الثلاثاء, نيسان 16, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, نيسان 16, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

من عاشر القوم

 يطرح الاغتراب خصوصاً في البلدان الصناعية المتقدمة تحديات كبيرة أمام الأسر الدرزية التي ما أن تطأ تلك الأرض حتى تجد نفسها فجأة في دوامة أوضاع غريبة لم تعهدها من قبل، وليست مجهزة بالتالي للتعامل معها. هذه الحالة التي تسمى عادة بـ “الصدمة الثقافية” سببها الأساسي أن المغترب الذي يقرر الاستقرار في تلك البلدان ليست له فكرة حقيقية عن البون الشاسع القائم في العقائد والعادات وأسلوب العيش، وفي الحياة والقوانين وغير ذلك بين الوطن الذي تركه وبين البلد الذي وصل إليه.

 

في الغالب هذا المهاجر أو المغترب قد تكون لديه فكرة عامة عن تلك الفروقات، لكنه في عجلة من أمره ولا يفكر في البدء إلا في “الجائزة” التي سيحصل عليها بمجرد وصوله: فرصة للعمل وأجر جيد وإمكانية تملك بيت وتعليم للأولاد ورعاية صحية وسهولة في العيش، كما أنه وهو الذي يملأه الحنق على بلده، وعلى ما يشكو منه من فساد وتعسف وانتقاص للحقوق يتطلع إلى البلد المضيف باعتباره بلد قانون سيوفر له كل ما كان يفتقده في بلده الأم من عدالة في المعاملة واحترام للفرد ولحقوقه الأساسية للمستقبل.

 

ذلك هو وعد الهجرة الذي يحرك العديد من الشباب لركوب الطائرة وترك البلد، لكن لفرط تركيزهم على ما ينتظرهم من فرص لتحسين الحياة المادية لا يفطن معظم هؤلاء إلى الحقيقة التي يلخصها المثل القائل “ما كل ما يلمع ذهباً”. لا ينتبهون إلى أن الاغتراب صفقة شاملة لا يمكنك بسهولة أن تشتري منه الشق الاقتصادي، أي العمل والرخاء النسبي والتعليم وغيرها، وأن تتهرب في الوقت نفسه من الموجبات التي يفرضها نظام المجتمع المضيف من نظام قيم وسلوك ومفاهيم يبدأ الأطفال في تشربها من رفاقهم وجيرانهم، ثم تتبلور لديهم أكثر في سنوات الدراسة وعبر التفاعل مع أهل البلد ومشاهدة سلوكهم، ثم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي تملأ فضاء فكرهم ووجدانهم بقيمها. وحسب المثل المعروف، فإن من يعاشر القوم أربعين يوماً إما يصبح منهم أو يرحل عنهم. وهذا المثل فيه حكمة كبيرة ويشير إلى قانون إنساني بديهي وهو قانون التماهي الاجتماعي والسلوكي لأن الفرد يتجه بالغريزة للقبول بعادات القوم ويصبح جزءاً منهم، فإن لم يرغب في ذلك أو أدرك عمق الاختلاف فإن خياره الوحيد هو الرحيل عنهم لأنه في غير مقدور الفرد تبديل سلوك الجماعة، بل الجماعة هي التي تفرض تبديل سلوك الفرد حتى يصبح مثلها ويستحق أن تقبله في صفوفها.

 

بالطبع هناك أقليات عديدة تمكنت من الحفاظ على قدر معين من (وليس كل) هويتها الثقافية مثل الصينيين أو الهنود أو بعض المسلمين المهاجرين من باكستان أو بنغلادش، وقد حصل ذلك عندما تجمعت أعداد كبيرة من هؤلاء وخلفت لنفسها “ثقافة فرعية” تكافح يومياً للاستمرار في ظل الثقافة المهيمنة. لكن هذه الحالات لا يعتد بها بالنسبة للدروز لأنهم قليلي العدد، الأمرالذي يفرض عليهم التفرق والعيش وحدهم أحياناً فلا يتوافر لهم البيئة التي يمكن أن يصل بها ابناؤهم على الأقل للحفاظ على لغتهم العربية أو توعيتهم على تاريخهم. وهذا ما يعقّد مهمة المهاجرين الدروز أكثر بحيث ينتهي الأمر غالباً بخسارة الصلة الحقيقية بالجذور خصوصاً بالنسبة للجيل الثاني الذي يولد في بلد الاغتراب.

يجب القول إن فقدان الهوية والانحلال التدريجي في البيئة الاجتماعية والقيمية الجديدة ليس الخسارة الوحيدة وإن كان الخسارة الأهم في كثير من الحالات، إذ إن هناك خسارة مضافة هي خسارة فرصة العودة إلى الوطن إما بسبب الاولاد الذين يصبح هدفهم البقاء في ما يعتبرونه “بلدهم”، وإما بسبب تراجع قيمة العملة المحلية (كما في الكثير من بلدان أميركا اللاتينية)، وبالتالي صعوبة بيع الأعمال والمؤسسات التي يملكها المغترب بما يكفي لتأمين العودة الكريمة إلى الوطن أو غير ذلك من العوائق المادية أو النفسية. بالطبع خسارة الموحدين لأبنائهم بصورة نهائية أمر محزن ويطرح إشكالات عديدة لكن ما هو الحل؟

 

لا يوجد حل شامل لأن الأشخاص يتفاوتون في الفهم وقدرة التعلم لكن النصيحة البسيطة للموحدين الدروز هي أن يتفكروا ملياً قبل السفر إلى البلدان الغربية البعيدة، لأن تلك البلدان مصممة لاستقطاب الناس وإذابتهم وأسرهم بكل معنى الكلمة بسلاسل الاستهلاك ومستوى المعيشة المرتفع الممول بالدين من المصارف أو عبر بطاقات الائتمان. ونحن نقول إذا كان لا بدّ من الهجرة فادفعوا أبناءكم باتجاه الخليج أو أفريقيا ولا تدفعوهم باتجاه المغتربات البعيدة التي يصعب العودة منها إلا بشق الأنفس. وفكروا قبل أن ترسلوا أبناءكم للتعلم في المجتمعات المتقدمة خاصة وأن لبنان يعتبر أفضل مركز للتعليم وتخريج القيادات في المنطقة. فكروا أولاً في شخصيتهم ومدى قدرتهم على مقاومة الإغراءات ومدى تعلقهم بالوطن، لأن الاحتمال قوي بأن تسارع تلك البلدان إلى تقديم الإغراءات لاستبقائهم فيها وعندها لا ينفع التفاخر ولا التباهي بالمراكز المرموقة التي حصلوا عليها.

أكثر ما يساعد المرء أن تكون طموحاته عاقلة ولا يجمح في غمرة شعور التزاحم والركض خلف مظاهر الحياة المادية إلى خيارات يعود فيصبح أسيرها.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading