ذهب إلى الجبل وعمل على تنظيم الثّورة “تنظيماً عسكريّأً مُحْكَماً وجعل للجنود مرتبات يتقاضَوْنَها وحاول أن يكسب للثّورة صفة دوليّة” (45).
ولم يقتصرنشاطه المَيْدانيّ “داخل الجبل الدّرزي وحسب، وإنَّما كان موقعه في الصفوف الأولى على امتداد المواجهة ما بين الجبل وغوطة دمشق… والجبلين الدّرزيين في سورية ولبنان”. فقد روت أنباء دمشق وغوطتها “أنّ عطوفة رشيد بك طليع قد زار ميدان الغوطة وتفقد معسكرات الثّوار فاحتفلوا به أشدّ حفاوة وقد عاد عطوفته إلى جبل الدُّروز”. كذلك روت أخبار الثورة أنّ “عطوفة رشيد بك طليع … قد وصل إلى منطقة الشوف في لبنان لتقوية معنويات الثوار في تلك النواحي ثم عاد بسلامة الله إلى مقرّه في جبل الدروز”، كذلك “أشاعوا أنَّ رشيد بك وشكيب وهاب قد وصلا إلى الشُّوف، أمّا الأول فترجّح عدم قدومه لأنّه موجود في جبل الدّروز” (46).

رشيد طليع محور أساسيّ
في المداولات مع دي جوفنيل
في عام 1926 وفي الوقت الذي كان فيه رشيد طليع قائداً ميدانيَّاً في معارك الجبل، وفي مرحلة حرجة من المعارك بعد سقوط صلخد بيد الفرنسييِّن، تعذّر عليه وعلى سلطان باشا المجيء إلى الأزرق لمقابلة الملك فيصل الذَّاهب إلى أوروبا لتحميله المطالب السُّوريَّة إلى عصبة الأمم استنادًا لميثاق وطني وضعه عدد من القادة السورييِّن، ولكنَّ كلّ ذلك لم يمنعه مداولة الأمر مع الأمير شكيب أرسلان بضرورة السعي لتحسين شروط المفاوضات مع فرنسا وعدم القبول معها بمعاهدة بمستوى المعاهدة البريطانية العراقية لعام 1922 تلك التي “لا تمنح العراق استقلالًا ولا شبه استقلال..”. وهذا يدلُّنا على حصافة الرَّجل الذي يجمع بين أصالة الرَّأي وشجاعة القائد المَيْدانيّ في ساح القتال. وهكذا كان رشيد طليع مع عادل أرسلان في الجبل محوراً أساسيّاً في المداولات مع المندوب السامي دي جوفنيل ومع القادة الوطنيين في اللَّجنة الوطنية للمؤتمر السوري الفلسطيني أوعبر غيرهم من القادة الوطنيين الموجودين في دمشق (47).
ويبدو أنَّ سلطان الذي كان يَمْحَضُ رشيد طليع ثقته “إذ كانت له الكلمة المسموعة في جبل الدّروز خصوصًا عند سلطان باشا الأطرش الذي كان قد أوكل إليه أمر المفاوضات بالإضافة إلى الأمير عادل أرسلان ومن يليهم من الزُّعماء السورييِّن الآخرين. كان رشيد يحمل وثائق تخوِّله عقد الاتفاق النِّهائي بخصوص الثَّورة التي كانت قائمة ” كما يلاحظ نجيب الأرمنازي مندوب المؤتمر السوري ــ الفلسطيني لمباحثة الثّورة السوريّة في مهمة المفوّض السامي الفرنسي” (48).

رشيد طليع قائد مقاتل على نهج الثّورة العربيّة
هذا الثائر المتحدِّر من صفوف الثوّار الاستقلالييِّن العرب في الثّورة العربيّة، وهو الذي قد خَيَّبَت مؤمرات الإنكليز والفرنسييِّن آماله في تحقّق حلم الدّولة العربيّة؛ وجد في النَّصر الذي حقَّقه ثوّار الجبل بارقة أمل لاستعادة الحلم المفقود، حلم الاستقلالِ العربيّ، فبعد إقامته التَّحضيريّة في فلسطين لإمداد الثوّار بالمال والسِّلاح، وبالتّعاون مع الحاج أمين الحسينيّ رئيس اللجنة المركزيّة لإعانة منكوبيّ سورية (من مؤسسيّ تلك اللّجنة الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وشكري القوَّتْلي ونبيه العظمة وآخرون) انتقل مسرعاً من القدس عبر الأردنّ، فقد أثارت حَمِيّته هزيمة الفرنسييِّن في الجبل بعد نصر الثوَّار المؤزّر في معركتي الكفر والمزرعة؛ فحضر إلى السّويداء. كانت النفوس منتعشة حينها، و “زاد في انتعاشها قدوم رشيد طليع ببعض الإعانات التي بدأت تَرِدُ من المهجر بطريق فلسطين (49).
التحق رشيد بالثّورة جناحًا ميدانيًا عسكريًّا بعد سقوط السويداء بيد الفرنسييِّن في 25 نيسان 1926، وبعد أن كان الفرنسيّون في حالة انحسار قبلها في سائر جنوب البلاد السوريّة، ، كانت معركة السويداء من أكبر المعارك التي عرفها الجبل إنْ من حيث عديد القوى المُتَحاربة فيها، أو من حيث الخسائر البشريّة من الجانبين. كان الفرنسيّون يسعَوْن إلى العَودة إلى الجبل والتّمَركز فيه وقد نجحوا باحتلال السّويداء، وعلى هذا فقد كانت الثَّورة في حالة حَرِجة، خاصة أنّ بدو اللَّجاة كانوا يتعاونون مع الجيش الفرنسيِّ، ومن جهه ثانية كان الفرنسيّون قد عملوا على تجنيد فرقة درزيّة مُساعِدة لهم من الدّروز الذين يئسوا من النَّصر؛ أو أولئك الذين انقطعت موارد عيشهم وأصابتهم غائلة الفقر. وقد أخذ الفرنسيّون يدفعون لكل فارس درزيٍّ ينضمُّ لهم بسلاحه سبع ليرات ذهبية لمعيشته وإطعام جواده، وكان لهذا أثره السّلبيّ على قوى المجاهدين، وفي مواجهة هذا الوضع الحَرِج جاء في رسالة من رشيد طليع إلى الأمير شكيب بتاريخ 8 حزيران 1926 يقول فيها: “نحن نسعى الآن لتقوية المعنويّات وإعادتها كما كانت، وبدأنا في تشكيل جُنْد من الدُّروز بالمعاش، وقد قرَّرنا استخدام ألف رجل، ومايتين خيَّال ليكونوا مرابطين دائماً حول الجيش الفرنسيِّ أينما كان، وقد باشرنا بهذا القيد حين وصولي إلى الجبل، ولم يتم التَّشكيل بعد، وقد خصَّصنا للرّاجل ثلاث ليرات فرنسيَّة وللفارس أربعاً على أنْ يُعطى للمجنّدين نصف معاشهم سَلفًا”، وكان هذا تنظيماً قتاليًّا جديداً لم تعرف مثله الثّورات العربيّة من قبل!.

نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف
نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف

فِرْيَة الاستعمار: ” أجنبي اسمه رشيد طليع!”
بل هو قائد وطنيّ
كانت الثّورة السورية الكبرى قد دخلت في حالة تراجع بعد سقوط السويداء في 25 نيسان 1926، وصلخد في 4 حزيران 1926 بيد قوات الجنرال أندريا، ولكن تحرُّكات رشيد طليع في الجبل كانت تشكِّل حالة من النّهوض في تلك الفترة، وخاصة في المقرن القبلي من الجبل، حيث وصل رشيد طليع وأخذ يستنهض همم الدروز للمجاهدة فاجتمع عنده عدد كبير (50).
في واقع الحال لم يكن رشيد طليع أجنبيًّا عن سورية، فقد كانت له علاقات مواطنة سوريّة فعلية قديمة منذ العهد العثماني من خلال عمله الوظيفيّ فيها كما مَرَّ معنا، وتوطّدت أكثر فيما بعد في العهد الفَيصلي، فهو وزير الدّاخلية في حكومة دمشق العربيّة عام 1920، ووالي حلب بعدها، وعلى هذا فهو سوريٌّ أصيل من الوجهة القانونيَّة، والاجتماعيّة، ويرتبط مع دروز الجبل كونه درزيًّا بعلاقات قُربى وعلاقات شخصيَّة حميمة كما هو الحال في سائر العلاقات الدرزيَّة بين الجبلين. يقول أندريا متبرِّمًا من نشاط رشيد طليع: “توالت الأخبار من الجنوب والشرق. إنّ هذا الأجنبيّ يملك بيده اليوم مشايخ الدُّروز القَيِّمين على الثَّورة. لكن راح رشيد طليع ينتقل في الجبل .. وقد أشاع أن الأرض لم تُزرع وأنَّ البؤس سيصيب الذين يستسلمون لأنّ الحكومة الفرنسيّة لايمكنها تأمين المؤونة للدّروز فهي قبل كل شيء تسعى لتأمين الغذاء لجيشها..” (51)
كان رشيد حاضرًا كقائد مقاتل وكسياسي يوجه الرّجال لإرادة القتال في معارك الثّورة عام 1926 في وادي اللِّوى واللّجاة ومعارك المقرن الشّرقي من الجبل فهو ينتقل حيث تطلَّبت الظروف من موقع لآخر لِشَدِّ عزائم الرّجال، “في ذلك الوقت اجتمع رشيد طليع في صلخد بزعماء الثّورة ورتّبوا صندوق الإعانة وأمينًا له.. ثم ركب إلى…(عدة قرى)، فعاهرة (عريقة اليوم)، فأشعل الثَّورة هناك..” (52). وإلى المقرن الشّمالي والغربيّ لاستنهاض هِمَم الرّجال للقتال.. كان رشيد قائدًا حَدُوبًا على الثّورة التي يرى فيها أمل الاستقلالييِّن العرب الأخير بعد أن ضاعت منهم إمارة الشّرق العربيّ، واضطرّ عبدالله أميرها إلى التخلّي عنهم. أمّا في فلسطين، فإنَّ بريطانيا كانت ترتب ما ترتبه لتسليم البلاد لليهود، وما من بارقة أمل تلوح للاستقلالييِّن العرب سوى في سورية. وفي ظروف المواجهات، وعندما كان الفرنسيُّون يسيطرون في منطقة ما، فإنّه عندما تنسحب جيوشهم منها يعود الأهالي للثّورة، مُعتمدين على قواهم الذاتيَّة ومعونات تأتي من مُغْتَربي أميركا وغيرها عبره.. واستناداً إلى مذكرات علي سيف الدين القنطار فإنَّه بعد احتلال صلخد، “أرسل رشيد طليع تحارير يستحثُّ أهالي المَقْرَنَيْن الشّمالي والغربي للمعاونة، كانت الحملة الفرنسيّة قد وصلت إلى مَلَح (أقصى جنوب شرق الجبل)… بقيت الحملة في مَلَح ثلاثة أيام، وُجِّهت في أثنائها فرقة إلى خازمة (قرية صغيرة قرب ملح) فهاجمها الثوَّار مهاجمة المُسْتَقْتِلين دفاعاً عن عائلاتهم، وفي اليوم التالي رجعت إلى صلخد فاحتلَّت عرمان في طريقها…
وفي ذلك الوقت قَدِمَ وفد سوري من أميركا يحملُ مالًا للإعانة، فطلب رشيد بك طليع لمقابلته فتوجّه إليه..”.
ويكتب علي سيف الدّين القنطارأيضًا “كانت جبهة المقرن الشمالي قد تحرَّكت، ففي ريمة اللُّحف هاجم الثوّار الحملة مهاجمة لم نسمع بمثلها وبَقَوْا معها في الحرب حتى خيّمت قبل الغروب في رِيمة، واجتمع الثُّوّار في (قرية) جْدَيَّا فسلَّمهم رشيد طليع دراهم لأجل مُشْتراة الذّخيرة واستحثّهم على مُداومة القتال.. ولما ابتعدت الحملة عن جبهة اللَّجاة عاد معظم سكان هذه النّاحية للعصيان وحضر رشيد طليع وبدأ ببث روح الثّورة هناك، ويحرّض الأهلين على القيام بالمعاش المضمون واليقين الطّوعي، فعاد معه كثير من أهالي تلك النَّاحية الفقيرة للحرب، وجعلوا مقرَّهم شماليَّ (قرية) صمَيْد وغربيَّها. وهكذا كان رشيد طليع في الجبل قائدًا ومحرّضًا و “داعيةً مموِّلاً، أي إنَّه كان في الدّائرة العسكريّة الضيّقة (العُليا) للثَّورة وفي قطاع التّخطيط منها أوفي قطاع القيادة العسكريّة المباشرة” (53).
ففي دائرة التَّخطيط كان له دور فاعل وحاسم غالبًا في القرارات التي تتَّجه إليها قيادة الثّورة ومنها مثلًا:
1- اجتماع سالة بتارخ 17 أيار 1926، وحضره الشَّيخ أحمد
الهجري (شيخ العقل) وعبد الغفار باشا الأطرش وأبو نايف علي عبيد وأبو علي هاني (الحنَّاوي، شيخ عقل) والأمير عادل أرسلان وسليمان بك نصّار وغيرهم وقد تقرَّر تجهيز فرق مقاتلة برواتب شهريَّة من التّبرُّعات الواردة على صندوق الثّورة.
2- اجتماع الهويّا بتاريخ 12/6/1926، يذكر أندريا أنّ “سقوط
صلخد استدعى اجتماع قيادات الثّورة السوريّة من الدّمشقييِّن والدّروز وفي ذلك الاجتماع اقترح بعض الزّعماء استسلامًا عامًّا لكنّ رشيد طليع نجح في إعادة أكثرية المجتمعين إلى الأخذ بفكرة متابعة القتال” (54). ومن المؤكد أنَّ سلطان باشا كان يجد في مواقف رشيد طليع الجذريّة في مسألة استمرار الثورة سندًا لموقفه المماثل هو أيضًا.
3- اجتماع بوسان، كان الفرنسيّون يتجسّسون على الثّوّار وعلى
نشاط رشيد طليع، يقول أندريا (ص258): “وصل رسول (أي: جاسوس) من المقرن الشّماليّ يفيد بما يلي: حضرت اجتماعًا جرى في بوسان في 27/ حزيران 1926 برئاسة سلطان ورشيد طليع وأحمد الهجري وقد قيل فيه إنَّ عددًا كبيرًا من الجنود الفرنسييِّن ذهب إلى دمشق ممّا يسهّل عملية الهجوم على الحامية التي باتت ضعيفة. عارض سلطان الفكرة لأنَّ العاصمة مليئة بالأطفال والنّساء لكنّه اقترح استعادة مدينة صلخد عندما يبتعد الجيش الفرنسيّ عنها كما جرى في المرَّة السّابقة (عندما توجّهت الحملة نحو الحدود الأردنيّة) فاستُحْسِن رأيُه استحسانًا كبيرًا”.
وحسب رواية الجاسوس، فإنّ رشيد طليع قال في ذلك الاجتماع: “لن تتوقَّف الثَّورة حتى لو لم يبقَ درزيٌّ واحدٌ واقفًا على قدميه، ولن نسلّم السِّلاح حتى توافق فرنسا على مطاليب الثوّار وأهمّها العفو العام شرط أن تضمنه الولايات المتحدة الأميركيَّة..”، (كانت الولايات المتحدة في ذلك الزَّمن تبدو مسالمة بخلاف ما هي عليه الآن).
4- مؤتمر شَقّا ــ مَفْعَلَة: تمثّل هذا المؤتمر باجتماعين مُنفصلين
في 15 تموز 1926 وفي 29 منه ويعتبر هذا المؤتمرُ هو الأخير في مؤتمرات الثّورة السوريّة الكبرى، وقد مَثّلت مُقَرَّراته حالة القلق على مصير الثَّورة التي تأثِّرت من حالات “استسلام العديد من الزُّعماء والمقاتلين، ومرحلة تجنيدٍ لِمُتَطَوّعين من الدّروز في القوّات الفرنسيَّة ومرحلة الانقسام بين مُتَّحَدات الثَّورة ما بين جبليّة وجبليَّة وما بين جبليّة ودمشقيّة وما بين حزب الاستقلال وحزب الشّعب “غير أنَّ بصمات رشيد طليع تبدو واضحة في مقرَّرات هذا المؤتمر في وجوب المثابرة على الجهاد وفي ضرورة تجميع الجُند وفي قرارات حول التّموين ومنع التّعدّيات وحول إنشاء مجلس وطنيّ وحكومة وطنيَّة” (55).
كانت مقرَّرات مؤتمر شَقَّا تُعَبّر عن حالة تعبئة عامة إذ “اتّخذ المؤتمر الوطنيّ المُنعقد في شقّا قرارًا بوجوب وضع قوائم برجال كلّ قرية بدون استثناء ما خلا العاجز والولد، والعمل على سَوْق ربع العدد إلى جبهة القتال بصورة دائمة وبقاء الآخرين لتسيير الأمور وتولِّي مشايخ العقل إبلاغ القرار إلى القرى” (56).

المجاهد السياسي والقائد في أيامه الأخيرة
كان رشيد قد التقى في اللجاة (المقرن الشمالي) بالأمير عادل أرسلان العائد من الإقليم وبصحبته كنج أبوصالح وشكيب وهّاب ونايف مرعي ونحو ثمانين مقاتلاً لبنانييِّن وإقليمييِّن (إقليم جبل الشيخ)، في أواخر آب 1926، فقابله رشيد طليع وعموم الثوّار مقابلة عظيمة، كانت الطيارات تحوم فوق المنازل وألقت قنابلها على ذلك الحشد لكنَّ القنابل سقطت بعيدة عن الثوَّار ولم يُصَبْ أحد ..
يقول علي عبيد في مخطوطة مذكّراته ص27 والخلاصة أنّ العسكر رجع عن وادي اللّوى (على حافة شرق اللّجاة) بصفة الخاسر تاركاً أكثر من ألف قتيل بهذه المواقع الدامية..”.
كانت الثَّورة في اللَّجاة تواجه حصارًا من بدو اللَّجاة والفرنسييِّن كما أسلفنا، فانتقل الثوّار بحالة تراجع إلى رامة (رامي، قرية في المقرن الشرقي وتبعد عن اللّجاة نحو ستِّين كيلو مترًا) وباتوا هناك، وفي تلك الدّيار جرت سلسلة من المواجهات مع القوَّات الفرنسيَّة، دامت إحداها “ستَّ ساعات متوالية لايُسْمَع فيها إلاّ هدير الطوائر ورعيد المدافع ولعلعة الرّصاص وما قابلت الشمس وجه الزَّوال حتى ولّت الحملة واعتصمت بوادي الرّشيدة ثم توجهت وجهة شقف (بل الصّواب: قرية شعف)، كانت تحرّكات الثّوّار تراجعيَّة مترافقة بقتال مع تحقيق بعض الانتصارات المحلّية كما في موقعة قيصما في الرُّكن الجنوبي الشّرقي من الجبل. وبشأن تلك الاشتباكات مع الثوّار في القسم الشّرقي من المقرن القبلي يقول أندريا: “المعلومات الواردة من المقرن القبلي كانت لا تبشِّر بالخير فقد حطّت طائرة لسبب مجهول (يُنْكر أندريا أنّها طائرة حربيّة) على نجد “طَرْبا” فقبض الأهالي على ركّابها (يعترف بأنَّهما طيّاران حربيَّان في ص 304)، وأعدموهم” (57).
كما يتحدث أندريا عن معركة أخرى في المقرن القبلي “صادفت فيها فرقة فرنسيَّة عصابة مؤلَّفة من ثلاثمائة ثائر فاشتبكت معها في معركة خسرتها بسرعة لقلَّة عددها وعادت إلينا ساحبة عددًا كبيرًا من الجرحى” ويُعَقّب: “توالت الأخبار من الجنوب والشَّرق على أنَّ دعاية قويَّة ينشرها أجنبي اسمه رشيد طليع أتى من الأردنّ حاملاً معه كميّات ضخمة من المال.. (58)، وفي ص 278 يتساءل أندريا “لماذا لم يتوقف القتال؟”، وذلك بعد أن نجح الفرنسيُّون في السَّيطرة العسكريَّة على الجبل واستسلم كثير من الثوّار بعد منحهم الأمان إفراديًّا دون الإقرار بالحقوق الوطنيّة التي تدعو إليها الثورة واضطُرَّ الثوَّار الذين يقودهم سلطان إلى اللّجوء للأراضي الأردنيّة فإنَّ أندريا يحمّل في كتابه (ثورة الدّروز وإضراب دمشق، ص280)، مسؤولية تجدّد مظاهر الثّورة وعدم توقف القتال كليًّا للدعم بالمال والتسليح من جانب اللجنة السوريّة الفلسطينية الآتي من فلسطين إلى سلطان وأقاربه، وإلى رشيد طليع الذي لا يكفُّ عن فضح الدَّور الفرنسي بقوله للدّروز “إن الفرنسيين يخدعونكم إذ ليس لهم إلّا هدف واحد وهو تجريد البلاد من السّلاح والقضاء على حرّيتها…”.

وثائق سلطان باشا: رشيد طليع قائد
في ثورة سوريَّة استقلاليَّة
في موقعة الصُّوْخَر التي فُوجِئ فيها مجموعة من الثّوار كان يقودهم سلطان باشا بقوَّة فرنسيّة تحاصرهم تزيد عن المئتي مقاتل قُتل حصانه، وبقي سلطان يقود الثوار في ساحة المعركة مُصِرًّا على القتال، فما كان من ابن عَمِّه المجاهد صيَّاح الأطرش إلاّ أن تصدَّى له قائلاً: “أنت قائد الثورة، يجب أن تنسحب الآن، ونحن نحميك، إن أُسِرْت أو قُتلت فما مصير الثورة!” ولم ينتظر منه جواباً، بل ناوله مِقْوَدَ حصانه وألزمه امتطاءه لينسحب بعيداً عن رصاص المها جمين، وهكذا أُنجِيَ سلطان، وبقي صياح يقود المجاهدين بانسحاب تراجعي. يقول أندريا:” فرّ الثوار يعطون لخيولهم العنان تاركين في السّاحة أربعة قتلى وثلاثة جرحى بينهم ضابط جزائري هارب من خِدمتنا وسبعة جياد مَيْتَةً، بينها جواد سلطان الذي كان خرجه مَحْشُوًّا بمستندات مهمّة للغاية وهي:
1- رسائل من أميركة ( تفيد بتبرعات من المغتربين وليست من
حكومة الولايات لمتحدة (تشجّع الدّروز على المقاومة وتعلن وصول المال) وتدعو السّورييِّن للمقاومة حتى الموت.
2- رسالة من (محمد) عزّ الدّين الحلبي أحد قواد العصابات
يعلن فيها انخفاض معنويات أهالي المقرن الشمالي.
3- رسالة من لوزان بعث بها الأمير شكيب أرسلان يطلب من
سلطان فيها أن لا يثق بوعود الجنرال الحاكم ولا بأقوال المفوّض السامي، وجاء في قوله: “إذا انقلب الأسود يوماً أبيض استطاعت فرنسا أن تتنازل عن كبريائها”.
4- رسالة من نسيب البكري قائد عصابة دمشق يُذكِّرُ فيها سلطانَ
أنّه أقسم على أن يطرد العدوَّ المُسْتعمر.
5- رسالة من سلطان إلى رشيد طليع مستشار ملك الأردن
يطلب فيها المال ليدفع معاشات الثّوار (كان رشيد طليع قد ترك مستشاريّة عبدالله أمير الأردن منذ العام 1922، أي قبل تاريخ الموقعة بنحو خمس سنوات وإنَّما المساعدات التي كان رشيد طليع قَيّماً عليها هي تبرعات العالم العربي والإسلامي وتبرّعات المغتربين). يقول أندريا “هذه المستندات تؤكّد من جديد علاقة الثائرين بالأجانب المعادين للانتداب الفرنسيّ”.
إن تلك الرسائل تؤكّد من خلال استشهاد الضابط الجزائري المُنشق عن الجيش الفرنسيّ، ومراسلة الزّعيم السوري الدّمشقي نسيب البكري وتبرعات المغتربين العرب، ودور رشيد طليع التَّمويلي للثَّورة وكان حينها يقاتل في المقرن الشرقي من الجبل، وقبل وفاته بنحو شهر فقط تؤكّد أنّ الثورة سوريّة الهُوِّيَّة، وليست درزيَّة فقط، كما تُبرهن على الدَّور الهامّ الذي كان يقوم فيه رشيد طليع في تلك الثّورة كواحد من أبرز أركانها، إنْ كان في التَّخطيط منذ العام 1920، أو في التَّمويل من خلال علاقاته العربيّة والإسلاميّة ومع المغتربين العرب، أو في دوره الإداريِّ والقتاليِّ، وهو الذي توفِّي في ساحات القتال في قرية الشّْبِكِيْ من قُرى المقرن الشرقي من الجبل. ففي معركة شهبا وفي وقت سابق على الاشتباكات في المقرن الشرقي، كان رشيد طليع قد سارع إلى المقرن الشّمالي يطوف قراه ودساكره داعيًا الناس إلى المقاومة مبيِّنًا أضرار التَّخاذل والتَّواني، فأقبلوا عليه وانضمُّوا إليه وعاهدوه على الدِّفاع حتّى النَّفَس الأخير، ثم قدِم سلطان ومعه عدد من الشيوخ والزعماء لتنظيم حركة المقاومة في تلك المنطقة فأضرم مجيئه نار الحماسة في الصّدور..
يقول أندريا إنَّه في السابع من أيلول مرَّت قوَّاته في(قرى) “مْشَنَّف”، فـ “شْبِكِي” فـ “رامي”، وفي الثامن من أيلول وصلت الحملة إلى تلّ الشَّرِيْحِي حيث “العصابات (يقصد الثُّوار) تتجوَّل في المنطقة منذ أيَّام وفعلاً، ما كدنا نترك المحلَّة حتى فرقع الرَّصاص خلفنا.. وصلت الحملة “الشّبكي” (59) حيث نَصَبت مُخَيَّمها، وهناك أفادنا مُخْبِرٌ عن وجود ثلاث عصابات في المنطقة .. إحداها يقودها سلطان .. والثانية (محمّد) عزّ الدّين الحلبي.. والثالثة رشيد طليع..”. وهذه الشّهادة من عدوٍّ كأندريا تدلُّنا على أهميّة الموقع الذي كان يشغله المجاهد القائد رشيد طليع في قيادة الثّورة، وقبل وفاته ببضعة عشر يومًا فقط !. وفي مسيرة تلك الحملة الفرنسيّة التي كانت تلاحقها جماعات الثّوّار بلا هوادة يقول أندريا
“جَهَّزْتُ المؤخِّرَةَ بالمدفعيّة الثّقيلة لأنَّ التَّجارب في حرب الدّروز علَّمتنا أَنّهم لا يهاجمون المُقدَّمَة وإنَّما ينقضُّون بِعُنْف على المؤخِّرة والجناحين، ويتَحدَّث أندريا عن معركة جرت في قرية الرّشيدي استمرَّت بضعَ ساعات قادها سلطان بنفسه، واشترك فيها الأمير عادل ورشيد (طليع ) وزيد الأطرش وصيَّاح الحمود (الأطرش) وشكيب وهَّاب وتابعت الحملة المؤلَّفة من 4500 عسكري و 1200 جمل لحمل الماء والذَّخيرة و 50 سيارة و8 طائرات و7 مصفَّحات وانتهت بارتداد الحملة إلى السُّويداء..” (60). تابعت الحملة سيرها باتجاه الجنوب وهي من وجهة النّظر الفرنسية حملة تطهير ولكنّها لم تكن لتتوطّن طويلاً في منطقة تتحرّك فيها مجموعات من الثّوار بأسلحتهم الخفيفة التي لا تعيق من سرعة تحرّكهم كما هو الحال لدى الجيش المزوَّد بالآليّات والمدفعيّة الثّقيلة. يقول أندريا ص310 من كتابه: “موقف العصابات في معركة رشيدي أظهر تمامًا نواياها وخطّتها فهي بعد إدراكها الطّريق التي تسلكها الشاحنات والعربات. قرّرت (مجموعات الثوّار) فيما بينها مهاجمة الحملة في هذه النقطة على النّحو التالي: تهاجم المؤخّرة عصابة عزّ الدين الحلبي القادمة من الشّمال وتهاجم الميسرة عصابة سلطان الخارجة من غَوْر الصّفا، وتهاجم الميمنة عصابة رشيد طليع القادمة من الغرب. أمّا المقدمة فلم يكن لها شأن في الخطة..”.
رشيد طليع: الخبير في التكتيك الحربيّ
من خلال دراسة سيرة رشيد طليع؛ تتجلَّى لنا خبرته في التَّكتيك الحربيّ واضحة في توجيهه التَّالي الذي نَسْتَدِلُّ من سياقه أنَّه صدر عنه قبيل وصول حملة أندريا إلى الجبل، حيث يخاطب الثوّار قائلًا: “لي ملاحظة عسكريّة صغيرة ومُهِمَّة، أريد أن أبديها لكم وهي: إنَّكم تعلمون أنَّ انتصاركم على حملة ميشو وتشتيتكم إيّاها كان بفضل الهجوم الذي عَمِلْتُموه عليها وهي سائرة من الجناح، فالجيش السّائر إذا هوجم من الجناح أو من الخلف فينكسر لا محالة مهما كان قَوِيًّا، وفي وسْعكم مُهاجمة حملة أندريا التي يَنْوَوْن سَوْقها إلى الجبل من أحد أجنحتها من ورائها. إذا فعلتم ذلك فإنَّكم تُشَتِّتُونها كما شتَّتُّم حملة ميشو، وهي، أي حملة أندريا؛ لا تزيد عن عشَرة آلاف عسكري كلُّهم أنهكهم الحرب وأصبحوا جبناء وضعفاء وفلول لا يُؤْبَه بهم، فاجمعوا عليهم قواكم وانقضّوا عليهم كالأبطال كما هي عادتكم، فَتَرَوْن أنَّهم لا يقفون أمامكم أكثر من بضع ساعات وخصوصًا من ضربهم من الجناح، أو من الوراء، فتأخذونهم كلَّهم مع ذخائرهم ومعدَّاتهم، وتجعلونهم عبرة لمن اعتبر”(61). كما تبدو لنا خبرة الرَّجل جليَّة في مسألة اسستثمار طبيعة الأرض في تقييمه للحرب في اللَّجاة إذ يقول: “إنَّ مجموعة من ماية أو مايتين بواردي (أي: المقاتل حامل البارودة) مع زعيم كـ: شبيب القنطار (أحد أبطال الثورة آنذاك) تكفي المنطقة حَصانَةً ومنعةً في مواجهة أيَّة قوَّة عسكريّة من خارج، فلا داعي إذن لأنْ تبقى “قُوَّة عسكريَّة كبيرة (من الثُّوّار بعيدة عن ميدان المواجهة) في اللّجاة أثناء حملة أندريا”.
تجاهل أندريا في كتابه وفاة رشيد طليع!، ولكنَّ الرّجل دخل تاريخ الامَّة العربيَّة رغم تجاهل الفرنسييِّن له.
الوثائق التي حصل عليها الفرنسيُّون في خرج الحصان الذي قتل تحت سلطان في موقعة خربة الصَّوْخَر تخالف وجهة نظر الجنرال أندريا نفسه بتسميته الثورة “ثورة الدُّروز”، وتُثْبِتُ أنَّ الثَّورة السوريَّة الكُبرى التي كان رشيد طليع الاستقلاليّ العروبيّ واحداً من المخطّطين لها منذ عام 1920أيام نزل في بيت علي عبيد حينها، ومن المقاتلين في صفوفها فيما بعد؛ هي ليست ثورة درزيَّة محصورة في حدود الجبل، بل إنّ تلك الوثائق تبين زيف الفِرْيَةِ الفرنسيَّة التي تصوِّر الثّورة على أنَّها ثورة طائفة..
نعم كان رشيد طليع قائدًا مخلصًا لتلك الثَّورة التي خطَّط لها، وكان قد التحق بها على أثر نشوبها وتحقيقها النَّصر الساحق على الفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة، وبالتحاقه بها اكتسبت الثَّورة دعما ماليًّا وبُعْداً استراتيجيًّا، بانضمامه إليها وهو الرّجل الإداري والسياسي والخبير العسكري الذي يقاتل في صفوف الثّوار من أجل الاستقلال العربي وشعار “الدِّينُ لله والوطن للجميع” شعاراً للثورة السوريّة الكُبرى اعتمده سلطان باشا الأطرش قائد جيوش الثورة الوطنيَّة السوريّة العام” وهو الشعار الذي كان قاعدة حضاريّة للدَّولة العربيّة التي اغتالها الفرنسيُّون عام 1920، وهذه حقيقة يغفل عنها كثير من المؤرّخين! كلُّ ذلك جعل من تلك الثَّورة قَضيَّة من كانوا وطنيين ثوريين بذاتهم شأن رشيد طليع وعادل أرسلان وفؤاد سليم وعادل النَّكدي وغيرهم من رجال الثَّورة العربيّة، لذلك كان تواصلهم مع الثَّورة السوريّة الكبرى في ظروف نشأتها الأولى، وكان اندماجهم فيها بعد انطلاقها. وعلى هذا كان رشيد طليع وهو في مصر على صلة متواصلة بسلطان باشا قبل الثورة وبعد نشوبها.

