الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التّعليم عن بعد، تحت المُجْهِر

شكّل تاريخ 21 شباط 2020 ـ أي تاريخ الإعلان عن أوّل إصابة بـ (وباء كورونا) في لبنان، حدثاً استثنائياً لمدارس العرفان، حيث عمدت مع بداية الوباء إلى بداية تحوّل من نوع آخر ، وهو التحوّل المُتقن والمتكامل نحو التعليم الرقمي، في حين كانت أكثرية المدارس في لبنان تعيش تخبطاً وضياعاً لا تُلام عليه في ظل المعوقات في البنى التحتية من كهرباء وضعف شبكة الأنترنت والاتصالات عامة، بالإضافة إلى المعوقات الاقتصادية التي تصيب لبنان جرّاء الانهيار المالي والاقتصادي.

فكيف استطاعت مدارس العرفان تخطّي هذه المعوقات؟

في الواقع إنّ مدارس العرفان وكعادتها تَخلق من الأزمات فرصة للإبداع والتميّز وتعمد إلى تشخيص أي إشكالية وتعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها. وهكذا حصل، حيث اختارت منصة الكترونية تتناسب مع كل الظروف، كونها تعمل بتقنية ال On Line والـ Off Line (حيث يمكن للطالب تنزيل الدروس على جهازه والاطلاع عليها ساعة يشاء دون الحاجة للربط مع شبكة الإنترنت)، بالإضافة إلى أنّ مدارس العرفان تخطت وكما سنرى لاحقاً كل الإشكاليات المتمثلة بالمعوقات النفسية لدى الطلاب والأهل بالإضافة إلى المعوقات التقنية وغيرها.

أمّا عن سبب اعتماد مدارس العرفان تقنية التعليم عن بعد بشكل أساسي طيلة الأزمة فتعود للأسباب التالية:
1) تَعتبر مدارس العرفان أنّ فتح المدارس بشكل كامل في ظل انتشار الوباء وعدم توفر اللقاح اللازم له، مخاطرة على سلامة الطلاب وأهاليهم وسلامة الموظفين والتربويين ومن خلالهم المجتمع ككل.
2) تعتبر مدارس العرفان أن الطالب أمانة لديها وبالتالي لا يمكنها التفريط بسلامته أو المراهنة على السيطرة على الوباء .
3) إلى ذلك والأهم؛ إنّ مدارس العرفان تعتبر أنّ التعليم عن بعد هو أسلوب تعليمي حديث، سوف يتطور ليصبح ملازماً للتعليم الحضوري من الآن فصاعداً.

وفي التعريف فإنّ التعليم عن بعد (أو التعليم من بعد، كما يُطلق عليه بعض الأكاديميين وأصحاب الاختصاص)، أسلوب حديث نوعاً ما في التربية والتعليم، يسمى باللغة الانكليزية (Distance Learning)، ويرتكز على اعتماد أسلوب نقل البرنامج التربوي أو التعليمي من موقع المدرسة، إلى أماكن جغرافية أخرى، وذلك بهدف إيصال المحتوى التعليمي للطالب الذي لا يستطيع تحت ظروف خاصة تلقّي البرامج التعليمية التقليدية.
والواقع أنه لا يوجد تعريف موّحد للتعليم أو التعلّم عن بعد، بحيث يمكن أن يطلق عليه مصطلح «التعليم عبر الأنترنت» أو «التعليم بواسطة الكمبيوتر» أو «التعليم الالكتروني»، حيث أنه تعليم يعتمد على الاستعانة بالأنترنت والمواد المقروءة و المصوّرة التي توفر المعلومات التي يحتاجها الطالب لإكمال واجباته أو لزيادة وتطوير معلوماته.

لمحة تاريخية

ظهر التعليم عن بعد، للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، حيث عُرف بالتعليم بالمراسلة، وكان الهدف منه ربحيّاً بالمطلق اذ كانت تقوم المؤسسات التعليمية بتصميم المحتوى التعليمي اللازم تلبية لرغبة المتعّلم الذي لا يمكنه الانتظام في الصفوف الدراسية التي يتطلبها التعليم التقليدي، وقد انتشر هذا الاسلوب عام 1873 بين الأميركيين حيث كانت ترسل البرامج التعليمية للطلاب بواسطة البريد. استمر التعليم عن بعد على هذه الصورة حتى ستينيّات القرن الماضي، حيث ظهرت عملية مختلفة في بريطانيا استخدمت وسائل الإعلام المتوافرة (الإذاعة والتلفزيون) لايصال المحتوى التعليمي للراغبين، ثم أُنشئ «المجلس القومي للتعليم عن بعد» الذي تحوّل عام 1982 إلى «المجلس الدولي للتعليم عن بعد» والذي كان يلقى دعماً مالياً كبيراً من البنك الدولي للتنمية، واستخدمت بعضها الكتب وشرائط التسجيل والفيديوهات لتقدم شرحاً وافياً عن المناهج المطلوبة.

واستمر التعليم عن بعد في تطور مستمر، حتى تاريخنا هذا، حيث أصبح يرتكز على مبدأ أن الطالب لا بد أن يتحول من مُتَلقٍّ للمعلومة بأسلوب التلقين التقليدي إلى باحث عنها وليس هذا فقط، بل يصبح الطالب مبتكراً ومكتشفاً من خلال الأبحاث والدراسات التي تفتح له آفاقاً جديدة في التعلُّم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض الميزات التي اعتمدتها مدارس العرفان وأضفت قيمة مضافة على التعليم عن بعد :
1- من حيث تميّز التعليم عن بعد بالملاءمة كونه يناسب كافة الأفراد، ويتميز بالمرونة حيث يتيح للمتعلم المجال والمهارات وفقاً لرغبته. وكذلك يتميز بالتأثير والفعالية أكثر من النظام التقليدي بسبب وجود التقنيات.
2-قيام التعليم عن بعد بلعب دور فعال في رفع المستويات الثقافية والتعليمية والاجتماعية بين الأفراد.
3- العمل على سد النقص في الهيئات التعليمية والكوادر المؤهّلة أصحاب المهارات في مختلف المجالات.
4- التقليل من الفروقات الفردية بين المتعلمين، من خلال وضع المصادر التعليمية المتنوعة بين أيديهم ليرجعوا إليها ساعة يشاؤون.
5- العمل على فتح آفاق التطور، والارتقاء في التعليم.
6- توفير الوقت والجهد ويحفز الطالب على اكتساب مهارات إضافية.
7- التركيز على أهمية التعليم عن بعد في تطبيق الصف المعكوس في التعليم (Classe inversée).إطلالة مدارس العرفان المتطوّرة

بعد هذه الاطلالة على ماهية التعليم عن بعد، تاريخه، سلبياته وإيجابياته. كان لا بد من الحديث عن إطلالة مدارس العرفان، حيث أن إدارة مؤسسة العرفان التوحيدية كانت قد اتخذت قراراً جريئاً مع بداية الصيف الفائت بحصر التعليم أقلّه في الفصل الأول والثاني من العام الدراسي الحالي بأسلوب التعليم عن بعد، ولا شك أن الإدارة العامة للمؤسسة استطاعت استشراف المستقبل في ظل جائحة كورونا وصعوبة العودة إلى الصفوف الدراسية في ظل انتشار الوباء وازدياد أعداد الإصابات وأعداد الوفيات. وممّا لا شك فيه أن هذه التجربة رافقتها صعوبات عديدة استطاعت مدارس العرفان تخطيها ومنها:

1- من الناحية النفسية: وهي متعلقة كما ذكرنا سابقاً في عدم تقبل المجتمعات لهذا النوع من التعليم، والحالة النفسية لا تطال الطالب فقط بل تمتد لتطال الأهل والمدرسين على حد سواء. وقد استطاعت مدارس العرفان تخطي الموضوع النفسي من خلال لقاءات مع الطلاب والأهل لشرح الأسلوب الحديث في التعليم، ضمن إجراءات السلامة العامة والتباعد الاجتماعي، حيث تمكن أولياء الأمر من الاطلاع على طبيعة العطاء التربوي من خلال منصة العرفان الإلكترونية.

2- من الناحية الإدارية: فقد تمكنت مدارس العرفان من تطوير مهارات الإداريين للتعامل مع هذه الظاهرة الحديثة من خلال دورات ومحاضرات شبه دائمة.
3- من الناحية التقنية: وتمثلت بصعوبة تأمين الأجهزة الالكترونية اللازمة للتعليم عن بعد خاصة في ظل الظروف المادية الصعبة، فقد عمدت مدارس العرفان إلى اعتماد منصة الكترونية تعمل على الهاتف الذكي Application كما تعمل على الكمبيوتر Web، كما قامت العرفان بتنظيم دورات تقنية شبه دائمة للطاقم التربوي بهدف تطوير المهارات التقنية ما جعل الكوادر الإدارية والتربوية تتأقلم بسرعة قياسية مع طبيعة العمل الجديد.

4- من ناحية معوّقات البنى التحتية: وهي متمثلة في لبنان بصعوبة تأمين التيار الكهربائي وضعف شبكة الإنترنت وغيرها، وقد تمكنت العرفان من تخطّي هذه الصعوبات من خلال سهولة نقل المحتوى الرقمي للمواد والمناهج من المنصة إلى الطلاب الذين يمكنهم الاطلاع عليها دون الاتصال بشبكة الانترنت offline من خلال تنزيل المناهج على الكمبيوترات الخاصة بهم عبر ناقل البيانات التسلسلي usb بالإضافة إلى اعتماد العرفان في فروعها كافة فتح قاعات الكترونية مجهزة ومخصصة لمراجعات الأهل والطلاب (مساعدات تقنية، تأمين شبكة الإنترنت بشكل دائم ومجاني، برمجة الهواتف الذكية والحواسيب دون مقابل…) وذلك بشكل يومي ضمن دوامات العمل.

منصة العرفان الإلكترونية

اعتمدت مدارس العرفان منذ بداية الأزمة، منصة الكترونية متطورة تسمح للطلاب بالوصول إلى المحتوى الرقمي بشكل مَرِن وسهل، ولم تكتفِ بطبيعة المنصة ذاتها، بل عملت على تطويرها من خلال إضافة عدة خدمات ضمنها تسهّل العملية التربوية، لتكون العرفان قد أضفت قيمة مضافة على أنجح المنصات التربوية. أمّا بالنسبة للمحتوى الرقمي للمناهج، قد قامت الهيئة التعليمية كافة بتحضيره بشكل سمح بتحقيق الأهداف التربوية وتأمين الكفايات التي لم يتمكن الطلاب من الوصول إليها العام الفائت بسبب الاقفال العام الذي أصاب البلاد والمدارس.

وبالنسبة لتقنيات المنصة، فهي منصة متكاملة، لجهة تحميل الدروس والواجبات عليها، بالإضافة إلى اجراء الامتحانات أو التقويمات من خلالها بشكل آمن هذا فضلاً عن جوانبها اللوجستية الإدارية من تبليغات وغيرها.

في النهاية يمكننا القول، أنّ الأزمات الطارئة تنتج أحد أمرين:
الأول: الاستسلام والاعتراف بالفشل والضعف.
والثاني: إرادة المواجهة وتحقيق النجاح من خلال العمل الدؤوب والإصرار على التميّز. وهذا ما قامت به مؤسسة العرفان التي واجهت التحدي، أولاً بتحدي الذات وثانياً بتحدي الواقع، فكان النجاح حليفها، باعتماد استراتيجية مواجهة الأزمات بمعرفة الأسباب وتشخيصها، ثم العمل على إيجاد الحلول المناسبة لها.