جرح لم يندمل وإصابة في مَيْدان
القتال وشهادة نبيلة وأصداءٌ عربيّة
في أيامه الأخيرة كان رشيد طليع يقاتل مجاهدًا وقائدًا في سياق سلسلة معارك مُتتابعة على الحافّة الشرقيّة من المقرن الشرقي في الجبل، وتضاربت الأنباء في طبيعة السّبب الذي أودى بحياته؛ بين وفاته بمرض معوي أصابه فَجأة، أو بسبب انسداد في الأمعاء لم يتوفّر له مُسهل، أو بين وفاة على أثر رصاصة أصابته تركت جرحًا لم يندمل في كتفه على أثر معركة قيصما (قبل وفاته بنحو شهر) كما جاء على لسان المطران نيقولاوس قاضي مطران حوران وجبل الدروز (62)، يضاف إلى ذلك احتمال أن تكون وفاته نتيجة لتداعيات مرضيّه مُزْمنة ناجمة عن حالة صِحِيّة سيّئة كان يعاني منها، لكن ذلك لم يمنعه من الجهاد في سبيل حُرِّيّة أُمَّته واستقلال وطنه، يشير إلى ذلك الأمير شكيب أرسلان في تأبينه إيّاه (63).

سلطان باشا يؤبن الشَّهيد
في صباح يوم من أيام آخر العشر الأوائل من أيلول عام 1926 كانت حملة فرنسية يقودها الجنرال أندريا تقوم بجولة ترافقت بمعارك عنيفة في المقرن الشّرقي من الجبل كما سلف بيانه. مشت تلك الحملة إلى صلخد وعاد الثُّوّار إلى “بوسان”؛ فقضَوْا ليلتهم هناك ثم انتقلوا إلى “سالة”، وتوعّك رشيد باشا فنقلوه إلى قرية “اسْعَنَه” ومن ثمَّ اشتدّ مرضه فتركوه فيها ومعه عشرة رجال حملوه إلى قرية “الشّْبِكة” وتقدَّم الأمير عادل أرسلان إلى قرية “الشّريحي” ثم “الطّيبة” فبات الثوَّار فيها ثم ارتحلوا إلى قنوات، فباتوا فيها ليلة جمعوا فيها بعض الدَّراهم والذَّخيرة للإعانة وعادوا في اليوم التالي إلى مفعلة فباتوا فيها ليلة، وفاجأهم خبر وفاة رشيد طليع في تلك اللَّيلة فركب الأمير عادل بالخيالة إلى “الشّْبِكِي” (64).
وفي وفاة رشيد طليع أبَّنه سلطان باشا مُسْتَشْعِرًا فداحة الخسارة؛ يقول: “.. في أواخر أيلول عام 1926 فُجِعْنا بوفاة المجاهد الكبير والبطل المقدام، والإداريّ الحكيم رشيد طليع ببلدة الشّبكة إثر مرض معوي أصابه بصورة مفاجئة، ففقدنا بوفاته رُكناً من أركان الثَّورة ورجلًا من خِيْرَة رجالات العرب الأفذاذ” (65).
وأمّا في جبل الشُّوف قد كان لوفاته صدًى كبيرٌ، إذ أقيمت له مناحة كبرى اشتركت فيها وفود القرى والزُّعماء واقيمت له في جديدة الشّوف مَناحة مهيبة لا تقلُّ عن أختها في الجبل الدّرزي (ميدان قتاله)، وقد اشترك فيها لبنان”(66)، وحضر مأتمه الألوف المؤلَّفة من الدُّروز وسائر الطّوائف، وفي إمارة شرق الأردن حيث كان عبدالله قد أخذ طريقًا معاكسًا لجماعة حزب الاستقلال العربيِّ فقد أذاع مكتب الاستعلامات السّوريّ أنّه أقيمت للفقيد الكبير “في الأزرق (بلدة كانت درزيّة في شمال الأردن) حفلة تأبين كُبرى للفقيد العظيم المرحوم رشيد بك طليع لمناسبة مرور أسبوع على وفاته حضرها عدد من رجال الأمّة السوريّة، وأبّنه الزّعيم الكبير الدّكتور شهبندر تأبيناً مؤثِّراً وقد حضر الاحتفال الأمير حسن الأطرش أمير جبل الدُّروز وعبد الغفار باشا الأطرش واسماعيل بك الحريري زعيم حَوْران والدّكتور خالد بك الخطيب وجمهور كبير من خاصة أهل البلاد”(67).
أما في القاهرة فقد نعاه مكتب الاستعلامات السّوريّ ووصفه بأنّه “أوفى عُظَماءِ الأُمّة” وممَّا جاء في النَّعيّ: “فُجِعَت سورية بزعيم من أعظم زعماء الأمة وكبير من أوفى عظمائها إخلاصًا لوطنه وسعيًا في سبيل إنهاضه والذَّود عن حياضِه وتّحريره من أنياب الاستعمار؛ ذلكم الزَّعيم البار رشيد بك طليع العضو في مجلس النُّواب العثماني ووالي حلب ووزير الداخلية في حكومة سورية العربيّة ورئيس وزراء شرقي الأردنّ عام 1921، والفقيد من أعظم من أنجبتهم سوريّة عِلْمًا وَحَزمًا وإخلاصًا وسداد رأي، وقد امتاز بالكفاءة والحزم وسداد المحجّة فكان شخصًا ممتازًا في المناصب الكبيرة التي تقلَّدها في الدّولة العثمانيَّة، وفي الحكومة العربيّة بعدها؛ وافاه الأجل المحتوم في قرية الشّبيكة (الشّبِكِي) من قرى المقرن الشَّرقي بجبل الدُّروز يوم الاثنين في 20 سبتمبر أيلول 1926 إذ اشتد عليه مرضه عقب قفوله من انتصار حربي أحرزه برجاله المجاهدين على جيش العدوّ في معركة الرّشيدة؛ فختمَ حياته الجليلة بأعظم ما يدّخره العظماء للحياة الخالدة والذِّكر الحَسن”(68).
وفي فلسطين كانت حفلات التأبين استثنائيَّة في دلالاتها فمن صلاة الغائبين “على الشّهيد الكبير رشيد طليع وجميع الأبرار الذين ماتوا في سبيل الحريّة” (69). إلى حفلات تأبين مشتركة ما بين العرب واليهود وتحدِّيًا من قبل العمال العرب واليهود؛ وبتحديد أدقّ من قبل العمَّال الشيوعييِّن من الطَّرفين، وننقل هنا ما أوردته صحيفة لسان الحال عن جريدة الاتّحاد العربي التي تصدر بطولكرم في فلسطين تقول: “علمنا أنَّ عمّال اليهود الشّيوعييِّن في تل أبيب أقاموا مؤخَّراً حفلة تأبين للمرحوم رشيد بك طليع في نادي طبقة العمَّال حضرها أكثر من مايتي عامل يهودي وثمانين من العمال العرب وقد ألقيت الخطب بالعربيّة والألمانيّة، وعدّد الخطباء ما كان للمرحوم رشيد بك من المزايا العالية والجهود الثَّمينة في خدمة بلاده ومما قاله أحد الخطباء إنَّ رشيد بك لو كان حيّأً ورأى بعينيه عدم إضراب عرب فلسطين واهتمامهم بيوم وعد بلفور المشؤوم لكان تأثره شديداً من سوء الحالة التي وصلت إليها فلسطين بسبب تخاذل الزُّعماء وانحلال عزائمهم وتفرُّق كلمتهم (70). ويفصح لنا هذا التّكريم عن دور أغفلته مصادر المرحلة عن أفعال “فلسطينيَّة” لرشيد طليع ، ليس فيها من ” تخاذل زعماء الثلاينيَّات ولا من من انحلال عزيمتهم”. كما يُفصح عن مواقف سياسيّة واستنكار علاقات مع أطراف من غير عربها، ومع الشيوعييِّن من يهودها تخصيصًا، كان فيها استنكار وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما يبدو من نَصِّ الاتّحاد العربي يدور سيَّاراً في سيرة رشيد طليع أقوالًا ومواقف (71).
وهكذا فإنَّ رشيد طليع كان من أولئك الوطنييِّن الرُّواد الذين لم يموتوا بالموت البيولوجي لأجسادهم، بل بقي مُلْهِمًا للنّضال اسمه ظل مُدَوّياً بعد موته وحاضرًا في المناسبات الوطنيَّة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب، ففي حفلة أقيمت في 21/ 2 سنة 1930 من قبل فريق من شباب القدس في كُلِّيَّة روضة المعارف لمعتقلي يافا؛ يقول أكرم زعيتر: “.. كلّما امتلأ سِفْرُ التّضحية بحوادث التّضحيات الغاليات اقتربت هذه الأمة من موعد خلاصها، فأحمد مريود وعادل نكد ورشيد طليع وفؤاد سليم والخرّاط عناصر روحانية تُذكي نيران الإخلاص في نفوس الشّباب المجاهدين…” (72).
وفي نابلس في 8 ــ 3ــ 1931 أقيم احتفال بذكرى استقلال سوريّة عام 1920 وقد أَمَّته وفود قادمين من القدس ويافا وغزة واللِّد والرَّملة وطولكرم وجنين وعكّا والنّاصرة وصفد.
وفي 9ــ 7ـ عام 1933 في معرض للصِّناعات الفلسطينية والسُّوريّة واللبنانيّة والمصريّة والعراقيّة .. في هذا المعرض الذي”ازدانت جوانبه بأعلام الدُّول العربيَّة وبصور كبار شهدائها ولا سيَّما شهداء الثَّورة السوريَّة الكُبرى كرشيد طليع وأحمد مريود وفؤاد سليم…”
وبمناسبة يوم احتفال الشهداء في القدس في 13 /5/ 1935 وفي 11/ 9/1936 كان ذكر رشيد طليع حاضراً .
وفي حفل تكريم للمجاهدين السوريين وقد حضره رجال من الأردن وسورية وفلسطين كان الإشارة صريحة بالأسماء إلى رشيد طليع مع آخرين من شهداء تلك الفترة.
ولنبيه العظمة وهو أحد قادة الثوار الدمشقيين شهادة بليغة في موقع رشيد طليع بين رجال عصره الكبار، يقول نبيه العظمة مخاطبًا أكرم زعيتر:
ثلاثة أشخاص موتهم كارثة وطنيّة، فُجِعت بموتِهم فجيعة لا وصف لها، إنَّهم: عمي يوسف العظمة، ورشيد طليع وياسين الهاشمي” (73).

تركة الشهيد رشيد باشا طليع وتكريمه!
مات رشيد باشا طليع ، بل استشهد فقيرًا من المال ولكنَّه لم يزل غنيًّا ومُلْهِمًا في حضوره التاريخيّ والسياسيّ في مجتمعات ومضافات جبل العرب ومنتديات مثقّفيه، بل وفي ذاكرة مؤرِّخيّ الثّورة السوريّة الكبرى وأخصّ بالذّكر منهم الدكتور حسن أمين البعيني الذي لم يخلُ كتاب من كتبه العديدة التي تناول فيها تاريخ الثورة السورية الكبرى من ذكر منصف لرشيد باشا طليع.ويذكر المجاهد متعب الجباعي وهو من مرافقي رشيد طليع يقول: “قُمْنا نحن أهالي القرية نحفر قبرًا للشهيد، وأثناء ذلك سمعنا امرأة تصيح بأعلى صوتها والدَّمع ينهمر من عينيها قائلة بكلمات تتدحرج على شفتيها الرَّاجفتين: “يا قوم.. يا ناس..أرجوكم، أتوسّل إليكم، لا تُوَسِّدوا هذا الميت الثرى كبقيّة الأموات.. بل احفروا له كثيرًا ليدفن واقفًا.. لأنَّ سعود الثّورة مرتبطة بالقائد رشيد طليع، وأخشى إن نام رشيد أن تنام معه الثّورة”. وتبادل المشيّعون النَّظرات وأطاعوا تلك المرأة الغيور “ضياء سعيد”، ودفنوا الميت واقفًا وكانّه مازال حيًّا، وبعد أقل من شهر وصلت حملة فرنسيّة إلى قريتنا “الشّبِكِي” وكان لنا معها قتال وخسارة شهداء… وأوقعنا بالعساكر أفدح الخسائر وأخيراً استطاعت القوَّات دخول البلدة .. بدأ القائد الفرنسيّ حملة تفتيش عن البطل المجاهد “رشيد طليع” وقيل له: طليع مات.. طليع توفّاه الله.. طليع أصبح في الدَّار الآخرة.. ولم يصدّق القائد “الليوتنان زهران”. وأخيرًا جمع كلَّ الحاضرين من أهل البلدة.. حول القبر الذي أرشدوه إليه وبدأ السؤال لكلِّ أحد.. عن القبر، وما يضمُّ القبر. وأجاب الجميع: هذا قبر رشيد طليع..!
قال زهران: لا أُصدّق حتى تُقسموا لي بإلهكم ودينكم بأنّ هذا قبر طليع!. وانتخب أربعة رجال أقسموا بالله العظيم وبكلِّ المقدّسات بأنّ هذا القبر يضم جسد الشهيد رشيد طليع.. عندها أمر الليوتنان زهران عساكره أن يصطفّوا أمام القبر وأن يطلقوا النّار في الهواء إكرامًا للرَّاقد فيه، ثمّ أوعز بتقديم السلاح وأداء التّحيّة لواحد من قادة الثّورة السوريّة ذي الرأس المفكر والعقل المدبّر رشيد باشا طليع. وقال كلمة حق: “الآن انقصم ظهر الثورة”.
أمّا المال الذي كان بحوزته فهو ألفا ليرة ذهبية مصدرها تبرعات لدعم الثَّورة، وزّعت على المجاهدين بالتساوي، “نال كلٌّ منهم ذهبيّة ونصف” بالإضافة إلى تركته الشّخصية وهي خمسون ليرة ذهبية من ماله الخاص أوصى بتوزيعها بعد وفاته على الرّجال المقاتلين من آل الجباعي في قرية الشّبِكِي وفاءً منه لعنايتهم به أثناء مرضه.
أما معاناة أهالي الجبل وهم الحاضنة الاجتماعيّة لرشيد طليع؛ فقد استمرّت مدّة ثلاثة أرباع القرن ونيّف (ستّة وسبعين عاماً) من المطالبة حتّى تمت الموافقة على إقامة نصب تذكاري على مشارف قرية الشّْبِكي في جبل العرب تكريمًا له في السادس من أيّار؛ عيد الشهداء، عام 2001.
وخلاصة القول؛ فإنَّ رشيد طليع سيبقى حيًّا في ذاكرة المناضلين العروبييِّن ما دام للمجتمع العربي قضية حُرّيّة يناضل من أجلها.

المقاربة الرّوحيّة لمفهوم الأخلاق في نهج الأمير السيّد (ق)

سيـرةٌ أثـيلَة

عاشَ الأميرُ السيِّد جمال الدّين عبد الله التنوخي قَدَّس الله سرّه منذ بداية العقد الثالث إلى ما قبل منتصف العقد التاسع، في القرن التاسع للهجرة (820 – 884 ه) / (1417 – 1479 م) وفقاً لما ورد في مصادر سيرته التي كتبها بعد وفاته من عرفهُ ووعاه واستنار بلطائف فوائده الروحيَّة والتزم نهجه في التدبير الحكيم لأمور المسلك والتعليم والتهذيب الأخلاقي الذي هو قاعدة أساسيَّة من قواعد أصول العبادات والمعاملات في الدّين.

وَتَتطابقُ رواية الفصول الأساسيَّة في سيرته التي كتبها، كلّ وفق أسلوبه، ثلاثة من معاصريه، منهم اثنان من خواص تلاميذه وإخوانه هما الشيخ أبو علي مرعي، والشيخ أبو يوسف علم الدِّين سليمان بن حسيْن، والثالث هو حمزة ابن أحد التلاميذ المعلّمين الذي كان يُقرئ غالبية التلاميذ القرآن الشّريف (أي يعلِّمُهُم قواعدَ قراءته) كما جاء في كتاب “صِدق الأخبار”، وهو الفقيه شهاب الدّين أحمد بن صالح الشهير بابن سباط. وكان حمزة، ابنه، في رَيعان الشباب عند وفاة الأمير السيِّد.

وأمَّا ملامح تلك الفصول فهي التزام الأمير جمال الدّين المسلك وفق الأعراف الأثيلة، وظهور مآثره الاستثنائيَّة خلال شهر واحد أدرك فيه سنّ البلوغ، ومن ثمَّ طوافه في البلاد طلباً للفائدة والمذاكرة مع “الأجواد”، ثمَّ تَشَكُّل كوكبة من المريدين النابهين المتيقظين حوله حملوا معهُ أمانة النهوض بالوعي الرُّوحيّ من التباسات “عصر الانحطاط” (يُسمّيه د. أسد رستم في أحد بحوثه: العصور المظلمة، ويتحدَّث عن الدور التنويري الذي قام به الأميرُ السيّد في تلك الحقبة)، إلى منافذ الإنابة والاستبصار والسَّعي الحثيث علماً وعملًا نحو “القبول والترقّي والعروج إلى حدِّ الإنسانيَّة” حيث تكون ثمرة أفعال المرء “العقل والحِلم والسُّكون والرَّزانة والرُّجحان، والعفاف والصِّيانة والنَّظافة والطَّاعة والطَّهارة ومكارم الأخلاق” إلى ما ماثلها من فضائل راقية سامية.

وتتعرَّض مصادر السيرة إلى ما واجهه من “مضادَدة” من العديد الذي “لم يفهم مبناه”، الأمر الذي أدَّى في ظروف معيَّنة إلى مغادرته “منطقة الغرب” إلى دمشق، حيث مكث فيها ما يناهزُ اثني عشر عاماً حتَّى تبدَّت للخَلق كراماته برزانة العقل وثاقب البصيرة وتوقّد القريحة وسموّ المسلك واتّساع فسحة المعرفة إلى آفاق لا تفي “بشرح معانيها الطّروس”. ومن ثمَّ عودته إلى بلدته، وانصرافه، بعد وفاة ولده الذي بلغ درجة العالِم في مستهلّ شبابه، إلى توضيح دقائق المعاني ولطائف مكنوناتها ممَّا يُحيي القلوب ويهذّب النفوس ويهيِّـــئُها إلى امتثال “مراسم الحقّ” كما هو لائق بكلِّ عاقِل.

والمرجَّح أنَّ السببَ المباشَر لعودته من دمشق إلى جبل لبنان بعد غيابٍ مديد هو وقعُ الرِّسالة الخطيرة التي كتبها “إلى جماعة البلدان وهو قاطن بمدينة الشام” (الاقتباسات من مجموع “مكاتبات الأمير السيِّد”)، ونبَّه فيها إلى عدم جواز بقائها في أيديهم، وقصْده من ذلك أن يُصار إلى قراءتها “في جميع البلدان”، كما أنَّه أنذر الكلّ بانَّه لم يبقَ عنده “مراجعة ولا كتاب، وهذه الصَّحيفة آخر القول والخطاب، ونهاية اللوْم والعتاب، إلَّا أن يكونَ الجوابُ حُسنَ المآب، والرّجوع إلى الحقِّ والصَّواب”. .

الكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها

تضمَّن الكتابُ “تعتُّب وتعنيف وحثّ لجميع الإخوان”، وتبدَّى في ثنايا سطوره الكثيرُ من الإشارات الواضحة الدالَّة على التقصير والتأخير “عن عنوان منازل السَّابقين”، وعلى القعود كلالًا (أي تعباً وضعفاً) وتخلُّفاً “عمَّا انتهَت إليه عزائمُ المجتهدين اللاحقين”، وذلك يُردُّ لأسبابٍ منها النزوع إلى “طلب الجاه، وحبّ الرئاسة وكثرة الأعوان، والمبالغة في إقامة الحُرمة والناموس إلى أبعد غاية وأقصى مكان” (مصطلح “الناموس” في المأثور الرُّوحيّ الذي نهل منهُ الأميرُ السيِّد بات يعني الانكباب على عمل الظاهر والاطمئنان إليه من دون اكتراث بتعلّق القلب وأهواء النفس المتلاطمة بزخاريف العالم الدنيويّ). تلك المنازع هي كلّها “مصارع” لأهل الزمان، مؤدية إلى سلبهم الدّين والدّنيا، وهدم المنزلة، وخسارة السّعي. ومن استبصر “ما هو كائن من أحوال المعاملات” لوجد في ذاته القناعة والغنى لوقوفه في مقام الاعتبار واستشعار النَّصيحة.
قاعدةُ السَّعادة

أراد الأميرُ السيِّدُ أن يكونَ في رسالته فصل الخطاب مع كلّ الّذين لم يستشعروا في مساره الروحي، ومقاربته الإصلاحيَّة البالغة العُمق، سوى مقابلتها كعادتهم “بشخص السماع”، ومعاملة لطائف المعاني بما في مادّتهم “من كثيف الطّباع”، وجعلها “سنْحاً لا على سبيل الانتفاع، وصفحاً عن العقول بخلاف الاعتراف والخضوع والارتجاع”. أراد، بما أضاء به جَنانَه من نور المعرفة، وبما حقـقه في نفسه العاقلة من ثمار التحقّق، “بذلَ النَّصيحة وإنهاج طرُق الرَّشاد” لئلَّا يقولوا “ما جاءنا مُنبِّهٌ ولا واعظٌ، ولا رأينا في الزمان مشمِّراً ولا ناهضاً”، بل هي “حُجَّة لله” عليهم.

هكذا، تبلْوَرَ في كتابه هذا، وأيضاً في كتابه إلى الشيخ أبي عبد القادر زين الدِّين ريَّان “الّذي فرَّغ قلبَهُ لتحصيل ما يوجب الفوز العظيم(1)”، الكثير من “اللُّـمَع” الروحيَّة البليغة الواردة في مقام النُّصْح والتعليم، والتي من شأنها إيضاح المقاربة الرُّوحيَّة لمفهوم الأخلاق من حيث هو، من كلِّ وجوهه المعرفيَّة والمسلكيَّة، شرطٌ أساسيّ وضروريّ لصحَّة “الدّيانة” ولتحقق “حدّ الإنسانيَّة” الآنف الذِّكر.

تشتدُّ لهجةُ الأمير السيِّد حين يعدِّد بعضَ الآفات التي من شأنها أن تُـقْعِد “عن سلوك الطريق الواضح” وهي: “موتُ القرائح، والكسل الفاضح، وعدم القبول من الناصح، والتعامي عن الذّنوب، والرّخصة في اتّباع الحقّ المطلوب”. فأمَّا القريحةُ، عدا عن كونها مَلَكَة تُمكِّنُ من استنباطِ العِلم، فإنَّها تدلّ أيضاً على “ما خرجَ من طبيعة الإنسان من غير تكلُّف”، وعليه، يكونُ موتُها سبباً لغلبة التكلُّف والتصنُّع والبلادة وركود الذّهن على حركة التصرُّفات والأعمال.

والكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، في هذا السياق، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها لحقائق الأمور، وإلَّا صارت “عَرَضاً لأسباب البلاء… متورِّطة في مهاوي الحَيْرة والعمَى… كلَّما أيقظها المُنذرون تناعست… وكلَّما شافهتها الأنوار أظلمت…”

إنَّ العجزَ عن “درْك العبارة والتكييف” هو بلْوى تُصيبُ النّفس فتأبى “أنْ تَـتَّحِدَ بالعنصر الكريم الشَّريف”، و”درْك العِبارة” هو إدراك معناها بالعقل وفهمه، ومن ثمَّ “تكييف” السلوك على ما تقتضيه مقاصد المعنى، أي مواءمة النَّفس مع تلك المقاصد بإحداث التغيير في الأعمال ظاهراً وباطناً فيما يؤدِّي إلى حالة الانسجام مع غاياتها الشَّريفة، ويؤكِّدُ الأميرُ السيِّد بأنَّ العجزَ عن بلوغ ذلك، وإهمال مكابدته سعياً إلى تحقيقه، يولِّدُ في النَّفس حتماً نوازع النفور والامتعاض والامتناع بل والعجز عن الاتّحاد “بالعنصر الكريم الشَّريف”، وهو معنى قوله: “أبَتْ نفوسُكُم”.

إنَّ “تـنقية النّفس وتصفيتها بعون الله سبحانه” هي الشَّرط الحتميّ لـ “اتّصالها بباريها واتّحادها بأنوار عظمته، وكمال التذاذها بجماله وجلاله… وهذا هو الدِّين الصَّحيح”(2) ويُسمِّي الأمير السيِّد هذا “الاتِّحاد” بصريح العبارةِ: “عَوْدُها إلى مشاهدة باريها” مؤكِّداً أنَّ “قاعدة السعادة في الدّنيا والدِّين أنَّ العبدَ يستشعرَ وجود حضور خالقه في سرِّه وطَوِيَّته… ولا ينطبع في جوهر العبْد مشاهدة الخلَّاق إلَّا بعد تهذيب الأخلاق…”

مقام الإحسان

ولا بُدَّ من توضيح مفهومَي “الاتِّحاد” و “المشاهدة” على قاعدة السَّنَد الشَّرعيّ السليم للحؤول دون الانزلاق في متاهة التباسات المعنى.
وردَ الحديثُ الشَّريف المشهُور المتعلِّق بمراتب الإسلام والإيمان والإحسان في كتُب السّـنَّة عن جماعة من أصحاب رسول الله (ص)، وأخرجهُ أئمَّة الحديث، واعتُبر في غاية الأهميَّة حيث ينتهي بتوضيح الرَّسول (ص) لهويَّة السائل عن تلك المراتب، وكان رجلًا “شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر لا يُرى عليه أثرُ السَّفَر ولا يعرفُه منَّا أحد” قال: “فإنَّه جبريلُ أتاكُم يعلِّمكُم دينكم”(3) .

ما يهمّ هنا على وجه الخصُوص، الجزءُ من الحديث في سؤال السائل لرسول الله (ص): “فأخبرني عن الإحسان. قال: أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراك”(4)
ويشرح الشيخ الحَكمي في “معارج القبول…” ما سمَّاهُ “مرتبة الإحسان، مستهلَّا الفصل بهذين البيتيْن:
وثالـــثٌ مــرتبــــــة ُ الإحســــــــــانِ وتلكَ أعلاها لدى الرَّحمنِ
وهي رسوخُ القلبِ في العرفانِ حتَّى يكون الغيبُ كالعِيانِ

ويقولُ موضحاً: ” وهي أعلى مراتب الدِّين، وأعظمها خطراً، وأهلها هُم المستكملُون لها، السابقون بالخيْرات، المقرَّبُون في علوّ الدرَجات… والإحسانُ هو تحسينُ الظاهر والباطن… ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(5).
ويلزمُ المرءُ أن يحقِّقَ “مقام الإخلاص” في تهذيب النفس، واتّباع مكارم الأخلاق، وبذل الهمَّة في السَّعي علماً وعملًا بصفاء نيَّة ونقاء قلب كي يصلَ إلى المقام الأعلى في الإحسان أي “المشاهدة”(6). “وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته اللهَ عزَّ وجلَّ بقلبِه، وهو أن يتــنوَّر القلبُ بالإيمان، وتنفذ البصيرةُ في العِرفان حتَّى يصيرَ الغيْبُ كالعِيان”(7)، وهذا كلّه لا يخرج عن معاني الحديث الشّريف: “… وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِل حتى أحِبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ بِه، وبصرَهُ الذي يبصر به… وإن سألني لأعطينَّه، ولئن عاذ بي لأعيذنَّه…”(8) وقد جاء في القرآن الكريم ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(9).

يقومُ العملُ على «تطهير القلب من الخبث والخيانة» مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ

تهذيبُ الأخلاق

تبيَّن أنَّ المدخلَ الحتميّ لتحقيق “قاعدة السَّعادة في الدّنيا والدِّين” هو “تهذيبُ الأخلاق”، والسَّعادة هنا متعلّقة بكمال “الجوهر الأنسيّ”، لا بالوهْم الَّذي يولِّدُه الانهماكُ في طلبِ اللذَّة الآنيَّة العابرة.
والتَّهذيبُ هو التنقية والإخلاص والإصلاح، ذلك أنَّ ما يشوبُ النَّــفس من عُيوب ونزوع إلى الهوى وإباحة الأشياء، هو من الأمور المؤذية، بل المُميتة، في المدى البعيد، لفطرتِها المولودة بالخيْر، وقد وُصِفت في القرآن الكريم بأنَّها “أمَّارة بالسُّوء”(10)، وتتضمَّن سورة الشَّمس فيه قسَماً يتلوهُ بيانٌ في قوله عزَّ وجلّ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، “فبيَّنَ لها طريقَ الشَّرّ وطريقَ الخيْرِ، قد فاز مَن طهَّرها ونمَّاها بالخيْر، وقد خسر مَن أخفى نفسَه في المعاصي”.

إنَّ الرّسالتيْن المميَّزتيْن للأميرِ السيِّد المذكورتيْن آنفاً، فائضتان بالتَّعبير عن نهجِ روحيّ ذي مستوى راق في المعرفة، حيث أنَّ مسألة “التهذيب” تشكِّل مُرتكزه ولبَّ مُحاجَّته وصولًا إلى الغاية الشَّريفة التي توخَّاها من كلِّ ما قام به في سيرتِه المعروفة، وتكثر “المدارج” المُفعَمة بالدلالات داخل نصَّيْهما والتي من شأنها الإضاءة بقوَّة على ما يتوجَّب التنبُّه إليه في أغوار النّـفس ودواخلها من دقائق الأسرار ولطائفها، ومن تناقُض الطّباع وانفعالاتها والتباسات نوازعها في الكثير من الأحوال. ومن هذه المدارج، فضْلًا عمَّا جرى اقتباسه أعلاه، ذِكْرُ ما قيل إنَّ “المفتاح كلمة التوحيد”(11)، ولا يُفتَح به إلَّا بعد “تطهير القلب من الخُبث والخيانة، وتطهير اللسانِ منَ الكذب والنَّميمة، وتطهير البطن من الحرام والشّبهة، وتطهير العمَل من الرِّياء والبدعة”(12).

فالقلب “خزانة كلّ جوهر نفيس”، وهو موضع نظر ربّ العالمين كما جاء في الحديث الشريف: “وإنَّما ينظر إلى قلوبكم”، وفيه لطائف أثر العقل والبصيرة والنيَّة ومدارك العلوم والحِكَم(13)، ولكن ثمَّة آثار ملوِّثة فيه تُسبِّبها الآفات الظاهرة والباطنة التي من شأنها أن تحجبَ عن مرآته إمكان استجلاء الحقيقة واستبصار السُّبُل إليها بالمعرفة والتحقق، لهذا سُمِّيت في المأثور المعتمَد “آفـات مُهلِكة”، وهي بالنتيجة “أخباث” مُضادَّة لـ “الطيِّـبات” وفقاً لِما ورد في القرآن الكريم ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾(14)، وظاهرُ الخبيث الأفعال المذمومة، والموبقات الشائنة، وباطنُه الطّباع المفترِسة لأثر العقل، والعقائد الفاسدة وكلّ ما يُضادِدُ الخيْر، ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(15). بطبيعة الحال، فإنَّ استسلامَ “القلب” لطغيان الخبائث هو “خيانة” للفطرة الإنسانيَّة في أصل التكوين، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾(16)، بذلك، يقومُ العملُ على “تطهير القلب من الخبث والخيانة” مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ، وهو عملٌ لا يغفل الباتّة عن حركةِ الدَّاخِل مهما كان الالتزام بادياً في حركة الظاهر، لأنَّ ما يعوَّلُ عليْه هو نقاء القلب كما جزمت به الآية الكريمة ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.(17)

وفي نقده الحادّ لواقع الحال الرُّوحي لكثيرين من أهل عصره الَّذين التبست في دواخلهم معايير القيَم ولم ينسلخوا “مِن حُلَّة الكثائف”، يصفُ الأميرُ السيِّد قلوبَهُم بأنَّها “حواصلُ المذق والرّيا والنّفاق”، أي إنَّ ما بقي فيها وثبت وذهَب ما سواه هو “المِذْق” أي المزج والخلط وعدم الإخلاص في الودّ، وأمَّا الرِّياء فأصلُه “طلب المنزلة في قلوب النَّاس يُرائيهم خصال الخيْر”(18)، وفي الحديث الشريف: “إنَّ أخْوف ما أخافُ عليْكُم الرِّياء والشَّهوة الخفيَّة”، فكأنَّهُ يرائي الناس بتركه المعاصي، والشَّهوة لها في قلبه مُخفاة(19). وأمَّا النّفاق فقد أتى تحديد معناه في “شرح الخصال”: “هو مخالفة الظاهر للباطن بالقوْل أو الفعْل، وكلُّ من طلبَ المنزلةَ في قلوب النَّاس فيضطرّ إلى النِّفاق معهُم، والتظاهر بخصال حميدة هو خالٍ عنها، وذلك عينُ النفاق”.

هكذا، وبالوتيرة ذاتها، يُمكن متابعة ما تقتضيه الأمور في تطهير اللسان، الذي هو “أشدّ الأعضاء جماحاً وطغيانا، وأكثرها فساداً وعدواناً…”، من آفة الكذب المدمِّرة لأساس الأخلاق، ومن آفة النّميمة التي هي “معصية… توغر الصدور وتفتح الشرور وتوصل إلى عظائم الأمور(20)”, وتطهير البطن من الحرام المؤدّي إلى عصيان الجوارح، وتطهير العمل من كافَّة أشكال الزّينة الباطنة، والنزوع في أهواء الرأي والقياس إلى ما ينأى عن الصِّحَّة في الأقوال والأفعال ومكنون الضمائر.

ينبوعُ الأخلاق

وفق هذا النَّهج، أي البحث عن ينبوع المفاهيم الأخلاقيَّة داخل الحقل المتحرِّك أبداً في أغوار النَّفس البشريَّة، والمُـعَرَّض بالقوَّة (أي بالإمكان) إلى عواصف المضاددة والأهـواء، يمضي الأميرُ السيِّدُ في مُحاجَّته لذوي الالتباس والشّبهات(21)، مُوضِحاً، على غايةٍ من العُمق والإبلاج والبيان، سُبُل المسالك الناجعة في “تهذيب الأخلاق” من حيث هي السَّمْتُ القويم لتحقيق الغاية التي بها يلاقي الإنسان حقيقة معناه.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

تحقيق عن بلدة عرمون

كبرت.. وكبرت مشاغلها
عرمون عاصـمــة التنوخـييــن زاخــــرة بآثــــار الماضـــي،
لكـــن الحاضـــــر اكتـــــظاظ ومشاكــــل بيئـــــة وعَطَـــــش

 

يعتبر بعض المؤرخين بلدة عرمون أول عاصمة للتنوخيين، كما أنَّها تُسمَّى عرمون الغرب لتمييزها عن عرمون أخرى تقع شمال بيروت في قضاء كسروان. يعود الاسم إلى اللغة الآرامية السامية، وهو يعني مصغر العرم أي الأكمة أو التلال. وتنطبق التسمية على جغرافية البلدة المُطلَّة على البحر والعاصمة عبر 3 تلال هي: “القبة”، “البيادر” و”المونسة”، لاسم البلدة أصل سرياني في الكلمة “أرما ” وتصغيرها “أرمونا “، وهي تعني أيضاً الأرض ذات التضاريس العالية والمنخفضة، أي التلال.

 

عائلاتها

عائلاتها المنتمية إلى طائفة الموحِّدين الدروز هي: أبو غنَّام، أبو خزام، الجوهري، حلبي، الحلواني، دقدوق، قبلان، المهتار، يحيى ومحاسن.
أما العائلات المنتمية إلى طائفة الروم الأرثوذوكس، فهي: شيبان، طبنجي، عرموني، عبد الله، عبد الكريم، خير الله وناصيف.
ومن العائلات التي لم يعد لها وجود في القرية: آل تنوُّخ، وآل إرسلان، وآل أبي الجيش، الصائغ وسري الدين. يشار هنا إلى أنَّه تمَّ مؤخراً وضع حجر الأساس للكنيسة في عرمون ترسيخاً للعلاقة الأخوية وللمُصالحة التي وَضَعت حدّاً لآثار الحرب الأليمة والتهجير.

 

سُكَّانها

يبلغ عدد سُكَّان عرمون المُسجلين ما يقارب الـ 7 آلاف نسمة بحسب إحصاءات العام 2006، ويتوقَّع لهذا الرقم أن يرتفع في نهاية هذا العام إلى ما يقارب الـ 12 ألف نسمة. وتضمُّ البلدة نحو 3043 مسكناً ممَّا يعطيها مرتبة ثالث أكبر بلدة في قضاء عاليه. ونظراً للتوسّع العُمراني خصوصاً في منطقة الدوحة، فَقَد اتَّسعت القاعدة السُكَّانية للبلدة. ويقطن في عرمون العديد من الجنسيات المختلفة، كما انتقل للعيش في ساحلها الكثير من

أهالي: بيروت، حاصبيا وبعلبك الهرمل، وذلك لقُربها من بيروت وبُعدها عن الضجيج ومشاكل المدينة.

 

الموقع والمساحة

تقع عرمون الغرب في قضاء عاليه، محافظة جبل لبنان، وهي تبعد عن بيروت 15 كلم، ويبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر 450 متراً، ويمكن الدخول إليها عبر طريق بيروت – المطار، أو عبر طريق الأوزاعي مدخل طريق الحدث الشويفات، أو عبر محور بيصور وعيناب عبر قبرشمون.
تبلغ المساحة الإجمالية لبلدة عرمون 10288 هكتاراً، وهي خامس بلدة من حيث المساحة في قضاء عاليه.
لكن، وعلى الرغم من مساحتها وتلالها الحرجية، الخضراء، فإنَّ عرمون لا تشتهر بزراعات مُعيَّنة، لكن الزيتون هي الشجرة الأبرز فيها، وتمتاز بينابيع عديدة أشهرها عين البلدة في وسط وادي البلدة، والتي يقع مجراها بين جبلين. هناك ينابع أخرى إمَّا ارتوازية أو طبيعية تتوزَّع بين أحيائها، وتستمدُّ مياه الشرب من مصلحة مياه الباروك.

%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%8a%d8%ad%d9%83%d9%8a

 

المناطق التابعة لها جغرافياً وإدارياً
  •  دوحة عرمون التي كانت مُلك آل سلام، وأصبحت الآن تجمُّعات سُكَّانية ضخمة تحوي آلاف المباني والمحال التجارية، ويقدر حجمها بنحو 3 أضعاف حجم قرية عرمون الأصلية.
  • دوحة الحُصّ: سُمِّيت كذلك لأنَّ رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص كان يقطنها مع كبار رجال الأعمال؛ وهي منطقة حديثة تزخر بالفيلات الضخمة والفخمة، ويقع فيها مقرُّ السفير المصري ومدير اذاعة نيو تي في NTV، وغيرهم من الشخصيات السياسية والديبلوماسية.
  • خلوات المونسة: هي منطقة بعيدة عن الضجيج السُكَّاني تحيطها أشجار وحدائق، وهي في أعالي البلدة كانت شبه قرية صغيرة يقصدها رجال الدِّين ليختلوا في العبادة وطاعة الله.
  • مناطق الدوير والخلة والبستان: وهي مناطق زراعية مهمة ومواقع طبيعية خلاَّبة.
  • منطقة البيادر: هي المنطقة المُستحدثة التي تقام عليها الآن مشاريع سكنية ضخمة، مثل: “أبراج الكمال” ( 5 أبراج كلِّ منها بعلو 25 طابقاً)، و”مشروع القرية الكندية” (37 مبنىً بارتفاع 3 طوابق)، ومشاريع “الرابية 1″ و”الرابية 2” و”مشروع السعيد”، وكلها مشاريع ضخمة توحي بوجود بلدة حديثة صاعدة إلى جانب القرية التاريخية.
تاريخها

تحتلُّ عرمون موقعاً خاصاً في تاريخ لبنان والجبل، لاعتمادها ولقرون طويلة كعاصمة للتنوخيين، وذلك قبل سرحمول وعبيه. وقد استوطنها آل تنوخ فأحبُّوا طبيعتها، وبنوا فيها القصور والقلاع وجعلوا منها مركزاً لحُكمهم من القرن الثامن للميلاد وحتى السادس عشر. وما زالت هناك آثار المباني والقلعة في تلَّة القبة عرمون.
ويمكن العودة بتاريخ عرمون إلى الحقبة الرومانية، وقد قطنها الرومان وخلَّفوا فيها أثاراً، مثل: بقايا سور القلعة، النواويس الحجرية المزخرفة، وقناة المياه الفخَّارية في خريبة الدوير؛ كما تحتوي البلدة على آثار بيزنطية، منها: لوحة فسيفساء مملكة الملك مرتغون في الدوحة، وقيل أنَّ هيرودوس، ملك فلسطين استخدمها سنة 27 قبل الميلاد (تحت اسم بلاتانو) مُعتقلا

 

” أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان “

 

لسجناء وُجِّهت إليهم تهمة الخيانة.
ومع بروز دعوة التوحيد في مصر، وفي العهد الفاطمي اعتنق أمراءُ عرمون التنوخيون الدعوة، وانضمَّ أمير عرمون المنذر بن النعمان إلى جيوش الخليفة الفاطمي سنة 968م. وبرز من أمراء عرمون الأمير شجاع الدولة عمر بن عيسى التنوخي، وهو الذي أتمَّ بناء حارة العين والحمَّامات في عرمون، كما أنه بنى المسجد المعروف باسمه قُرب عين البلدة، وما زالت آثاره قائمة حتى يومنا هذا.
وبرز من الأمراء البحتريين التنوخيين الأمير علي بن بحتر الذي وَلاَّه الملك الصالح بن نور الدين الاتابكي على إمارة الغرب سنة 1172 م، وكان سكنه في الحارة التي بناها على طريق العين، والتي تبقى آثارها قائمة.

 

مقامات وآثار عرمونية

مقام الشيخ سعد الدين أبوغنَّام، مقام الشيخ سيف الدين الجوهري، مقام

الشيخ صالح الحلبي، دار النائب (في عهد القائمقاميتين) حسيب أبوغنَّام، عين البلدة الأثرية، بقايا جامع الأمير مسعود الإرسلاني – دار زين الدين يحي، بقايا قصر الأمير جمال الدين صبحي التنوخي، السرايا الأرسلانية، قصر الأمير جمال الدين، دار الشيخ حسين فخور المهتار، مغارة السرج ومغاور الفحم، دار أسعد دقدوق، دار الشيخ سعيد سلوم ، والعديد من البيوت الأثرية المُرمَّمة والمسكونة، والتي ضاعت المعالم الأثرية لبعضها بين هدم وترميم.

 

حِرجُ الضيعة

على الرغم من المشاكل البيئية التي نجمت عن الاكتظاظ السكاني في عرمون، فإنَّ حِرج الضيعة الذي يمتاز بأشجار الصنوبر الشاهقة ويربض على تلَّةٍ تُطِلُّ على عرمون البلدة وبيروت، لا يزال شامخاً رغم تعرُّضِه مراراً للحرائق؛ لكن صغر مساحته جعلت منه موقعاً مميَّزاً ومقصداً للمُتنزِّهين. فقامت البلدية مؤخراً بالتعاون مع الجمعيات بترميم حائط الطريق المؤدِّي إليه، وتمَّت إضافة كمِّيات كبيرة من الأتربة بهدف تخصيب أرضه وإنعاشها. ويجري الحفاظ على الحِرج الآن كمحطة طبيعية خلاَّبة للقاء العائلات العرمونية والبيروتية في جوٍّ من الخضرة والظلال والهدوء.
كما استحدثت البلدية مؤخراً سلسلة من الحدائق العامة وهي صغيرة المساحة، ولكنها مهمة جداً بحيث تحوَّلت مناطق عدَّة من مَكبَّات متفرِّقة للنفايات أو الأنقاض إلى ساحات خضراء تملؤها الورود وأشجار الزينة.

 

مشروع المُجمَّع الرياضي

وضع المجلس البلدي الجديد لعرمون خطَّة لبناء مركز صحِّي ومجمَّعٍ رياضي وثقافي كبير، يؤمل أن يُنشِّطوا الحركة الرياضية والثقافية في البلدة والجوار. ويعتبر ترميم الملعب الرياضي وافتتاح المكتبة العامة خطوتين مهمتين في المسيرة الإعمارية للبلدة وتطوُّرِها؛ كما أنَّ انجاز مبنى الثانوية العامة الرسمية الجديد أعطى دفعةً قوية لقطاع التعليم؛ وبعد أن كان عدد طلاَّب الثانوية لا يتجاوز الـ 100، فقد ارتفع هذا العام إلى أكثر من 300 طالب وطالبة.

 

المؤسسات التربوية

أصبحت عرمون، وبسبب قُربها من بيروت العاصمة، مقراً مهماً لعدد متزايد من المؤسسات التعليمية التي تخدم ألوف الطُلاَّب والطالبات ومن أبرز هذه المؤسسات المتواجدة حالياً:

  • معهد الحكمة التوحيدي
  •  مدرسة الادفنتست السبتية الانجيلية (تأسَّست العام 1852)
  • مدرسة عرمون المتوسطة الرسمية (تأسَّست العام 1990)
  • ثانوية عرمون الرسمية (حديثة)
  • ثانوية العلوم والآداب (تأسَّست العام 2002)
  • مجمَّع نازك الحريري التربوي
  • المدرسة اللبنانية الأوروبية – يونيفرسال تكنيكال سكول (دوحة عرمون)
  • مبرة الإمام الخوئي الدوحة
  • مدرسة النشىء السليم عرمون
  • مدرسة البيادر، عرمون
  •  دار الأيتام الإسلامية
  • معهد التعليم المهني لجمعية المبرَّات الخيرية
  • معهد علي الأكبر المهني
  • مركز مؤسسة مخزومي للتدريب والتأهيل المهني
  • مدرسة الجواهر
  • مدرسة النجمة.

 

بعض رجالات وشخصيات عرمون السابقين

أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

  • الشيخ شمس الدين الصائغ التنوخي (فيلسوف وشاعر، ومن تلامذة السيد الأمير جمال الدين التنوخي)
  • الأميرة أم علي، ابنة جمال الدين أحمد الإرسلاني (زوجة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير)
  • الشيخ معضاد بن نجم أبوغنَّام (أشتهر بالصلاح، وكان شيخ صُلحِ إمارة عرمون، وهي تشمل بلدات كثيرة)
  • الشيخ جمال الدين بن ابراهيم المهتار (مرجعية دينية، ومؤسِّس خلوات المونسة)
  • الشيخ سليمان بن إبراهيم الجوهري (رجل دين توحيدي بارز، وله مواقف ذائعة).
  • النائب حسيب أبو غنَّام (نائب مجلس الإدارة الأوَّل الذي تأسَّس بموجب بروتوكول 1861 م)
  • الشيخ سليمان بن حسن الحلبي (شيخ دين بارز امتاز بمسلكه الورع ونفوذه الكبير)
  • السيد أسعد ناصيف (أحد قادة الجيش في الولايات المتحدة الأميركية)
  • الشاعر عجاج سليمان المهتار (شاعر وكاتب وأديب، وله مؤلَّفات عديدة)

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

مشكلة مياه الشفة – مصلحة مياه الباروك

كبرت بلدة عرمون وتوسَّعت، ونشأت فيها مناطق حديثة مثل……. لم تكن مشمولة بأيِّ مصادر مياه. ومع تزايد السُكَّان وتنامي عدد البيوت، تضاعف الطلب بصورة هائلة على موارد المياه وباتت الحصَّة التي تأتي إلى البلدة من مصلحة مياه الباروك غير كافية لسدِّ عطش الناس المتزايد إلى المياه، وبات سُكَّان البلدة لا يحصلون على المياه أكثر من 4 ساعات يومياً، وهذا بالنسبة إلى الذين تصلهم الشبكة؛ علماً أنَّ 40 في المئة من سُكَّان عرمون داخل البلدة طبعاً يستفيدون من مياه الشرب، وأمَّا بقيَّة سُكَّان البلدة، وخصوصاً منطقة المونسة والجوار وشارع آل جوهري، فإنَّهم محرومون منها، ممَّا يعني أنَّ مئات المنازل في هذه الأحياء الجديدة مضطرة لإنفاق المبالغ الكبيرة على شراء المياه الصالحة للشرب في معظم أشهر العام.
وبهدف معالجة مشكلة المناطق الجديدة، فقد تمَّ قبل فترة 5 سنوات، إنشاء خزَّان كبير في أعالي عرمون بهدف استقبال مياه الباروك الإضافية، وتتمّ تمديد شبكة مياه تمرُّ بالمناطق المذكورة. ولكن، لسبب مجهول لم يُستكمل الخزَّان (الذي امتلأت بعض جوانبه بالأتربة الآن)، ولم تصل المياه الإضافية إليه، وبقيت صنابير البيوت في تلك المنازل جافَّة، بل ربَّما علاها الصدأ.

 

ولادة ثانوية عرمون الرسمية

بين أهم الإنجازات التي تحققت لبلدة عرمون، إنشاء مبنى الثانوية الحديث على أرض تقارب مساحتها الـ 10 آلاف متر مربع، وعلى إحدى التلال الجميلة عند مدخل القرية. وقد تسلّمت إدارة الثانوية المبنى الجديد هذا العام، وانطلقت رغم ذلك بمجموعة طلاب ثانويين تجاوز عددهم الـ 170 طالباً، بعد أن كان عددهم لا يتجاوز الـخمسين، علماً أن المدرسة بنيت لاستيعاب ما يقارب الـ 400 طالب. لكن على الرغم من إنجاز المبنى الكبير، فإن المدرسة ما زالت في حاجة إلى تجهيز المكتبة والقاعة العامة وإلى ملعب كرة سلة مسقوف، فضلاً عن تجهيز المكتبة الإلكترونية التي تسمح للطلاب باستكشاف الإنترنت واستخدامها كوسيلة مباشرة للبحث وتوسيع المعارف والمهارات.

الأستاذ نظام الحلبي، مدير الثانوية، والذي عمل لمدة طويلة من أجل تأمين إنجاز المبنى يبدي سروره بهذا الإنجاز الذي خلق صرحاً تربوياً مهماً لبلدة عرمون ولمختلف البلدات المحيطة. وحرص الحلبي على توجيه الشكر “للزعيم وليد جنبلاط الذي لولا دعمه لما أمكن تأمين اتخاذ القرارات وتوفير الإعتمادات لتنفيذ أعمال الثانوية.”

من عاشر القوم

 يطرح الاغتراب خصوصاً في البلدان الصناعية المتقدمة تحديات كبيرة أمام الأسر الدرزية التي ما أن تطأ تلك الأرض حتى تجد نفسها فجأة في دوامة أوضاع غريبة لم تعهدها من قبل، وليست مجهزة بالتالي للتعامل معها. هذه الحالة التي تسمى عادة بـ “الصدمة الثقافية” سببها الأساسي أن المغترب الذي يقرر الاستقرار في تلك البلدان ليست له فكرة حقيقية عن البون الشاسع القائم في العقائد والعادات وأسلوب العيش، وفي الحياة والقوانين وغير ذلك بين الوطن الذي تركه وبين البلد الذي وصل إليه.

 

في الغالب هذا المهاجر أو المغترب قد تكون لديه فكرة عامة عن تلك الفروقات، لكنه في عجلة من أمره ولا يفكر في البدء إلا في “الجائزة” التي سيحصل عليها بمجرد وصوله: فرصة للعمل وأجر جيد وإمكانية تملك بيت وتعليم للأولاد ورعاية صحية وسهولة في العيش، كما أنه وهو الذي يملأه الحنق على بلده، وعلى ما يشكو منه من فساد وتعسف وانتقاص للحقوق يتطلع إلى البلد المضيف باعتباره بلد قانون سيوفر له كل ما كان يفتقده في بلده الأم من عدالة في المعاملة واحترام للفرد ولحقوقه الأساسية للمستقبل.

 

ذلك هو وعد الهجرة الذي يحرك العديد من الشباب لركوب الطائرة وترك البلد، لكن لفرط تركيزهم على ما ينتظرهم من فرص لتحسين الحياة المادية لا يفطن معظم هؤلاء إلى الحقيقة التي يلخصها المثل القائل “ما كل ما يلمع ذهباً”. لا ينتبهون إلى أن الاغتراب صفقة شاملة لا يمكنك بسهولة أن تشتري منه الشق الاقتصادي، أي العمل والرخاء النسبي والتعليم وغيرها، وأن تتهرب في الوقت نفسه من الموجبات التي يفرضها نظام المجتمع المضيف من نظام قيم وسلوك ومفاهيم يبدأ الأطفال في تشربها من رفاقهم وجيرانهم، ثم تتبلور لديهم أكثر في سنوات الدراسة وعبر التفاعل مع أهل البلد ومشاهدة سلوكهم، ثم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي تملأ فضاء فكرهم ووجدانهم بقيمها. وحسب المثل المعروف، فإن من يعاشر القوم أربعين يوماً إما يصبح منهم أو يرحل عنهم. وهذا المثل فيه حكمة كبيرة ويشير إلى قانون إنساني بديهي وهو قانون التماهي الاجتماعي والسلوكي لأن الفرد يتجه بالغريزة للقبول بعادات القوم ويصبح جزءاً منهم، فإن لم يرغب في ذلك أو أدرك عمق الاختلاف فإن خياره الوحيد هو الرحيل عنهم لأنه في غير مقدور الفرد تبديل سلوك الجماعة، بل الجماعة هي التي تفرض تبديل سلوك الفرد حتى يصبح مثلها ويستحق أن تقبله في صفوفها.

 

بالطبع هناك أقليات عديدة تمكنت من الحفاظ على قدر معين من (وليس كل) هويتها الثقافية مثل الصينيين أو الهنود أو بعض المسلمين المهاجرين من باكستان أو بنغلادش، وقد حصل ذلك عندما تجمعت أعداد كبيرة من هؤلاء وخلفت لنفسها “ثقافة فرعية” تكافح يومياً للاستمرار في ظل الثقافة المهيمنة. لكن هذه الحالات لا يعتد بها بالنسبة للدروز لأنهم قليلي العدد، الأمرالذي يفرض عليهم التفرق والعيش وحدهم أحياناً فلا يتوافر لهم البيئة التي يمكن أن يصل بها ابناؤهم على الأقل للحفاظ على لغتهم العربية أو توعيتهم على تاريخهم. وهذا ما يعقّد مهمة المهاجرين الدروز أكثر بحيث ينتهي الأمر غالباً بخسارة الصلة الحقيقية بالجذور خصوصاً بالنسبة للجيل الثاني الذي يولد في بلد الاغتراب.

يجب القول إن فقدان الهوية والانحلال التدريجي في البيئة الاجتماعية والقيمية الجديدة ليس الخسارة الوحيدة وإن كان الخسارة الأهم في كثير من الحالات، إذ إن هناك خسارة مضافة هي خسارة فرصة العودة إلى الوطن إما بسبب الاولاد الذين يصبح هدفهم البقاء في ما يعتبرونه “بلدهم”، وإما بسبب تراجع قيمة العملة المحلية (كما في الكثير من بلدان أميركا اللاتينية)، وبالتالي صعوبة بيع الأعمال والمؤسسات التي يملكها المغترب بما يكفي لتأمين العودة الكريمة إلى الوطن أو غير ذلك من العوائق المادية أو النفسية. بالطبع خسارة الموحدين لأبنائهم بصورة نهائية أمر محزن ويطرح إشكالات عديدة لكن ما هو الحل؟

 

لا يوجد حل شامل لأن الأشخاص يتفاوتون في الفهم وقدرة التعلم لكن النصيحة البسيطة للموحدين الدروز هي أن يتفكروا ملياً قبل السفر إلى البلدان الغربية البعيدة، لأن تلك البلدان مصممة لاستقطاب الناس وإذابتهم وأسرهم بكل معنى الكلمة بسلاسل الاستهلاك ومستوى المعيشة المرتفع الممول بالدين من المصارف أو عبر بطاقات الائتمان. ونحن نقول إذا كان لا بدّ من الهجرة فادفعوا أبناءكم باتجاه الخليج أو أفريقيا ولا تدفعوهم باتجاه المغتربات البعيدة التي يصعب العودة منها إلا بشق الأنفس. وفكروا قبل أن ترسلوا أبناءكم للتعلم في المجتمعات المتقدمة خاصة وأن لبنان يعتبر أفضل مركز للتعليم وتخريج القيادات في المنطقة. فكروا أولاً في شخصيتهم ومدى قدرتهم على مقاومة الإغراءات ومدى تعلقهم بالوطن، لأن الاحتمال قوي بأن تسارع تلك البلدان إلى تقديم الإغراءات لاستبقائهم فيها وعندها لا ينفع التفاخر ولا التباهي بالمراكز المرموقة التي حصلوا عليها.

أكثر ما يساعد المرء أن تكون طموحاته عاقلة ولا يجمح في غمرة شعور التزاحم والركض خلف مظاهر الحياة المادية إلى خيارات يعود فيصبح أسيرها.

أبرز الأحداث الثقافية

[su_accordion]

[su_spoiler title=” أبرز الأحداث الثقافية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

هذا باب جديد تفتحه بدءاً من العدد 22.
من نافل القول أن كمجلة فصلية لا تستطيع التغطية اللصيقة بكل الفعاليات والأنشطة الثقافية. إلا أنها لا تستطيع أيضاً، وكمجلة ثقافية، إلا أن تمرّ بأهم المحطات الثقافية التي انعقدت قبيل أسابيع أو أيام من صدور كل عدد جديد. وعليه نختار، ولضيق المساحة، بضعة أحداث ثقافية ، كعينة مما يجري حولنا ثقافياً؛ وفي ما يلي بعض أهم المحطات أو الفعاليات تلك:

انتخاب مدير جديد لمنظمة
الأونيسكو الدولية
لعل أهم حدث ثقافي تابعنا فصوله في الأسابيع الأخيرة وذروته في 15 تشرين ثان 2017 والذي تمثّل بانتخاب المدير العام الجديد لمنظمة الأونيسكو الدولية ومقرها باريس. نعرض للموضوع هذا، ليس لأهميته على مستوى الثقافة في العالم والدور الكبير الذي تلعبه المنظمة في المجالات الثقافية والتربوية، وإنما تحديداً لجهة عجز البلدان العربية مرة أخرى من الفوز بمنصب المدير العام، علماً أنه كان هناك شبه إجماع على أن المنصب هو من حق شخصية عربية، الأمر الذي لم يتحقق. والسبب هذه المرة هو الخلافات العربية العربية. فقد ترشح للمنصب ثلاث شخصيات عربية، اللبنانية فيكي خوري، المصرية مشيرة خطّاب، والقطري وزير سابق للثقافة حمد الكواري، إضافة إلى وزير الثقافة الفرنسية السابقة. وانتقلت الخلافات العربية البينية إلى قاعة المنظمة الثقافية الدولية الأكثر أهمية، وفي الدورة ما قبل الأخيرة انحصر الصراع عربياً بين مصر وقطر. وحالت الخلافات دون وصوا إي منهما، ولتفوز المرشحة الفرنسية أودري أزولاي، وبسبب من الخلافات العربية الحادة.

بين أهم ما أنجزته المنظمة السنة الماضي هو اعترافها بفلسطين عضواً كامل العضوية في المنظمة، بالإضافة إلى اعتبار القدس القديمة، والحرم الإبراهيمي في الخليل ضمن مواقع التراث العالمي المحمية من الأونيسكو، وسط اعتراض الولايات المتحدة وإسرائيل.
جائزة رفيعة لروائية جزائرية شابة
مُنحت جائزة “رونوود” الأدبية الفرنسية للروائية الجزائرية الشابة كوثر عظيمي (31 سنة) عن روايتها “ثرواتنا”. تعرض الرواية سيرة صاحب مكتبة في العاصمة الجزائرية ، إدمون شاكو، أول ناشر لكتب ألبير كامو في الثلاثينات، كما تعرض بأسلوب سردي تحولات العاصمة الجزائرية منذ الاستعمار إلى الاستقلال، والتداخل الجاري بين الفقر والبطالة والضياع بين مدينتي: الجزائر الثلاثينات والجزائر اليوم.

لغة عربية بأحرف لاتينية
بعدما تفاقمت ظاهرة الكتابة العربية على وسائط “السوشيال ميديا” بأحرف لاتينية، وما يحدثه ذلك من تشويه بصري وبلبلة فكرية وخروج على أبسط التقاليد اللغوية، استضافت جامعة الاسكندرية في مصر مؤتمراً بعنوان “اللغة العربية وقضايا التواصل في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات”. الغاية من المؤتمر “مقاومة كتابة العربية بحروف لاتينية…وما يؤدي ذلك من كوارث تربوية وقومية على المدى البعيد منها زعزعة أركان ممارسة اللغة العربية وضياعها على المدى البعيد. وانتهى المؤتمر إلى توصيات تمحورت حول جعل العربية مقرراً رئيسياً في جميع الاختصاصات الاكاديمية والمهنية، وشرطاً للتعيين في الوظائف العامة، إسوة بالإنجليزية في القطاع الخاص. كذلك إرشاد الجمهور إلى مخاطر إهمال استخدام اللغة العربية على أدوات التواصل الألكترونية، مع الدعوة في الآن نفسه إلى تبسيط اللغة العربية وتعميمها. فهل يؤدي هذا التحرك وسواه إلى نهضة لغوية جديدة؟ نأمل ذلك.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”معرض بيروت للكتاب العربي والدولي في دورته 61
وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

30/11/ 2017 – 13/12/2017
قبل الدخول في تفاصيل معرض بيروت للكتاب العربي والدولي في دورته الواحدة والستين، نتوقف قليلاً قبل ذلك عند معرض آخر:

معرض بيروت للكتاب الفرنكفوني
في دورته الـ 24 / 2 – 12 نوفمبر 2017
بالإضافة إلى ريادتها في احتضان الكتاب العربي، تستمر بيروت مركزاً رئيسياً في المنطقة للكتاب الفرنسي اللغة. فالعاصمة اللبنانية تحتوي عدداً من دور النشر والمكتبات ذات اللغة الفرنسية، والمدعومة بطرائق مختلفة من الوكالة الفرنسية الفرنكفونية. ففي بيروت عشرات ألوف اللبنانيين ممن يعتبرون الفرنسية لغتهم المفضلة، عدا أعداد كبيرة من الفرنسيين المقيمين، ما جعل معرض الكتاب الفرنكفوني تظاهرة للكتاب الفرنسي في لبنان.
افتتحت المعرض وزيرة الثقافة الفرنسية فرانسواز نيسين، التي كان نفسها يوماً ما مديرة لدار نشر باريسية معروفة. تحدثت الوزيرة الفرنسية عن العلاقات الثقافية التاريخية بين فرنسا ولبنان، واعتبارها الفركفونية “جسر انفتاح” لتبادل المصالح والمشاريع بالإضافة إلى المعرفة والأفكار.
وزير الثقافة اللبناني
وزير الثقافة اللبنانية الدكتور غطاس كرم الذي شارك الوزيرة الفرنسية حل افتتاح المعرض الفرنكفوني، رحب بالوزيرة الفرنسية وبالعارضين المحليين والفرنسيين، واعتبر المعرض دليلاً على حيوية المجتمع اللبناني وتنوعه الثقافي. ورأى خوري إلى المعرض كظاهرة تحتضن “عشاق اللغة الفرنسية في لبنان”. والمعرض كرّم أخيراً رمزاً لبنانياً فرنكوفونياً ومناضلاً لبنانياً تاريخياً ضد الطائفية هو المثقف اللبناني الراحل سمير حميد فرنجية.

معرض بيروت للكتاب اللبناني
والعربي والدولي
للعام الواحد والستين يستمر النادي الثقافي العربي في بيروت في تنظيم التظاهرة الثقافية الأولى في لبنان وهي معرض بيروت للكتاب العربي.
افتتح المعرض نهار الخميس في 30 تشرين الثاني 2017. وبعد كلمتين من رئيس النادي الثقافي العربي واتحاد الناشرين اللبنانيين سميرة عاصي، افتتح رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة أنشطة المعرض بإسم دولة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري. اعتبر السنيورة في كلمته استمرار المعرض تظاهرة سنوية وجهاً ثقافياً ثابتاً لبيروت ولبنان، ورأى أن وجه لبنان الثقافي لا يتغير وإن تبدلت الظروف السياسية”.
شارك في المعرض 160 دار نشر لبنانية، و60 دار نشر عربية، وحضور إيراني ثقافي لافت.
رافق المعرض عشرات التواقيع والندوات التي تناولت كتباً جديدة صدرت والتي شكلت ظاهرة المعرض اللافتة.
كان للـ لقاءات أبرزها مع رئيس النادي الثقافي العربي، الجهة المنظمة، الاستاذ فادي تميم. الاستاذ تميم رأى أن النجاح في تنظيم الدورة 61 من معرض بيروت للكتاب العربي للدولي رغم الصعوبات الداخلية والخارجية هو نجاح للحياة الثقافية في بيروت ولبنان، ودليل على حيويتها، واستمرارها وتطورها. الاستاذ تميم اعترف أن الأسابيع الأخيرة التي سبقت افتتاح المعرض أثرت سلباً على عدد من المشاركين ات الذين تخلفوا عن الاشتراك في المعرض على غير عادتهم السابقة (إذ لم يشترك عربياً إلا عمان ومصر وسوريا والعراق)، وهو ما أثّر سلباً على التبادلات والعقود التي كان يمكن أن تتم. كما أثرت المخاوف سلباً على حركة الزائرين التي كانت دون التوقعات، بالمقابل كان هناك حضور إيراني واسع جداً، لكن ذلك لم ينعكس في المبيعات أو في العقود والصفقات.
بعض الناشرين الذين التقتهم (الاستاذ سليمان بختي، دار نلسن، الاستاذ عيسى أحوش، مكتبة بيسان، الاستاذ عارف حسن، مكتبة نبيه) وآخرين شكوا أيضاً من تراجع عدد الزائرين والطلب على الكتاب هذا العام، وغياب كلي للصفقات التي كانت تذهب إلى الخليج العربي.