دورُ التّعليم العالي في تعزيز فرص التّنمية المُستدامة

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي في رأس أولويات وأهداف كل بلد وكل مجتمع حريص على مستقبل أجياله وعلى إيجاد مكان محترم له في عالم معاصر يعجّ بالأقوياء وبالتنافس الشديد في كل مجال. والثاني، لأن هناك تسليماً كلِّياً وعلى مستوى العالم ألّا تنمية مستدامة، ولا تنمية حقيقية في الأساس، من دون دراسات دقيقة وأبحاث متخصصة ومعمّقة، أي لا تنمية من دون تعليم عالٍ كفوء وأبحاث علمية موثوقة ورفيعة المستوى. يقول تقرير حديث لليونسكو بعنوان: «Policy Paper for Change and Development in Higher Education…»

نحن نعيش في زمن لا يستطيع أي بلد بدون التدريب الجيد والبحوث رفيعة المستوى أن يكفل لنفسه أي درجة من التقدم المتوافق مع احتياجات وتوقعات مجتمع يسعى إلى التنمية الاقتصادية». لكن التنمية الاقتصادية في زمننا لم تعد مكاسب مالية وأرقاماً اقتصادية فحسب. يضيف التقرير محدداً نوع هذه التنمية فيقول بشكل دقيق: «مع المراعاة الواجبة للبيئة، والعمل في الوقت نفسه على بناء ثقافة للسلام قوامها الديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بالاستناد على تنمية بشرية مُستدامة».

مطلب البشرية بأسرها إذاً هو الرفاه والبحبوحة والتنمية الاقتصادية. ولكن ليست أيّة تنمية، بل التنمية المتوافقة مع البيئة والديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بكلمة واحدة: التنمية البشرية المستدامة. أما الشرط الضروري في كل سعي إلى هذه التنمية فهي: الدراسات والبحوث رفيعة المستوى والتدريب الجيد، أي لا تنمية حقيقية من دون تعليم عال رفيع المستوى.

فكيف نتمكن من توفير هذا التعليم العالي الرفيع المستوى؟
هذا السؤال العام المركزي ينقسم في الواقع إلى سؤالين فرعيين وهما:
السؤال الأول، كيف ننجح في تأمين تعليم عال لأوسع الشرائح في بلدنا؟.
والسؤال الثاني، كيف نجعل هذا التعليم العالي في بلدنا تعليماً رفيع المستوى، وبحسب أعلى معايير الجَودة في العالم؟.
من جهة السؤال الأول، حدث توسّع هائل لأعداد الطلاب المنتسبين إلى التعليم العالي منذ سنة 1980 إلى اليوم، وازداد عدد طلاب التعليم العالي نحو ثلاثة أضعاف وفي معظم دول العالم. فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم حوالي 85 مليون طالب، 47% منهم إناث.

المناطق الأضخم للتعليم العالي في العالم من حيث العدد، هي أمريكا الشمالية، حوالي 17 مليوناً ونسبة الإناث فيها تبلغ 55%، حوالي 5500 طالب لكل 100000 من السكان. تليها منطقة شرق آسيا وأوقيانيا، التي تجاوزت أوروبا مع نهاية القرن العشرين حيث بلغ عدد طلاب التعليم العالي فيها حوالي 15 مليوناً، نسبة الإناث بينهم 41%.

البلدان العربية هي في أسفل القائمة لا يقع دونها إلّا الدول الإفريقية جنوب الصحراء. يبلغ عدد طلاب التعليم العالي في بلداننا العربية حوالي200 جامعة حكومية، تضمّ 3 ملايين طالب جامعي، حوالي نصفهم في مصر وحدها (بمعدل طالب جامعي واحد لكل مائة من السكان).

في لبنان لدينا أكثر من 43 جامعة خاصة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، الجامعة الرسمية الوحيدة. يبلغ عدد طلاب هذه الجامعات حوالي 120ألف طالب، أكثر من نصفهم في الجامعة اللبنانية.
اذا أخذنا هذه الأرقام نجد أننا عربياً ولبنانياً لا نشكو من قلة عدد الجامعات، ولا من قلة عدد الطلاب المنتسبين إليها رغم أن مناطق وبلداناً أخرى في العالم متقدمة علينا.

المشكلة عندنا إذاً ليست في السؤال الأول، أي كيف نؤمن تعليماً عالياً للشباب والشابات المتخرجين من التعليم الثانوي. هذا مؤمَّن نسبياً رغم بعض التقصير هنا أو هناك. المشكلة في الواقع هي في السؤال الثاني، أي غياب التعليم العالي رفيع المستوى عندنا، وغياب الأبحاث العلمية ذات القيمة العلمية العالية، والقادرة أن تسهم على نحو إيجابي في خطط ومهام التنمية المستدامة في بلداننا العربية، وفي لبنان على وجه الخصوص – إذا كنّا نفكّر في ذلك!

النوعية إذاً هي السؤال الحقيقي عندنا. نوعية التعليم العالي المتوفر، لا كميته، وهل هو مراقَب أم غير مراقب، تلك هي المشكلة عندنا والتي تستحق الفحص والبحث، والنتائج غير مشجعة ولأسباب كثيرة.
باختصار شديد، المشكلات المعيقة لقيام تعليم عال رفيع المستوى، المعيقة بالتالي للتنمية والتنمية المستدامة عندنا هي التالية:
1. تمركز جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – الرصينة وذات المستوى- في العاصمة بيروت، مما يجعل الإقامة في العاصمة، أو التوجه إلى العاصمة يومياً شرطاً لتحصيل التعليم العالي، وهو واقع مخالف لتوصيات منظمة الأونيسكو التي تنصح الجامعات بالتوجه إلى الأرياف بدل إفراغ الأرياف من سكانها لصالح العاصمة والمدن الكبرى، مع ما في ذلك من نزوح من الريف، وأكلاف ونفقات وأعباء لا قبل لمعظم اللبنانيين بها.

2. غلبة التعليم النظري والأكاديمي على التعليم التقني والمهني والفني في مدارسنا كما في جامعاتنا. طلاب الكليات النظرية في الجامعة اللبنانية يشكلون وحدهم 75% من طلاب الجامعة. والوضع في مراحل التعليم ما قبل الجامعي أكثر سوءاً. مع أن الصحيح هو أن التعليم التقني والمهني هو الأكثر قدرة على خدمة مطالب التنمية وخططها، على المستوى المحلّي كما على مستوى البلاد عموماً. التعليم التقني والمهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام وإنفاق، وأحياناً شهاداته لا تعادل إلاّ بشق النفس: على سبيل المثال الإجازة الفنية LT لا تعادل حتى الآن بالإجازة الجامعية!.

3. غياب التوجيه الفني الفعلي Vocational Orientation، فلا المدارس ولا مجالس الأهل ولا الدولة تقدّم في نهاية المرحلة المتوسطة، أو في نهاية المرحلة الثانوية، توجيهاً حقيقياً للطالب مستنداً لا إلى رغبات أمه أو أبيه، وإنما إلى ميوله وقدراته الفعلية وما هو أفضل لمستقبله المهني والوظيفي.

4. فوضى التعليم المهني والتقني بحيث بات صعباً التمييز بين من يتاجر بالتعليم المهني ومن يقدّم تعليماً مهنياً كفوءاً ومفيداً لمحيطه ولتنمية هذا المحيط. أنا مع إعطاء الترخيص لمن يرغب ولكن شرط الالتزام بالعلانية والشفافية والمراقبة من السلطات المحلية ودوائر وزارة التربية الوطنية. وأشدد على دورالسلطات المحلية التي يحب أن تُعطى دوراً أساسياً، فهي أقرب إلى المدرسة المهنية وفي وسعها أن ترى وتراقب وتستنتج: أنّ هذا خطأ وذاك صواب، وهذا ما تحتاجه البيئة المحلية وذاك لا تحتاجه، وهلمّ جرّاً.

5. «غرق» البلاد في السياسة، ولا شيء غير السياسة. ومع احترامي للسياسة بمعناها الحقيقي، ومع قناعتي أن السياسة هي أمر جيد، ودليل ديمقراطية البلد وحيويته، ولكن هناك أموراً أخرى مهمة أيضاً مثل: مستقبل أولادنا المرتبط مباشرة بنوعية التعليم الذي يتلقَّوْنه في المدرسة والجامعة، ومثل فرص العمل غير المتوفرة، وكذلك الجو غير الصحي وأحيانا غير الآمن الذي يتعلم فيه أبناؤنا وبناتنا في المدارس والجامعات، وعلى الطريق إلى المدارس والجامعات. هل هناك من يسأل عن الجو النفسي لأبنائنا وبناتنا وهم يعيشون لبعض الوقت ويتعلمون ويدرسون ويبحثون عن نتيجة علمية فيما هم في غابة من الأعلام والصورالحزبية والأناشيد الحماسية والثياب المرقّطة وعرض عضلات الشبّان المفتولة، وعلى مرأى من مسؤولي المدارس والجامعات وموظفيها وحرّاسها، ولا من يرى أو يسمع، بل كأن ذلك هو آخر ما يعنيهم، هذا مُناخ غير صحِّي وغير معقول في الأساس ولا يحدث حتى في أفغانستان! ولكن من يسأل أو يهتم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود!

هذه فقط بعض المشكلات لا أكثر، مشكلات رغبت الإضاءة عليها لأن لها علاقة مباشرة بتحفيز التنمية المحلية والوطنية الشاملة والمستدامة. ويجب أن تنال عناية، ومتابعة، الأطراف الرسمية والسياسية والثقافية لأنها ببساطة تمسّ مستقبل أهم رأسمال في كل مجتمع وكل زمان وهو: الإنسان، وبخاصة الأجيال الشابة. فالمجتمع الذي يربح معركة الإنسان ومعركة إيجاد تعليم أساسي وجامعي ملائم، وإيجاد فرص عمل لأجياله الشابة، هو الذي يربح المستقبل. ومن يفشل أو يُهزم في المعركتين يخسرالمستقبل، ويستمر تابعاً ولاحقاً لمن هو أكثر تقدُّماً منه، ويبقى مجرد سوق لأسوأ ما لدى المتقدمين من بضاعة رديئة، وثقافة رديئة، وفنون رديئة، وسياسات رديئة كذلك، وشكراً.

أبو حيَّان التّوحيديّ

إن خير تعريف به وأقربه إلى حقيقته الشخصية، والأدبية ما ذكره مؤلف كتاب: «أبو حيان التوحيديّ»: سيرته – آثاره. الدكتور عبد الرزاق محي الدين، في زحمة عشرات، لا بل، مئات المقالات والدراسات الكبيرة الأثر التي تناولت أعماله القلميّة المختلفة في مَدْحٍ أو نقدٍ حفلت بها مجامع الأدب، والفلسفة، والتأريخ في عصره، وقد كان اختلاف المؤرّخين فيه وفي تقديره من أقوى الحوافز على تبيّن وجه الحق في أدبه، وسيرته. وقديماً قيل: «من عظمة الرجل أن يختلف الرأي فيه» إنّه في ما صَوّر المؤرخون من ناحية العنصر، فارسيٌّ أو عربيّ، ومن حيث الموطن، بغداديّ، أو شيرازي، ومن حيث العقيدة، مؤمن مصدِّق، أو زنديقٌ مُلحد، ومن حيث الرواية، وضّاعٌ مُختلق، ومن حيث الطريقة، صوفيّ عارف ومن حيث معارفه، فيلسوف، ومتكلّم، وفقيه، ومُحدّثٌ، ونحويّ، وشاعرٌ، وناثرٌ، وبمثل ذلك جرى الخلاف في عام مولده ووفاته. ويرجح أنه وُلِدَ عام 310 للهجرة، وتوفي عام 410 للهجرة، وهو تاريخ غير مثبت.