ومع ذلك أمل الجميع أنه مجرد تعثر طفيف أو غيمة وتمرّ ويستعيد المعرض والكتاب ودور النشر عافيتهم، (بتحسن الأوضاع السياسية في العالم العربي)، كما سيتبيّن للقراء ان لا غنى عن الكتاب الورقي المطبوع، وأن الأنترنت هي باب للمعلومات الخفيفة السريعة، كما الصحيفة اليومية، وليست بديلاً عن الكتاب، للطالب، للمدارس، وللباحث على وجه الخصوص.
اختتم المعرض في 13 كانون أول 2017، ونتائجه تظهر تباعاً. لا أرقام دقيقة للمبيعات، ولا حتى التي يعلن عنها النادي الثقافي العربي، الجهة المنظمة. السبب هو الطريقة التقليدية في احتساب عدد الزوّار اعتماداً على ’القسيمة’ التي يحملها من البائع، وتحدث عن الفوضى في ذلك، وعدم الدقة.
هذا النقص يجرّ إلى ثغرات أخرى تحدث عنها العارضون، من مثل انخفاض فاضح في الإضاءة، السجاد القديم جداً، التدخين بكثافة، دخول المطر لأجزاء من القاعة، التعرفة الغالية لمواقف سيارات الزوّار والتي لم تخفّض إلى 3000 ل ل إلا في الأيام الأخيرة من المعرض. ويأخذ البعض على المعرض تحوله إلى مجرد ساحة لبيع الكتب، وللكتّاب للترويج لكتبهم، وعجزه عن القيام بأي دور إضافي: من مثل استضافة كبار الأدباء والعلماء من العالم العربي والعالم الأوسع.
التقديرات الحقيقية لحركة المعرض في دورته 61 تشير إلى انخفاض تدريجي في عدد العارضين، كما في عدد الزوّار، كما في المبيعات؛ وهو مؤشر خطير للأعوام القادمة – مقابل مثلاً أكثر من 3 ملايين زائر لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، و600 عارض، و150 مليون كتاب.
نتمنى، رغم كل شيء، استمرار هذه الظاهرة الثقافية التي تحتضنها بيروت عند نهاية كل عام، ولكن من غير المعقول أن لا يلتفت إلى الثغرات وأن يجري تصحيحها، وأن تقوم وزارة الثقافة، وربما سواها من الوزارات بدعم المعرض.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” ندوات ثقافية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أهم الندوات التي جرت في الأسابيع الأخيرة ننقلها لقارئ ، مع الاعتذار سلفاً عن عجزنا، وبسبب من ضيق المكان، عن الترسّل أو التفصيل لتلك الندوات، على أهميتها. ونعد القارئ كما المنتدين الذين أرسلوا غلينا مداخلاتهم أن نقوم في أعداد لاحقة بتقديم ملخصات لها. نوثّق هنا بعض الندوات لا اكثر ومرة ثانية بسبب من الحدود الطباعية المتاحة لنا، وليس للمفاضلة في الأهمية، فكل ندوة أو معرض، أو كتاب، يمتلك خصوصيته وأهميته. وقد لهذا العدد أربع فعاليات متنوعة، لجهة موضوعاتها وتمثيلها.

اليوم الفلسفي العالمي
الذي احتفلت به الجامعة الأردنية في عمّان
في 19 تشرين ثان 2017.
تحدث في الافتتاح جون كراولي، رئيس قسم الفلسفة في منظمة اليونسكو باريس، عن أهمية الفلسفة عبر التاريخ ودورها الثقافي والإنساني والتربوي، وقال أن لها أدواراً أخرى راهنة ومعاصرة يمكن أن تعزز بها الثقافة والترقي الاجتماعي وبخاصة في مواجهة العنف.
وكان لرئيس التحرير (أ. د. محمد شيّا) محاضرة رئيسية بدعوة من قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية. كان عنوان المحاضرة: “التربية على ثقافة الفلسفة في مواجهة ثقافة الإرهاب”. ركّزت المحاضرة على تعريف الإرهاب والخلافات المستمرة في الموضوع بين البلدان والمجموعات المختلفة في الأمم المتحدة، ثم عن كلفة الإرهاب الباهضة، اقتصاديا ومالياً واجتماعياً، وقبل ذلك في الإساءات التي جلبتها إلى مجتمعاتنا وما أرتبط منها بأدياننا زوراً وادّعاء، ثم أخيراً كيف يمكن للتربية على الفلسفة أن تسهم في بناء ثقافة عقلانية مدنية متسامحة مضادة للثقافة العنصرية والمتعصبة والمتطرفة، من أية جهت أتت، (وستنشر المحاضرة كاملة في عدد لاحق من ).
تحدّث في المؤتمر أيضاً رئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية الدكتور توفيق شومر، رئيس جامعة العلوم الإسلامية الدكتور سلمان البدور، وعضو مجلس أمناء الجامعة الأردنية العميد السابق الدكتور أحمد ماضي.

رئيس التحرير د. محمد شيّا والى يساره د. سلمان البدور رئيس جامعة العلوم الإسلامية في الأردن، د. توفيق شومر رئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية ود. أحمد ماضي عميد كلية الآداب السابق في الجامعة الأردنية
رئيس التحرير د. محمد شيّا والى يساره د. سلمان البدور رئيس جامعة العلوم الإسلامية في الأردن، د. توفيق شومر رئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية ود. أحمد ماضي عميد كلية الآداب السابق في الجامعة الأردنية

المؤتمر الوطني
من لبنان الكبير 1920
إلى لبنان الرسالة 2020

بدعوة من “مؤسسة أديان”، وبرعاية من فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، “المؤتمر الوطني، من لبنان الكبير 1920، إلى لبنان الرسالة 2020″، الذي انعقد في 28 و29 تشرين الثاني، 2017، بيروت.
بعد جلسة الافتتاح الذي تحدث فيه الأب فادي ضو، رئيس “مؤسسة أديان”، واختتمها فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بدات أعمال المؤتمر في ست جلسات:
الأولى بموضوع، الأرض الأرض والشعب والمؤسسات، وتحدث فيها: الياس حنّا، طارق متري، نعمة فرام، وناجي ملاعب.
الثانية بموضوع، النظام والمشاركة السياسية، تحدث فيها: وجيه قانصوه، ريان عساف، فاديا كيوان، وحسان الرفاعي.
الثالثة بموضوع، المجتمع المدني، وتحدث فيها: الأميرة حياة أرسلان، ناصر ياسين، زهيدة درويش، أيمن مهنّا، ورنا خوري.
الرابعة بموضوع: التنمية المستدامة، وتحدث فيها: تريز الهاشم، زياد عبد الصمد، فادي حجّار، رائد شرف الدين، وندى غريّب زعرور.
الخامسة بموضوع، لبنان في السياق الإقليمي، تحدث فيها: خليل مكاوي، جهاد الزين، سمير مرقص.
السادسة بموضوع، دور لبنان كمركز لحوار الثقافات والأديان، تحدث فيها: محمّد السمّاك، رباب الصدر، حارث شهاب، سامي أبو المنى، وحسن ناظم.
واختتم المؤتمر ببيان ختامي نورد نصّه كاملاً لأهميته:

المؤتمر الوطني
من لبنان الكبير 1920
إلى لبنان الرسالة 2020

مؤسّسة أديان
28 و 29 تشرين الثاني 2017
البيان الختامي والتوصيات

برعاية فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، نظّمت مؤسّسة أديان المؤتمر الوطني “من لبنان الكبير 1920 نحو لبنان الرسالة 2020” في فندق هيلتون بيروت، في 28و29 تشرين الثاني 2017، بمشاركةحشد من الفاعليَّات السياسيّة والروحيّة والعسكريّة والاجتماعية والأكاديمية، ومن المجتمع المدني والهيئات الديبلوماسيّة.
يأتي هذا المؤتمر على مشارف المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، وفي سياق المخاض الحضاري الذي تعيشه المنطقة في صراعها مع الإرهاب والتطرُّف والطائفية، وسعيها للوصول إلى دول يكون الإنسان وكرامته محورها، وأمن المجتمع وتنميته المستدامة غايتها. وبناء على التزام مؤسسة “أديان” في الإسهام لعبور لبنان من واقعه الطائفي إلى المواطنة الحاضنة للتنوّع، في إطار دولة حديثة وديموقراطية، هدف المؤتمر إلى الإسهام في تطوير الحوار العلمي والسياسي الجامع حول التجربة اللبنانيّة، منذ إعلان دولة لبنان الكبير حتى يومنا، للاستفادة من دروس الماضي، وتحديد النجاحات المحقّقة، والاستعداد للعمل على التغيير المنشود، وفق رؤية مشتركة للمستقبل، وسياسات عامة تسمح بالانتقال من الوضعيّة الطائفيّة إلى رسالة لبنان الحقيقية في العيش معًا في ظل المواطنة الفاعلة والحاضنة للتنوّع.
توجّه فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى المؤتمر بكلمة في الجلسة الافتتاحيّة، عبر ممثّله معالي الوزير بيار رفّول، جاء فيها: “أتوجه بالشكر إلى مؤسسة أديان التي شاءت استقراء العبر والدروس من مسيرة وطننا منذ نشوئه، وخصوصًا في هذه المرحلة الدقيقة التي يتعرّض فيها لبنان لارتدادات الصراعات الإقليميّة والدوليّة التي تهزّ منطقة الشرق الأوسط بأسرها، للوصول إلى رؤية يُستعان بها لإعادة إنتاج دولة لبنان الحديثة.الدولة التي يتوق إليها اللبنانيون الذين كفروا بالتجاذبات المعيقة لأحلامهم وحياتهم الكريمة.” وأكّد فخامة الرئيس على أنّ الطموح الأكبر للكثير من اللبنانيين “هو العبور من دولة الطوائف إلى دولة المواطنة حيث يتساوى جميع اللبنانيين أمام القوانين، ولا تتلطى المصالح الفردية بعباءة الأديان، محوّلة رسالة العيش المشترك إلى ساحة لتقاسم المغانم، والاستقواء بالخارج على شريك الوطن، وحرف لبنان عن سكة السلام والاستقرار”.

وعبّر الفاتيكان عن دعمه لهذه المبادرة عبر رسالة للمؤتمر من قبل رئيس المجلس البابوي لحوار الأديان الكاردينال جان-لوي توران، جاء فيها: “لا يسعني إلّا أن أعبّر عن بالغ سروري بهذه المبادرة، التي تشبه مدرسة حقيقيّة للمواطنة.” ويضيف: “إنّ التربية على المواطنة الفاعلة والحاضنة للتنوّع تشكّل مشروعًا بغاية الأهميّة، يقتضي أن يترافق مع تغيير في الذهنيّات لدى المسؤولين السياسيّين والفاعلين في القطاعات الاجتماعيّة والدينيّة…. فإذا كان “لبنان الكبير” ذكرى، فلبنان اليوم هو رسالة وأيقونة للسلام المنشود”.
شارك أيضًا في افتتاح المؤتمر معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية الأستاذ أحمد أبو الغيط ممثّلًا بسعادة السفير عبد الرحمن الصلح. أكّد معاليه إلى أنّه بالرغم من أنّ لبنان كان دومًا أو يكون في عين العاصفة، إلّا أنّه “لقد أثبت للعالم أن التعايش بين الأديان والطوائف ليس مستحيلًا، بل أنّه ضرورة حياة، ويشكّل مصدر قوة وإثراء للمجتمع والدولة، طالما كان يرتكز على الاحترام المتبادل والمساواة في المواطنة وإعلاء المصلحة الوطنية فوق أية اعتبارات أخرى”.

وتحدّثت في الجلسة الافتتاحيّة سعادة النائب بهيَّة الحريري عن المبادرة الوطنية لمئوية لبنان الكبيرالتي أطلقتها في العام 2011، قائلة: “غداة انقضاء العقد الأول من الألفيّة الجديدة، ورغم كلّ ما حمله لنا من آلام وجراح، أيّام كنّا نشيّع الرّموز الكبار، ونرتدي أثواب الحداد على الشّهداء الذين ضحّوا بحياتهم من أجل لبنان، غداة ذلك العقد الشديد الحزن والمرارة، أردنا أن نعزّز ونجدّد الإيمان بالتجربة الوطنية، جاعلين من الدولة المدنيّة الحديثة هدفًا وطنيًّا جامعًا لكلّ اللبنانيين بدون استثناء”. ورأت سعادتها بأن مبادرة “أديان” تتكامل مع المبادرة الوطنية لمئوية لبنان الكبير التي اعتمدت عنوان “لبنان 2020 وطنًا للمعرفة” هدفًا لها.
وافتتح رئيس مؤسسة أديان الأب فادي ضو أعمال المؤتمر مؤكّدًا على أنّ “مئة عام من عمر وطن كلبنان هي أشبه بهنيهات من الزمن. فلا نخطئنّ التقدير. لبنان ليس وليدة 1920 ولا صنيعة قرار من سلطة الانتداب الفرنسي. في 1 أيلول 1920 اعترف، ولم يعلن، المفوّض السامي هنري غورو بحقيقة ضاربة جذورها في التاريخ كجذور الأرزة في جبال لبنان. حين قرّر أهل لبنان أن يُعطوا لوطنهم هذا التحديد الجغرافي الحديث بحدوده التي تضمّ كل حبةٍ من ترابِ وذرّةٍ من هواءِ ال 10452 كلم2، أرادوا أن يعبّروا عن أمانة لوطن، تغنّت به الكتب المقدّسة منذ آلاف السنين، وعبرت على أرضه عشرات الحضارات، وانطلقت منه قبل أكثر من ألفي عام بعثات تجارية وثقافية وعمرانية، ربطت ضفاف البحر المتوسط، بعضها ببعض، وساهمت في تحقيق التلاقح الحضاري والحوار الثقافي بشكل رائد وفريد. لو كان لبنان صنيعة قرار أجنبي، أو نتيجة مطالبة من بعض أعيانه، لما كان قد بذل هذا العدد الكبير من أبنائه هذا الكمّ من التضحيات وقدّموا دماءَهم بشجاعة وسخاء للمقاومة في وجه العدو والمحافظة على كل حبّة من ترابه، وكل نفس من حريّة شعبه.” مضيفًا: “نحن أبناء وطن صغير بمساحته، وهي على صغرها، عرفت كيف تكون بيتًا مشتركًا ووطنًا نهائيًّا لجميع اللبنانيين، وقاعدة لملايين المغتربين منهم للانطلاق نحو بقاع العالم للإسهام في بنيانه وهم يحققون طموحاتهم وأحلامهم”. وأعلن: “ونحن على مشارف المئوية الأولى للبنان الكبير، نجدّد تمسّكنا بكل ذرّة من تراب لبنان ال 10452 كلم2، ونتمسّك برسالتنا التي تجعل أن يكون في هذه المساحة الصغيرة وطنًا كبيرًا بأبنائه وعطاءاتهم”.

شارك في جلسات المؤتمر 28 محاضرًا من لبنان كماومن مصر والعراق والمملكة المتحدة.أسهم المحاضرون مع الحضور على مدى يومين وست جلسات من النقاش والتفكّر بمسائل السيادة والعلاقات الدولية والمواطنة والمجتمع المدني والتربية والتنمية والعدالة الاجتماعية والحوار الثقافي والديني، بتعميق القراءة الصريحة والواضحة للتجربة التاريخيّة للبنان منذ سنة1920، وتحديد الإشكاليّات الراهنة التي تتحدّى قيام دولة المواطنة بكامل أبعادها، ومناقشة سبل العبور نحو هذا الواقع المنشود. وخلص المؤتمر إلى ما يلي:
1- في السيادة
إنَّ لبنان الكبير عانىولا يزال في مئويته الأولى من ارتجاجاتٍ في السِّيادة بسببالعدوان الإسرائيلي والواقع الإقليمي المعقَّد والمضطرب الذي يحيط به، وبسبب ضعف المنظومة الوطنيّة وعجزهاعن تحقيق المواطنة والعدالة الاجتماعية والإنتاجية اللازمة للاستقرار الداخلي.أسهمت هذه الارتجاجات في الإفساح في المجال بين أبنائه لاستقطاب وارتهاناتٍ أضعفت المناعة الوطنية، وأدّت إلى صراعات وحروب أهليّة، وإلى ما سُميّ بحروب الآخرين على أرضنا.فلا الميثاق الوطني القائل “لا للغرب ولا للشرق”، ولا مبدأ “النأي بالنفس” يستطيعان أن يعزلا لبنان بشكل كامل عن التجاذبات الخارجيّة. بل يستدعي الأمر مع ذلك تعزيز المناعة الداخليّة باستمرار، وبناء مفهوم وطني مُوحَّد للسِّيادة وكيفية حمايتها في ظل منطقة مشتعلة، على قاعدة المصلحة الوطنية التي تجمع كافة مكوّنات المجتمع اللبناني.

2- في نظام المواطنة
إنَّ لبنان الكبير في مئويته الأولى ارتكز على دستوره المدني وميثاق العيش معًا، الذي هدف إلى تأمين مشاركة المواطنين في الحياة السياسيّة مع ضمانة تمثيل الطوائف المكوّنة للنسيج الاجتماعي اللبناني.ساهمذلك في توزُّع لمواقع السُّلطة، لكنّه فشل في بناء مؤسساتيَّة الدولة وثقافة المواطنة. فأصبحت السلطة تعيد إنتاج ذاتها على أساس الطائفية، وتراجع دور المواطن الفرد وفعالية مشاركته في الحياة السياسية.يستدعي ذلك إلى مُساءلة الإشكاليّة الطائفية وتفكيكها ليس في النظام وحسب، بل في الثقافة والتكوين الاجتماعي أيضًا، مع العودة إلى تطبيق سليم للدستور وإنهاء شوائب الزبائنية والمحاصصة والفساد والتي جوَّفت الميثاق والدُّستور من مضامينهما، للوصول إلى مواطنة المواطنين الحاضنة لتنوّع المجتمع الثقافي والديني.

3- في المجتمع المدني
إنَّ لبنان الكبير في مئويته الأولى، وبقدر ما شهِد تطوُّرًا للمجتمع المدني فيه، بقِي حراكه محدود التأثير في غالب الأحيان، لاصطدامه حينًا بمنظومة المجتمع الأهلي التقليديّة التي لا تتبنّى أولويّات المجتمع المدنيّ، وحينًا آخر لاصطدامه مع السلطة السياسيّة ذات الطابع الطائفي.على الرغم من ذلك، وبناء على بعض الخبرات الناجحة التي أثبتت نجاح الشراكة بين مؤسسات القطاع العام ومؤسسات المجتمع المدني وخبرائه لتحقيق الإصلاح المنشود، يبقى الأمل معقودًا على المجتمع المدني لتقديم التغيير المرجو في السياسات العامة، بالتزامن معالعمل على تحقيق التغيير في السياسة ذاتها، عبر رفدها بقيادات جديدة تحمل خبرة المجتمع المدني ومنظومته القيميّة.

4- في التنمية المستدامة
والعدالة الاجتماعية
إنَّ لبنان الكبير في مئويته الأولى،وعلى الرغم من محاولات جادّة لتحقيق التنمية وبناء المؤسّسات العامة، بقِي عاجزًا عن اعتماد مقاربة شاملة للتنمية تكون العدالة الاجتماعية محورها. يستدعي ذلك الانتقال من سياسة الخدمات الاجتماعية التي تستغلّها السلطة السياسية لكسب الولاءات على أساس الزبائنية، إلى بناء منظومة الحماية الاجتماعية والأمن الإنساني، عبر إنعاش الحوار الوطني الاجتماعي والاقتصادي والاستثمار الراشد في الرأسمال البشري.

5- في الحوار الثقافي والديني
إنَّ لبنان الكبير في مئويته الأولى، وعبر تاريخه المديد وتكوينه الاجتماعي، يختزن مقوّمات حضارية وثقافية ودينية تؤهله ليكون مركزًا عالميًّا لِحوار الحضارات والأديان، حاملًا رسالته، وفق قول البابا يوحنا بولس الثاني، “رسالة حريّة ونموذج تعدديّة للشرق كما للغرب”. يستدعي ذلك مأسسة مُتكاملة للحوار وتعزيز انتاجيّته المجتمعيّة ودوره في ترسيخ المصالحة والسلم الأهلي، وتطوير منظومته القيميَّة والتربوية والسياسيَّة والثقافية والديبلوماسيَّة، خصوصًا في ظل تنامي الصراعات عالميًّا المرتبطة بمسائل الهويَّات الإثنيّة والدينيّة.
في ختام هذا المؤتمر، تُؤكّد مؤسسة أديان على اعتبار هذا المؤتمر ورشة عمل وطنيّة مفتوحة، للعمل معًا، ليس للاحتفال بمئوية لبنان الكبير في 2020 وحسب، بل للإسهام في تأمين الرؤية الوطنيّة المشتركة لتحقيق التجدّد المطلوب وفق طموح أبنائه وتطلّعات شبابه، والاضطلاع برسالة العيش معًا التي وسمت لبنان وحدّدت دوره العالمي.

ندوة حول اللغة العربية
المكان، فندق الريفييرا، بيروت – الزمان، 15 كانون أول، 2017
من تنظيم مفوضيتي الإعلام والثقافة في الحزب التقدمي الاشتراكي بمناسبة اليوم السنوي للغة العربية.
تضمنت الندون فعاليتين:
الأولى تكريم الجهتان المنظمتان لستة وجوه إعلامية مهمة وهي: مي كحّاله، سمير عطالله، عادل مالك، إميل خوري، الياس الديري، وعزت صافي. وقد منح المكرمون ميدالية كمال جنبلاط، ودرع الجهة المنظمة.
الثانية، الندوة الفكرية وتوزّعت في ثلاث جلسات:
الجلسة الأولى أدارها العميد الدكتور محمد توفيق أبو علي، وكانت بموضوع “اللغة مرآة الفكر والمجتمع”، وحاضر فيها:
د. جنان بلوط، د. هند أديب، د. علي زيتون، د. أنطوان أبو زيد
الجلسة الثانية، أدارها العميد الدكتور محمد شيّا، وكانت حول “الثقافة والفكر والممارسة السياسية”، وحاضر فيها: العميد د. طلال عتريسي، د. محمد العريبي، د. نائلة أبي نادر، د. أديب نعمه،
الجلسة الثالثة أدارها الدكتور وجيه فانوس، وكانت بموضوع “المجتمع العربي بين تحديات التنوع وتحولات العولمة”، حاضر فيها:
د. زهيدة درويش، أمين عام اللجنة الوطنية لليونسكو، د. كمال معوّض، د. نديم نجدة

ندوة حول كتاب «العقل لا الغرائز، الوطن لا الطوائف»
المكان: قاعة مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في الشويفات – الزمان: 17 تشرين الثاني، 2017
بدعوة من بلدية مدينة الشويفات، التقى المحاضرون: الرئيس د. غالب غانم، ود. سليم حماده، والأستاذ رامي الريّس حول كتاب الدكتور محمد شيّا “العقل لا الغرائز، الوطن لا الطوائف”، الصادر عن دار “المنشورات الجامعية”، بيروت، وقدّم المحاضرين الأستاذ عدنان حرفوش.
تحدث أولأ عريف الحفل ثم المنتدون عن أهمية الكتاب كخارطة طريق في التخلّص من النظام السياسي الطائفي في لبنان، لأنه فقد صلاحيته وبات عبئاً ثقيلاً على المجتمع اللبناني الحيوي، ومعرقلاً للتلاقي بين اللبنانيين وتطوير حاضرهم وبناء مستقبل يليق بمجتمع فيه نسبة عالية من المتعلمين والمنتجين وعلى مستوى متطلبات الحياة السياسة الحديثة. وأجمع المحاضرون على اعتبار الكتاب “مرجعاً قيّماً” غنياً متوازناً ويصلح في أكثر من مفصل كدليل في كيفية التخلص من آفة الطائفية السياسية المتحكمة بالنظام السياسي اللبناني من دون تعريض العيش المشترك بين الجماعات الروحية اللبنانية لأية مخاطر.

ندوة حول آفة المخدرات
المخدرات بين التخدير والتحذير
المكان، عرمون، قاعة عرمون العامة،
شارك في الندوة، العميد المتقاعد أنور يحي، الشيخ سلمان عودة، وقدمها المحامي د. بسام المهتار، وكانت كلمة افتتاحية من الشيخ زياد بوغنّام.
تحدث المنتدون على خطورة آفة المخدرات، على كل المستويات، وخصوصاً على الشباب، وما يجلبه من آثار مدمّرة على حياة الشاب، والأسرة، والمجتمع.
تحدث المحامي د. بسام المهتار باسم بلدية عرمون، فأشار إلى دور البلديات في “معالجة الأسباب التي قد تؤدي بالشباب إلى الانحراف عبر تحسين شروط الحياة وتوفير سُبل العيش الكريم”. ولخص المحامي المهتار دور البلديات من خلال ثلاثة بنود: “صلاحيات البلدية القانونية في هذا المجال…. ودور بلدية عرمون على أرض الواقع…وأخيراً خطة بلدية عرمون لتطوير دورها ذاتياً على هذا الصعيد”، ودعا إلى “تطبيق مبدأ اللامركزية الادارية لأن البلدية هي الأدرى بمشاكل المواطنين…والأقرب إلى معرفة تطلعات الناس”.
ثم كانت مداخلتان من:
– الشيخ سلمان عودة، عضو اللجنة الدينية في المجلس المذهبي في
طائفة الموحدين الدروز.
– العميد أنور يحي، المدير السابق للشرطة القضائية في المديرية
العامة لقوى الامن الداخلي – في وزارة الداخلية اللبنانية.
ولخطورة آفة المخدرات، وأهمية المداخلتين، ستنشر في أعداد قادمة نصوص المداخلتين كاملة.

[su_spoiler title=”مراجعات كتب   ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

من بلفور إلى ترامب – غازي العريضي
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017

تشكّل مناسبة مئوية ’وعد بلفور’، 1917-2017، جزءاً رئيسياً من كتاب غازي العريضي الجديد، (من بلفور إلى ترامب) أما الجزء الآخر فهو الخراب الذي أحدثته سياسات دونالد ترامب منذ وصوله قبل سنة واحدة إلى المكتب البيضاوي في الولايات المتحدة الأمريكية. يهدي المؤلف كتابه إلى كل الذين قاوموا وعد بلفور منذ البدء وإلى اليوم: “إلى شهداء فلسطين والعرب وكل من قاوم ويقاوم الاحتلال منذ وعد بلفور وحتى اليوم، إلى شهداء هذا الجيل بعد مئة عام على الوعد، أهدي هذا الكتاب”. يقع الكتاب في 418 صفحة ويضم مروحة واسعة جداً من المقالات، من السياسي جدا بل اليومي، من مثل “اعتزاز أمريكا وابتزاز إسرائيل”، “العهر الأمريكي”، “أمريكا – إيران مواجهة بالواسطة”، “لننتظر الأسوأ من إدارة ترامب”، طوثيقة حماس ووثيقة أميركا”، “رئيس العزل وعزل الرئيس”، إلى الثقافي أو القريب من الثقافي، من مثل “لنتعلم من تونس”، “مذبحة دينية وحروب مفتوحة”، “ماذا عن الإرهاب اليهودي”، “ألونيسكو: إسرائيل دولة احتلال، شكراً كوبا”، “العالم والعقل العبثي في أميركا”، وسواها.
ميزة خطاب غازي العريضي في الشكل بساطة التعبير فيه واختصار المسافات نحو الهدف أو الغاية. عبارته واضحة، ملأى بالمفردات المباشرة ومن دون كثير تورية أو التفاف حول الفكرة أو تزيين أو تزييف. وهي كذلك ميزة مضامين المقالات كافة تقريباً: موقف المبتعد قليلاً عمّا يجري، كل ما يجري، العارف بل الحكيم، الناصح، ومن دون مواربة أو حاجة لأخذ هذا الجانب أو ذاك. خذ مثلاً مقالته المعنونة: “أو قفوا حرب اليمن”، ص 179. ففيما يجهد البعض إلى اتخاذ مواقف هذا الجانب والبعض الآخر إلى اتخاذ المواقف المقابلة، ومن دون كثير ترو أو حكمة، أو بحث عن مصلحة اليمن والخليج والعرب عموماً، نرى المؤلف يقول بالفم الملآن: “…. هذه المعلومات والوقائع الميدانية فضلاً عن الخراب والدمار والتفكك تضعنا أمام كارثة خطيرة سوف تستنزف طاقات المنطقة كلها إضافة إلى انعكاساتها السياسية على كل المن الإقليمي ووحدة الأراضي في اليمن والجوار، مما يدفع إلى تجديد المطالبة بشجاعة الوقف هذه الحرب. نعم، وقف الحرب والوصول إلى تسوية مشرّفة في تلك البلاد. لن يتمكن أحد من حسم الحرب وتحقيق مكاسب سياسية وأمنية”. وينهي ” آن الآوان لتحكيم العقل والمنطق وامتلاك شجاعة المبادرة لوقف الحرب”(181). تبقى ملاحظة الحنين الذي يتملك خطاب غازي العريضي حين يتكلم على فلسطين أو الفلسطينيين. يقول في يوم الأسير الفلسطيني وقد جعله تحت عنوان (أسرى فلسطين ومارسيل أنشد كلمات شعرائهاخليفة): “في هذا اليوم تحية إلى اسرى فلسطين الأحرار في سجونهم، وإلى أهلهم وإلى وإلى من استشهد منهم، وغلى المناضلين في كل مكان ضد الاحتلال. وتحية إلى كل من شارك في إحياء هذا اليوم على طريقته… وأخص الفنان اللبناني العربي الإنساني مارسيل خليفة الذي غنى فلسطين، وأنشد كلمات شعرائها، وعبّر عن نبض أهلها، وكتب لهم اليوم رسالة مستذكراً تكوين وعيه السياسي مع هذا الشعب النازح المهجّر المتألم المظلوم.(101-102)
غازي العريضي يتشبث بالذاكرة الثقافية لشعبنا، كيلا ننسى، وفي كل الأحوال فسياسات نتنياهو – ترامب تجعل النسيان مستحيلاً.

كمال الصليبي، الحوار الأخير، حول التوراة ولبنان والذكريات – الياس جرجوس
دار نلسن، بيروت، 2017

يتضمن فهرس الكتاب، بعد مقدمة من محمود شريح، الموضوعات التالية:
حوار خاص مع الدكتور كمال الصليبي،
الدكتور كمال الصليبي يعيد التاريخ إلى جغرافيته ويصالح المقدّس معهما،
طائر على سنديانة مذكرات الدكتور كمال الصليبي آخر المؤرخين الحقيقيين،
بيت بمنازل كثيرة، حوار خاص مع الدكتور كمال الصليبي،
تنقيب في خفايا التوراة،
خفايا التوراة…مسألة نوح، البرج الذي لم يكن في بابل.
كمال الصليبي، (المتوفي 31 آب 1911) هو أحد كبار المؤرخين اللبنانيين المعاصرين، أو كما يقول عنه محرر الكتاب “آخر المؤرخين الحقيقيين”. امتاز صليبي بمعرفته الواسعة باللغات، ومعرفة واسعة بما يكفي بعلوم مجاورة أخرى مثل علم الآثار، الأنثربولوجيا، اللاهوت، الجغرافيا، إلى منهجية علمية تأريخية دقيقة، ما سمح له بتقديم مرويات تقوم على سند علمي واسع. وبعض أبحاثه العميقة تناولت على وجه الخصوص مرويات التوراة، والكتاب المقدس، والأساطير الأولى في الفكر المشرقي. نختار من هذا العمل، الذي يجمع بعض الحوارات مع المؤرخ الصليبي، ما يتناول نشأة الكيانين اللبناني والسوري، والمشكلات التي رافقتهما منذ البدء. يقول المؤرخ الصليبي في حوار تناول كتابه ’بيت بمنازل كثيرة’: “قد يقال بحق أن لبنان لم يعد بلداً إلا بالإسم. ومن الغريب، مع ذلك، أن مسلمي لبنان ومسيحييه لم يظهروا في السابق ما يظهرونه اليوم من وعي عميق لهويتهم الوطنية المشتركة، وإن كان ذلك بقدر من الاختلاف في تعريف مقوّمات هذه الهوية. والواقع أن الأمر لم يكن كذلك في العام 1920 عندما تاسس لبنان للمرة الأولى على شكل دولة تحت الانتداب الفرنسي، إذ بالغ المسيحيون في التحمس في قبوله، وبالغ المسلمون في رفضه. ولم يحصل الإجماع حقاً على الهوية اللبنانيةبين الفريقين العام 1943 عندما حصلت الجمهورية اللبنانية على استقلالها على أساس تصور نظري لوحدة وطنية بين مختلف الطوائف…..في 23 آيار 1926 تلقت دولة لبنان كبيراً دستوراً حولها إلى “الجمهورية اللبنانية”، وهكذا برزت الجمهوريتان الشقيقتات، اللبنانية والسورية، إلى الوجود تحت الانتداب الفرنسي، لهما عملة واحدة وخدمات جمركية واحدة، ولكل دولة علمها الخاص، وإدارتها المحلية الخاصة، وإن كان ذلك تحت إشراف المفوّض السامي الفرنسي الذي كان مقامه الدائم في بيروت. ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبح لكل من الدولتين الشقيقتين نشيدها الوطني المختلف. لكن البيروقراطيات الإدارية والإعلام والأناشيد الوطنية لا تكفي لتحويل الأراضي والشعوب الني تعيش فيها غلى أوطان وأمم بالمعنى الكامل…..لم تكن عند الموارنة ولا عند غيرهم من المسيحيين المتفقين معهم في الرأي شكوك حول هذه المسألة. أما اللبنانيونفيبقون لبنانيين مهما اختلف الرأي حول طبيعة هويتهم كشعب من الخارج لا تجمع بينهم وبين العرب إلا وحدة اللغة….والخلاصة هي أن الفرنسيين في سوريا أوجدوا الدولة في البلاد لكنهم أخفقوا في في خلق هوية قومية خاصة تلائمها. والأمر نفسه ينطبق بطريقة ما على لبنان، حيث كان مفهوم الهوية القومية اللبنانية، خلافاً للنشيد الوطني، لا يحمل معنى إلا لفئة من أهل البلد دون الآخرين. ولم يكن الأمر مختلفاً في البلدان الأخرى التي خلقها البريطانيون في الأراضي العربية الخاضعة لانتدابهم…” (84-87)
هذه عينة من تأريخ كمال الصليبي لتطور الأحداث في المنطقة منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولا يفيد في شيء تلخيصه، لأنه سيأتي مبتوراً وربماً غير دقيق.