أصله ووطنه

يقول الدكتور «زكي مبارك» في النثر الفنّي: إنّ «أبا حيّان» كان فارسيّ الأصل، وقال «السندوبي»: ما من شك في أنه فارسيُّ الأصل. وقال «محمّد كرد علي»: هو عربيٌّ، وما كان يعرف الفارسية. ووردت عبارةٌ في «معجم الأدباء» «لياقوت الحموي» يُشْتَمُّ منها أنه كان فارسي الأصل، فقد قال ياقوت: «فهو شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقّق الكلام، ومتكلّم المحققين، وإمام البلغاء، وعُمدةٌ لبني ساسان» ولكن أبا حيّان نفسه لم يُشر فيما عُثِرَ عليه من مؤلفاته أنّه كان فارسي الأصل، وفي هذه الحالة ليس بإمكاننا إلَّا أن نستعين بالقرائن، ونستنطق السّمات، فربما باستطاعتنا منها أن نستنتج أنه عربيٌّ أو فارسي، فاسمه، وكُنيته ولقبُهُ واسمُ أبيه، وجَدِّه توحي بعروبته، فهو ما يُشبه الإجماع، وكما قال «كرد علي»: عدم معرفته للغة الفارسية على طول إقامته في فارس، وتردده عليها، يرجح أنّه عربي».

معالم سيرته

طفولة أبي حيّان كانت عجباً في حياة الأطفال، وإحساسَه المُرهَف الرقيق، وأعصابَهُ المتوفزة المتوترة، وغريزة التطلّع فيه إلى كل شيءٍ حوله، وحبُّ المشاركة في كلِّ ما يرى، ويسمع، وتسجيلهُ كل ما يقول أو يقال تنامت معه حَدَّ بلوغ الشباب والنضوج الفكري، عاماً بعد عام، مُعَيِّناً أساتذته الذين درس عليهم، وشيوخه الذين روى عنهم، والكتب التي قرأها، والمؤلفات التي ألفها، والأعمال التي شغلها، في هذه الفترة من حياته. اتصل بقادة الرأي من رجال القرن الرابع، فقابس، وجادل، وناقش، وروى، وسجّل، ونقد، وعَقَّبَ، وهجا، ومَدَح، وطلع على الناس بـ «البصائر والذخائر»، و«مثالب الوزيرين»، و«الصداقة والصديق» و«الإمتاع والمؤانسة» وأخريات من مؤلفاته.

تكوينه وهيئته

كان في ما يبدو من مظاهر نشاطه العلمي، وتنقلاته الكثيرة، وامتداد عمره حتى بلغ المائة أو يزيد، أنه عاش صحيح البنية قويَّ المزاج، فقد حجّ في غير استطاعةٍ، ماشياً من العراق إلى الحجاز، مع مجموعة من المتصوّفة. أمّا سِمتُهُ وهيئته، فقد كان في ما يوصف، صوفي السمْت والهيئة، رثّ اللباس نابي المظهر، ما سبَّب حرمانَهُ من بلوغ حقّه، وزُهْدِ الأعاظم فيه وإيثارهم سواه عليه.

ملكاتُهُ وأخلاقُهُ

كان الرجل مزّوداً بكفايات يكفي أهونُها لبلوغ حَظٍّ من حياة كريمةٍ، رافهةٍ، وكان مَنْ دونَهُ منزلةً، ينعم بالجاه والمال والسلطان على حين عاش هو في فَقرٍ وتسكّعٍ واستجداء. فقد كان كاتباً أدنى ما يُقال فيه إنّه من طبقة «ابن العميد» و«ابن عَبَّاد»، و«أبي إسحاق الصابئ»، و«ابن سعدان»، و«عبد العزيز بن يوسف» وقد بلغ أكثرُ هؤلاء رُتبة الوزارة ولمّا يبلغ هو منزلة كاتب في ديوان.

حرفته

كان «أبو حيَّان» حسن الخط، عارفاً بفنونِه، وأنواعه. أَلَّفَ فيه رسالةً قَيِّمةً، ربما عُدَّتْ من أقدمِ ما أُلِّف في العربية، وزاد على جَودَةِ الخط وتزيينه وزخرفته، ضبطُ النسخ وسلامتُهُ مما يُدخلُهُ الورّاقون من تصحيف وتحريف.
عقيدته

قال أبو فرج الجوزي: زنادقةُ الإسلام ثلاثة: «ابن الراوندي»، و«أبو حيَّان التوحيديّ»، و«أبو العلاء المعري «وأشدهم على الإسلام «أبو حيّان» لأنه جْمَجم ولم يُصرِّح» وقد جاء في مراجع ومصنفات معروفة، الكتاب «لسان الميزان» «لابن حَجر العسقلاني» قال «ابن النجار» له أي «لأبي حيّان» المصنفاتُ الحسنة «كالبصائر» وغيرها، و «كان فقيراً، صابراً متديّناً، صحيح العقيدة» وجاء في كتاب «شيرازنامه» «لأحمد بن أبي الخير، وهو من رجال القرن السابع: هو الإمام المُوَحِّد العالم المتفرد، الجامع للمعارف والعلوم، لا نظير له في المكاشفات الإلهية، والبحث في التوحيد.

واقع عقيدته

كان «أبو حيّان» حنيفاً مسلماً، ما ندَّ عن شيء من أصول الإسلام العامة، وتهمتُهُ بالإلحاد فَنَحْنُ في غنىً عن التدليل على ذلك، مُحيلين القارئ إلى ما انطوت عليه مؤلفاته من روحٍ إسلاميٍّ قويّ.

مروياته ومقتبساته

أكثر «أبو حيان» في مؤلفاتِهِ الرواية عن غيره، وأغلب ما ورد من آراءٍ في اللغة، والأدب، والفلسفةِ، والفِقْهِ، عزاهُ إلى أساتذتِهِ ومعاصريه. شهدَ الناقدون، ومؤرّخو الأدب، هذا الإكثار في الرواية، مع وحدة الأسلوب وطريقة العرض على الأغلب، فاتهموا الرجل باصطناع الآراء ونسبتها إلى غيره، إمّا تخفُّفاً من أوزارها، وإمّا رفعاً لشأنها، بنسبتها إلى مُحدِّثٍ أو فيلسوف ذي شأن، أمّا عن أسلوبه فقد شبَّهه أقاي ميرزا محمَّد خان القزويني بأسلوب الجاحظ بقوله: أنْ لا كبير فرق بين أسلوبَيّ الرجلين، فأسلوب أبي حيَّان عينُ أسلوب الجاحظ، في سلاسة الإنشاء، والسهولة وعدم التكلُّف والميل إلى البَسْط والإطناب، فهو خطيبُ المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومُدْرَهُ المتقدمين والمتأخرين.

ثقافته

كان النسخ عُدَّتَهُ في التحصيل، فهو منبع ثروةٍ لغويةٍ وإخباريةٍ ضخمة، جَمَعَ منها مؤلفهُ «البصائر والذخائر»، وسواه من المؤلفات. وُهِبَ الرجلُ حافظةً قويةً، وذاكرةً مدهشةً، إلى صبر وجَلَد على تسجيل ما يحفظ، كان عصرُه أحفل العصور الإسلامية برجال العلم، وكان أساتذتُهُ خير هؤلاء الرجال في كل فنٍ من فنون الثقافة، إذا عرفنا ذلك أدركنا السرّ الذي جعل من «أبي حيَّان» دائرة معارف جيله وكتّاب عصره. وعلَّلَ «ابن حجر» تلقيبه «بالتوحيدي» إلى أن «المعتزلة» يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، على اعتبار أن أبا حيّان لدى بعض الدارسين في عصره كان ضمناً على غرار الجاحظ من المعتزلة بما يعني أنه من أهل التوحيد، المعتزلة.

الفلسفة

وصفه «ياقوت» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، تعاقب على نعته بذلك جلُّ مؤرخيه، ومع ذلك فلم يترجم له في ما وقفنا عليه من تلك الكتب التي تجرَّدَت لتاريخ الفلاسفة أمثال «تاريخ الحكماء» و»منتخب صِوان الحكمة» و»تتمة صوان الحكمة» «وتتمة التتمة» و»عيون الأنباء» على حين ترجمت هذه الكتب لمن هو دونه آثاراً في هذا الفن فتجاهُلهم له لا يعني حتماً عدم انتظامِهِ في مسلكهم في ما يقدرون بل في ما نقدِّر، إلى تناسي التاريخ الفلسفي له، كما تناساه وتجاهله جُلُّ التاريخ الأدبي. ولن ندخل في تفصيل آرائه الكثيرة في الفلسفة، وتضاعيف مفاهيمها العميقة في هذا البحث، بل سَنُلمعُ باختصار إلى نظره في الفلسفة، كما في نظر أستاذه «أبي سليمان المنطقي» بقوله: هي صناعةٌ لا بُدَّ أن تنتهي بصاحبها إلى «التوحيد» فإن انتهت بأحدٍ إلى غير هذا فمرجعُهُ إلى فساد في طريق الدراسة الفلسفية، ولذلك كان كثير الشكّ في سلامة ما ترجم عن اليونانية من نصوص تدعو إلى الجحود أو الوثنية. موضوع الفلسفة هو العالم بأسره، عدا هذا الذي يتصل بأمور الدين. فعلى من يريد الفلسفة أن يُعرض بنظره عن الديانات، ومن يُريد الدين فعليه أن يُعرض بعنايته عن الفلسفة، وليتحلَّ بهما متفرقين في مكانين مختلفين.

الحج العقلي إذا ضاق القضاء عن الحج الشرعي

لم يُشهَد في تصوف «أبي حيان» ما يُشعر بعدم المبالاة، بأصول الإسلام، ولا الفكرة التي تتلخص بالقول: إنّ من عَرَف الحقيقة سقطت عنه الشريعة، أما الاستهانة بالحج خاصة، وهي الفكرة التي شاعت بين بعض متصوفة جيله، فيبعدها عنه، فالرجل حجَّ ماشياً على قدميه عام 350ه كما أسلفنا.

أبو حيان الأديب

الآن وقد ظهرت لنا معالم من سيرة الرجل، ومنابعُ ثقافتِهِ ومصادرُها، وأثر هذه المنابع، وما كان لها من أثر فيه وتأثر به، يصحُّ أن نتجِهَ إلى أسلوبه الأدبي، وعملِهِ الفَنّيّ وما أدخله على هذه المادةِ من ضروبِ الصَقل والتزيين والتظليل والتلوين حتى تستوي على لسانه أو قلمهِ مقالةً فنيةً، وأسلوباً رفيعاً للأداء.

رأي المحدثين من الدارسين

رأي آدم متز
وأوّل من تنبَّه منهم إلى خطر «أبي حيَّان» في عالم البلاغة، المستشرق «آدم متز» في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر» فشهد وهو يرصد آثار التطور في النثر العربي مكانة «أبي حيان» منه، فاستصدر حكماَ جريئاً بإبلاغه مرتبة الأستاذية لكتَّاب ذلك العصر جميعاً، ولم يخش أن يعدّه أعظم كتَّاب النثر العربي على الإطلاق.

دراسة الدكتور زكي مبارك
وعقد مؤلفُ «النثر الفني» دراسةً مستقلّةً «لأبي حيان». في كتابه فوضعه في طليعة كتَّاب الآراء والمذاهب في القرن الرابع الهجري، وحين تكلم عن الأساليب رأى فيه كاتباً يُؤثر الازدواج، ويسجع من حين إلى آخر، كما كان يفعل «الجاحظ» الذي ارتضاه إماماً في حياته الأدبية، والعقلية، ذاهباً إلى أن نثر «أبي حيان» من أبلغ النماذج في اللغة العربية ومن أروع آيات البيان.

كما عدّهُ «محمّد كرد علي» من أمراء البيان العربي. نظر إلى فنِّه الأدبيّ فَعَدَّهُ من أعاظمِ المُنشئين والمؤلّفين في الأدب، ورأى أن رسالة «الصداقة والصديق» تمثلت فيها أفكار أربعة قرون، ورأى في تصويره الإبداعي ما تقف عنده العقول حائرةً، وإذ آضت اللغة على يديه مرِنةً مرونة العجين في يد المصور الحاذق.

رأي أحمد أمين
قال أحمد أمين، وهو يفحص أساليب النثر في القرن الرابع الهجري مستعرضاً أعلامه، أمثال «الصابئ» و»ابن العميد»، و»ابن عبَّاد»، و»عبد العزيز يوسف»، وكان يرى «أبا حيان» من نوع آخر، فكتابته يُعنى فيها بالموضوع كما يُعنى بالشكل، هو غزير العقل، واسع العلم، حسن الصياغة، جيد السبك، وبحق لقبوه بـ «الجاحظ» الثاني. وكانت كتب الجاحظ أغزر مصادر كتابه «البصائر والذخائر» فيما صرّح به في مقدمته، وتجاوز إعجابه به حدّ أن ألَّف كتاباً خاصاً به أسماه «تقريض الجاحظ» وهي خطوة لم يحدثنا التاريخ أن أحداً ألّف في الجاحظ كتاباً قبله، ولقد أطراه في مؤلفاته جميعاً ولكن الذي ينبغي أن يقال إنصافاً للرجل إنه لم يقف بمدرسة «الجاحظ» حيث تركها مؤسسها، وإنما أمدها بمعين من عبقريته وفنِّه بما رفع من قواعدها.

قال إسعاف النشاشيبي: «لو أقام كل عربي تمثالاً في بيته «لأبي حيّان» كفاءً على جميل ما أسدى للأمة العربية في مؤلفاته الأدبية» لما كان هناك إسراف في التقدير، ورعاية الفضل لأهله.

«الحق لا يصير حقاً بكثرة معتقديه، ولا يصير باطلاً بقلة منتحليه» على ما هو معروف، احتُفِلَ بألفية «أبي حيّان التوحيدي» في القاهرة في شهر آب 1994، واقتصر على ندوات وإعادة طبع ثلاثةٍ من كتبه، إلى تكريس مجلة «أدب ونقد» المصرية عدداً من أعدادها للمناسبة، مع عدد من الكتاب الكبار بينهم عبد الرحمن البدوي، فهل يستحق الرجل الدعوة إلى «سنة التوحيدي» هذا الرجل الذي اسمه اليوم على كل شفة ولسان مات مغموراً، وبقي قرابة نصف قرن لا ترجمة شخصية له في أي من المصنّفات، وهو الذي تضج كتبه بالحياة. وكلماتُهُ بالوخزات، وشكاواه بالصرخات التي هي زبدة علمه، لا بل زبدةُ عصر بأكمله… هذه بعض إضاءات منَّا على شخصيته الفريدة، وأعماله العبقرية، ما يصح أن يدرج في قائمة الأدباء الخالدين، مع الجاحظ خصوصاً أنهما كانا معاً قطبي فصاحةٍ وبلاغةٍ على مدى العصور.


مراجع البحث:

– ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
– الدكتور “زكي مبارك” النثر الفني.
– “محمّد كرد علي” أمراء البيان.
– شيرازنامة “أحمد بن أبي الخير زركوب”.
– تاريخ الحكماء للقفطي.
– طبقات الشافعية للسبكي
– لسان الميزان ج6.

– وفيات الأعيان ج1.
– البصائر والذخائر.
– دائرة المعارف الإسلامية – مرجيليوث.
– آدم متز “حضارة الإسلام”.
– الملل والنحل للشهرستاني.
– كشف الظنون.
– أحمد أمين “ظهر الإسلام.

من الماضي الجميل

كان شعراء جبل العرب يلتقون كل اسبوعين يحيون التراث وكان عميد الاجتماع المغفور له المهندس ابو رياض جادالله عز الدين المحترم الرزين والمثقف المميز صاحب مكتبة على رفوفها احدى عشرة ألف كتاب تحت تصرف الجميع.

تم تداول فكرة هي ان نكرم الافذاذ بعد رحيلهم ولم يبق من سيوف المجد صانعي الاستقلال المشاهير غير اللواء ابو غالب زيد الاطرش الأخ الشقيق لسلطان ويده اليمنى في كل المواقف التاريخية فلماذا لا نُسمعه وهو على قيد الحياة رأي الشعراء به واتفقنا ان نزوره في عرين سلطان باشا الاطرش وفي مضافته فنقول رأينا به وحددنا يوم الثلاثاء في١٣-٣- ١٩٩٦ وقبيل الظهر زرت ابا رياض جادالله عز الدين وهناك التقيت الاخ العقيد الشاعر ابو نزار محمد شجاع عنده، وبحثنا الخطوات اللازمة للمناسبة؛ فاقترح ابو رياض ان نبحث في السوق عن هدية رمزية نقدمها للواء ابي غالب زيد؛ فوجدنا هدية ترمز الى الفتوّة والنضال فاشترينا سيفا كهدية رمزية ..

وفي المساء كانت مضافة سلطان باشا تغص بالشعراء وأنصار التراث، بدأت السهرة بكلمة ألقاها عميد السهرة جاد الله عز الدين باسمه الكبير وقدم الهدية (لابو غالب) باسم الجميع ونيابة عنهم ففاجأته الهدية ووقف بطوله المهيب ليقبّل السيف ويقول: وصيتي ان يوضع تحت راسي في قبري!!

ابتدأت السهرة التي كانت حفلة منضبطة ومنظمة وبرنامجها محترم من الجميع …وجاء دوري فقدمت قصيدتي هذه:

ما المجد غير تجشّم الأخطار
والذِكر غير حصيلة المشوار
الليل يغتال الوضوح تغلّساً
والصبح خير هديّة للساري
والبدر في كبد السماء مميّز
والشمس تمحو لألأ الأقمار
يا زيد مَن للخيل في يوم الوغى؟؟
حين ارتخاص الروح للأقدار؟؟
يوم العجاج امتدَّ يسحب ذيله
ليلاً يحدّ خوارق الأبصار؟
حين استجار الشرق من أغلاله
هذا العزيز الصعبُ بالثوّار؟
تالله كُنتَ الليث ينثر لبدةً
والثائرون منائرُ الأكوار
والسيف منصلتٌ تعندم راعفاً
يهوي بوهج نيزكيٍّ عاري
إن هُجتَ هاجوا دمدماً وصواعقاً
سيلَ السيولِ وجذوة الإعصارِ
مزّقت أجناد العدوّ بفتيةٍ
في كلّ موقعةٍ كسهم النار
وهززت راشيّا بجمعٍ ثائرٍ
حين اقتحمتم شاهق الأسوار
يا فارساً بالحرب يزجي مهره
مستهزئاً بالنار والأخطار
يا زيدُ أغنيت الجهاد ولم تزل
تُعطي عطاء الديمة المدرار
صلبٌ إذا اعتبكت وطار شرارها
تغشى الوطيس بهمّة المغوار
يا زيد شاخ الدهر إلّا أنكم
كبشٌ عليه غُلالة من غار
يا شاعراً أغنى القريض بشعره
يا قائداً يا أحصف السمّار
أنجزت صرحاً للتراث مشيّداً
بالسيف والتنظيم والأشعار
يا زيد ليت الدهر في امكاننا
إرجاعه قرناً بدون ضرار
فأراك في النبك البعيدة بادياً
شاكي السلاح مهلهل الأطمار
ترنو الى صوب الشمال وأهلهِ
والروح تهدي ذاتها للشاري
إنّي أحيي الآن شيخاً فارساً
في أعظم الأيام، في آذار
في دار سلطان العظيم وحصنه
نسقي أصول المجد بالتذكار
يا ربُّ هَبْ زيداً شموخاً دائماً
هذا بقيّة نخبة الأبرار

الشاعر الفارس ورجل المجتمع جاد الله سلاَّم

 

كنا قد قدَّمنا دراسةً خاصة بالقصيد النبطيّ في جبل العرب لمجلّة الغرّاء، وذلك في الأعداد 16 و 17 و 18 من عام 2016، وأوضحنا من خلالها جذورَ استخدام شعراء الجبل (للهجة البدوية) وسنعرضُ هنا لأعتى رموز هذا الشعر (النبطيّ / البدويّ) من شعراء جبل العرب الذين حُفظت قصائدهم في الذاكرة الشعبية، وما زالت تُستخدم إلى الآن في جُلّ المناسبات كالأعراس، ومآتم الشهداء والأبطال، والأمسيات الشعبية، لما فيها من معانٍ خالدة حاكت المجتمع وأصبحت جزءاً من وجوده، مثَلُها مثَلُ الأرض والغيث، وشأنها شأنُ السلاح الذي يحققَ النصر.

نعرضُ لها اليوم ونحنُ ندرك أنّ دورَ الشعر قد تضاءَل جدّاً أمام معطيات الحضارة، وقد وصلَ في بعض محطاته إلى دَرَكِ اللامبالاة ، حيث حُمِّلَ إثمَ الرَّجعية وتُهمَةَ الرِّدّة إلى البداوة من قِبلِ حُماة اللغة الأمّ ومَن في صَفّهِم من دُعاة التَّحضُّر، ولستُ بصددِ تفصيل الدفاع عن هذا الموروث وبيانِ ماهيته ودوره التاريخي، ولكن لابدّ من الإضاءة على أمثلةٍ بارزة في سجلاّته العريقة؛ بغيةَ التوثيق والإيضاح.. وستكون وقفتنا الأولى مع الشاعر الكبير جاد الله بك سلام:
ــ يعود أصل آل سلاّم إلى منطقة راشيا في لبنان، حيث هاجروا منه إلى جبل حوران بعيد أواسط القرن التاسع عشر، ومن ثم استقروا في المقرن الشرقي من الجبل…

وُلدَ شاعرنا الفارس جاد الله بن حسن سلاّم عام 1896 م، في قرية طربا الواقعة في (المَقْرَنِ الشَّرقيّ) من جبل العرب، وهو أحدُ فرسانها ورجالها المعروفين، الذين كان لهم دورٌ فعالٌ في الثورة العربية وفي الثورة السورية الكبرى، كما أنّه كان قاضياً عشائرياً يفصل في خلافات الناس، وقد توفاه الله في قريته طربا بتاريخ 22/2/1982.