حقوق الأقليات في القانون الدولي العميد د. رياض شيّا
دار النهار للنشر

لمّا كانت مسألة الأقليات الإثنية، اللغوية، والدينية واحدة من المسائل التي أرّقت ضمير الإنسانية قروناً طويلة، فقد مثّل ظهور الدولة القومية (الدولة-الأمة) على المسرح العالمي في القرن التاسع عشر، كتنظيم جديد للتجمعات البشرية، محطةً بارزة عرفت معها الأقليات أقسى أشكال التعامل. فمركزية السلطة ووحدة اللغة والثقافة والدين، التي كانت تمثّل قيم الدولة القومية، لم تكن سوى تلك التي تعود لجزء من مواطني الدولة وليس لجميع مواطنيها، ولو كانوا يمثّلون في كثير من الأحيان الأكثرية. يضاف الى ذلك أنّ تمثُّل تلك القيم قد ترافق مع ممارسات فيها الكثير من الاضطهاد وعدم التسامح مع كل من يختلف عن النموذج، والذين بات يُنظر اليهم بأنّهم “الغير”، ولو كانوا مواطنين. ولما كان لكثير من الأقليات علاقات وامتدادات تتعدى النطاق الداخلي للدولة، بحكم ارتباطهم بدولٍ أخرى تماثلهم نفس الصفات الإثنية أو اللغوية أو الدينية، فقد أدى هذا الواقع الى اشتداد النزاعات الدولية وتفاقمها، والتي وصلت غير مرة الى مستوى الحروب الشاملة، كما في الحربين الكونيتين الأولى والثانية. وهكذا بدا لزاماً على القانون الدولي الإحاطة بمسألة الأقليات بوجهها الإنساني من جهة، ونتائجها وتداعياتها على الاستقرار والأمن في العالم من جهة ثانية.
على هذه الخلفية، سيعرض المؤلف الدكتور رياض شـيّا في كتابه هذا لكيفية تطور حقوق الأقليات في القانون الدولي، سواء في تكرسها في نظام عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية في التشريعات الصادرة عن الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان وما تضمنته من نصوص تتناول حقوق الأقليات، كالمادة 27 من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” للعام 1966، أو بالمواثيق التي تخص الأقليات فقط ك “إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص المنتمين لأقليات قومية أو إثنية، دينية أو لغوية ” في العام 1992، وغير ذلك من التشريعات. يضاف الى ذلك إلقاء الضوء على النشاط الفعّال الذي لعبته “مجموعة العمل الخاصة بالأقليات” التابعة للأمم المتحدة (التي أصبحت تسمى “منبر قضايا الأقليات” منذ العام 2007 وتتبع لمجلس حقوق الإنسان التابع بدوره للأمم المتحدة).
يسدّ الكتاب ثغرة كبيرة تتمثّل في النقص الهائل في الكتابات والمراجع العربية التي تناولت موضوع الأقليات وحقوقها من الناحية القانونية، وبالأخص موقف القانون الدولي منها. وسيلحظ القارئ هذا النقص في ندرة المصادر الحقوقية العربية مقارنة بالكم الكبير من المصادر الإنكليزية والفرنسية التي استند اليها الكتاب، مما يجعله مرجعاً لموضوع حقوق الأقليات لا بد منه.
الكتاب صادر عن دار النهار للنشر، ويقع في 360 صفحة من القطع الكبير

الخيارات المغلقة – د. يقظان التقي
رياض الريّس للكتب والنشر

يتضمن كتاب د. يقظان التقي مجموعة لقاءات صحافية أجراها المؤلف مع عدد من الشخصيات السياسية والثقافية اللبنانية 22 شخصية لبنانية وسورية وفلسطينية، من اتجاهات فكرية مختلفة. نذكر منهم بالتدريج داوود صايغ، محمد عبد الحميد بيضون، أنطوان مسرّة، رضوان السيّد، خالد زيادة، فاديا كيوان إلى…شارل رزق، عصام خليفة، روجيه ديب، وجوزف أبو خليل.
نختار لهذه المراجعة السريعة بعض محطات اللقاء مع المؤرخ د. عصام خليفة، لارتباط مضمونه بمئوية سايكس بيكو ومئوية الكيان اللبناني.
يخالف المؤرخ خليفة الرأي الشائع لدى البعض من أن الكيان اللبناني كيان مصطنع وولد من رحم معاهدة سايكس – بيكو، فيقول: “لبنان الكبير هو نتيجة كفاح الشعب اللبناني، وليس أمراً مفتعلاً، ووثيقة الميثاق الوطني هي وثيقة علمانية وغير طائفية”.(190). ويضيف: “إذاً مشروع لبنان الكبير ليس مشروعاً مفتعلاً. إنه نتيجة كفاح الشعب اللبناني، في مقابل هذا المشروع كان هناك المشروع الصهيوني الذي دعا منذ مؤتمر ’بال’ وقبله إلى قيام وطن قومي لليهود في فلسطين، وتوسيع إسرائيل شمالاً باتجاه الليطاني. حين تقرأ وثائق الخارجية الفرنسية، تلمس صراعاً واسعاً بين التيّار اللباني والتيّار الصهيوني.”(197). ويتوقف المؤرخ خليفة إلى الاتفاق الذي جرى في منزل يوسف السودافي 18 آذار 1938 حيث تمّ التوصل إلى الميثاق الوطني اللبناني، وهو علماني وليس طائفياً. ….الميثاق مكتوب بخلفية ثقافية غير طائفية، أي بخلفية قيام دولة، وإقامة المساواة والعدل، والكفاءة، لا على أساس الطائفية. الميثاق اتفاق وطني، لا بل علماني. برأيي العروبة في هذا الميثاق هي مشروع حرية للصحافة والجمعيات والأحزاب والإنتاج وحماية الآثار. اؤكد أن لبنان في العشرينات والثلاثينات والأربعينيات كان يتقدّم إلى الأمام…وإلى إنشاء دولة إسرائيل على الحدود…”(198-199). ويختم التقي نقلاً عن المؤرخ خليفة: “كمثقفين مستقلين، لا مستقيلين، خضنا معارك واعتصامات وصدامات، وعرفنا كيفية الربط بين المطالب الثقافية….كما دافعنا عن وحدة لبنان. هذا هو مشروعنا الثقافي…أي ما يحول دون تحوّل لبنان إلى معتقلات طائفية….لا يزال التنوع هو الضامن للتعددية، والتعددية هي دينامية نحو التكامل ونحو علمنة الدولة والمجتمع المدني والتربية الثقافية. لقد واجهنا مشروع التفتيت بالمشروع الثقافي..”(200) وينهي بالقول أن وحدة الشعب اللبناني هي أقوى سلاح يمكن أن يمتلكه لبنان (205).

الإنسان نفس وجسد – شوقي أبو عكر
دار العربية للعلوم ناشرون

صدر كتاب “الإنسان نفس وجسد” من دار العربية للعلوم ناشرون لمؤلفه شوقي أمين أبو عكر في شهر آذار 2017م.
قبل البدء بعرض الفصول التي تضمنها الكتاب سأقدّم الخبر الصحفي Press Release التي أطلقته الدار العربية لكافة وسائل الإعلام، والمكتبات والموقع الإلكتروني neerwafarat.com المتعاون معها في نشر الكتاب Online لمن يريد الاطلاع عليه بواسطة التقنيات الجديدة.

يتضمن الكتاب ستة فصول ومقدمة وخاتمة.
المقدمة تضمنت الأسباب والهواجس التي أدّت الى ولادة هذا الكتاب. وقد جاء في السطور الأولى للمقدمة:
“في صخب هذه الحياة التي نعيشها، وانغماسنا في الحصول على ما طاب لنا من هذه الدنيا: ماذا بعد ذلك؟! الى أين نحن سائرون؟ ما هو الموت الذي يخطف الإنسان في لحظة من الزمن؟ هل تنتهي حياتنا عند هذا الحدّ؟ هذه الأسئلة التي تملكت تفكيري في السنوات الأخيرة، جعلتني أسعى الى ضمّ ما عرفته سابقاً، الى مطالعاتي فيما تضمنّته الكتب الدينية، وما قاله الأنبياء المرسلون، وما أشار إليه أولياء الله الصالحون، وما خطتّه أقلام الفلاسفة وتناولته أقلام الأدباء من نثر وشعر، فكان هذا الكتاب المتواضع”.

لكن هذه المطالعات تؤدّي الى تراكم أفكار وآراء ومقولات لا تخضع لعلم المنطق، ولا لعلم الرياضيات الذي تخصصت به، ولا لنتائج المختبر لمعرفة الحقيقة المطلقة، ولحسم ما هو صواب وما هو خطأ. لكن للفيلسوف العالم أمحتب في رسالته “عزل النفس” شجعني في المضّي قدماً في تأليف هذا الكتاب حين يقول:
“يا نفس إن كنت متحققة بشيء غير ما تدركينه بالحواس الخمس، فقد توجهت الى طريق نجاحك. وإن كنت لم تحققي شيئاً من الأشياء إلا ما تشاهدينه ببصر الجسد وسمعه وذوقه وشمّه ولمسه فأنت يا نفس موقوفة على طريق العطب ومقاساة العذاب في الفصلين الأول والثاني تناول الكتاب عن النفس والجسد في ذات الإنسان الحيّ الناطق. هل تكوينه الشريف من نقف ناطقة حيّة عالمة استوطنت جسداً مدهشاً في وقت من الزمن وبإرادة قوّة قادرة مبدعة لهذا الكون؟ أم مجرّد جسد لا وجود لنفس فيه، إذا انتظمت مكونّاته عند الولادة، تستجّد فيه القدرة على التفكير والتخيّل والإبداع، وعند الموت يتلاشى في التراب وينتهي الأمر.
يقدّم هذا الكتاب آراء وأفكار من تلكموا عن طبيعة الإنسان فيبدأ بقول البروفيسور “سيثوت” في كتابه “حياة الروح” حين يقول: “مسألة حيّرت ألباب العلماء منذ عصور موغلة في القدم. فالإنسان يبدو وكأنه كائنان: كائن مادي وكائن آخر يقابله غير مادي”. ويأتي أيضاً على ما ذكره الشاعر العظيم هوميروس عن تلك الطبيعة في أحد فصول الأوديسة، وما جاء في كتب البراهمة القديمة، وشعر الفيلسوف ابن سينا، وقصيدة المواكب للأديب الشاعر جبران خليل جبران، وكتاب “حيّ بن يقظان” للفيلسوف أبو طفيل، وما تحدثت به الكتب الكريمة للأديان المرسلة، وما جاء في رسالة الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله، وما نطقت به الفلسفة اليونانية وما قاله الدكتور فيليب سالم عن الجسد وغيرهم من المستنيرين.

أما الفصل الثالث فيتحدث عن الموت، القدر المحتوم على الإنسان يذكر ما قاله الكاتب العظيم تولستوي في كتابه الاعتراف: “هكذا أتعلّق أنا بغصن شجرة الحياة، عارفاً أن تنين الموت ينتظرني. لماذا قدّر لي أن أحتمل كل هذه المشتقات وراني ولا شكّ واصل الى ظلمة القبر ولا شيء يقف أمام ذلك المصير”. وتناول الكتاب لجملة من آراء وأفكار لمن سبق ذكرهم عن الموت. بالإضافة الى ما تناوله بعض من الشعراء المبدعين في عصور مختلفة. أخصّ منهم بالذكر المتنبي، أبو العلاء المعرّي، لا مارتين، أبو تمام، طرفة بن العبد، محمود درويش، نزار قباني وغيرهم من الشعراء.
تناول الكتاب في الفصل الرابع مسيرة النفس بعد الموت حيث ورد في القرآن الكريم عدّة آيات تتحدث عن عالم البرزخ. وهو العالم الذي يتوسط بين الدنيا والآخرة حيث تستقر فيه الروح أي النفس قبل يوم الحساب، وعن المطهر في العقيدة المسيحية الكريمة، وعن فكرة التقمّص وعودة الروح بعد الموت في حلّة جسد جديد.
كما تناول الكتاب في الفصل الخامس مفهوم القيامة أو يوم الدينونة، مستعرضاً ما جاء في أغلب الأديان، والمذاهب والطوائف، وكبار المتصوفة، والكوميديا الإلهية ورسالة الغفران.
أما في الفصل السادس فقد تكلم الكتاب عن عملية الاستنساخ على الكائن البشري، والغاية من طرح هذا الموضوع هو الإجابة عن السؤال والذين فيه كثير من الهواجس.
“هل تلك الجوهرة الروحية أي النفس الناطقة الإنسانية ستسكن هذا الجسد المستنسخ من خليّة جذعية وليست جنسية؟.
وفي الخاتمة يتناول الكتاب رأي المؤلف فيما سبق ذكره من طروحات وآراء ومواقف حيث يقول:
“أميل الى الاعتقاد بنظرية التفحص، وأن العالم الروحاني سبق العالم المادي في بداية التكوين، وأن النفس الإنسانية موجودة في بدن جسماني لا تفارقه أبداً. كذلك النفوس الإنسانية ثابتة العدد عند إبداع العالم الروحاني، وأن الجنّة والجحيم هي خاتمة مسار النفس الإنسانية في عبورها من دار الدنيا الى دار الآخرة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الدروز بنو قحطان من عربٍ  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إِنَّ الدُّرُوْزَ بَنُوْ قَحْطَانَ، مِنْ عَرَبٍ
تاريخُهُمْ قِيَمٌ، بأسٌ، ومُتَّحدٌ
دَانُوا على وَثَقٍ باللهِ، واحِدِهِمْ
هُمْ مُسْلِمُوْنَ على القُرْآنِ، لا جَدَلٌ
العَقْلُ منهجُهُم، والصَفْحُ عادَتُهُمْ
أَفْعَالُهُمْ صَدَحَتْ، سَامَتْ شجاعَتَهُمْ
هُمْ فِرْقَةٌ دَرَسَتْ إِسْلامَهَا بنُهًى
أَحْيَوا “بفِطنتِهم” للدِيْنِ جَوْهَرَهُ
دينٌ أَتى لجمِيعِ الخَلْقِ قاطِبَةً
أَهْلُ الوَفَاءِ فما خَانُوا ولا نَقَضُوا
سَلْ عَنْهُمُ كُتُبَ التاريخِ مُذْ وُجِدُوا
بَاهَتْ عَشَائِرُهم دَوْمًا بما حَفِظُوا
خاضوا الحُرُوْبَ دِفاعًا عن كَرَامَتِهِمْ
أَفرادُهُمْ سَكَنَتْ فِيهِمْ مُرُوءَتُهُمْ
مَاجَتْ بِهِم كِبَرًا دُنْيَاهُمُ وَرَوَتْ
مَنْ مِثْلُهُمْ جَمَعُوا دِيْنًا وَفَلْسَفَةً
الظُلْمُ لاحَقَهُمْ في رَأْيِهِمْ حِقبًا
كَانَتْ وَمَا بَرَحَتْ تغلي بأُمَّتِنَا
فارْكُنْ كَما رَكَنَتْ أَخْيَارُنا بِصَفًا
قالوا: الدروزُ، وتاهوا في مَغَالِطِهِمْ

أَقْحَاحَ، ما هَجُنُوا نَسْلاً، وقَدْ عَرِقُوا
إِيْمَانُهُمْ صَمَدٌ، يَزْدَانُهُ خُلُقُ
لا غَيْرُهُ هَدَفًا، والفِكْرُ مُؤْتَلِقُ
فَهْوَ الكِتَابُ بِهِ نَالَوْا هُدًى وَرَقوا
بالعَدْلِ إِنْ حَكَمُوا، والصِدْقِ إِنْ نَطَقُوا
فِيْمَا شَجَاعَتُهُمْ ضاقَتْ بِهَا الأُفُقُ
دَرْساً تَمَثَّلَ في نَهْجٍ بِهِ عُمُقُ
بالخير قد شرحوا في الأصل ما حذقوا
للمُسْلِمِينَ خُصُوصًا، والهُدَى طُرُقُ
عَهْدًا لَهُمْ أَبَدًا، يَوْمًا، ولا خَرَقُوا
تُنْبِئْكَ: غَيْرَ رياضِ الخيرِ ما طَرَقُوا
لِلْعُرْبِ من نَسَبٍ سَامٍ، وما رَفِقُوا
مُسْتَبْسِلِينَ، فَما هَانُوا ولا خُرِقُوا
هُمْ هَكَذا دَرَجُوا، لِلْبَذْلِ قد خُلِقُوا
كُبْرَى المنابِرِ ما أَعْلَوا وما غدِقوا
عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، ما قد بها سَبَقُوا
لا رأيَ مُحْتَكِمًا للجَهْلِ، فانغلقُوا
رُوْحُ الأَنا، وأَنَا إنْسانِنَا حَمَقُ
لِلْعَقْلِ يَرْدَعُنا عَمَّا بِهِ صَفَقُ
لو أنَّهُمْ عَرَفُوا، كانوا، أَجَلْ، صَدَقُوا
شعر: راجع نعيم

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

تقنية زراعة الاشجار المثمرة

تشكّل الأشجار المثمرة الجزء الأهم والأساس من الزراعة وتعتبر ثمارها مصدر غذاء للإنسان كما أنها تعد مواد خام ضرورية للصناعات الزراعية الغذائية.
ولثمار الأشجار المثمرة فوائد طبية عالية وعناصر غذائية مختلفة كالبروتين والفيتامينات والأحماض والدهون…إذ تساعد الإنسان بعد تناولها على الهضم وتليين الجهاز العصبي والألياف وتنظيم الدورة الدموية.
إنّ علم الأشجار المثمرة يهتم بدراسة وتنظيم وتأهيل الأشجار المثمرة وتطوير إنتاجها اقتصادياً ويدرس الأعمال الحقلية من تقليم وري وحراثة وتنظيم أثمار وتسميد (حسب الحاجة) ومكافحة، إذا لزم الأمر، والقطاف للحصول على أفضل انتاج من حيث الجودة والكمية وتطبيق جميع الوسائل الحديثة.
يجب أن يبقى المزارع حراً طليقاً ولا يقيد أو يرتهن لشركات التصدير خاصة المنتجة للنباتات الزراعية؛ لأن الدعاية وطرقها تجعل المزارعين يعتقدون أن هذه الأصناف الجديدة هي المنقذ الوحيد لهم من عبء الغلاء (خاصة المعيشة منها). معظم هذه الأصناف الجديدة هي معروفة منذ القدم ولا زالت عند المزارعين المحترفين والذين يتقيدون ولا يؤمنون بالدعاية خاصة التجارية منها الخاضعة لمؤسسات غير حكومية (الشركات الأجنبية) التي تروجها على أنها أفضل الأصناف مثل التين والزيتون والرمان والكرمة والكرز وغيرها؛ ثم استبدالها ببعض الأصناف المحدثة وراثياً مما أدى ذلك إلى وضع المزارع “بين السندان والمطرقة” ويقف مكتوف الأيدي أمام هذه الحيلة. لذلك، أصبح المزارع مرتبكاً وغير قادر على اتخاذ القرار مما أدى إلى إهماله لأرضه ومزروعاته وبالتالي انخفاض إنتاجه ومزاحمته بالأصناف المعدلة وراثياً.
ونجد أن التراجع الكبير الذي حصل في أواخر القرن الماضي وبداية الحالي يتطلب جهداً لإعادة التوازن بين الانتاج والاستهلاك والتصدير من جهة أخرى.
لذلك تأتي اقتصادية الأشجار المثمرة بعد الأعمال المدروسة التي ينفذها المزارع في أرضه. إن الأرض والرجوع إليها هي الملاذ الأساس في حياتنا لذا يستحسن القيام بدراسة العوامل التالية.

المناخ
دراسة المناخ يتيح لنا معرفة الأصناف التي يجب زرعها والتي تعطي مردوداً اقتصادياً وفيراً وليس كما كان في السابق، فقد أهدرت بعض مساحات الأرض لتجربة أصناف جديدة بلا جدوى لأنها لا تنمو إلا على ارتفاع معيّن وفي تربة خاصة مثل زراعة أشجار المشمش على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر غير مجدية لأنها تحتاج إلى حرارة مرتفعة نسبياً في مرحلة الأزهار.
1- الحرارة: تحتاج الاشجار المثمرة الى حرارة مختلفة باختلاف
اصنافها، فمنها ما يحتاج إلى البرودة ومنها إلى حرارة معتدلة وأخرى إلى معتدلة دافئة شتاء.
2- الامطار: تنجح الاشجار المثمرة في المناطق التي يزيد فيها
معدل الأمطار عن 700 مم سنوياً خاصة في الأراضي البعلية.
3- البرودة: تحتاج بعض اصناف الاشجار المثمرة الى البرودة
خلال فصل الشتاء من اجل مرحلة السكون والراحة التي تمر بها اي ايقافها عن النمو.
4- الارتفاع عن سطح البحر: تزرع الاشجار المثمرة في الاماكن
حسب ما تحتاجه من ارتفاع ملائم لها ومدروس اقتصاديا.

موقع الارض
1- التربة الملائمة: تعتبر التربة من العوامل الهامة لنجاح زراعة
الأشجار المثمرة وإنتاجها وتأتي في الدرجة الثانية بعد عامل المناخ.
2- المسافات الزراعية: تختلف المسافات من صنف لأخر وحسب
حجم وعمر الأشجار وطبيعة التربة وخصوبتها وحسب الأصل الجذري المستخدم.
3- عمق التربة وخصوبتها: تحتاج الاشجار المثمرة الى تربة عميقة،
منها ما يحتاج إلى تربة عميقة لأن جذرها وتدياً ومنها ما يحتاج إلى تربة متوسطة العمق بين (150-200سم) وآخر إلى أقل من ذلك وكذلك حسب أنواع الأشجار وأحجامها.
4- استصلاح الارض: القدرة على استصلاح الارض وتسطيبها
إذا كانت منحدرة على أن لا يزيد انحدارها عن 40%.
5- الطرقات: قرب البساتين من الطريق عامل هام في الزراعة
لتوفير تكاليف وعناء المزارع من توصيل الشتول والمعدات المستعملة للزراعة والأسمدة العضوية وغيرها وكذلك نقل الإنتاج إلى الاسواق.
6- الري: إيجاد مصدر مياه للري لمساعدة الأشجار على اجتياز
الحرارة الشديدة في الصيف كما حصل في هذا العام خاصة في بداية نموها.
في مطلع الأربعينيات، دخلت الأشجار المثمرة المحسنة في بلاد المنشأ إلى لبنان كزراعات مربحة ولاقت شهرة واسعة وبدأت تحتكر من قِبل المتمولين للاتجار بها. أخذ بعض المزارعين بقطع أشجار الزيتون والتفاح والتين والرمان وغيرها واستبدالها بأشجار الدراق والخوخ والمشمش على سبيل المثال.
بعد ذلك، قام أخصائيون في أوروبا وبعض البلدان المتقدمة في مجال الزراعة بالعمل على تأصيل الأشجار المثمرة اقتصادياً. وتمّ استقدام بعضها إلى لبنان لأخذ المطاعيم منها وتطعيمها على الأصول البرية من قِبل تجار حصريين وأصحاب مشاتل وبدأت عملية الإكثار بعدة طرق. فالأشجار المثمرة تبدأ في الإنتاج بعد زراعتها بعدة سنوات. أما في وقتنا الحالي، تبدأ الأشجار بالإنتاج في السنة الثانية خاصة الأصناف المطعمة على أصول جذرية.

وبعد استصلاح الأرض، تنفذ الاعمال التالية:
1. الحراثة:
تحرث الأرض على عمق 40 سم تقريباً على جرار جنزير ثم تحرث حراثة سطحية بواسطة فرامة لتسوية سطح التربة وتكسير الكتل الترابية.

2. تخطيط الأرض:
طرق الغرس كثيرة أفضلها الشكل المثلث والمربع مما يتيح زرع أكبر عدد ممكن من النصوب. يتم تخطيط الأرض لتحديد موقع النصوب وتكون المسافة بين خطين متوازيين 3،5 متر للتفاح و4،5 متر للكرز وبين شجرة وأخرى 3،5 متر للتفاح و4،5 للكرز. كما إن هذه المسافات بين الخطوط تتيح المجال لاستخدام الآلات الزراعية مثل جرار الحراثة وغيرها. 3. حفر الجور:
بعد هطول الأمطار لأول مرة في فصل الخريف (عندما تروي الأرض)، تحفر جور في الأماكن المحددة على عمق 50 سم وعرض 50 سم تقريباً. ويوضع في قاعها حوالي 2 كلغ من السماد العضوي المخمر وخلطها مع التراب في قاع الحفر. تزرع الغراس بعد تساقط أوراقها (أواخر فصل الخريف وأوائل فصل الشتاء) لأن الأوراق تستمر في عملية التبخر خاصة إذا ما ارتفعت الحرارة نسبياً، مما يؤدي إلى جفاف البراعم وبالتالي الغراس.

4. الشتول أو النصوب:
إن حاجة 10 دونم من أشجار التفاح والكرز 500 شجرة، عمرها بين سنة وثلاث سنوات، كي تدخل في الإنتاج بعد عام من زراعتها في الأرض المستدامة. أما مصدرها، فمن المفضل أن يكون من مشاتل موثوقة ومدروسة من حيث النوعية الجيدة والاقتصادية وخلوها من الآفات الزراعية ومرغوبة في السوق المحلي.

5. التسميد:
تحتاج أشجار التفاح والكرز نسب عالية من العناصر المعدنية خاصة عند مرحلة النمو والإثمار. فإن جميع أنواع الأتربة تحتوي على العناصر الضرورية للأشجار بنسب مختلفة وبحسب أنواعها، مثلا: التربة الطميية أغنى أنواع الأتربة والتربة الرملية أفقرها. لذا، يستحسن وضع الأسمدة العضوية البلدية المخمرة كالسماد الحيواني والأسمدة الكيميائية الضرورية وحسب الحاجة.

6. التقليم:
يعتبر التقليم من أهم الأعمال الحقلية للأشجار المثمرة لأنه من الأعمال الأساسية لزيادة الإنتاج وجودة الثمار وزيادة عمر الشجرة اقتصادياً. إن عملية تقليم الأشجار يساعدنا على التحكم بطبيعة نموها. فإن أفضل الأشكال في التقليم هو الشكل الكأسي حيث يكون الإنتاج من الخارج والداخل ويسمح هذا الشكل بدخول الشمس والضوء. تبدأ عملية التقليم بعد الغرس مباشرة على ارتفاع يتراوح بين 50 و70 سم ويفضل أن يكون الساق قصيراً لأنه يتعرض للعوامل الطبيعية من حرارة وصقيع. وبنفس الوقت، يجب الانتباه على أن يسمح بمرور الآلات الزراعية دون تضرر الأغراس. في العام الثاني، يبدأ التقليم التكويني وينتخب ثلاث أو أربعة فروع وتقص الفروع المتبقية. أما الفروع المنتخبة، فيقص نصفها العلوي على أن يراعى بقاء البرعم العلوي نحو خارج الشجرة. في العام الثالث، أيضا يستمر التقليم التكويني مع بدء تقليم تنظيم الأثمار خاصة في هذه الأصناف مبكرة الإنتاج. تقلم بنفس الطريقة على أن تراعى البراعم الثمرية ويكون هذا التقليم خضري وتنظيم إثمار في آن واحد. ومع تقدم عمر الأشجار، تزداد نسبة عملية التقليم لتنظيم الإثمار على التقليم الخضري للمحافظة على عمر الأشجار والحمل السنوي. وكذلك التقليم الإثماري يهدف إلى تنظيم الحمل بين الفروع والأغصان ليكون متساوياً نوعاً ما مع الإبقاء على بعض الفروع الثانوية لتكوين براعم ثمرية جديدة. أفضل توقيت لتقليم أشجار التفاح والكرز، يكون خلال الفترة الممتدة من تشرين الثاني وكانون الثاني أي بعد دخول الأشجار مرحلة الراحة والسكون وتساقط أوراقها.

7. حراثة الأرض:
يجب حراثة الأرض ثلاث مرات سنويا على الأقل خاصة في السنوات التي يقل فيها معدل تساقط الأمطار عن 700 ملم سنويا.

8. الري:
من المفضل توافر مصدر مياه للري لمساعدة الأشجار على اجتياز الحرارة الشديدة في الصيف كما حصل في هذا العام خاصة في بداية نموها وبعد زرعها في الأرض المستدامة لأن عندما تقلع النصوب من المشاتل يبقى قسم لا يستهان به من جذورها الشعرية الماصة في أرض المشتل وأيضاً تقلع قبل سقوط أوراقها وهذان العاملان يؤديان إلى ضعف الشتول وحاجتها إلى الري.

9. جني الانتاج:
تقطف ثمار الأشجار المثمرة قبل نضجها بحوالي الأسبوع كي تتحمل أعمال التوضيب والنقل والاستهلاك والتبريد. لكن لأصناف الفاكهه عدة مراحل للنضج حسب أنواعها؛ منها يتم نضجه خلال شهر آيار مثل الكرز وخلال شهر تشرين الأول مثل بعض أصناف التفاح. تعتبر الثمرة ناضجة عندما تأخذ الحجم واللون الطبيعيين لها وعندما يصبح مذاق الثمار يحتوي على القليل من المادة القابضة (البكتين). أما عند قطاف الثمار، فيجب مراعاة النقاط التالية:
• الانتباه لعدم الضغط على الثمار باليدين لأنه يؤدي إلى تلف الثمار بعد القطاف بوقت قصير.
• عدم جرح الثمار عند القطف.
• يجب قطاف الثمار برفق حيث تنفصل عند نقطة الالتحام بالغصن مع الانتباه إلى البراعم الأخرى التي يُعتمد على إنتاجها السنة القادمة.

مجموعات الأشجار المثمرة التي تنمو في المناطق التي تزيد عن 600 متر
1- التفاحيات: تضم التفاح، الإجاص،
السفرجل والزعرور.
2- اللوزيات: تضم الكرز، الدراق،
المشمش، الخوخ والجنارك.
3- الجوزيات: تضم الجوز، اللوز،
الكستناء، البندق والفستق
الحلبي.
4- الزيتون
5- الكرمة
6- التين
7- الرمان
8- الكيوي

200 دولة تتعهّد وقف تلويث المياه
بمخلفات البلاستيك

وقّعت 200 دولة في نيروبي في 6 كانون أول 2017 على قرار للأمم المتحدة يهدف إلى القضاء على التلوث الناجم عن إلقاء مخلفات البلاستيك في البحار والمحيطات، في خطوة على طريق إبرام اتفاقية دولية بهذا الشأن.
ولبيان خطورة الوضع قال برنامج الأمم المتحدة، الذي نظّم الاجتماع، إنه إذا استمر الحال على ما هو عليه فكمية البلاستيك في البحار ستكون سنة 2050 أكبر من كمية الأسماك، وأضاف أنّ 8 ملايين طن من مخلفات البلاستيك ترمى سنوياً في البحار وتتسبب بقتل كائنات بحرية وتدخل بالتالي في السلسلة الغذائية للإنسان.

درهم وقاية خير من قنطار علاج

تنقسم أمراض الإنسان عموماً الى قسمين:
1- أمراض وراثية تسببها جينات متوارثة من الأهل والأقارب.
2- أمرض مكتسبة خلال نمو جسم الإنسان وتفاعله مع المحيط.
وما يدخل جوفه يصبح جزءاً من تركيبته.
ولكن عموماً، يمكن القول أنه لا مرض من دون مسبب او عدة مسببات، (فيروسات ، بكتيريا)…
وفي العادة، وكجزء من معجزة الخلق، يدافع جهاز المناعة عن الجسم ويتصدى للمسببات. ولكن عندما يضعف هذا الجهاز، لأسباب عدة، يظهر المرض ثم يحاول أن يفتك بالجسم.
بداية يغيّر مسبب المرض (cause) وظيفة الأعضاء المستهدفة، ويغيّر طبيعة الأنسجة حيث تبدأ بعد ذلك عوارض المرض.
لذلك يلجأ الأطباء إلى تشخيص الحالة واقتراح ما يلزم للحد من تفاقمها ثم معالجتها. والأدوية هي بعض طريقة الأطباء في معالجة مسببات المرض أو الأمراض، وهم يصفون من الأدوية ما هو ضروري لمعالجة المسببات تلك.
لذلك تبدو الأدوية، وسواها، أداة معالجة مهمة حين يوصي بها أو يصفها الطبيب المعالج، ولكنها قد تؤدي إلى عكس المطلوب تماماً، أي إلى تفاقم المرض أو إلى ظهور مضاعفات غير مستحبة، حين لا تكون من اقتراح طبيب ولا تحت إشرافه.
فسوء استعمال الأدوية قد يسبب مضاعفات بحد ذاته. مثلاً في فصل الشتاء حيث تكثر أمراض جهاز التنفس والرشح، فقد يكون السبب فيروس وليس بكتيريا، فيأخذ المريض بدون معاينة طبيب أو وصفة منه، مضادات فلا تؤثر في الفيروس، بل تؤثر سلباً على مناعة جسم الإنسان وتجعل الجراثيم محصّنة ضدها حين تكون هناك ضرورة حقيقية لاستخدامها. ويموت سنوياً حوالي 500 ألف مريض بسبب عدم وجود مضادات حيوية مناسبة وفعالة ضد الجراثيم التي تكون قد اكتسبت مناعة.
هناك سباق بين اختراع أدوية جديدة سامة أكثر لتقتل الجراثيم. وبين سرعة الجراثيم في التأقلم مع الأدوية الجديدة لكي لا تؤثر فيها. حسب دراسات أميركية سنويا يسجل حوالي مليون مريض يعانون من التهابات حادة ولا يوجد مضادات حيوية فعالة ضد هذه الجراثيم، وذلك نتيجة سؤ استعمال هذه الأدوية من دون إشراف طبي دقيق ومناسب.
وقبل مرحلة المرض، وتفاقمه، تبقى المرحلة الأكثر أهمية الوقاية من المرض، وقبل حدوثه والحاجة من ثمة إلى علاجه. وقد قيل وبحق: “درهم وقاية خير من قنطار علاج.”
والخطوة الأولى، الطبيعية والمنطقية والضرورية، هي الوقاية من مرض العصر، بل لأكثرها شراً: التلوّث. يجب الوقاية من التلوث، الغذائي والمائي خصوصاً، لكي لا نصل الى مرحلة قابلية التعرض للمرض، ثم المرض. ومطلب الوقاية هذا مسؤولية الجميع: الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها، البلديات، القطاع الخاص، وبمساعدة من الهيئات الدولية المختصة، لكنه أيضاً وربما قبل ذلك كله: مسؤولية الفرد نفسه.

التلوث الغذائي والمائي..
الوقاية قبل العلاج
كل ما يدخل جسم الإنسان يصبح من مكوناته.
يجمع الاختصاصيون والباحثون على أنّ تزايد أعداد المرضى في جميع الفئات العمرية في لبنان هو إلى حد كبير نتيجة التلوث الغذائي والمائي والهوائي. وهذا ما يظهر عند الناس حسب الفصول. في الصيف مثلاً تكثر أمراض الجهاز الهضمي والتسمم الغذائي. ومن موقع المسؤولية والحرص، كان وزير الصحة السابق الأستاذ وائل ابو فاعور قد أطلق للمرة الأولى حملة ’سلامة الغذاء’ فأظهرت ما لم يكن بالحسبان أو متوقعاً من تساهل حيال مطابقة ما يقدّم من غذاء أو ماء للمواصفات والمعايير الصحية المعترف بها دولياً.
وفي هذا السياق، تم توقيع اتفاق تعاون بين وزارة الصحة والجامعة اللبنانية حيث تم إنشاء المركز الوطني لجودة الدواء والغذاء والماء والمواد الكيميائية وباشر المركز بفحص العينات الغذائية ولاحقاً الماء ويرسل المركز النتائج الي وزارة الصحة حيث يجري تحديد مدى مطابقتها أو عدم مطابقتها للمعايير العلمية العالمية المعتمدة. وللأسف الشديد فقد أظهر فحص أكثر من سبعة الآف عينة من مختلف المناطق وعلى محتلف الأنواع التي أجريت عليها الفحوصات تبين أن نسبة كبيرة منها ( 55%) ملوثة بنوع أو أكثر من الجراثيم الخطيرة على صحة جسم الإنسان. بل إن نسبة عالية من مياه الشرب، حتى للمدارس، ملوثة بعدة أنواع من الجراثيم. كما بيّنت فحوصات على ألف عينة من اكثر المسابح وعينات من شاطئ البحر وجود أنواع خطرة من الجراثيم، بالإضافة إلى كميات عالية جدا من الكلور في المسابح التي يمتصها جلد الإنسان وتشكل خطراً على الكبد، إلى مشاكل أخرى.

نظام غذائي صحي
ضيافة بعض رجال الدين تراثيا كانت عبارة عن الزبيب والمكسرات الجافة :
الزبيب:
بكافة أنواعه الأصفر الأسود والبني (عنب تم تجفيفه) يحتوي على مخزون عالي من الطاقة والسكريات والبروتين ويخلو تقريباً من الدهون والكثير من المعادن، الكالسيوم، الفوسفور، الصوديوم، الزنك، النحاس، الفلورايد، والسلينيوم والفيتامينات و18 حمضاً امينياً والألياف ومضادات الأكسدة وهو عامل وقاية من أمراض القلب والشرايين وهشاشة العظام وبعض السرطانات (الثدي والبروستات) وعلاج الإمساك ومناسب لمرض السكري النوع الثاني.

المكسرات الجافة على انواعها:
عرض الباحثون من كلية الطب بجامعة هارفارد أكبر وأوسع دراسة طبية تتم حتى الآن حول التأثيرات الصحية الإيجابية لتناول المكسرات على صحة القلب والأوعية الدموية.
من مجلة الكليّة الأميركية لطب القلب journal of the American College of Cardiology شمل الباحثون في دراستهم اكثر من 210 آلاف شخص، تمت متابعتهم لمدة تتجاوز 32 عاماً، وذلك لمعرفة حقيقة العلاقة بين تناول المكسرات وصحة القلب والأوعية الدموية.
وتعتبر أوساط طب القلب هذه الدراسة أنها الأكبر حتى اليوم في بحثها حول تأثيرات وتيرة استهلاك الجوز وغيره من أنواع المكسرات على الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
وأفادت نتائج الدراسة بأن الناس الذين يتناولون المكسرات بانتظام، بما في ذلك الجوز وبقول الفول السوداني والأنواع الأخرى من المكسرات، تنخفض لديهم مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدمويّة cardiovascular disease، وبالذات أمراض شرايين القلب التاجية coronary heart disease، وذلك مقارنة مع الناس الذين لا يتناولون المكسرات أبداً أو يتناولونها في النادر.
وأفاد الباحثون في الدراسة التي حملت عنوان “تناول المكسرات ومخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية” .
ووجد الباحثون في نتائج دراستهم أنّ الذين يتناولون حصة غذائية

مرتين أو أكثر في الأسبوع من أنواع المكسرات الاخرى tree nuts، أي إمّا من اللوز أو من المكسرات البرازيلية أو الكاجو أو الكستناء أو البندق أو مكسرات الماكاداميا أو البقان أو الفستق أو الصنوبر، ينخفض لديهم خطر الاصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية بنسبة 15 في الماية، كما ينخفض لديهم خطر الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية بنسبة 23 في الماية، وذلك بالمقارنة مع من لا يتناولونها.
إنّ نتائجنا تدعم التوصيات الموجهة لزيادة تناول مجموعة متنوعة من المكسرات، كجزء من الأنماط الغذائية الصحية، للحد من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة لدى عامة الناس.
الواقع إن المكسرات بالعموم تعمل على خفض نسبة الكولسترول في الدم، وعلى حماية الشرايين القلبية والدماغية، عبر أربع آليات:
1 -الآلية الاولى: إن تناول المكسرات يعني منتجاً غذائياً خالياً
من الكولسترول بالأصل. ومعلوم أن الكولسترول لا يوجد على الإطلاق في أي منتج غذائي نباتي المصدر، سواء كان حبوباً او بقولاً أو مكسرات أو زيوتاً نباتية طبيعية بأنواعها المختلفة، وإنما مصدر الكولسترول في الغذاء هو المنتجات الحيوانية، مثل اللحوم والأسماك والبيض ومشتقات الألبان والسمن والحيوانات البحرية وغيرها.
2- الآلية الثانية: إن تناول المكسرات يدخل إلى أجسامنا
دهونا ذات نوعية عالية الجودة من الناحية الصحية. ذلك أن الأونصة الواحدة (28غراماً) من الفستق على سبيل المثال تحتوي على كمية تقارب 13 غراماً من الدهون. و90 في الماية من الدهون الموجودة في الفستق هي من نوع الدهون غير المشبعة. ومن هذه الدهون غير المشبعة، تشكل الدهون الأحادية غير المشبعة نسبة 60 في االماية. كما تشكل الدهون الكثيرة غير المشبعة نسبة 30 في الماية، أي أنه زيت يشبه في تركيبة زيت الزيتون.
3- الآلية الثالثة: تحتوي المكسرات على مواد فايتوستيرول
المساعدة على خفض امتصاص الأمعاء للكولسترول الموجود فيما نتناوله من أطعمة حيوانية المصدر. وحينما يتناول الإنسان هذه المنتجات النباتية فإنه يقدم لأمعائه مادة طبيعية مهمتها العمل على منع امتصاص الكولسترول الذي نتناوله ضمن الأطعمة الحيوانية المصدر.
4- الآلية الرابعة: جميع أنواع المكسرات غنيّة بالألياف
الغذائية الطبيعية، وهي التي تعمل على خفض امتصاص الأمعاء للكولسترول وإبطاء امتصاص الأمعاء للسكريات. ولذا فإن نصائح التغذية الصحية تتضمن النصح بتناول ما بين 30 غراماً للرجال، و25 غراماً للنساء، من الألياف يوميا.

المكسرات غنية بالألياف الغذائية، التي تعمل على خفض امتصاص الأمعاء للكولسترول والسكريات
المكسرات غنية بالألياف الغذائية، التي تعمل على خفض امتصاص الأمعاء للكولسترول والسكريات

أمراض تكثر في فصل الشتاء
نوبات التهاب الجيوب الأنفية: الجيوب الأنفية هي مساحة رطبة من الهواء تقع بين العين والجزء الخلفي للجبهة والأنف والوجنتين. وفي الوضع الطبيعي يتم تصريف المخاط الموجود في الجيوب الأنفية عبر فتحات صغيرة في الأنف.
ويحدث التهاب الجيوب الأنفية المزمن حين يتسبب جهاز المناعة في حدوث التهاب يؤدي بدوره إلى تورم داخل الغشاء المبطن للجيوب الأنفية. يمكن أن يؤثر ذلك على عملية تصريف المخاط مما يؤدي إلى تراكمه، ويصبح التنفس صعباً، ويشعر المصاب بضغط مؤلم في المناطق العليا من الوجه، مثل الجبهة، والوجنتين، والجزء الموجود وراء الأنف، أو الذي يقع بين العينين أو يقع وراءهما.
قد ينتج التهاب الجيوب الأنفية المزمن أيضاً عن انسداد في ممرات التصريف داخل الجيوب الأنفية، بسبب ورم أنفي أو سليلة ورم مخاطي polyp على سبيل المثال تكونت نتيجة التهاب في الانسجة. قد تحدث هذه الحالة أيضاً كثيراً لدى الأشخاص المصابين بالربو، أو التليف الكيسي، أو نقص المناعة. وعادة ما يبدأ إلتهاب الجيوب الأنفية المزمن بنوبات مزعجة تستمر لعدة أيام أو أسبوع، فاذا استمرت الأعراض لمدة أطول من أسبوع، أو ازدادت حدتها، بحيث تضمنت إفراز مخاط كثيف لا لون له، فأنت في هذه الحالة تكون مصاباً بعدوى في الجيوب الأنفية، وهي حالة كثيراً ما تتحسن في غضون أربعة أسابيع سواء تناولت مضادات حيوية أم لا. لكن إذا لم تتحسن الحالة يصبح التهاب الجيوب الأنفية مزمناً.
لا يوجد علاج لالتهاب الجيوب الأنفية المزمن، وبمجرد أن تتكرر الإصابة، فستواجه دائماً خطر حدوث نوبات. ويكون الهدف حينئذ هو السيطرة على الأعراض حين تظهر واتخاذ الخطوات اللازمة للوقاية من الإصابة بالمزيد من النوبات.
تشير أكثر الأدلة إلى أن أفضل طريقة لتخفيف حدة الالتهاب والأعراض هي استخدام بخاخ أنف ستيرويدي يومياً مثل الفلوتيكازون Fluticasone (فلوناز Flonase)، أو تريامسينولون Triamcinolone (نازاكورت ايه كيو Nasacort AQ) رينوكورت اكوا Rhinocort Aqua.
رغم أن تلك البخاخات متاحة دون وصفة طبية، فقد يكون لها آثار جانبية مثل نزيف الأنف، أو قد تتسبب في حدوث ثقب داخل حاجز الأنف، وهو النسيج الفاصل بين الممرين الموجودين في الأنف. ويكون من الضروري أحياناً إجراء جراحة منظار في الجيوب الأنفية من أجل فتح الجيوب الملتهبة وإزالة الانسدادات أو السليلات. بمجرد السيطرة على التهاب الجيوب الأنفية المزمن يمكنك اتخاذ خطوات للمساعدة في منع الإصابة به مرة أخرى: تنظيف ممرات الأنف يومياً بمحلول ملحي، الامتناع عن التدخين وتفادي التدخين السلبي، إجراء إختبار حساسية إذا كنت تعرف الأشياء التي تصيبك بالحساسية، فيمكنك محاولة تفادي تلك المسببات ومحاولة تجنب التعرض لها.

اخبار طبية
متفرقة

◄ من تقرير “هيومن رايتس ووتش”: ينتج لبنان سنوياً 25040 طناً من النفايات الطبية.
5040 طناً منها نفايات معدية و3334 طناً نفايات صناعية خطيرة وبسبب غياب الرقابة تختلط النفايات الطبية والخطيرة مع النفايات المنزلية.
وفي تقرير مشترك لوزارة البيئة في لبنان مع برنامج الأمم المتحدة عام 2010 يلفت أن 2% من المختبرات الطبية الخاصة و33% من المستشفيات الخاصة و20% من المستشفيات الحكومية فقط تعالج نفاياتها والباقي تختلط مع النفايات المنزلية وتزيد المخاطر على الصحة العامة.

◄ أرقام ملفتة: نصف مليون شخص يموتون سنوياً في العالم نتيجة تلوث الهواء الذي يسبب أمراضاً في الجهاز التنفسي والرئتين. في لبنان، نسبة الربو تضاعفت أربعة أضعاف عند الأطفال عمّا كانت عليه قبل 20 عاماً و17% من عينات من اللحوم والبيض والحليب تحتوي ترسبات من المضادات الحيوية التي تعطى للدواجن والحيوانات على أنواعها التي يتم ذبحها.

المدرسة الرسمية هي الحل!

المدرسة الرسمية هي الحل!

تفتح باب “مشكلات اجتماعية”، إيماناً منها أن هناك مشكلات اجتماعية بالفعل، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من ملاحظة مظاهر القلق والاضطراب وعدم الاستقرار التي تسود حياة العائلات اللبنانية، كما المجتمع عموماً. ولأنّ هي مجلة ثقافية ملتزمة أخلاقياً تُلاقي طموحات الناس فهي لا تستطيع تجاهل مظاهر القلق والاضطراب وعدم الاستقرار الاجتماعي.

في الحلقة الأولى من هذا الباب رأينا أن نفي عدداً من المسؤولين التربويين الذين عملوا طويلاً في خدمة المدرسة الرسمية وتلامذتها ومجتمعها ثم أحيلوا إلى التقاعد، بعض ما لهم من حق معنوي على المجتمع. ما نقدّمه من شهادات رمزية من بعض الرسميين السابقين هؤلاء يهدف أيضاً إلى الإفادة من خبراتهم وملاحظاتهم ليتوقف عندها المسؤولون الرسميون اليوم، كما الأهالي، إذ من دون تعاون المسؤولين الرسميين والمجتمع الأهلي لن تستعيد المدرسة الرسمية، وبخاصة في مستواها الابتدائي والمتوسط، السمعة الطيبة التي كانت لها. أما قناعتنا التي نعبّر عنها صراحة فهو أن تغييب المدرسة الرسمية هو في أصل الأزمة الاجتماعية في لبنان، وربما خارج لبنان أيضاً، وأن الحل للكثير من مشاكلنا ربما يبدأ بالمدرسة الواحدة، والمنهاج الواحد، والكتاب المدرسي الواحد.

تجدد تحيتها لهؤلاء الروّاد، وهي ستستكمل الملف بلقاء تربويين آخرين تركوا الخدمة الفعلية أو يزالون في موقع المسؤولية.

[su_accordion]

[su_spoiler title=”مشكلات المدرسة الحالية  رياض اللحام
مسؤول دائرة التربية
في عاليه سابقاً
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يسعدني أن أقدّم لمجلة ، التي أحترم جداً، توضيحاً لبعض الأفكار حول التعليم بصورة عامة والرسمي منه بصورة خاصة، وهو نتاج فترة طويلة قضيتها في التعليم وفي المسؤولية. منها ما يتصل ببعض الممارسات الخاطئة، ومنها ما يتصل بتربية الأهل لأولادهم تربية صالحة تساعد المدرسة إلى حد بعيد. كل ذلك أحدث تراجعاً وتقهقراً في المدارس وكأننا في مرحلة استرخاء أو ترهل، سمّها ما شئت وهذا القول سيزعج البعض إن لم يكن الكثيرين من العاملين في قطاع التربية هذه الأيام خاصة في التعليم الرسمي. وأنا ما كنت ولن أكون يوماً لأزعج أحداً ولكن طالما سأكتب لابد أن أبدا بالاعتذار ممّن يعنيهم الأمر ولا أعني أحداً منهم بالتحديد بل هي بعض الأفكار والاستنتاجات فقط .

لم يعد المعلم معلماً تقع على عاتقه مهمة تربية الأجيال وتثقيفهم وتوجيهمم وتوعيتهم وزرع روح المحبة فيهم وروح الوطنية الصادقة إضافة إلى أن بعض المعلمين يريدون أن تكون المدرسة على مسافة قريبة من سكنهم أو تكاد تكون ملاصقة له، أنا لا أقول بإبعاد المعلم عن مكان إقامته كثيراً وهذا ما يوفر له وقتاً لانتقاله وكلفة مادية لذلك، بل أريد القول إنّ وجود المعلمين في مناطق بعيدة لحد ما يخلق جواً من الألفة والمحبة والأخوة والوطنية الصادقة بصورة خاصة وحسن التعاطي مع الآخرين، وهذا ما ينطبق أيضاً على توزيع وإلحاق عناصر قوى الأمن سابقاً أيضاً حيث لا تنقطع العلاقة بين المتحابين بل تدوم على مدى الحياة عند أكثرهم (لانزال حتى اليوم نذهب لزيارات زملاء لنا سابقين في مناطق كسروان وبشري وطرابلس وبعض قرى الجنوب وسواها والعكس صحيح بالنسبة إليهم).
ونسي البعض أن المعلم هو المثل الأعلى لتلامذته، أناقة وتربية وحسن تصرف ومرونة مع قسوة ضمن الحدود عند الحاجة .

وهذا الأمر وسواه يجب أن يلقى على عاتق مدير المدرسة حيث هو بالنسبة للمعلمين الأخ الأكبر والمسؤول الأول عن كل ما يحدث في المدرسة بمساعدة ومعاونة ومراقبة التفتيش التربوي، أللهم إذا كان المدير على المستوى المطلوب بمسلكه وشخصيته ونظافة كفّه وأناته وصبره وحُسن تعاونه مع المعلمين والتلامذة والأهل والمجتمع وقدرته على حل جميع المشاكل التي تواجهه مهما كانت.

فالإدارة فن وعلم لا يستغني الواحد منهما عن الآخر، والفن في الإدارة هو اتقان فن التعامل وعدم اللجوء إلى استدعاء التفتيش التربوي لكل شاردة وواردة، فالمدير سيد مدرسته والأعلم بحالها وواقعها ومحيطها (أعطه كل ما تحتاج المدرسة واتركه يعمل وراقبه) والمهم أيضاً أن لا يكون تكليف المدير لأسباب غير تربوية. ثم أن لا ينقل أو يكلف أو يعين أي مسؤول تربوي في الإدارة مديراً لمرحلة معينة أو رئيساً لمنطفة تربوية أو رئيساً لدائرة تربوية دون دراسة ملفه الشخصي ومستواه العلمي واختصاصه الجامعي الذي يتلاءم مع عمله التربوي وإجراء مقابلة شخصية معه من قبل هيئة تربوية متخصّصة ومسؤولة وإخضاعه لدورات تدريبية في معهد الإدارة في مجلس الخدمة المدنية.

وأقترح أن لا تكون مدة تكليف مدير المدرسة لأكثر من خمس سنوات ثم ينقل إلى إدارة مدرسة أخرى كي لا يحرم حقه وكي لا يعتقد أن المدرسة أصبحت ملكاً له وكي يستفاد منه في أكثر من مدرسة بسبب خبرته ونجاحه. وأودّ أن أشير إلى مسألة هامة، كانت مناقلات أفراد الهيئة التعليمية تجري على أسس و قواعد مدروسة حيث كانت لجنة من العاملين الناجحين في مديرية التعليم الابتدائي تجتمع خلال العطلة الصيفية في مدرسة قريبة من مستشفى رزق في الأشرفية لأيام تتجاوز الشهر أحياناً، تدرس خلالها أوضاع كل مدرسة رسمية في لبنان وكل صف من الصفوف في كل مرحلة من المراحل ووضع كل معلم من طالبي النقل واختصاصه والمادة التي يدرس، ثم تتم المناقلات بحسب حاجة كل مدرسة ووضع كل مدرس.

أما عن الدوام وحصص التدريس فالفرق شاسع جداً بين اليوم والأمس، حيث إنّ ساعة الحضور إلى المدرسة كانت تمام السابعة والدقيقة الخمسين تماماً للمعلمين، وبالنسبة للمسؤولين، إدارة ونظار، قبل ذلك بثلاثين دقيقة. وكانت حصة التدريس لا تقل عن خمس وخمسين دقيقة، واستراحة صباحية لمدة عشرين دقيقة بين الحصص الأربعة الأولى ثم استراحة طويلة لمدة ساعتين نعود بعدها للتدريس لحصتين، ولا نترك المدرسة قبل الرابعة عصراً، وكان البعض منا يعود مساءً لمدة لا تقل عن الساعة غالباً لتدريس صفوف الشهادات أو التلامذة غير الناجحين (وذلك دون مقابل مادي طبعاً). أما اليوم فحصص التدريس هي سلفاً، وفي بعض المدارس ذات الدوامين لا تزيد الحصة عن الثلاثين دقيقة وفي ذلك خطأ كبير. هذا وكان المدرس لا يخرج من صفه إلا بعد أن يُنهي واجبه ولو أدى ذلك إلى إزعاج زميله الذي سيدخل بعده إلى الصف، بينما نرى اليوم بعض المدرسين يقف الواحد منهم على باب غرفة التدريس ينتظر قرع الجرس كي يخرج.

إضافة إلى ذلك، هناك نقص في بعص التجهيزات ووسائل الإيضاح والمكتبات وغرف المطالعة والمسرح وقاعة المحاضرات والندوات والمباريات في الإلقاء وما إلى ذلك. والأهم الأهم هو أن بعض المدارس الخاصة كانت تقوم على أكتاف بعض المعلمين الرسميين خاصة في مواد معنية كالرياضيات والعلوم واللغات حيث يسمح للمعلم أن يدرس بعد (أذن مسبق من المراجع المختصة).

أما عن هيئة تقييم أداء المعلم التي كنا وسوانا نقترحها دائماً في كل لقاءاتنا التربوية مع المسؤولين، وبخاصة مع الدكتور ريمون معلوف والأستاذ أميل الرامي، فأين هي كي تسجل هذه الهيئة في ملف المعلم مستواها ومدى إنتاجيته ونسبة نجاحة، فتقترح له ثواباً كمنحه وسام المعلم مثلاً (حيث أننا شهدنا في بعض المراحل السابقة) أوسمة تغدق من هنا وهناك لغير مستحقيها، مما ترك امتعاضاً لدى البعض. وأكتفي هنا بهذا القدر كي لا يفسر كل قارئ هذا الكلام على هواه، مع العلم أن البعض لم يطلب الوسام بل رفضه بغياب هيئة تقييم الأداء حيث يتساوى الناجح مع سواه.

وهنا اسمحوا لي أن أورد مثلاً أعتبره هاماً، مع أني أكره العودة إلى أيام الحرب الأهلية المشؤومة، فلسد غياب الدولة يومها لأسباب معروفة لدى الجميع عملت بعض المؤسسات المهمة في عدة مناطق على استمرار المدراس الرسمية وتقويتها وتأمين جميع مستلزماتها إدارة ومعلمين وتلامذة معتمدة على تغطية النقص في عدد المعلمين والحاجة إلى المواد الأساسية، فنجحت جداً لأسباب أولها وأهمها عدم التدخل سياسياً بأمر المدراس ثم تأمين الكادر الإداري والتفتيشي والمتخصصين في شؤون الإمتحانات، فنجحت وكان لها الفضل الأكبر في استمرار المدراس. ولأنه طُلب مني الاختصار، أكتفي بما كتبت وأعتذر من كلّ مَن لا يوافقني الرأي، فأنا الذي عاش التربية والتعليم والإدارة بكلّ جوراحه وأحاسيسه وقناعاته. أبديت وجهة نظري وأفصحت عن معاناتي، مع أنني أحلت على التقاعد منذ سبعة عشر عاماً.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” واقع المدرسة الرسمية من ماضٍ مزهرٍ الى حاضرٍ مخيف سلمان نصر مسؤول مكتب المنطقة التربية في الشوف (سابقاً)” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يُروَّجُ حاليًا في المنتديات الدولية، واجتماعات الخبراء والمختصين، بأن نشر التعليم على نطاقٍ واسع، يشكّل المدخل الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد والسكان؛ ولا بدَّ من إشاعة دعوة الحكومات الى إيلاء التعليم اهتمامها، وجعله من بين أهدافها المباشرة. وعُقدت في إطار ذلك قممٌ دوليةٌ كثيرة، من بين أهم أهدافها، تعميم التعليم الابتدائي والمتوسط.
أما نحن في لبنان، يجب الاعتراف أننا لم نولِ موضوع التربية الاهتمام اللازم، بعد الأحداث الأليمة، والحرب الأهلية العبثية، التي انفجر قدرها بين اللبنانيين، فكانت البوَّابة السوداء الفاحمة التي دخل الوطن منها الى أزمةٍ دامت مع تردُّداتها أكثر من ثلاثين سنة، طاولت بحريقها كلَّ شيءٍ، وفي مقدِّمها التربية والمدرسة بشكلٍ عام، والرسمية منها بشكلٍ خاص، مع ما رافق هذه الأخيرة من فوضى وخللٍ في النظام، وخروج معظم المعلمين عن احترامهم لقانون المدرسة، والانتظام العام فيها، وانتقال المعلمين قسرياً من مراكز عملهم بالحجة الأمنية، إلى حيث أمنهم وأمانهم وفق الطوائف والمذاهب والمناطق؛ مما رتَّب خللاً كبيراً في المدارس، تأتَّى من فائضً خرَّبَ المدارس التي حلَّ فيها ومن نقصٍ خرَّبها هو الآخر.
رُدَّ على ذلك بحلولٍ استثنائية، وسياسة ترميم لما هُدِّم. فاعتمد المسؤولون التعاقد بالساعة، والتعاقد الداخلي، والإتيان بمعلمين، هم بحاجة إلى تأهيل، وتدريب. زِدْ على ذلك، فوضى الإمتحانات الرسمية والنجاح الوهمي الكاذب، والوصول إلى مراتب علمية ووظيفية وهمية كاذبة، بنيل شهادات الحرب، ثم فوضى الانضباط المسلكي ضمن المدرسة الواحدة، وعمل كل شيء على حساب المدرسة والطالب فيها، كيف فالمدرسة بنت الدولة، وللمعلم الحق بقبض راتبه بعمل وبلا عمل…!! كأن المدرسة شركة ضمان ضد البطالة.
كل هذه الأمور مجتمعةً، بالإضافة إلى أسبابٍ تقنية وفنية، أدَّت إلى فقدان الثقة بالمدرسة الرسمية ومن فيها. والأخطر، أن هذه الثقة، لا زالت شبه مفقودة، أو بالأحرى، بين مدٍ وجزر. مع ثقتي بما أقول، أنه لولا الطلاب السوريين في المدارس الرسمية، لأقفل العدد الكبير منها.
التعليم الرسمي في لبنان، لم يأخذ شكل المؤسسات، وهو متخلِّفٌ زمنياً عن التعليم الخاص، وهو فوق ذلك مُثقلٌ بمشاكل الإدارة، ومصالحِ الطبقة السياسية والحاكمة في الدولة، وتدخُّلها المباشر الذي كان ولا يزال، السبب في عدم استقرار المدرسة الرسمية، كما أنه كان مثقلاً بقضايا مطلبية للمعلمين، بسبب حرمانهم من قبل الدولة.
علينا الاعتراف أن التعليم الرسمي قبل سنة 1975، استقطب 65% من تلامذة لبنان، وكان بمستوًى يضارع فيه التعليم الخاص، لا سيَّما المرحلة الثانوية.
بعد هذا التاريخ، تهاوى التعليم الرسمي، للأسف، لا سيَّما الأساسي منه، وهو لا يزال في ضعفه وتراجعه وهزاله، برغم كل محاولات التصدي لذلك.
ولكن يجب ألا ينتابنا اليأس، بل ضرورة الاستمرار باجتراح الحلول التي تعيد المدرسة إلى بريقها وازدهارها، في ظل ارتفاع كلفة التعليم، والظروف الاقتصادية الاجتماعية الصعبة.
ولذلك، نعود ونؤكد الحلول التي تقاطعت حولها الأفكار التربوية النظرية والعملية من أكثر من جهة؛ والتي توصل المدرسة الرسمية إلى المبتغى وهي باختصارٍ شديد:
1. في ظل سياسة تربوية جدية للدولة، يجب إعادة النظر بهيكلية
وزارة التربية، والإدارات التابعة لها بتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة؛ وإعطاء مدير المدرسة الصلاحيات اللازمة، ومراقبته ومحاسبته عند اللزوم، بعد تأمين حاجيات المدرسة.
2. إعادة النظر جذرياً بقضايا المديرين والمعلمين، إعداداً وتأهيلأ
وصلاحيات وأنظمة ثواب وعقاب، ووضع معايير دقيقة لاختيار المعلمين، وتحديث النظام الداخلي للمدارس بما يتناسب وروح عصر الإنترنت ومشتقاتها.
3. إعطاء المعلم حقوقه كاملة، ومعاملته كما يُعامَل في اليابان
(راتب وزير وحصانة دبلوماسي وجلالة إمبراطور…!!) ومن ثم منعه بقانون ترك مركز عمله، والبقاء إلى جانب تلامذته، لكسب صداقتهم وتبادل المحبة والثقة في ما بينهم.
4. إيلاء موضوع الإنترنت وعالمها من أطفال وتلامذة وشباب من
الجنسين الأهمية الكبرى لإنقاذ الجيل من الوجوه السلبية لهذه الثورة الخطيرة والعظيمة.
5. إحياء مشروع تجمُّع المدارس لأنه تجميعٌ للطاقات التي تسدُّ الحاجات.
6. الحؤول دون تدخُّل السياسيين بقانون في شؤون المدرسة للحفاظ
على استقرارها.
7. خلق جهاز تربوي من حكماء تربويين، ــ وهذا المهم ــ يمثل
بأعضائه كل اللبنانيين، يكون برئاسة وزير التربية، يمنح صلاحيات استثنائية، لتنفيذ خطة تربوية خمسية مبنية على سياسة وطنية، يقرها مجلس الوزراء، ويشرعها مجلس النواب. يتحمل الجهاز المسؤولية كاملة ولا يكون أعضاؤه عُرضةً للتغيير أو الاستبدال لأسبابٍ طائفية وسياسية ومناطقية.
فهذا مع ما سبقه، يعيد الثِّقة للمدرسة الرسمية، ويمكن أن يعيدها إلى سابق عهدها، أي تتقدم، وذلك، برجوعها إلى الزمن الجميل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المدرسة الرسمية هي الحل شفيق يحيى مفتش تربوي متقاعد ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يكثر الحديث هذه الأيام عن أزمة الأقساط المدرسية وارتفاع كلفة التعليم في لبنان. وتتوالى الاتهامات المتبادلة، فمنهم من يتهم المدارس أو بعضها بالجشع والسعي وراء الربح المادي، ومنهم من يتهم السلطة التربوية بإهمال التعليم الرسمي، وعجزها عن مراقبة المدارس الخاصة ودراسة أقساطها. وبين تطاير الاتهامات والاتهامات المضادة. يتيه المواطن ولا يدري من الحقائق إلا القليل، ولا يعرف كيف ينقذ دخله من استهلاكه في نفقات التعليم، وبالتالي لا يعرف كيف ينقذ أولاده من تعرضهم لعدم الالتحاق بالمدرسة، أو كيف يتخلص من عبء الديون.
إزاء هذا الواقع لا يستطيع المراقب للوضع التربوي أن يتهم فريقاً واحداً بالتقصير أو الإهمال أو اللامبالاة، ولكننا نستطيع أن نعترف بأن المواطن اللبناني مضلل إلى حد ما تربوياً، فلا يؤمن بالمدرسة الرسمية، ولا يستطيع أن يتحمل أقساط المدرسة الخاصة. وإذا نصحه أحد المقربين المطلعين على الشأن التربوي بتعليم أولاده في المدرسة الرسمية، اعتبر هذا المواطن التائه أنّ قريبه أو صديقه غير مخلص في نصيحته وأنه “يحط من قدره”.
وما هذا الاعتبار أو الظن إلا الجهل بحقيقة المدرسة الرسمية والتعليم الرسمي الذي يتجاهله البعض أو يجهل واقعه السليم في مدارس كثيرة ويشير إلى ثغراته بدلاً من أن يشير إلى حسناته ويعمّمها خدمة للحقيقة ولمصلحة المواطن.
فما هو سبب هذا الضياع؟
لا شك أنّ التعليم في المدارس الخاصة أكثر جاذبية للمواطن اللبناني لأكثر من سبب قد يكون اعتقاده أنّ التعليم فيها أكثر تنويعاً وتطبيقاً ونشاطاً وتنظيماً. وقد يكون جهله لحسنات المدرسة الرسمية، وكفاءة مدرّسيها وأساتذتها، ونجاح تلاميذها في الامتحانات الرسمية، وتفوُّق بعضهم فيها وفي امتحانات الدخول إلى الجامعات واستمرار تفوّقهم فيها، ونجاحهم أيضاً في مباريات اختيار موظفين لإدارات الدولة.
ولأننا لا نهدف من موضوعنا هذا إلى تجاهل المدرسة الخاصة واتّهام بعضها بالطمع المادي أو بعدم الأفضلية عن زميلتها في التعليم الرسمي.
وبما أننا نريد أن نشارك في النصح والإرشاد إلى ما يخدم المواطن دون الإساءة إلى أي من الفرقاء يهمنا أن نلفت النظر إلى ما يلي:

أولاً. في حقيقة المدرسة الرسمية
لقد بلغ التعليم الرسمي أوجاً مرتفعاً في السنوات التي سبقت الأحداث الأهلية في الربع الأخير من القرن العشرين، ثم أخذ وضعها يتدهور أسوة بسائر مؤسسات الدولة التي تأثرت سلباً بالحرب الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية. لكن تعافي الدولة والوطن عموماً ابتداءً من العقد الأخير من القرن الماضي، شمل المدرسة الرسمية في النواحي التالية:
1- ترميم معظم الأبنية المدرسية التي تهدمت في الحرب وتشييد
أبنية حديثه للمدارس الرسمية.
2- تخرُّج عدد من المدرّسين والمدرّسات من دُور المعلمين، والأساتذة
من كلية التربية.
3- تزويد المدارس الرسمية، بما فيها الثانويات، بالكثير من
المختبرات ووسائل الإيضاح والتكنولوجيا.
4- تكثيف الدورات التدريبية لأفراد الهيئة التعليمية ولمديري
المدارس الرسمية، واتّباع منهج التدريب المستمر.
5- تحقيق الكثير من إنصاف المعلمين والمعلمات بإعطائهم درجات
استثنائية، وتعويض إدارة للمديرين.
6- تحديث برامج التعليم وفق المناهج الجديدة التي أقرت رسمياً
بالمرسوم رقم 10227 تاريخ 8/5/1997، وتنظيم دورات تدريبية لمعرفة تطبيقها بالتعاون بين وزارة التربية والتعليم العالي، والمركز التربوي للبحوث والإنماء والتفتيش التربوي المركزي.
7- إعطاء تعويض نقل لموظفين التعليم، أسوة بسائر الموظفين ممّا
يُخفّف من أعباء الانتقال من قرية إلى قرية أو من المدينة إلى القرية، وبالتالي يسهّل على وزارة التربية إلحاق مدرّسين وأساتذة بمدارس خارج محيط إقامة المدرس والأستاذ.