وجاد الله سلام كشاعر يُعتبر من الرَّعيل الذي تأثر بكبار الشعراء الشّعبيين في جبل العرب أمثال شبلي بك الأطرش واسماعيل العبد الله، وقد تأثرَ كغيره من شعراء الجبل باللهجة البدوية ومعطياتها، حيث نظمَ بها كلَّ قصائده، وهذه نتيجة حتمية، حيث إنه عايَشَ البدوَ وجاورَهُم في فترةٍ حسّاسةٍ من عمره، وذلك في طفولته ورَيعان شبابه، إضافةً إلى أنَّ البدوَ كانوا يشكّلون مساحةً غير قليلة من محيط الشاعر، إلا أنهُ أضفى على شِعره صِبغةَ الاختصار وحاكى واقعَه بطريقةٍ تميّزَت بالسلاسة والجزالة، حيث نجد كلماته تتردد في الأفراح والمناسبات الوطنية بشكلٍ منقطع النظير، ومنها أبياته المشهورة:
هِيهِ يا الِّلي راكبين على السلايل
فوق ضُمّر يمّ طربا ناحرينا
سَلّموا عَ ربوعنا وقولوا لهايل
بالسويدا ثارنا حِنّا خذينا

ــ لقد أرَّخَ شاعرُنا لأحداثٍ مهمّةٍ في تاريخ جبل العرب، ومنها أحداث الثورة السورية الكبرى التي شاركَ في جُلّ معاركها الجسام، مثل (المزرعة والمسيفرة ومعارك الغوطة وغيرها)، ومن أبياته الخالدة في الذاكرة الشعبية هذا الحُداء الشهير في معركة المزرعة التي جَرَت في غُرّة شهر آب 1925 م:

يا الله نَطْلُبْك السِّتر يوم ان فَتَل دولابها
شَرَّابة الدَمّ الحَمَر والذلّ ما نرضى بها
جرَّد علينا مْنَ البحر عسـاكراً وِطْوَابها (1)
عينيك ياللي ما حَضَر حنّا كَفينا غيابها
يا بنت يا عين الصّقر ريح النَّفَل بِجْيابها (2)
لا تاخذين الما صَبَر يوم الخَوِي ينخى بها
وآخذِين خيّال السِّكَر المـــرجـَـــلة عَيـــّا بها (3)

وفي ثلاثينيات القرن الماضي أرسلَ هذه القصيدة إلى الثوار الذين نزحوا إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية ــ حيث لجأوا إليها من عام 1927 حتى عام 1932 وعادوا آنذاك إلى الأراضي الأردنية إلى أن عادوا نهائياً إلى سورية سنة 1936 بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورة ولبنان ــ وفي قصيدته يُذكّر بالنصر ويتأمل الفرج القريب ، ومن أبياتها:

يا رُسل يالِّلي تمِدّ مْنَ آرض طَرْبا
فوق حُرَّه كنَّها ظبْيَ الحَمَادي
سلّم على اللي ساكنين ديار غُرْبه
النشاما مْخضِّبة سْيوف الهَنادي
ديرتي قامت تِبَسَّم عُقب حَرْبه
يوم تلفوا تَخْلع ثياب الحْدادي
العَفُو ما هُوْ بَعيدٍ يوم قُرْبه
يوم يلفي الوفد ياتيكم بجادي (4)
يا طويل الباع هَدّ الحيل ضَرْبه
لا نوى ربَّك قضى كل المْرادي (5)

وفي خِضَمِّ الثورة والنصر يسجّل لنا الشّعرُ ما في نفوس المجاهدين من أنََفةٍ وشهامة، فهم يريدون الحرية والعزة ولا يرضخون للمحتل؛ وهم إن نشدوا حاجةًً فهي حاجة الحر لسلاح الحرية، لقد أرسل المجاهد صالح عْمار أبو الحسن قصيدة إلى جاد الله سلام عام 1928 وفيها يطلبُ بارودة ، ومن أبياتها:

ملفاك طربا خُشّ دار اَبو سلام
الضَّيغَمي ما هي غبيّة فعاله (6)
من مصر لبغداد لنجد للشام
لوّ الرجال بعَدّ حَبّ الرماله
ما مثلكم رَجلٍ على الحق مقدام
وللمثلنا دايم تِفقّد حواله
أريد موزر ترعب الضدّ وخصام
مَعْمَل بْرِنْد وْمِن مْعَدَّل طواله
وِمْخُومَسات بْصَفَّها عَشْرة آدْوام
أريدها يوم الوغى يا حَلاله
أدري بكم بين المخاليق فهّام
وَدّي جواباً مثل عَدّ الرِّساله

يجيب ابو سلام وقد أُعطيت البارودة لصالح عمار فوراً :

يا عْمار لا جانا من الربع منضام
حنّا بعون الله نْعَدِّل آحماله
بوجوه ربعٍ من مواريث سلاّم
عُقّالهم وآن ثار الاشْهَب جَهَاله (7)
لك طُلْبةٍ مَوْزَر تِشيله مع آحزام
تستاهله والاَّ الرَّدي ما يناله
خُوذه وَلاني مْدَوَّر الرِّبح سَوَّام
والرِّزق عند اللي يدبّر احواله (8)
تَضْرُب عَدوَّك بالعظم ضَرْب قصَّام
يوم الحرايب ما يريعَك آهواله
الطَّيْب ما بين المخاليق حَوَّام
كِلْ ديرةٍ يا عْمار بيها رجاله

ولقد اهتمَّ هذا الشاعر الفارس بقضايا وهمومِ وطنِه، وأرسلَ زَفَراتِ صدرِه مع أبيات قصائده، ووظّف رؤيتَه ونصيحتَه مترجماً الحلَّ في أكثر من نداء، ومن أجمل ما يقال في هذا السياق؛ تلك المجموعة من القصائد التي تبادلها مع الشاعر أحمد الغباغبي والشاعر حمد المُصفي وهي بعنوان (تل الفرس).. القصائد التي يتحدّى أصحابُها العدوّ الصهيوني الغاشم ومن يشدّون على يده. ومن قصيدة جاد الله سلام التي يشيرُ من خلالها إلى حرب حزيران 1967:

مَبْداي باللهْ والذي هُوْ رَجانا
هُوْ خالق الدِّنيا وْعَليه التَّدابير
يَدْمَح لنا الزَّله وْيغفر خَطانا
وِيْفكََّنا مِن لايذات العَواثير
مِن عُقب ما كِنّا بعزٍّ، دَهانا
حربٍ بْسِتَّ آيام ما عَقّبَتْ خير
أمْرٍ مْن الله مار ماهِيْ جَبانه
وْهذي آسعرات الحرب وِرْدٍ وتصدير(9)
حِنّا هَلَ الرَّدَّات عاللِّي بَغَانا
لابُدّ يومٍ يزحَفُون الطوابير (10)
ونَمْطِر على الغاصب صَواعق سمانا
والله على الباغي تدور الدواوير
عشرين عامٍ يا عَرَبنا كفانا
ما فادنا كثر الخُطَب والمشاوير
تلّ الفَرَس وِتْلول مِثْله تَرانا
وْحِنّا نراعيها بشَوف النواظير
مِن شَرْقنَا وْمِن غَرْبنا وِش بلانا
ما عاد نقبل يا عَرَبنا معاذير
القدس تنخاكم، عليها مهانه
حَنَّت على الفَرقه حنين النواعير
امشوا عليها واحفظون الأمانه
وعلى بَعَضْكُم لا تصيروا دبابير
وان ما خذينا حقَّنا باليَمانه
عيبٍ علينا الهرج عند الغنادير
شبُّون نار الحرب باربَع آركانه
والرِّبــح ما ياتي بَليَّا مخاسير (11)

وتميَّزَ شِعرُه بكثافة المفردات التي أنتجَت تركيباً جَزْلاً يخدِمُ مضمونَ القصيدة ومنحاها العام، ونحن نتكلم هنا عن لهجةٍ بدويّةٍ صِرفة لا يُخِلُّ الشاعرُ في استخدامها ولا يخلط بينها وبين العامّية القروية المتعارف عليها (والتي هي لهجتُهُ في الأصل)، ومثال هذا؛ أبياتٌ من قصيدته التي عُرفت باسم (قصيدة الدَّهر)، وهي القصيدة التي بكى من خلالها أهلَه الذين فقدَهم إثرَ أحداثٍ داخلية مؤلمة، وفيها يذهبُ مذاهبَ الحكمة والنصيحة وقد اعتملَت تقلُّباتُ الدهر في أُسْرَةٍ أجلََّتْ يدُ الجماعةِ من شأنها عبر المواقف البطولية والاجتماعية المشهودة:

الدَّهر دولابٍ على النَّاس دَوّار
واليوم دَور آرحاه داير علينا(12)
خمسَة سنينٍ نَجْرَع الصَّبر وِمْرار
مع سِتّْ هَدّنَّ القصور الحَصينا
أبكي على اللي بْميلة الدَّهر صَبّار
فَصَّال وان دارَت عليه السنينا
وابكي على اللي بَدَّل الدَّار بديار
هيهات مِن عقب المْفَارَق يجينا(13)
ياما رَكبنا فوق طوعات المْهَار
وياما على قَبّ السَّبايا حَدينا(14)
وياما مَشينا بْدِيرَة الخوف بِنْهار
وياما بْعَتمات الليالي سَرينا
أيام بِيضٍ كنّها زَهر نَوَّار
أبْيَض مِن المَقصُور هُوّ واللُّجينا(15)
وايام أسْوَد من صَدى الجاز وِشْحار
وِتْقُول عتمات الدُّجى آلمِظلمينا(16)
وايام تَدْعي واسع الفكر محتار
يَخْطي وْلوّ انّه فَرِيزٍ فَطَينا
وايّام تَدْعي عَادِمَ الشَّور شَوَّار
واليا هَرَج تلقى المَلا تابعينا
وياما هَفَت دنياك حُكَّام وِكْبار
ياما ملوكٍ قوطَرُوا ذاهبينا(17)
انظر بني عثمان يوم الدَّهر دار
جارَت عليهم مِغِبْرات السِّنينا
خَلّوا قصور العِزّ تنعي وآلاسوار
هُم بالحياة وْغيرهم وارثينا
والدَّهر خَطّ بْصَفْحَة القلب تذكار
من شُوم فِعْلَه يا آلاجاويد فينا

هي القصائد الذَّاتيَّة الموسومة بآثار الحزن التي تطغى على جسد القصيدة بشكلٍ مكثّف؛ وأقول (ذاتية) لأميّزها عن القصائد العامّة التي حاكت المجتمع من خلال الصيغة الوطنية والصيغة الاجتماعية المتمثّلة بشعر الحِكمة وشعر المدح من رثاءٍ أو ترسيخٍ للعادات والقيم. ومن قصائده الذاتية؛ قصيدته المشهورة في رثاء الأهل الراحلين عام 1917 على أثر الأحداث الداخلية المؤلمة التي أشرنا إليها، ومنها:

ما لُوم عيني وان بكت دمعها دَمّ
ما لومها وان طَوّلَت في سَهَرها
تبكي على اللي فارقوا الدَّار يا عَمّ
وِمْنَ البكا كَن زاغ منها نَظَرها(18)
صَبَرت انا وْعَيّا الصبر يَفْرِج الهَمّ
صبري على بلواي مَحْدٍ صَبَرها(19)
صَبْرَ الحديد اللي تِلوَّى على الحَمّ
ما جَضّ وان زادَ المعَلِّم شَطَرها(20)

عارف النكدي

ومن القصائد الإنسانية التي تنمُّ عن الشاعرية الحقيقية؛ هذه القصيدة التي عُرفت بــ (نشيد بيت اليتيم في السويداء) ، نظمها الشاعر عام 1948 عند افتتاح بيت اليتيم والذي يعود الفضل في تأسيسه ورعايته إلى المرحوم الأستاذ العلاّمة اللبناني (عارف النكدي) محافظ السويداء آنذاك، وقد تبارى الشعراء الشعبيون وقتها في تخليد ذلك الحدث من خلال قصائد عُرفت كُلّها باسم (نشيد بيت اليتيم)، وشاعرنا جاد الله سلام تكلَّمَ ــ وهو في الخمسين من عمره ــ بلسان الطفل اليتيم، وفي ثنايا القول ؛ نجدُه قد استغنى عن المفردات والجُمل المُغرقة في (البدويّة)، إذ هَلهَلَ القصيدة وبسَّطها في سياق كلامه بلسان الأطفال، وهذا ما يُلفِتُ النظرَ ويعبّرُ عن إحساسٍ رقيقٍ ووعيٍ مُدركٍ، فنحنُ في حضرِةِ شيخٍ وفارسٍ مجاهد فاضَت قصائدَهُ عن ساحات الوغى ومعتركِ المجتمع القَبَليّ فجاءت عاتيةً في مجال اللفظِ والصوَر، أمّا هنا، فللقول منحىً آخرَ تماماً؛ منحى السهل الممتنع ، ومن قصيدته:

 

 

لا نِذِلّ وْلا نقول اِنّا يتامى
والقَدَر من قبلنا يتّم نبينا
ما نِذِلّ ومدرستنا بانتظاما
والعيون العاطفة تسهر علينا
اليُتم ما ضرّ لَرْجالٍ عِظاما
قَـبْلنا ياما رجالْ مْيتّمينا
وان دعا داعي الوطن يوم الخصاما
وْقِيل وين اللي يرُدّ المعتدينا
مَن نشَد عنّا يجدنا بالأماما
مع طلايع جيشنا بالأوّلينا
ومَن غَرَس طيبٍ جنى عزّ وكرامه
ومَن عطت يسراه ياخذ باليمينا
والشكر لازم علينا بالختاما
للذي يرعى اليتامى القاصرينا

… عارف النكدي وجاد الله سلام، جمعتهما الإنسانية وذاكرةُ اليتمُ في حومة ما وَرَد، ومنها جاء هذا النسيجُ الماديّ والمعنويّ..


شروحات:

1. طوابها: الطُّوب: المدفع
2. ريح النَّفَل: يريد رائحة العطر، والنَّفَل: نبات برّي طيّب الرائحة، بجيابها: في ثوبها الذي يكسو صدرها
3. السِّكَر : صفة للخيل مصدرها نشوة الفارس الذي يعتز بفرسه وفروسيته, عيّا بها: أي رفض المساومة عليها.
4. الوفد: إشارة إلى الوفد السوري الذي سافر إلى باريس عام 1936م برئاسة هاشم الأتاسي بشأن التفاوض من أجل حرية البلاد واستقلالها
5. لا نوى: (لا) أصلها لو وهي من اللهجة البدوية ويكثر استخدامها عند الشعراء العاميين.
6. غبيّة: خفيَّة
7. الأشهب: كناية عن البارود، وفي البيت يصف تحوّل العقلاء (عقّالهم) إلى حالة الجنون (جهاله) عند احتدام وطيس المعارك
8. خوذه : خُذها
9. مار: من استخدامات البدو وتعني (ماغير) وتفيد أيضاً معنى (ولكن), اسعرات الحرب: سعيرها
10. هَل الرَّدات: أي أهل الثأر والنخوة
11. بليّا مخاسير: من غير خسائر.
12. دَوْر رحاه: رحاه تقرأ بتسكين أوّلها ليستقيم الوزن وهي بلفظها هذا من استخدامات العامة والرحى هي آلة حجرية قديمة تستخدم لطحن الحبوب
13. المفَارَق : بتسكين الميم و فتح الراء وتعني الفراق
14. قبّ السَّبايا: الخيل الضامرة, حَدينا: أي أنشدنا الحُداء وهو لون من الشعر الذي يخص الحروب
15. المقصور: الثوب الأبيض، اللجينا: اللجين: الفضة
16. صدى الجاز وشحار: يريد بصدى الجاز عتمةَ القبر، وشحار: أثر الدُّخان الأسود
17. قوطروا : وَلّوْا إلى غير عودة.
18. كَن زاغ منها نظرها: أي كأن نظرها مالَ وذهب
19. عَيّا: عَجِزَ, محَْدٍ : أصلها (ما أحد) ولكن تُسقط الهمزة وتُسكّن الحاء على حسب اللفظة البدوية
20. جَضّ: هي تصحيف لمفردة ضجّ والعامة تستخدمها بمعنى تضايقَ وأصدرَ أنيناً, زاد المعلّم شطرها: أي أمعنَ الحدّادُ في عمليّة طرق الحديد.

“قيم ما بعد كورونا: التَّضامن وروح ركّاب السفينة”

تابعنا باهتمام، وكالعادة، حضور الملتقى السابع لمنتدى تعزيز السَّلم الذي عُقد لهذه السنة افتراضيَّاً عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، في الفترة الممتدة من 7 إلى 9 كانون الأول 2020، تحت عنوان «قيم ما بعد كورونا: التضامن وروح ركاب السفينة»، برعاية من سموّ الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، وبمتابعة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح، وبرئاسة معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السَّلم في المجتمعات المسلمة ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي (2).

وقد حظي الملتقى بمشاركة وزراء وممثلي حكومات ومنظمات دولية وسفراء وقادة دينيين وشخصيات رفيعة المستوى ومئات المفكرين والأكاديميين والباحثين ورجال الدين وممثلي منظمات المجتمع المدني والشباب، وبمتابعة الآلاف من المشاهدين لجلساته وأعماله عبر منصته الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

ناقشنا على مدى ثلاثة أيام العديد من الموضوعات التي تشغل الوعي الكوني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البشرية، والتي تتسبب بالقلق الكبير على كل المستويات النفسية والمعنوية والمادية للأفراد والمجتمعات والدول، ودعا المشاركون إلى العمل على صياغة مشروع اتفاقية تحت مسمى «الميثاق العالمي للتضامن الإنساني» مع العمل على عرضه على هيئة الأمم المتحدة لضمان تحقيق قيم عالم ما بعد «كورونا» ودرءاً لعودة المجتمع الإنساني إلى ما كان عليه قبل «كوفيد – 19»، وأوصوا بإنشاء صندوق دولي موحد للطوارئ والكوارث والأزمات، كما دَعَوْا المجتمع الدولي والدول الغنية إلى التضامن مع الدول الفقيرة وإشراكها في ثمرات البحوث العلمية، وإلى توزيع اللقاحات على الجميع بلا احتكار ولا استغلال، وتشجيع المبادرة والابتكار في مجال تكنولوجيا الصحة العامة والتطبيب في الدول الفقيرة والنامية التي أظهر بعضها مؤهلات غير متوقعة في تدارك نقص الوسائل والمعدات.

وأشاد البيان الختامي للملتقى بتضحيات الطواقم الطبية وتفانيها في إنقاذ الأرواح وعلاج مرضى هذا الوباء والعناية بهم، وبجهود كل العاملين أفراداً ومؤسسات في مكافحة هذه الآفة، كما أشاد بجهود منتدى تعزيز السلم في مد الجسور مع العقلاء والحكماء من كل الأديان والمذاهب والمشارب، وثمَّن مساعي القائمين عليه العلمية والعملية لتوحيد الجهود وتصحيح الوجهة على أرضية القيم الإنسانية المشتركة لما فيه خير الناس جميعاً، كما أشاد بما تضمنته «وثيقة مكة المكرَّمة» من مضامين سامية تهدف إلى بناء جسور المحبة والوئام الإنساني، ونشر ثقافة التعايش والتسامح والتصدي لخطابات التحريض والعنف والكراهية، ودعا إلى عقد شراكات بين صناع القرار ورجال الفكر والدين لإشاعة خطاب السلم والمحبة والأخوَّة الإنسانية، والوقوف في وجه خطاب التطرف والتحريض.
وحثَّ المجتمع المدني على مواصلة جهود التعبير عن الشكر والامتنان والوفاء لمن هم في الصفوف الأمامية في مواجهة الوباء وابتكار المزيد من المواقف الاجتماعية والتعبيرات الرمزية المستوحاة من ثقافة المجتمع، وتأكيد أهمية مواصلة كافة الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية حتى تنجلي الغمة وتنكشف الأزمة.

وتدارس المشاركون بالملتقى طبيعة وأبعاد الأزمة العالمية المترتبة على وباء «كوفيد – 19» المستجد ومساءلَتها للتوجهات القيمية للإنسانية ودورَ قيم التراحم والتضامن والتعاون وإشاعة السكينة في مواجهة هذا الوضع والتخفيف من آثاره وتداعياته، مسلطين الضوءَ على النقلة النوعية والقوة الاقتراحية التي يمثلها «حلف الفضول الجديد» الذي أُطلق في الملتقى السادس (السابق) في أبو ظبي، لكونه يؤسّس لنموذج متوازن من التسامح والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية والاقتصاد المتضامن، بحيث يمكن أن يكون هو نموذج العقد الاجتماعي الجديد الذي ترنو إليه البشرية وتتطلع إليه.

كما تطرق المشاركون إلى القضايا الفقهية المستجدة التي أثارتها هذه الأزمة على جميع الصعد من منظور «فِقْه الطوارئ» المركَّب من الدليل الشرعي والواقع، بحثاً عن التيسير والرخص الشرعية لقيام موجبها، وإلى الحاجة لتعزيز دور الدولة الوطنية وتقوية التعاون الدولي لتجاوز مفارقات العولمة. وتدارس المشاركون نماذج إيجابية في التعامل مع الجائحة بروح التضامن والتعاون في مجالات مختلفة كتطوير اللقاح، وممارسة الشعائر الدينية مع الحفاظ على سلامة المصلِّين، ومساعدة الاقتصادات الضعيفة. وخصصت الجلسة العلمية الأخيرة لآفاق عالم ما بعد «كورونا»، الذي يستلهم «روح ركاب السفينة» في وعيهم بالمسؤولية المشتركة التي تمليها وحدة المصير.

وقد خلص المشاركون، بعد تبادل وجهات النظر في القضايا المدروسة، مستحضرين خصوصية الظرفية العالمية وانفتاح مآلات المجتمع الإنساني على كل الاحتمالات المرجوة والمخوفة، إلى نتائج تم تضمينها وتفصيلها بالبيان الختامي، وقد شملت «طبيعة الأزمة المتولدة عن وباء كوفيد 19 المستجد، دروس هذه الأزمة والعبر المستخلصة منها، مبادئ وقيم روح ركاب السفينة، المقتضيات العملية لـ«روح ركاب السفينة»، إذ تقتضي روح «ركاب السفينة» الدعوة إلى هبّة ضمير عالمية تعيد لقيم التعاون والتضامن والتراحم فاعليتها، وتقدّم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المفهوم المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة ليرتقي إلى إيجابية قيم الفضيلة التي تُشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة، إذ إنّ هذه الأزمة أذكت جذوة التضامن بين البشر، ولدول تسامت عن حسابات السياسة والعلاقات الدولية لترقى في استراتيجياتها إلى سقف التعاطف والترابط الإنساني.


المراجع:

1- رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية.

2- المرجع: صحيفة الاتحاد الإماراتية، 10 كانون الأوَّل 2020.

الكاتبُ الكبير الدكتور ممدوح حمادة

مُبدع من بني معروف، من هضبة الجولان المحتل.
اشتُهر بكتابة مسلسليّ (ضيعة ضايعة) و (الخربة)

روائي وصحافي ورسّام كاريكاتير سوري مواليد عام 1959 من هضبة الجولان السورية المحتلة، نزح في طفولته حيث عاشت أسرته في #السويداء إلى حين سفره إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة في كلية الصحافة في جامعة بيلاروسيا الحكومية في العاصمة مينسك حيث تخرّج منها في عام 1994 بدرجة دكتوراه. عاد إلى سوريا ولكنه لم يوفّق في العثور على عمل هناك حيث أمضى أكثر من عام ونصف في دمشق قرر بعدها العودة إلى بيلاروسيا التي عمل مدرّساً في إحدى جامعاتها لأكثر من عشر سنوات، وبعد ذلك درس الإخراج السينمائي في أكاديمية الفنون الحكومية البيلاروسية وتخرّج منها عام 2009، ويعيش الآن بشكل أساسي في بيلاروسيا، أخرج فيلمين أولهما هو (ضمانات للمستقبل) وهو فيلم روائي قصير مدته 30 دقيقة وكان مشروع تخرجه وهو من تأليفه وإخراجه، وأخرج فلماً آخر مُستمِدًّا موضوعه من الحرب السورية بعنوان «ما زلت على قيد الحياة» مدته 7 دقائق.