ثانياً: عدم اكتمال جاذبية التعليم الرسمي
إذاً، طرأت في السنوات الأخيرة، إيجابيات كثيرة في التعليم الرسمي، ولكن هل استعاد هذا التعليم زخمه السابق، أو واكب الإيجابيات الجديدة التي طرأت عليه؟
لا نعتقد أنّ الجواب سيكون كلّه إيجابياً لأنّ سمعة المدرسة الرسمية ما زالت غير جذابة للأسباب التالية:
1- التوجُّه إلى التعاقد بدلاً من تخريج مدرّسين جدد من دور
المعلمين، وأساتذة جدد من كلية التربية.
2- استمرار التأخّر في إجراء المناقلات بين أفراد الهيئة التعليمية،
والتأخّر في إلحاقهم وإلحاق المتعاقدين بالمدارس حيث الحاجة.
3- تراجع دور الرقابة التربوية من قِبل التفتيش التربوي بسبب
ضآلة عدد المفتشين وانشغالهم بالرقابة الإدارية والمالية
4- تقصير الإعلام الخاص والرسمي المسموع والمقروء والمرئي في
تسليط الضوء على المدرسة الرسمية الناجحة واكتفائه بالإشارة إلى ثغرات المدرسة الرسمية المتعثّرة أو تسليط الضوء عليها وتجاهل ما فيها من إيجابيات.
5- عدم مبالاة وزارة التربية والتعليم العالي بدراسة أسباب
تقهقر أي مدرسة رسمية ومعالجتها بدلاً من اللجوء إلى إقفالها أو نقل مديرها ومعلميها إلى مدارس أخرى أو إلى الإدارة دون مساءلة ومحاسبة.
6- عدم التنويه إعلامياً بالمدارس الرسمية بكلّ مراحلها الثلاث
الناجحة والمتفوقة في الإمتحانات الرسمية.
7- التدخل السياسي أو المصلحي أحياناً لصالح مدير غير كفوء أو
لنقل معلم تحتاجه مدرسته إلى مدرسة أخرى ليست بحاجة إليه، خدمة له لا للمدرسة.
8- إبقاء بعض المدارس في أبنية، غير مؤهلة تربوياً علماً أن عدد
الأبنية المهملة قد تقلص في السنوات الأخيرة
9- الإضرابات التي توالت سنوات وسنوات مما أخاف الأهلين من
إلحاق أولادهم بالمدرسة الرسمية، وكلنا أمل في أنّ الإضرابات قد انتهت في المدارس الرسمية، ونأمل أن لا تنتقل إلى المدارس الخاصة.
10- ترهل بعض أفراد الهيئة التعليمية أو مرضهم، دون أن يكون
للمدير ورؤسائه القدرة على حل هذه المشكلة وفقدان الإيمان بالرسالة التربوية التي آمنتا بها الأجيال السابقة من المعلمين.

ثالثاً: في الاقتراح
مما تقدّم، ورغبة في الإصلاح والإنقاذ وليس رغبة في الانتقاد نقترح ما يلي:
1- قيام وسائل الإعلام بتسليط الضوء على المدرسة الرسمية
الناجحة كتابة وتصويراً وعرضاً تلفزيونياً
2- تعميم جميع الإيجابيات التي طرأت على المدرسة الرسمية لا
عادة الثقة بها، وبالتالي إنقاذ الأهل من أعباء المدرسة الخاصة.
3- إعادة افتتاح دور المعلمين وكلية التربية لتخريج معلمين وأساتذة
جدد، وثبيت المتعاقدين والتخلص من بدعة التعاقد تدريجياً إلا في الحالات الضرورية.
4- زيادة عدد المفتشين التربويين ليستطيعوا القيام بدورهم
في الإرشاد التربوي بالإضافة إلى دورهم في الرقابة الإدارية والتحقيقات.
5- مكافأة المديرين والمعلمين والأساتذة المجلين في عملهم معنوياً
ومادياً، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب.
6- تعزيز النشاط اللاصفي الثقافي والفني وإصدار المجلات التي
يحرّرها الطلاب بالتعاون مع معلميهم، علماً أنّ بعض المدارس قد خطت خطوات في هذا المجال.
7- عدم التأخر في دفع مستحقات المدارس الرسمية من وزارة
التربية لتستطيع هذه المدرسة تأمين حاجاتها المتعددة.
8- العمل على جعل تدخل السياسة والسياسيين في شؤون المدرسة
الرسمية لصالح المدرسة وليس لصالح أفراد فيها. والافضل بالطبع إبعاد السياسة عن معالجة شؤون المدرسة وترك ذلك للمراجع المختصة.
9- تزويد المدارس الرسمية بما يلزمها من وسائل التكنولوجيا
الحديثة علماً أنّ معظم هذه المدارس قد توافرت فيها هذه الوسائل.
10- تزويد المدارس الرسمية بالعدد اللازم من مدرّسي الفنون
والرياضة البدنية، ولا يتحقق ذلك إلّا بإعادة تخريج مدرّسين للمواد كافة من دور المعلمين والمعلمات.
11- إقامة لقاءات تربوية بين مديري المدارس ومعلميها لتبادل
الخبرات، وتنشيط العمل التربوي. ولقاءات أخرى دورية وطارئة بين مديري المدارس ومعلميها والأهلين للتعاون على معالجة مشاكل الطلاب وتقويم سلوكهم واجتهادهم الدراسي.
12- الاستمرار في إقامة حفلات التخرّج التي بدأت تتوسّع منذ
سنوات في الثانويات الرسمية والعمل على تعميمها وتعزيزها فنياً وتربوياً لأنّ ذلك يُعزّز جاذبية المدرسة الرسمية ويعمّم على الأهلين أخبار نجاحها ونشاطها.

رابعاً: في الخلاصة
نستنتج مما تقدم أنّ المصلحة التربوية والاقتصادية للمواطن تقضي بوجوب الانصراف إلى الاهتمام بالمدرسة الرسمية لتكون هي الحل بدلاً من التلهي بإلقاء اللوم على المدرسة الخاصة والتذمُّر من الأقساط الرسمية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المدرسة الرسمية بين الواقع والمرتجى سلطان أبو الحسن مسؤول مكتب التربية في المتن الأعلى سابقاً” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

بالرغم من الجهود المبذولة، لم تزل المدرسة الرسمية، وخصوصاً المدرسة الرسمية الابتدائية والمتوسطة، تواجه صعوبات ومعوقات، لأنها جزء من النظام التعليمي العام، أي النظام الطائفي، خلافاً لِما نص عليه الدستور. وأكبر مثال على إعاقة الطائفية أي تقدم هو عدم الاتفاق التربوي والسياسي على إصدار كتاب موحد لمادة التاريخ، والأسباب معروفة. الوطن يحتاج الوقوف إلى جانب المدرسة الرسمية لأنها الجامع الوطني غير الطائفي التي تعد مواطنين للوطن وليس لطوائفهم، ولأن هناك على الأقل مراقبة لتطبيق المناهج، لا كما هو الحال في معظم المدارس الخاصة حيث رقابة وزارة التربية تبدو شكلية خصوصاً على المناهج التعليمية التي يجري تنفيذها.

أما بعض المرتجى أو الحل فهو أولاً تطبيق وثيقة الوفاق الوطني، وتطبيق الثوابت الدستورية في المدارس الخاصة لا الاجتهاد في تصميم وتنفيذ مناهج تربوية خاصة بالقطاع الخاص أو بكل مدرسة على حدة. وهذا يقود إلى موضوع التنشئة الوطنية والأخلاقية، فلا تكون مهنة التعليم عرضة للارتزاق، كما يحصل اليوم في التعاقد النفعي لتعليم التلامذة السوريين، وما يرافق هذا الملف من اتهامات بالفساد المالي، فضلاً عن أنه غير ذي معنى تربوياً وعلمياً.

إذا أريد النهوض بالمدرسة الرسمية فالمطلوب كثير، ولكن أوله اعتبار الأهداف الوطنية والإنسانية هي غاية التعليم، وليس الاصطفاف الطائفي أو المنفعة المادية، وكلاهما يكون على حساب الهوية العلمية والوطنية للتعليم.

نحن نرى أن الرقابة التربوية على المدارس الرسمية يجب أن تكون رقابة ميدانية وليست صورية، ودون محسوبيات. في ماضي الأيام كانت المدرسة الرسمية نقية ناصعة لا شوائب بسلوكها المادي، أما الآن فقد نخر السوس المفاصل في معظم المجالات وخصوصاً في التعاقد والمراقبة والمنح والتلزيمات وغيرها. وتلعب المحسوبيات دوراً مسيئاً في تعيينات المديرين، فلا يؤخذ بنتائج المقابلات أحياناً بسبب من ضغط من هنا أو من هناك. كذلك يجب إلغاء المدارس الخاصة المجانية إذ لا لزوم لها تربوياً واجتماعياً بوجود المدرسة الرسمية، إلا إذا كان الهدف التنفيعات أي الفساد. ويجب تحويل الأموال المهدورة في المجاني على المدرسة الرسمية الابتدائية والمتوسطة لتعطي أفضل النتائج، والثانويات الرسمية خير دليل على ما تستطيع المدرسة الرسمية أن تحققه إذا تأمن لها الجهاز التعليمي الجيد والتجهيز المطلوب والتعاون الضروري.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”بالتربية نبني محمود خضر مدير ثانوية حاصبيا السابق ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لإيماني المطلق بأننا بالتربية نبني،
فهل ننقذ هذا المجتمع ونصل به إلى أرقى ما نريد دون أن تنصب كل جهود الدولة في العمل التربوي؟

فالاستثمار في التربية هو أنفع وأفضل الاستثمارات
كيف لا وكل الوطن يعتمد على خريجي التربية.
كيف نبني مجتمعاً دون تحديث في التربية؟

أبناؤنا في حالة ضياع لعدم وضوح منهجية تربوية تماشي العصر والتطور بسبب التخبط الحاصل في تعديل المناهج.

حان الوقت أن ننطلق جميعاً لنجعل التربية تبني، وبحق.
عسى أن تتكاتف كل القوى الحكومية والتربوية لإصلاح منشود في التخطيط والتوجيه والتنفيذ كي لا تسبقنا إلى ذلك بعض الدول التي كانت تعتبر متخلّفة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خطوة على طريق الإصلاح التربوي في لبنان د. منصور العنز
باحث تربوي ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لقد أُطلِقت المناهج التربوية الحديثة في لبنان، تحت عنوان برّاق ومُفرح ألا وهو “بالتربية نبني” فلاقت ارتياحاً وترحيباً في الأوساط التربوية لم يسبق لهما مثيل. ولكن سرعان ما تبيّن أن النتائج ليست على المستوى المتوقّع. وعادت التربية إلى الدوران في برامج المسكنات التي تبقى على المستوى العلاجي دون أن ترتقي إلى مستوى التخطيط الوقائي. لذا أصبح لزاماً علينا تحديد أي تلميذٍ نريد، وإلى أيةِ وظائف نعدّه، وما هي مجالات عمله المستقبلية، ودور المؤسسة التربوية في إعداده وبناء شخصيته، ومستوى المعلم الذي سيعدّه لمهام حياتية جديدة بواسطة منظومة تربوية قديمة بظل واقع اجتماعي متغيّر وتطوّر علمي تقني متسارع مستخدماً مناهج تربوية مأزومة الأهداف بين التربية على القِيم الموروثة أو الإعداد لجيلٍ عنوانه التغير ومماشاة العصرنة بتدريب المعلم وتمكينه من استخدام تقنيات الحاسوب والتواصل الإلكتروني في التعليم لجهة تركيز مؤسسات الإعداد والتدريب على تطوير وتنمية قدرات المعلم التربوية والتقنية، وإلى أي مدى يتم الاعتماد على الكفاءة والجدارة كمعيار أولي في تكليف أو تعيين أو ترقية المدراء والأساتذة والمعلمين الرسميين؟!
وهل ينبغي إعادة النظر بآليات تعيين وإعداد المعلمين بظل الاستعمال الواسع للتقنيات المستجدّة في العملية التربوية، لاسيما الحاسوب وفوائد الإنترنت من خلال توظيفها في الإنتاج التربوي، بواسطة موارد بشرية متمكّنة ومواكبة للتكنولوجيا والتطور التقني المتسارع، من أجل ضمان الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة؟ وهذا ما يفترض إجراء تغييرات هامة على مستوى إدارة هذه المؤسسات وتحديثها، وتطبيق التقنيات الجديدة والأساليب المتطورة، وتأمين الموارد المادية والحوافز المعنوية، للنهوض بالمدرسة الرسمية والمجتمع اللبناني.
ولا يمكن أن نتحدّث عن دور التقنيات التكنولوجية، دون أن نتطرّق لدور الجهاز التربوي المتمكّن من استخدامها على مستوى الإدارة والتعليم في المؤسّسات التربوية الرسمية التي تتحمّل على عاتقها مسؤؤلية نجاح أو فشل العملية التربوية برمتها، إلى جانب الأنظمة والقوانين التي ترعاها، متمثلةً بالسلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية التي تنتجها وتتابع تطبيقها، وصولاً إلى مؤهلات أفراد الجهاز التعليمي وآليات تعيينهم وتطويرهم وتحفيزهم، لأن الجهاز التعليمي يمثل القلب النابض والعقل المدبر للمدرسة الرسمية.

فاذا كان جهاز التعليم في المدارس الرسمية يمتلك الكفاءة العالية لجهة المعلومات والمؤهلات، وإذا كانت الآليات المعتمدة في تعيين أفراده مضبوطةً على إيقاع الجدارة والكفاءة العلمية فقط،، وإذا كانت خطوات التطوير والتدريب والإعداد هائلة وجبارة! وإذا كانت أجهزة الرقابة والمتابعة من إرشاد وتوجيه وتفتيش ناشطة وتقوم بدورها بشكلٍ صحيح! وإذا كان المعلم نفسه قادراً على المزيد من العطاء والإنتاجية في المدارس الخاصة مقارنةً بما هوالحال عليه في المدارس الرسمية! فكيف يمكن أن نفهم تلك المفارقة؟! وكيف إذاً يمكن تفسير التراجع شبه المستمر في أداء المدرسة الرسمية؟! ويبقى السؤال المركزي يدور حول مدى تلبية جهازها التعليمي والإداري لمتطلبات التعليم الحديثة المعاصرة؟ ومدى قدرة مشروع التدريب المستمر على تطوير أداء المعلمين ومدى انعكاسه على العملية التربوية؛ لجهة تأهيلهم وإعدادهم بطرق وأساليب تعليم بحثية ناشطة محولةً بذلك المعلم إلى باحثٍ مشرفِ موجهٍ بما يتناسب مع تقنيات التعلم والتعليم المتطوّرة المضبوطة على إيقاع سلّم تقييمي دقيق المعايير شفّاف التطبيق لمبدأي الثواب والعقاب بظل منظومة تشريعات تربوية رشيدة منبثقة من آليات تخطيط تربوية واعية ترصد المشاكل وتضع لها الحلول راسمةً سياسات تربوية استراتيجية واضحة الرؤية والأهداف متجاوزةً كافة الاعتبارات.
ولعلّ أول ما يستوقفنا في واقع التعليم الرسمي في لبنان هو مدى مواكبة أفراده ومناهجه للتطوّرات التقنية المتسارعة إلى جانب متطلبات سوق العمل الذي ينتظر طلابه في المستقبل القريب.

بناءً عليه، لا بد من الإبحار وسبر الأعماق لالتماس بعض الحقائق والأسباب المؤثرة على إنتاجية التعليم الرسمي لا سيما الأساسي في لبنان مقترحين جرعاتٍ علاجية تلامس شؤون وشجون التربية والتعليم الرسمي لجهة آليات تكوينه وإعداد جسمه التعليمي وآليات عمل مؤسساته الناظمة ومدى تأدية دورها الأساسي المسؤولة عنه بظل نظام التدخلات والمحاصصة السياسية القائم في لبنان، وهي المؤتمنة عليه أمام ماضي وحاضر ومستقبل الأجيال وصيرورة بناء الوطن ومواطنيه وفق مناهج تربوية سليمة تُدرّس على أيدي معلّمين يُفترض أنهم أكفّاء منخرطين بمؤسسات تربوية تعليمية تعي جيداً أهدافها وأي مواطن تريد ولأية وظائفٍ تعدّه ليكون المدماك الأول التي تسترشد به الأجيال القادمة لتشيّد على أسسه ورؤاه صروح الوطن المستقبلية.

فكانت البداية بالعودة إلى المستندات والوثائق والمطبوعات والتشريعات التي واكبت منظومة التربية والتعليم في لبنان منذ العهد العثماني حتى كتابة هذه السطور، محدّدين بواسطتها العثرات واصفين بعض الجرعات العلاجية آملين أن تجيب على بعض تساؤلات القلقين على مستقبل التعليم الرسمي في لبنان.

من هنا فإنّ التربية تبدأ بوزارة التربية والمؤسّسات المنضوية تحت لوائها على كافة الأصعدة بدءاً من رأس الهرم مروراً بكافة مؤسساتها المتفرّعة عنها كلٍ بدوره وصولاً للمجتمع المحلي الذي يمثل البيئة الحاضنة والمساندة للمدرسة الرسمية مصوبين على جودة المناهج التربوية والأجهزة التعليمية والإدارية والرقابية التي تتحمّل مسؤولية نجاح أو فشل التربية برمتها.
وبهدف الكشف عن بعض الأسباب الكامنة وراء تراجع التعليم الرسمي في لبنان، نُقدّم بعض الاقتراحات التي قد تُضيء شمعةً على طريق الإصلاح التربوي بدلاً من لعنة الظلام، منطلقين من إشكالية يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: كيف يمكن تفسير التراجع شبه المستمر في أداء المدرسة الرسمية؟! وهو سؤال البحث المركزي الذي يدور حول مدى تلبية الجهاز التعليمي والإداري في لبنان لمتطلبات التعليم الحديثة المعاصرة، لجهة تأهيل واعداد المعلمين بطرق وأساليب تعليم بحثية ناشطة بعيدة كل البُعد عن أساليب التلقين التقليدية من أجل تحويل المعلم إلى باحثٍ مشرفِ موجهٍ بما يتناسب مع تقنيات التعلم والتعليم المتطورة المضبوطة على إيقاع سلّم تقييمي دقيق المعايير شفاف التطبيق لمبدأي الثواب والعقاب بظل منظومة تشريعات تربوية رشيدة منبثقة من آليات تخطيط تربوية واعية ترصد المشاكل وتضع لها الحلول راسمةً سياسات تربوية استراتيجية واضحة الرؤية والأهداف متجاوزةً كافة الاعتبارات.
وبناءً عليه يمكن اقتراح بعض الإصلاحات التربوية على الشكل التالي:
1- على الجهاز التعليمي والإداري الرسمي الحالي الهَرِم في
لبنان العمل على تحقيق الأهداف التربوية الكبرى المعاصرة للمدرسة الرسمية من خلال إعادة تاهيل وإعداد وتطوير أفراده بما يتناسب مع مسيرة التسارع التقني التعليمي التعلُّمي المتحكّمة بمفاصل التربية والتعليم الشامل المتكامل بمواصفات كونية عالمية تتخطى حدود التاريخ والجغرافيا وتسمو فوق التقوقع المناطقي والعقائدي والعِرقي والمذهبي.

2- على القيّمين على التعليم الرسمي في لبنان إغنائه بعنصر
التعليم الشاب الفتي القادر على استخدام تقنيات التربية الحديثة والمتمكّن من الاندماج عالمياً مع متغيرات الحداثة والعصرنة التربوية بصفة الفاعل والمؤثر فيها وليس بصفة المتلقي المتأثر بها فقط.

3- على المعلم أن ينزع عن نفسه صفة الملقّن ويستبدلها بصفة
المشرف المنشط الباحث المتمكّن من دفع المتعلم لاكتشاف المعلومة بنفسه بدلاً من تلقيها، وهو ما يعيق عملية اعتبار التلميذ محور عملية التعلم والتعليم مع كل ما ينسحب على ذلك من عدم الانخراط باكتشاف المعلومات بواسطة البحث عنها عبر الإنترنت وبالتالي عدم إنتاج الأبحاث العلمية المرسِّخة للمعلومة وهو ما يُفسَّر تربوياً بتحوّل المتعلّم إلى باحث.

4- على وزارة التربية إجراء عملية إعادة تموضع وتوزيع أفراد
ملاكاتها بحسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم لأنّ غالبية المعلمين الرسميين المعيَّنين قبل اعتماد أساليب التعليم الناشط المتطورة هم بحاجة لإعادة إعداد وتأهيل بما يتناسب مع طرق الإدارة ووسائل التعليم الحديثة.

5- على الدولة ردم الهوّة الناتجة عن عملية إسقاط المناهج
التربوية الحديثة والمتطورة على المدارس الرسمية في لبنان دون أن تكون أبنيتها معدّة ومجهزة لاستقبالها ودون أن تمتلك جهازاً بشرياً قادراً على التعامل معها فبقيت المناهج بوادٍ وإمكانية تطبيقها تطبيقاً سليماً بوادٍ آخر فكان للجهاز الإداري والتعليمي شرفيّة امتلاكها دون استعمالها، لأنه أمام تقنيات يتعرّف إليها دون أن يفقه أسرارها وطرق استخدامها تربوياً.

6- إحداث نقلة نوعية بآليات التعيين المعتمدة في اختيار مدراء
المدارس ومتعاقديها من الكفاءات والمؤهلات التقليدية غير المفيدة للتربية الحديثة المعاصرة، ورفض ما كانت تتم عليه من قواعد المحاصصة والطائفية والاستزلام السياسي من خلال اعتماد الكفاءة وجدارة المؤهلات فقط كأولوية للتعيين.

7- وجوب تفعيل آليات الثواب والعقاب في المدارس الرسمية
بظل غياب المكافأة المستندة إلى جودة المؤهلات والكفاءة وحُسن الأداء، وبالمقابل وجوب تفعيل المحاسبة عن تدنّي المؤهلات وضعف الكفاءة وسوء الأداء فاصلين القرار التربوي عن القرار السياسي بشكلٍ نهائي.

8- إعفاء التربية من فوضى التشريعات المسيسة والتجاوزات
والتمريرات وارتجال القرارات المضبوطة على إيقاع المحاصصة السياسية والتوزيع الطائفي واستبدالها بالتخطيط التربوي الاستراتيجي المنتج على الصعيد الوطني العام متجاوزةً بذلك جميع أثاره السلبية بوجه انتظام العمل التربوي الرسمي في لبنان.
لقد هالنا ما رأينا وسمعنا وقرأنا من الاجتهادات والقرارات التربوية، التي تملأ رفوف الخزائن في المدارس الرسمية، وغالبها يناقض بعضه بعضاً، أو لزوم ما لا يلزم وكأننا نخوض الورش التربوية ونرفع التوصيات ونصوغ القرارات ونسنُّ التشريعات المتتالية، لتبقى حبراً على ورق أو لنتذاكرها في جلسات سمرنا التربوية حيث أصبحت القرارات هي غايةً التربية بذاتها، وليست وسيلةً للنهوض بها. هذا إضافةً إلى التدخلات والمحاصصات السياسية التي اجتاحت المحرمات التربوية المقدسة لدرجة أصبح معها يكاد يُسأل التربوي عن انتمائه قبل أن يُسأل عن كفاءته!
بناءً على ما تقدّم تبيّن لنا أنّ واقع منظومة التعليم الرسمي في لبنان والتي كانت ولا تزال تصيب حيناً وتخيب أحيأناً، بظل فلسفة تربوية لا تخدم كثيراً التربية على المواطنة الصحيحة في بلدٍ أحوج ما يكون إلى التفاف أبنائه حول فلسفة تربوىة وطنية تسمو فوق كل الاعتبارات الفئوية الضيقة، معتبرين معاناة المدرسة الرسمية قضيتنا المحورية، محاولين إخراج بعض الثغرات التربوية إلى حيّز النور والعمل على الحدّ من التجاوزات قدر الإمكان عسى أن تجد خلاصات بحثنا هذا الصدى الإيجابي لدى المَعنيين بالشأن التربوي في لبنان!

مبنى وزارة التربية والتعليم العالي
مبنى وزارة التربية والتعليم العالي

على المعلم أن ينزع عن نفسه صفة الملقّن ويستبدلها بصفة
المشرف المنشط الباحث

تأمين البناء المدرسي الملائم من أهم شروط النهوض بالقطاع التعليمي
تأمين البناء المدرسي الملائم من أهم شروط النهوض بالقطاع التعليمي

التربية تبدأ بوزارة التربية والمؤسّسات المنضوية تحت لوائها على كافة الأصعدة بدءاً من رأس الهرم مروراً بكافة مؤسساتها المتفرّعة عنها

وأخيراً لا بدّ من الشروع بتنفيذ بعض الإجراءات الإصلاحية العملية دون انتظار خطط نهوض تربوي شامل قد لا تأتي أبداً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- استحداث وزارة تخطيط والشروع بتنظيم حديث لوزارة
التربية والتعليم العالي لتواكب خطوات التطور السريع في هذا الحقل الوطني المهم في بناء المجتمعات.
2- إجراء عملية إصلاح تشمل معظم مديري المدارس واختيار
المديرين على أساس الأهلية والكفاءة وإعدادهم إعدادا “تربوياً” وإدارياً” دونما الأخذ بالاعتبارات الأخرى.

3- إعداد المعلمين وتنقية الجسم التعليمي من الذين لا يحملون
رسالة التعليم في قلوبهم وعقولهم. والعمل على اختيار المعلمين من النخبة وتعزيزهم مادياً ومعنوياً وتأهيلهم بصورة مستمرة، وتفعيل تطبيق مبدأي الثواب والعقاب.

4- تطوير مناهج التعليم وفق الحاجات الجديدة والتأكد من
مطابقتها لأوضاعنا الاجتماعية وحاجاتنا الاقتصادية والقيام بعملية إحصاء وأبحاث لمعرفة هذه الحاجات. وتوجيه الطلاب إلى الحقل الأكاديمي أوالمِهَني الذي يبدعون فيه ويتخرّجون منه إلى سوق العمل الذي يحتاجهم.

5- تطوير عملية التقويم وبناؤها على معايير سليمة قابلة للقياس
والتصويب للحد من الرسوب في الإمتحانات والقيام بتوجيه التلامذة وإرشادهم وفق قدراتهم لتجنيبهم الشعور بالإحباط وبالتالي لحمايتهم من آفة التسرب المدرسي.

6- تأمين البناء المدرسي الملائم وتجهيزه بأحدث الوسائل، بعد
تحديد المناطق المتخلفة تربوياً، فتُعطى الأولوية للتجهيز وتكثيف الجهود فيها إن لجهة الأساتذة الكفوئين أو لجهة الإدارة والتجهيز. شرط أن يُوازى بين كافة المناطق والقطاعات لا أن تنمو منطقة أو قطاع على حساب الآخر.

7- تطبيق سياسية تربوية واحدة على جميع المؤسسات في لبنان
بعيداً عن التعصب الديني بحيث يأتي التوجيه وطنياً سليماً لا يتنافى مع حرية الرأي والمعتقد.

8- تعزيز دور الإعلام التربوي والثقافي للتمكين من مجاراة
التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت وسيلة هامة للتعليم ولنقل المعرفة.

9- إخضاع مَنْ اجتاز بنجاح مباراة التثبيت في التعليم لاختبار
نفسي ومقابلة شفهية قبل تثبيته معلماً أو أستاذاً بملاك وزارة التربية نظراً لأهمية الشخصية والنفسية على نجاح أو فشل المعلم في تأدية وظيفته الرسالية.
10- استبدال تسمية التعليم الرسمي بالتعليم الوطني لأن رسالة
المدرسة الرسمية رسالة جامعة بحكم كونها تجمع تحت عنوانها وبين جدرانها مختلف الطوائف والطبقات الاجتماعية، ونحن وإياكم نُدرك أنّ أهم مصاعب لبنان وأخطر هواجسه تكمن في تعدد الانتماءات الطائفية على حساب الانتماء الوطني. فعلى القيّمين على المدرسة الرسمية أن يُنمّوا الروح الوطنية إلى حد تجاوز الروح الطائفية وأن نتمكّن بفضلها من العيش كشعبٍ واحد لا كشعوب متصارعة على أرض الوطن، ليصبح إيماننا بدور المدرسة الرسمية على الصعيد الوطني أقوى من إيماننا بدورها في تأمين العلم والمعرفة. وإذا كان الإصلاح بحاجة إلى الإيمان فأننا نؤمن أنّ التربية الوطنية قادرة على تحويل لبنان إلى مجتمع متطور مُبدع وسبّاق في المجالات العلمية والثقافية والوطنية.

ولا نذيع سرّاً عندما نتكلم عن نهم مسؤولي المدارس للحصول على نسبة نجاح مئة في المئة في امتحانات الشهادات الرسمية، ويجاريهم في ذلك الأهل والمسؤولون على مستوى المناطق التربوية والإدارة المركزية. إنّ التربويين يتحمّلون المسؤولية الكبرى عن إفراغ التعليم من جوهره بسبب إغداق الأوسمة وإعطاء الأهمية الكبرى لحصول المدارس على نسب نجاح 100 في المئة.