أعماله في التلفزيون: 
1- عيلة ستّ نجوم – إخراج هشام شربتجي.
2- عيلة سبع نجوم – إخراج هشام شربتجي.
3- عيلة ثماني نجوم – إخراج هشام شربتجي.
4- بطل من هذا الزمان- إخراج هشام شربتجي.
5- صراع الزمن (جلّنار) إخراج هشام شربتجي.
6- قانون ولكن – إخراج رشا شربتجي.
7- بقعة ضوء 2 إخراج الليث حجو.
8- بقعة ضوء 3 إخراج ناجي طعمة وفراس دهني.
9- بقعة ضوء 4 إخراج الليث حجو.
10- بقعة ضوء 5 إخراج سامر برقاوي.
11- بقعة ضوء 6 إخراج هشام شربتجي.
12- عَ المكشوف إخراج الليث حجو.
13 – شو ها الحكي (الأردن) إخراج ناجي طعمة.
14- مَبروك – إخراج هشام شربتجي.
15- مرزوق على جميع الجبهات – إخراج هشام شربتجي.
16- مدرسة الأستاذ بهجت (الأردن) إخراج أنور السعودي.
17- مدينة المعلومات الجزء الأول (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي
18- مدينة المعلومات الجزء الثاني (برنامج أطفال) إخراج فتحي الهداوي.
19- بيتي العربي (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي.
20- كليلة ودمنة (مسلسل كرتوني) إخراج رزان حجازي.
21- كليلة ودمنه (فلم) إخراج رزان حجازي.
22- ضيعة ضايعة 2008ج 1 إخراج الليث حجو.
23- ضيعة ضايعة 2010ج2 إخراج الليث حجو.
24- الخربة – إخراج الليث حجو.
25- ضبو الشّناتي – إخراج الليث حجو.
26- أهل الغرام خُماسية يا جارة الوادي – إخراج الليث حجو.
27- مشاريع صغيرة – إخراج المثنى صبح.
28- الواق واق – إخراج الليث حجو.
وشارك في كتابة عدد من البرامج الأخرى.

صدرت له تسعة كتب هي:

1- فنّ الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى عمدة الصحافة – دار عشتروت دمشق 1999.
2- الكاريكاتير في الصحافة الدورية – دار عشتروت دمشق 1999.
3- صانع الفراء – مسرحية للأطفال – دار عشتروت دمشق 1999.
4- المحطّة الأخيرة- قصة – دار علاء الدين دمشق 2000.
5- جلَّنار – قصة – دار علاء الدين دمشق 2001.
6- أم الطنافس – مجموعة قصصية دار أبعاد دمشق 2014.
7- دفتر الأباطرة – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
8- دفتر الحرب – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
9- دفتر القرية – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2017.

العَفِينَة “أم الينابيع”

هي من القرى النبطية القديمة ذات الينابيع الغزيرة وقد جُرّت مياهها قديماً إلى بلدة الكرك في سهل حوران، وكانت قناطر القناة مازالت ظاهرة للعيان في القرن الماضي، وقد تخربت آثار القرية القديمة ولكن ما بقي منها يشهد على أهميتها وفيها كتابات يونانية كما يشير إلى ذلك الباحث الآثاري الدكتور علي ابوعساف في كتابه «الآثار في جبل حوران» ص 164.

حملت هذه القرية اسمها «العفينة» بسبب خصوبة أرضها نتيجة للخيرات التي كثيراً ما تتعفن لتراكمها. ترتفع العفينة عن سطح 1127 متراً أمّا عدد سكانها فيبلغ 2700 نسمة.
وتقع في موقع متوسط بين المرتفعات الجبلية لجبل العرب فإلى الغرب منها منبسط من الأرض يميل باتجاه الغرب والجنوب بانحدار لطيف ومن جهة الشمال الغربي يميل بحدة نسبية باتجاه وادي نبع عرى…
أمّا إلى الشرق منها فتأخذ الأرض بالارتفاع مع ازدياد الوعورة باتجاه قرية حبران الأكثر جبلية منها.
تحدها من الشمال قرية رساس ومن الشمال الشرقي قرية سهوة بلاطة ومن الشرق قرية حبران ومن الجنوب بلدة القريّا ومن الغرب قرية المجيمر ومن الشمال الغربي بلدة عرى.
وتتبع العفينة من الناحية الإدارية لناحية القريّا الواقعة إلى الجنوب منها على مسافة نحو 4 كلم، أمّا عن السويداء مركز المحافظة فتبعد نحو 14 كلم.
تربتها سوداء تميل إلى الاحمرار لكونها ناتجة عن تفتت الصخور البركانية التي اغتنت ببقايا المواد العضوية النباتية ممّا يزيد في خصوبتها.
تزرع القرية الحبوب بأنواعها بالإضافة إلى زراعة الخضروات والفول والبصل، ويطل عليها من جهة الجنوب الغربي تل السرجين ومرتفع كوم التينة وتل المَجْمَر الشمالي الغربي، وتمر منها قناة الغسانية الأثرية من الشرق إلى الغرب وتعود إلى العصر الروماني وقد تم ترميمها حالياً بالإسمنت المسلح.

القرية القديمة مبنية بالحجر البازلتي الأزرق، أما القرية الحديثة التي امتدت بمعظمها إلى جهة الغرب عبر المنبسط السهلي فبيوتها مبنية من الحجر الإسمنتي المسقوف بالإسمنت المسلّح.
إلى جهة الجنوب منها يمر واديا الجعّار والزيدي، المتجهان غرباً عبر أراضي بلدة القريّا إلى سهل حوران.

الوضع المائي في العفينة

كان أهالي العفينة يتباهون فيما مضى بقولهم: إنّ «في قريتنا 50 نبع ونبع»، إذ تمتاز العفينة بغناها بالينابيع التي تنبثق في فصل الشتاء إثر هطول الأمطار الغزيرة وأهمّها نبع غسان (ويدعى اليوم بنبع عرى) وكان فيما مضى قبل نحو مئة عام نبعاً جارياً، ويبعد عن القرية نحو 3 كلم إلى الشمال منها، ونبع عين الزبدة الذي يقع شرق نبع عرى، وعين الغورية على الحافة الشمالية للقرية ونبع العين الشرقية شرقها، وعين التيس شرق القرية على حدود حبران، ونبع عين السخنة وسط القرية ونبع العين الغربية، وهي عموماً ينابيع تنقطع صيفاً وتنشط شتاء وربيعاً.
وفي خراج القرية 9 آبار ارتوازية حفرتها الدولة، منها اثنان على طريق قرية المجيمر غرب القرية والآبار الأخرى جنوب القرية، وجميعها معطلة باستثناء بئر واحد يعمل بين حين وآخر ويتعطل أحياناً بسبب الإهمال.

آل درويش أُولى العائلات في العفينة

استناداً لمَرويّات المُعمرين في القرية ولمرويات آل درويش فإنّ آل درويش قدموا إلى العفينة كمشايخ للقرية بالتفويض من شيخ مشايخ الدروز الأطرشي في عرى نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر،غير أن الرحالة البريطاني بيركهاردت الذي زار المنطقة عام 1810 يذكر أن القرية كانت مسكونة في تلك الفترة وفيها 25 عائلة درزية وذلك في كتيب «رحلات في سورية، ترجمة سلامة عبيد، ص 20».

أما آل درويش فهم كما يعرّفهم صاحب كتاب «الأصول والأنساب» يحيى حسين عمار ص 83 فهم «من العائلات التي تعود بقديمها إلى المقدّم علي العكس، جاؤوا من جهات الجبل الأعلى، وتوزعوا في المتن (جبل لبنان) وعُرف أمرهم في بلدة حمّانا وكانت لهم فيها أملاك ومطاحن كثيرة واشترى أملاكهم في حمانا المقدمون من آل مزهر، ورافقوا الفرع من آل الأطرش الذي ارتحل عن لبنان إلى بلدة بقعسم في إقليم البلان، وفي حدود مطلع القرن التاسع عشر ارتحل عن بقعسم حسين الدرويش مع أبناء عمه إلى الجبل وكان لحسين الدرويش دور هام جدّاً في معارك اللجاة ضد إبراهيم باشا إذ كان قائد المشاة المقاتلة، وبعد المعارك لُقّب حسين الدرويش بـ : «سبع اللجاة»، واشتُهر رجال هذه الأسرة بالقوة والصلابة، ومنهم في الثورة السورية الكبرى عام 1925 المجاهد حمزة الدرويش».

وأمّا عائلات العفينة التي وفدت إلى القرية بعد آل درويش الذين قدموا من غوثا قرب عرى حسب ما أفادنا به الأستاذ نزيه درويش والاستاذ مقبل منذر، فهم آل غانم، وآل منذر نحو عام 1868 قدموا من برمانا وغريفة، وآل قرموشي، (أصلاً من آل الداود من قرية حَلوى في جنوب لبنان)، وآل الهادي من الشوف (أصلاً آل شرف الدين)، وآل محمود وأبو فخر والأشقر والحمدان وأبو غازي والعماد وريدان وحرب وحمزة والنمط وفخّور.

وهم عائلات هاجرت أو هُجّرت من لبنان بسبب أحداث ونزاعات جرت في القرن التاسع عشر وحتى عام 1914 عام سفر برلك.
ولم تتأخر العفينة عن المشاركة في أحداث الحركة العامية التي جرت في النصف الثاني من ثمانينيات القرن التاسع عشر إذ جرى فيها الاجتماع الثاني للحركة العامية التي تمثل فيها النزاع بين العائلات الإقطاعية المالكة في الجبل من جهة والعائلات المتوسطة الملكية والفلاحين من جهة أخرى كما يرجّح معمرو القرية؛ في موقع الأرض الواقعة غربي القرية بينها وبين الطريق العام الذي يتجه جنوباً إلى بلدة القريّا، ولم تزل تلك الأرض تحمل اسم «أرض العامية» إلى اليوم، وهي عبارة عن مرج منبسط زحف إليه العمران الحديث.

وفي ص 419 من كتاب حوران في الوثائق العثمانية ترجمة الدكتور عبد الرحيم أبو حسين ما يفيد أن القرية شاركت بنشاط ضد الحملة العثمانية الظالمة لتي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910 وأن القوة العثمانية المرسلة إلى الجبل حينها انتقمت من قرية العفينة التي «تعرضت أثناء الاشتباكات لخراب كامل» ولم تزل مضافة عبد الكريم درويش التي اتخذها العثمانيون مركزاً للجندرمة (الدرك) ماثلة إلى يومنا هذا بشهادة معمري القرية. وفي ص 421 ما يفيد أنّ القرية (العفينة) قُصفت بالمدافع العثمانية مع «قرى الكفر وحبران وقنوات لمقاومتها القوات العسكرية…» إذ كان محمود درويش واحداً من قادة عصابات الثوار المقاومة للعثمانيين آنذاك، وذكر آل حمزة (وهم أصلاً من اعبيه) أن جدّ والدهم الشيخ أبو محمود حسن حمزة نفاه العثمانيون مع أسرته إلى الأناضول…

الشيخ عبد الكريم درويش يحصّل حق مسيحي عربي من الدرك العثماني
كان أبو طعمة رجلاً مسيحيّاً من حي باب توما في دمشق يربّي أبقاراً حلوبةً وعجولاً في القرية خلال الفترة الأخيرة من العهد العثماني في الجبل، ولما كان هؤلاء يجمعون فلولهم للهروب من وجه قوى الثائرين عليهم من الأهالي، وقد رفضوا دفع ما عليهم من دين بالليرات الذهبية لأبي طعمة، فقد لجأ هذا يشكو أمره للشيخ عبد الكريم درويش الذي وجد أمامه محراثاً بدائياً فك منه وصلة عصا طويلة وهاجم مخفر الدرك بها وأجبرهم على دفع حق الرجل قبل أن يغادروا القرية ليلتحقوا بالقوات العثمانية الهاربة من الجبل.
أمّأ في الثورة السورية الكبرى فإن قرية العفينة قدمت سبعة عشر شهيداً في معاركها خلال أعوام 1925 و1927.