وهنا تكمن المشكلة الكبرى، حيث يصبح شغل المدرسة الشاغل وهدفها الأسمى هو الحصول على هذه النسبة، على حساب باقي الصفوف المدرسية، فتبدأ عملية تصفية الحساب مع التلامذة الذين ينجحون بمعدّل الوسط، حيث يصدر بحقهم قرارٌ دكتاتوريٌ ينصُّ على إبقائهم في الصف الثامن، وذلك تحت طائلة فقدان النسبة المئوية المقدسة! ثم يبدأ العمل على حشوِّ رؤوس التلامذة بالمعلومات التي تؤمّن لهم العلامات في الإمتحانات الرسمية متعهّدين بنسيانها فور الحصول على النتيجة! بالإضافة إلى أنّ بعض المدارس تبدأ بتدريس مواد السنة المنهجية التاسعة في صفي الثامن والسابع! ضاربةً بعرض الحائط مبدأ التراكم العلمي الذي يجعل معلومات التلميذ تتراكم حلزونياً، حيث تضاف معلومات الصف السابق إلى معلومات الصف الحالي وهكذا دواليك حتى نهاية التعليم!. فاصبحنا نعلّم على مبدأ: “احصل على نتيجة 100 في المئة وخُذ ما يُدهِش العالم”! ناهيك عن التوصيات التي يتوسّلها بعض مدراء المدارس من مراقبي ومصحّحي الإمتحانات الرسمية بتلامذتهم! متناسين أنّ الأوسمة تستحق لمَنْ يُربّي ضعيفاً

ويُنشئه تنشئةً صالحة ليوصله إلى درجة النجّاح، وليس لمَن يرشُّح للإمتحانات الرسمية التلامذة المتفوقين أصلاً ليفتخر بنتائجهم! ولمَنْ يجعل التلميذ محلّلاً مستخلصاً مبدعاً وقادراًعلى تخزين المعلومات وترسيخها واسترجاعها عند الحاجة! هذا التلميذ الذي نريد، ولا قيمة للنسب المئوية المفبركة بذاكرة مؤقتة سرعان ما تزول فور صدور النتائج!.

لذا نُحذِّر من خطورة اللّهاث وراء تلك النسب البرّاقة! فنحن بحاجة لتلميذٍ محلّلٍ ولسنا بحاجة لآلة تسجيلٍ بذاكرة مؤقتة!.
واستكمالاً لمبدأ “بالتربية نبني”، نقول: “على مقاعد الدراسة تُبنَى الأوطان”.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

أرسطو الأفلاطونيّ

“تأمَّلْ في السموات الواسعة وسوف تجد أنّ الله واحد” هذا ما استشهد به الفيلسوف أرسطو (باليونانية Ἀριστοτέλης)(1) من أقوال الفيلسوف الإيلي كزينوفان Xenophan، ليؤكّد أنّ الله هو “الحاكم الأوحد للكون”(2)، بعد أن اعتبر “العلم الإلهي” أو “الإلهيات” Theologia (θεολογία) “أشرف العلوم”(3) وأكثر المعارف قدسيّة، ومن ثم ملأ الدنيا وشغل الناس بطبيعياته “وما وراءها” ومنطقه وعلومه، بدءاً من أيام تلامذته وشرّاحه المتحمّسين مروراً بالقرون الأولى للميلاد وحتى القرون الوسطى ليصل إلى عصرنا شخصية تتسِم بنظر البعض بالغموض والتناقض، تلاحقه أطيافٌ مَنْ ألصقوا به صفات تكاد تكون إلحادية، أولئك الذين قرأوه ولم يفهموه ووجدوا في أقواله قِدَماً للعالم من غير خلق وأزلية للهيولى المادية والزمان، وحرموه من أفلاطونيته المثالية، ولو أنّ آخرين، أمثال أبو نصر الفارابي في القرن العاشر، والفيلسوف الألماني فرانز برنتانو Franz Brentano، وباحثين غربيين من الماضي القريب، أمثال الألماني وارنر ييغر Werner Jaeger، قد انبروا ليثبتوا أنّ القول بالتعارض بين أرسطو وأفلاطون (Πλάτων) هو “تحامُل” (بحسب عبارة من سبق ذكره من الباحثين) يكاد يكون من “النقائض المنطقية.
ونقضُ مثل هذه “النقائض” إنّما يتطلّب بحثاً معمّقاً في فلسفتَي هذَين الحكيمَين اللذين ألقيا بظلّهما على كلّ حقل من حقول التفكير العلمي والفلسفي حتى أيامنا هذه، وإلتماس ذلك السلك اللطيف الذي يربط فيما بين الحقائق التي تفتّقت عنها العبقرية الفذّة، والعقلية المتبصّرة والروح التوّاقة إلى الملأ الأعلى لدى كلّ من هذين الركنين المعرفيّين.
لكن ما دفع مثل هؤلاء إلى القول بمعارضة أرسطو لمعلّمه أفلاطون، وإلامَ استندوا في موقفهم هذا؟
لا بدّ من العودة في التاريخ إلى الوراء لاستجلاء الأمر وتمحيص هذه الأقوال حول “المعلّم الأول” (كما يُطلق عليه مؤرّخو الفلسفة). نحن الآن في العام 366 (أو 367) قبل الميلاد، أرسطو شاب دون العشرين من عمره، يصل أثينا قادماً من ستاغيرا Stagira، المدينة اليونانية الشمالية (بعدما أمضى جزءاً من طفولته في البلاط المقدوني بمدينة بيلا Pella حيث كان والده نيقوماخوس طبيباً للملك أمينتاس الثاني جد الإسكندر)، ليدخل أكاديمية الفيلسوف “الإلهي” أفلاطون لتلقّي علومه.
نعم، عبقرية فذّة في طور التفتُّح والتبلّور والصقل تلجأ إلى اكتساب المعارف من عملاق فلسفي بكلّ ما تُرخيه ظلاله “المثالية” من ثقلٍ “روحاني”.
وماذا حدثَ؟ عشرون عاماً ونيف قضاها أرسطو في الأكاديمية ينهل من معين أفلاطون الفيّاض بالعلم الإلهي والمدارك الروحانية، وما برحها حتى وفاة معلّمه!

والسؤال المنطقي على الطريقة الأرسطوطالية البرهانية هو كيف تسنّى لهذا العقل الوثّاب المستقل، المُشبَع بالأفكار الواقعية التجريبية الحسيّة أن يبقى “هاجعاً” في كنف أستاذه الرُّوحاني الذي سما بالحقيقة إلى علياء عالم المُثل الإلهية، طوال عشرين عاماً حتى قارب سن الأربعين (بقي في الأكاديمية حتى سنة 347 ق.م تاريخ وفاة أفلاطون)؟

أين كانت تلك “الحسيّة” الطبيعية طوال تلك المدة من “الملازمة”، وأين كان ذلك التمرّد المتعارض الذي إدّعاه القائلون بالخصومة بين المعلّم المثالي والتلميذ العقلاني الواقعي؟ وهل ظهر هذا التطوُّر الفكري المناهض فجأة بعد وفاة معلّمه، ومن ثم بعد تنقُّله بين زملائه “الأكاديميين” في آسيا الوسطى لينتفض ذلك الانتفاض الغامض ويهاجم مُثلَ افلاطون ونظرته إلى المُبدِع وإحداث العالم؟ هل كان هذا “الفيلسوف الفاضل”، الذي أذهلَ العالم على مدى قرون بمنهجيته العلميّة، يعيش “فُصاماً” بين “الإلهي” و”الطبيعي/الحسيّ” إلى هذه الدرجة من الإنفصام الشديد؟

للإجابة على هذه التساؤلات وجبَ استعراض تلك الأقاويل والوقوف عند مصداقيتها أو هشاشتها والتحرّي، بالحجة والبرهان، ما إذا كان ثمة “تحامُل” في القول بالتعارض.

أرسطو الأكاديمي
أسهبَ بعض المؤرّخين في التحدُّث عن رفض أرسطو “شاعرية” أفلاطون في محاوراته واستعانته مجازاً بالأساطير والأمثال والتشبيهات الرمزية، وكأنّه يأخذ عليه تقيُّده بالشكليات وهو مَنْ ارتقَى بالمعرفة إلى أعلى مدارك المعقولات، وكلّ مَن قرأ أعمال أرسطو يعرف مدى إبداعه هو نفسه في وضع أُسس الشعر وذلك في كتابه “في الشعر” (“بيري بويتيكا” per poetika – Περὶ ποιητικῆς) حيث ترك أثراً كبيراً نجده حتى اليوم لا سيّما في الشعر الفرنسي، كما أنّه اقتفى أثر معلّمه في محاوراته الأولى لدرجة أنّ شيشرون Cicero وصف محاورات أرسطو بأنّها “نهر من ذهب” flumen orationis aureum.
و”الذهب” الذي تحدّث عنه شيشرون هو تلك التعاليم الأفلاطونية التي يمكن تلمّس تأثيراتها في فلسفة أرسطو النظرية، بل حتى العلميّة منها. ومَنْ قال إنّ أفلاطون لم يشارك حتى في وضع تلك الأُسس العلميّة؟
في العلم
فقد اتّبع أرسطو المنحى العلمي الذي وصلت إليه الأكاديمية في آخر أيام أفلاطون، لا سيّما بعد انضمام جهابذة في العلوم السائدة آنذاك كالرياضيات (ثيودوروس Theodorus وثياتيتوس Theætetus الذي أطلق أفلاطون اسمه على إحدى محاوراته) والفلك (إيدوكسوس Eudoxus) والهندسة والجغرافيا وحتى الطب(4).
والمنحى العلمي بدا واضحاً في محاورات أفلاطون الأخيرة، لا سيّما محاورات “برمينيدس” Parmenides و”ثياتيتوس” Theætetus و”النواميس” Νόμοι المُصاغة بموضوعية بحثية تستند إلى الجدل العلمي والوقائع والتصنيف، فالتقط أرسطو آخر الخيط الأفلاطوني وأكمل هذا التبصُّر العلمي في منهجية موسوعية تروي أفهام العامة المتعطّشة للحقائق الحسيّة، مع بقاء “الفلسفة الأولى” للخاصة.
وتبدّى هذا الانسياب المعرفي جلياً في “محاورات أرسطو” أو كتاباته الأولى التي بقيت أجزاء منها في أعمال مؤلفين قدامى، وقد نسجها على منوال المحاورات الأفلاطونية، بل واستعار بعض عناوينها، واستند في وضعها إلى مبادئ أفلاطون الفلسفية الأساسية، من بينها محاورات “أوديموس” Eudemus (حول حُلُم زميله في الأكاديمية) و”في الفلسفة” peri philosophia و”بروتربتيكوس” Protrepticus.
واستأثرت هذه المحاورات لاحقاً بتقدير كبير لدى الفيثاغوريين الجدد والأفلاطونيين المحدثين في مقابل تمسّك المشّائيين اللاحقين (الذين طغى عليهم التفكير المادي) بعد القرن الميلادي الأول بمؤلفات أرسطو “العلميّة” ووضع الشروحات عليها من دون التطرُّق إلى المنحى الأفلاطوني الصافي في محاورات أرسطو، وعلى الأخص الشارح الأكبر إسكندر الأفروديسي Alexander of Aphrodisias ومن بعده ثميستيوس Themistius.
لكن هل من تقسيمٍ لأعمال أرسطو على هذا النحو؟

باطني للخاصة وظاهري للعامة
لقد انتهجَ أرسطو نهجَ فيثاغوراس في إلقائه لتعاليمه، فالحقائق المهمة للخاصة من تلامذته والمُريدين، والتعاليم الرمزية والأمثال والعلوم الطبيعية للعامة من الناس. وثمة تقسيمٌ مشهور بين الشارحين والباحثين يُميّز بين نوعين من أعمال أرسطو(5): “مستورة” و”معمّمة”، فالأولى تتضمّن فلسفته الخاصة وتعاليمه الحقيقية، وهو ما يؤكّده الفيثاغوريون الجدد، والثانية تشمل علوماً عامة تُلقَّن للجميع.
ويُستقى الإثبات على ذلك من أرسطو بحد ذاته الذي ذكر في أكثر من مكانٍ في أعماله اعتماده هذا النهج المتميّز(6)، وهو ما كان يعرفه معظم الباحثين والشارحين في العصور القديمة فضلاً عن واضعي تاريخ الفلسفة.
وفي هذا الخصوص، يورد السير دايفيد روس Sir David Ross في كتابه “أرسطو” Aristotle أنّ “ثمة تقليداً قديماً ساد زمناً يرى أنّ هناك أعمالاً باطنية Esoteric من أعمال أرسطو قد تُعزى إليها حقائق صوفية، مقابل تلك الأعمال الظاهرية Exoteric المخصّصة للعامة”(7)، حيث إنّ المواضيع الأكثر تجريداً، على غرار الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي والماورائيات والطبيعيات والمنطق تتطلّب بحثاً معمّقاً وفهماً متطوّراً للنخبة من التلامذة، فيما لا تسترعي المواضيع العامة، مثل التاريخ الطبيعي والعلوم والتاريخ والبلاغة وحتى السياسة، سوى اهتمام الشريحة الشعبية من قاصدي مدرسته “الليسيوم” Lyceum، التي كانت لهذا الغرض تشتمل على متحف للعلوم والتاريخ الطبيعي استعان به أرسطو في شرح محاضراته، وقيل إنّ الإسكندر ساعده على استكمال مجموعته الطبيعية الواردة إليه من جميع أرجاء الإمبراطورية المقدونية المترامية آنذاك.
وربّما لم يتحدث فلاسفة كبار استمدوا من أرسطو، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، عن أعمال مستورة لديه لأنّهم لم يطّلعوا على محاوراته ولا على أعماله المفقودة، التي لا ريب ثمة رابط فيما بينها، وقد وصل إلينا عمل أصلي لأرسطو بصياغة مختصرة (باللاتينية) تحت عنوان “في فيضان النيل” On The Rising Of The Nile. وما همّ أرسطو بفيضان النيل؟ وأيّ فيضان يرمي في الحقيقة إليه؟ وقد ساقَ الباحثُ الألماني ستيفان بارتش Stephan Partsch أدلة كافية تُثبت صحة نسب هذا الكتاب إلى أرسطو(8).
وما حقيقة أعماله المفقودة؟ إنّ أعمال أرسطو المتوافرة حالياً قد وصلت مبتورة وناقصة وغير منتظمة، لا سيّما كتاب الماورائيات “الميتافيزيقيا” (τὰ μετὰ τὰ φυσικά)، ولا حاجة للخوض في صحيحها ومنحولها، وفي الفهارس الثلاثة لمؤلفاته التي وضعها الأقدمون وأوردوا فيها أسماء عشرات الكتب المفقودة، فمن المعروف أنّ بعض أعمال أرسطو ليس في شكله الأصلي، وذلك إثر تركيز المشّائيين في وقتٍ متقدّم على العلميّات وإهمال الأفلاطونيات.
فهل كان ما هو ناقصٌ، أو غير مترابط بانتظام، أو مهمل أو منحول في أعمال أرسطو هو وراء تبنّي فكرة الخصومة والتعارض بينه وبين وأفلاطون؟ وإلامَ استندَ أصحاب فكرة التعارض؟ قالوا غادر أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة أفلاطون بسبب “التعارض” المزعوم. في الواقع، ترك أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة معلّمه، وتسلُّم رئاستها العام 347 ق.م من قِبل سبوسيبوس Speusippus، إبن أخت أفلاطون، الذي انتهج المنحَى الرياضيّاتي وأسقطه على المُثل الأفلاطونية، فجعل منها أعداداً حسابية بحتة.
وربّما كان هذا الخلاف “العددي” مع سبوسيبوس وراء مغادرة أرسطو للأكاديمية لا لكونه الأوْلَى والأجدر لخلافة أفلاطون على رأس الأكاديمية (وهو ما أشار إليه وارنر ييغر في كتابه حول الأُسس الأولى لتطوُّر فكر أرسطو: Aristoteles. Grundlegung einer Geschichte seiner Entwicklung الفصل الأول)، حيث يتحدّث التاريخ أنّه لم يكن يحُق لأرسطو بمقتضى القانون الأثيني رئاسة الأكاديمية لأنّه لم يكن مواطناً أثينياً، وهذا ما يُبرِّر اختيار سبوسيبوس. كما أنّه غادر برفقة زميله كزينوقراط Xenocrates مُشبعاً بالروح الأكاديمية إلى آسيا الصغرى حيث كان زميلاه الآخران إراستوس Erastus وكوريسكوس Coriscus تلميذا أفلاطون المخلصان، لدى هيرمياس Hermeias حاكم أترنوس وأسوس، وهو بدوره كان من الزملاء القدامى في الأكاديمية. فاجتمع الشمل الأفلاطوني وانتشرت تعاليم المعلّم الروحاني.
لم يتخلَّ أرسطو عن أفلاطونيته طوال مشواره الفلسفي، سواء بالنهج الاستقرائي inductive أو الاستنباطي deductive، على الرغم ممّا قاله بعض الشارحين بأنّه في خلال مكوثه في آسيا الصغرى وأثناء فترة تعليمه للإسكندر بعد ذلك في البلاط المقدوني لفترة 5 سنوات كان قد كوَّن أفكاره المستقلّة الذي يُعارض فيها أفلاطون في نظرية المُثل، وخلود النفس، والكلّي والجزئي، وفي الواحد، وقِدَم العالم وإحداثه.

في الصورة والهيولى
فأرسطو استندَ إلى المُثل أو الصور الأفلاطونية كعناصر أزلية، لكنّه سعى مكمِّلاً لفلسفة معلّمه، إلى حل مشكلة التحقق الفعلي لتلك الصور في الوجود بأسلوب وسطي يجمع بين المثالية المفرطة والواقعية التفريطية، فحوَّل مُثُل (“إيدوس” eidos – εἶδος) أفلاطون إلى الثنائية المتلازمة للصورة “إيديا” (idea – ἰδέα) والهيولى (hulē – ὕλη) حيث “تتوق” الأخيرة عشقاً للتحقُّق والكمال في الأولى فتنتقل من القوة إلى الفعل. ومع ذلك بقيت الصورة هي الأرقى، لكونها الوجود بالفعل، في حين إنّ الهيولى هي الأدنى لأنّها الوجود بالقوة.

في الكُلّي والجزئي
كان المؤرّخون قد سلّطوا الضوء على معارضة أرسطو لأفلاطون في اعتباره الوجود الحقيقي هو الكُلّي “كاثولو” Katholou إذ إنّ الجزئي “كاثهيكاستون” Kath’hekaston “يجمع الوجود واللاوجود”، ونسبوا إليه، استقاءً من كتبه، تأكيده أنّ الوجود الحقيقي هو للجزئي، المركّب من الصورة والهيولى، المتحقق في الوجود، و”فهموا” منه أنّ الجوهر “أوسيا” Ousia الأول هو الجزئي في حين إنّ الجوهر الثاني الأقل مرتبة هو الكلّي.
لكنّ أرسطو يُشدِّد على المقدّمات الأفلاطونية لنظرية المُثل، أيّ أنّ العلم هو للكلّي الثابت لا علماً بالجزئي المتغيِّر إذ إنّ المتغيِّر ليس موضوع العلم. كما شدّد على أنّ الوجود الحقيقي هو للصورة أيّ الوجود بالفعل، لا للهيولى، أيّ الوجود بالقوة الأدنى بكثير، ونفهم منه بالتالي أنّ الجوهر الأول هو الكلّي كما قال أفلاطون، فكيف يجعل الجزئي المركّب من هيولى وصورة أرقى من الصورة الكلّية أو الفعل المحض؟ ومن أين جاءت هذه التأويلات المُغايرة، أم أنّ أرسطو قد وقع في مثل هذا التناقض الشديد المحيّر؟
ومهما يكن من أمر تلك التأويلات، يُلقي الفارابي، على سبيل المثال، في كتابه “الجمع بين رأي الحكيمَين” الضوءَ في هذه المسألة على الفارق بين “سياق الكلام” في كلّ حالة، إذ يقول إنّ “من مذهب الحكماء والفلاسفة أن يُفرّقوا بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة، فيتكلّمون على الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضى تلك الصناعة، ثم يتكلّمون على ذلك الشيء بعينه، في صناعة أخرى بغير ما تكلموا به أولاً”(9)، حيث يشرح أنّ أرسطو يُقدّم الجزئي على الكلّي في سياق “المنطق” ويُقدِّم الكلّي على الجزئي في سياق “الإلهيات” وما بعد الطبيعة، كشأن معلّمه أفلاطون، أيّ مع اختلاف السياق اختلف القول.
وعلى هذا المنوال ساقَ أرسطو حديثه عن قِدَم العالم “الذي اتُّهِمَ به بالإلحاد لدى بعض مفكّري القرون الوسطى”، وهو قد تطرّق إلى هذ الفكرة أولاً في سياق جدلي، لا ماورائي أو إلهي، وذلك في كتابه “الجدل – طوبيقا” Topics. وبذلك بدا الحكيمان متفقين لا مختلفين من ناحية تقديم الجوهر، أيّ باختصار ما يتناوله أرسطو جدلياً من حيث اعتباره الوجود الجزئي هو الوجود الحقيقي هو غير ما يتناوله في الإلهيات حيث يعتبر الكلّي هو الوجود الحقيقي والماهية أو الجوهر الأول، وهو معتقده الأصلي.

في النفس
الإرباك في فهم أرسطو لحِقَ أيضاً بنظرته إلى النفس Psūchês (Ψυχῆς) والتركيز على قوله إنّ الصورة والهيولى متلازمتان غير منفصلتين ففُهِم أنّ لا وجود للنفس الناطقة من دون الجسد، لكنّ أرسطو في الحقيقة تحدّث (في كتاب “اللام” الفقرة 1070) عن بقاء “الجزء الخالد” من النفس بعد اندثار الجسد المادي الهيولاني، أيّ بقاء “العقل الفعّال” nous poietikos، ذلك الجوهر المفارق الذي يُميِّز النفس الناطقة، وهي لديه “كمال أول”، وهذا الجوهر في مرتبة أرقى من “العقل المنفعل” nous pathetikos المندثر المتصل بالنفس النباتية والأخرى الحيوانية. وهنا يُطرَح السؤال بقوة، أين اختلف أرسطو مع أفلاطون في مسألة النفس؟ ألم يتفقا على أنّ ثمة جزءاً عالياً من النفس خالدٌ وباقٍ بعد فناء الجسد وهو مصدر العلوم العقلية والإلهية؟

تختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل التناغم الحكموي بين أفلاطون وأرسطو حيث يشير الأول بيده إلى السماء فيما يشير الأخير إلى الأرض.
تختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل التناغم الحكموي بين أفلاطون وأرسطو حيث يشير الأول بيده إلى السماء فيما يشير الأخير إلى الأرض.

في العلم الإلهي
بالنسبة إلى “أشرف العلوم” وأسمى المعقولات، كما أطلق أرسطو بنفسه على “العلم الإلهي” Theologia (θεολογία)، ذلك العلم الأشد يقينيّة، “الفلسفة الأولى” (πρώτης φιλοσοφίας) وعلم “العلل الأُوَل” (αἴτια) aitia، حرص أرسطو، بدءاً من مقالته الأولى “ألفا” من كتابه “الماورائيات” أو “الميتافيزيقا”، المعروف لدى العرب باسم “كتاب الحروف”، على سوق الأدلّة والبراهين العقلية على وجود الله، ووحدانيته، وكماله، وثباته بكونه “محرّكاً لا يتحرّك” “أو كينومينون كيناي” (οὐ κινούμενον κινεῖ).
وأخذ عليه الباحثون تحدُّثه عن قِدَم العالم، لكنّ هذا ينطبق أيضاً على ما قاله الفارابي عن الفارق بين “سياق الكلام” في كل حال “بحسب المقتضى”، وتأكيده أنّ أقاويل أرسطو في العلم الإلهي لا المنطق “لها تأويلات ومعانٍ إذا كُشِفَ عنها ارتفع الشك والحيرة”(10). ويخلص أرسطو أخيراً في كتابه “الجدل – طوبيقا” إلى أنّ “قِدَم العالم مسألة لا تُثبَت بالبرهان”.

أما من ناحية المأخذ الثاني على أرسطو وهو أنّ المحرك الأول “لا يعقل إلا ذاته” وأنّ معرفته بالعالم تُنقِص من كماله، يعمد أرسطو في مكان آخر على انتقاد الفيلسوف إمبدوقليس Empedocles لإقصائه جزءاً من الحقيقة عن معرفة الله، ويعتبر أيضاً في مقالة “اللام” أو “لامبدا” (Λ) من كتاب “الماورائيات” (الفقرة 1076 سطر 4) أنّ الله theos (θεὸς) هو “الحاكم الأوحد للكون” بعدما أكد أنّه “تعتمد عليه السموات والأرض” (الفقرة 1072 سطر 13). فكيف يُفسِّر إذاً ذلك الإنطواء المجرّد؟ هل من قطبة مخفيّة؟
ومن ثم يتحدّث عن الدليل الأكبر ألا وهو “نظام (τάξισ) الكون البديع”(11) ومصدره الله، مشيراً على الرغم مَنْ قال بإلحاديته، إلى أنّ نظام الكون إنّما يدل على تنفيذ “خطة إلهية”، وهذا ما يُعارض مفهوم حصر معرفته في ذاته فحسب. ومع ذلك، لا يجد المنتقدون في مقالة “اللام” سوى هذا المعتقد الضعيف.
وقارن أرسطو في مقالة “اللام” أيضاً بين الواحد وقائدٍ يعود إليه نظام قيادة الجيش، أو كحاكمٍ للناس، وكذلك شبّه الكونَ بمنزل تُوكَلُ فيه المهام إلى جميع الأعضاء من الأرقى إلى الأدنى (الفقرة 1075)، وأشار إلى أنّ الله يحكم “بإرادته” مجرى الكون والزمان. وتظهر مثلُ هذه الأدلة أيضاً في كتب أخرى، وهي دفعت الإسكندر الأفروديسي إلى تأكيد إيمان أرسطو “بالتدبير الإلهي للعالم” بعد اثباته أنّه الصانع المنزّه بالوحدانية والكمال.

ومن ثم حينما يمدح أرسطو الفيلسوفَ أناكساغوراس Anaxagoras لاعتباره العقل (“نوس” ΝΟΥΣ) علّة النظام في الكون يقول في عبارة شهيرة “الله لا يفعل أيّ شيء عبثاً” (ἡ θεὸς οὐδὲν ποιεῖ ἅλματα)، فيؤكد بذلك التدبير الإلهي “برونويا” pronoia (πρόνοια) والنظام العام في الكون(12)، نافياً بذلك ما نُسِبَ إليه من قولٍ بغائيةٍ غامضة تكاد تكون “غائبة عن الوعي”، فكيف يتفق الحُكم والنظام والتدبير والخطة الإلهية مع مثل هذا المعتقد؟

وسعى أرسطو بذلك إلى تنزيه الله عن أيّ فعلٍ مباشر يُناقِض كماله المطلق، لكنّه أبدعَ هذا العالم بأمره وتدبيره من خلال “وسائط” أطلق عليها تسمية “العِلل الأُوَل” (αἴτια)، وهو كما يتبدّى من مقالة “اللام”، متعالٍ في عليائه المجرّد و”مُحايثٌ” أو “متلازمٌ” Immanent في الوجود في آن من خلال إتاحة معرفته لخلقه. ويختم أرسطو مقالة “اللام” بتلميحٍ واضح الدلالة، مقتبساً من “الإلياذة”: “حُكم الكثيرين غير صالحٍ، فليكُن هناك حاكمٌ واحد”. وهل يكون هذا الحاكم الواحد صالحاً ما لم تكن ثمة وسيلة لتواصُله مع رعيته وإتاحة معرفته لهم؟
إنّ الفكر الأرسطوطالي هو أفلاطوني المنحى، فلا خصومة ولا تناقضَ معرفياً بين الفيلسوفَين الكبيرَين إنّما حكمة متصلة مُنسابة تُكمِل النهج(13). ويقول في هذا “التكامل” السير دايفيد روس في كتابه “أرسطو” إنّه أينما تطلّعت في أعمال أرسطو الفلسفية “قلّما تمرّ صفحة لا تحمل روحية أفلاطون وسِماته وتأثيراته”(14)، حتى ولو سلّمنا بأنّ أرسطو كان يُحِب أفلاطون لكنّه كان “يُحِب الحقيقة أكثر”، كما نُقِلَ عنه، فإنّه قد التقط “مشعل المُثُل” من يد أفلاطون ليعدو به تقدّماً في نظرية الصورة والهيولى، والقوة والفعل، ليُسلِّم بدوره المشعل إلى غيره من العقول الوقّادة في مجرى تاريخ الفكر، وصولاً إلى إضاءة “الشُعلة الكبرى”.

وتعمل الأدلّة البحثية والحجج المنطقية والفلسفية على تأكيد هذا الانسياب الحكموي المتكامل. وفي هذا الصدد، كان فورفوريوس الصُّوري Porphyry of Tyre (Πορφύριος) أول من تمكّن في شروحاته من فهم فلسفة أرسطو على ضوء عقائد أفلاطون الفلسفية الأساسية وبتوافقٍ كبير، لا سيّما من ناحية قولهما إنّ هدف وجود الإنسان هو الحصول على السعادة، أو الطمأنينة العقلية، من خلال تحصيل العلم الإلهي.
وفي هذا الخصوص، يقول الأستاذ وولتر ستايس Walter Stace في كتابه “تاريخ الفلسفة اليونانية” إنّ “ما من فهمٍ أصيل لأرسطو يستطيع أن يُعزّز الرأي القائل إنّ مذهبه الفلسفي معارضٌ تماماً لمذهب أفلاطون، بل الأفضل القول إنّ أرسطو كان أعظم الأفلاطونيين لأنّ مذهبه لا يزال مؤسّساً على المُثُل … إنّ مذهبه في الواقع هو تطوُّر للأفلاطونية”(15). وعدم ترابط الأجزاء المختلفة لمذهب أرسطو الفلسفي، فضلاً عن نقص أعماله الواصلة إلينا، إنّما يعود إلى كون تلامذته هم مَن قام بجمعها وترتيبها على هذا النحو.
ولا بدّ من قطبة مخفيّة تربط هذه الأجزاء أو حبكة أخيرة تُوضِح الصورة النهائية. ويبقى عدمُ اكتمال كتاب “الماورائيات” وبقاؤه مبتوراً من دون فصلٍ أخير لغزاً محيِّراً لم يُحل بعد.

هل الخطوط الأساسية لهذا الفصل الماورائي الأخير هي وراء وضع كتاب “أثولوجيا” (معرّبة عن “ثيولوجيا”) أو “الربوبية” الذي نسبه العرب إليه، وهو يُعتبر اليوم منحولاً؟ وهل كانت حركة الترجمة التي أتحفت الفكر الإسلامي بهذه الروائع على هذه الدرجة من السطحيّة لكي تنسب إلى أرسطو كتاباً هو عبارة عن الفصول 4 و 5 و 6 من تاسوعيات أفلوطين Plotinus المعروفة باسم “إيساغوجي”، حسبما رتّبها تلميذه فورفوريوس الصوري؟ أمّا أنّ أفلوطين (بعدما “خلا بنفسه” على طريقة أرسطو) نسَجَ تعاليمه “غير المكتوبة” مرتكزاً على الخطوط الأساسية التي وضعها أرسطو في علم الربوبية، فالتبسَ الأمر فيما بعد على المؤرّخين؟
هل ما هو ناقصٌ أو مفقود من كتاب “الماورائيات” يُمهِّد أرسطو فيه، بالتدرُّج البرهاني، أنّه لا بدّ أن يكون ثمة “وجوبٌ” من نوعٍ ما لوجود “العقل الأول” First Intellect، وأنّ الكثرة والصور والمُثل “كامنة فيه بالقوة”، وبالتالي يكون “العلّة الفاعلة” Efficient Cause للوجود فيحُل بذلك عقدة فلسفية أساسية؟

إنّ مَنْ يتتبَّع الفلسفة اليونانية في ترقّي عبقريتها العقلية بحركة تصاعدية، تتويجاً بأفلاطون وأرسطو، يستشف أنّ الثمرة العقلية الروحية لهذين المعلّمين الكبيرين إنّما تهدف إلى تهيئة العقول وصقل النفوس تمهيداً لاستيعاب معارف أرقى. فالأرسطوطالية هي تطوُّر تكاملي للأفلاطونية، حيث تُكمِّل نظرية المُثُل ولا تُقوِّضها. وقد تابع أرسطو من حيث انتهى معلّمه أفلاطون ليؤكد وجود “الحقيقة” aletheia (ἀλήθεια) في عالمنا لكي لا نقع في العدم. وما قصده هو أنّ النفسَ لا تُدرِك الحقيقة في عالم أخرويّ منفصل، إنّما كمالها في هذا العالم بمعرفتها لوجود الموجود بجوهريتها وهي في آلتها الجسمانية. وتختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل Raphael هذا التناغم الحكموي لمعرفة الحقيقة حيث يشير أفلاطون بيده إلى السماء فيما يشير أرسطو إلى الأرض.

ساحة أرسطو في سالونيك في اليونان
ساحة أرسطو في سالونيك في اليونان

2018