آل حمزة وآل الهادي حملة بيرق العفينة

أوّل من حمل بيرق العفينة هم آل حمزة الذين استشهد منهم تحته، إسماعيل حمزة وآخرون منهم. خشي الشيخ أبو يوسف ملحم حمزة من انقراض رجال الأسرة فقام بالتنازل عن البيرق لآل الهادي بعد معركة المسيفرة التي جرت في 17 أيلول عام 1925 قائلاً: «هذا البيرق يلزمه رجال تحميه».

وقد حمل آل الهادي بيرق العفينة، وفي معركة رساس وأثناء القتال ضد الفرنسيين استشهد اثنان منهم تحت البيرق هما يوسف وحمود الهادي، فتناول البيرق في ساحة المعركة حسن خليل منذر، وقد بقي البيرق في حوزته مدة تسعين يوماً إلى أن أُعيد إلى آل الهادي تكريماً لهم.

طفل لبناني في العفينة ينجو بمعجزة من قصف الطيران الفرنسي!

«أيام من الثورة السورية في ذاكرة الشيخ أبو يوسف جميل الأشقر إثر مقابلة معه عام 2016»
في فترة الاحتلال الفرنسي تعرضت العفينة لقصف الطيران الفرنسي عقاباً لسكانها على أثر زيارة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش لدارة الشيخ عبد الكريم درويش عام 1925، وقد أصيب عدد من المنازل ومنها بيت الشيخ أبو إبراهيم سلامة طيفور الذي كان شيخاً ميسوراً وصاحب دار واسعة باحتها مبلّطة ببلاط حجري وكثيرون ممن يقدمون من لبنان يستأجرون عنده.

في ذلك البيت كان قد ولد في عام 1918 الطفل جميل الأشقر لأب هو حسين الأشقر كان يعمل على نقل القمح إلى جبل لبنان من قرية عرى وغيرها من قرى جبل الدروز على جمل له، وكان يرتاد مضافة الشيخ شبلي الأطرش وأخيه يحيى من بعده والأمير سليم الأطرش بعدهما، وكان هذا يحترمه لرجولته وطيب صوته وحسن غنائه، فكان واحداً من مرافقيه والفداوية من حوله.

كانت أم جميل في ذلك اليوم المشؤوم من صيف ذلك العام 1925 تعمل على غسل القمح تمهيداً لتنشيفه وطحنه وصنع الخبز منه، وإلى جانبها صغيرها جميل بن حسين الأشقر ذي السنوات السبع، ولكن الطيران الفرنسي لا يرحم فقُصفت الدار مع ما قصف من بيوت العفينة المتعاونة مع الثورة، وهُدمت دار جادالله درويش وشاء القدر أن يصاب الطفل جميل بشظية دخلت من فمه وخرجت من وراء الفك دون أن تكسر شيئاً من العظم، صرخت الأم مستنجدة «يا أبو إبراهيم» وهرب مَن في باحة الدار إلى الغرف واختبأ الصغير في الفرشة. لم يشعر الطفل بالإصابة بادئ الأمر، لكنه بعد قليل أحس دماً ينزف من فمه، هبّ من الفرشة وخرج للبريّة القريبة من الدار. الأب حسين كان في المقرن الشرقي يبيع عنباً على جمله، أمّا أخته «خزماء» فقد كُسرت رجلها وامرأة أخرى من آل الأشقر كانت قد هربت، عبر باب إحدى الغرف أصابتها شظية قنبلة فماتت من فورها…

انتقل كثيرون من أهل القرية على أثر القصف الجوي الفرنسي إلى المقرن الشرقي، إلى قرية شعف، ومن ثم إلى الشرق منها خربة القسطل حيث توجد هناك مغاور أزلية تحت الأرض، كان الطيران الفرنسي يقصف الدور التي تتواجد فيها الخيول، هناك في تلك الخربة النائية كلّ أسرة حملت معها الصاج والجاروشة حيث تتناوب الصبايا في جرش القمح لصنع الخبز الضروري للأسرة، وكان البَلاس (بساط لأرض الغرفة) مصنوع من شعر الماعز.

في ذلك المنأى كانت حقول القمح قد حُصدت، وكان الصغير جميل قد تعافى من جراحه. طُلب إلى ذويه أن يعمل في دَرْس القمح على المَوْرَج الذي تجره كديشة، ولم يلبث أن ظهر الطيران الفرنسي في الجو، هرب جميل إلى المغارة تاركاً المَوْرَج والكديشة التي تجرّه. ضربت الطيارة قنابلها فقتلت رأسين بقر وعجل وحمار.

الوالدة والأقارب من آل أبو حسن سليمان الأشقر لجأوا إلى مغاور عميقة في خربة القسطل. بعد خلو السماء من الطيران هَجُّوا إلى الوادي، كان الصغير يحمل بعض الحاجيات، هرب ورماها في عرض الوادي الجاف، عطش وليس من ماء، اضطرت امرأة أن تسقيه زيتًا، ومن الوادي رجعوا للقسطل، وذهب الصغير مع ذويه إلى قرية الرشيدة، فيها مياه وفيرة نقية كماء عين مرشد في لبنان، وفيها حجل كثير، ناموا ليلتهم في الرشيدة وفي اليوم التالي عادوا إلى قرية شعف، ومنها انتقلوا إلى بُصرى سافروا بالقطار إلى الشام، الأب والأم والابن والعمّتان خزماء وأدماء، والعم سعيد الأشقر، والعم محمود أبو علي الأشقر، ومنها بالقطار أيضاً إلى صوفر.

وصل جميل إلى الخريبة، فأصرّت جدّته السيّدة أم حسين زين الأشقر على إرساله إلى مدرسة المختارة، عند المعلم شفيق ناصيف، كانت المدارس حينها جديدة على حياة الناس، ولم يكن سوى أولاد ذكور منهم عبد الله أبو حمزة وعارف أبو حمزة ومحمود أبو حمزة ونصارى هم حليم عبود وسعيد أسعد نقولا، ثم جاءت بنات نصارى ودروز. ويستذكر الشيخ جميل الحياة في خريبة الشوف في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين «ستِّي حرمة ختيارة لا أحد عندها سواي، ليلة نسهر بالبيت وليلة عند قرايبنا، غُمر جرزون وراء الموقدة، والموقدة بلا قسطل، (بواري) كان عندنا موقدتان من الطين المجبول بالتبن، واحدة نشعل بها، والثانية تضع جدّتي فيها سراج كاز تشعل النار من السراج، ثم تطفئه مع ظهور النار.

كان الوالد حسين ينتقل بين جبل لبنان وجبل حوران، وكانت فترات جوع، جاء ومعه قمح، أرد أن يرمي بالبلوط الذي كنا نقتات به قبل وجود القمح، منعته الجدّة، إذ كانت تعمل منه خبزاً بعد طحنه. صار من طلع إلى جبل حوران ليقاتل هناك يعود بعد عام 1927، عاد الجد أما الوالد حسين فقد كان مشاركاً مع العصابات الثائرة، وعمل الفرنسيون على سياسة ترضية في السويداء، وصاروا يوظفون العديد من الشبان ويدفعون لهم معاشات مُجزية، ويوصلون الماء للعديد من القرى، وعينوا حمزة درويش قائمقاماً في صلخد، كما تم توظيف العديد من الطرشان، وفيما بعد عندما صار جميل شاباً زار جبل حوران بصحبة قريب له هو أمين علي الأشقر وزاروا حمزة درويش الذي رحّب بهم بقوله « أهلاً بأولاد عمنا»، وذبح لهم وزّتين، كما ذكر الشيخ أبو يوسف جميل أنّ له أقارب في قرية المشقوق منهم أبو محمود سلمان الأشقر وأنّ حمزة درويش زار لبنان، وكانت له فيه أهميّة كبيرة.

العفينة في معمعان الثورة السورية الكبرى 1925-1927

يذكر الشاعر صالح عمار أبو الحسن في كتابه «ديوان شعر شعبي» أسماء شهداء العفينة وهم: يوسف مكارم وحسين مكارم ونايف مكارم وإبراهيم غانم ومحمّد غانم وملحم غانم ونجم غانم ونجيب النمط وحمود أبو فخر ويوسف الهادي وحمود الهادي وحسين كحل ويوسف قرموشي وفارس الأشقر ويوسف العنداري وملحم حمزة وجادالله أبو عرب…

علياء المنذر والدة فريد وأسمهان أقامت في العفينة

أثناء إجراء التحقيق في قرية العفينة فوجئت بشهادات قدمها العديد من أهالي العفينة منهم الأستاذ نزيه درويش والأستاذ مقبل منذر وآخرون تفيد بأن السيدة علياء المنذر زوجة القائمقام في العهد العثماني سابقاً فهد الأطرش، ووالدة الموسيقار والمطرب فريد الأطرش وأخته أسمهان والابن الأكبر لهما فؤاد؛ قد أقامت مع أولادها شهوراً قليلة في العفينة؛ القرية التي يقطنها أقرباؤها من آل المنذر، ولم تزل آثار تلك الدار التي لجأت إليها علياء المنذر ماثلة في العفينة إلى الآن. ولا بدّ أن تكون تلك الفترة بعد عام 1922 إذ تقول شريفة زهور صاحبة كتاب «أسرار أسمهان..» ص 65 أن حادثة أدهم خنجر (التي تم على أثرها قصف قرية القريا المجاورة للعفينة بالطيران الفرنسي) استحثت علياء بمغادرة المنطقة إذ لم تكن مستعدة لاحتمال مرحلة ثانية من الأعمال الحربية في الجبل، فالمنطقة كانت حافلة بأحداث التململ الاجتماعي التي مهّدت للثورة السورية الكبرى عام 1925…

العفينة تصد عنها جيش الشيشكلي بمياه ينابيعها

في عام 1954 كان الدكتاتور أديب الشيشكلي قد أرسل حملة إلى محافظة السويداء لاعتقال سلطان باشا الأطرش إثر تأييده لمؤتمر حمص الذي طالبه بالعودة بسورية إلى الحياة الديموقراطية، وقد اجتاحت قوات الجيش آنذاك مدينة السويداء والعديد من القرى في طريقها إلى القريّا، فما كان من رجال العفينة، وكان الفصل شتاءً، إلاّ أن أطلقوا مياه ينابيعهم باتجاه الأرض السهلية الواقعة إلى جانب الطريق العام المتجه جنوباً إلى القريّا فعجزت الآليات الحربية من دخول القرية عندها أخذت قوات شيشكلي تطلق النار عشوائياً على القرية مما أدى لإصابة الشيخ عبد الكريم درويش واستشهاده بنتيجة ذلك العدوان في 28 كانون الثاني 1954.

اقتصاد العفينة: الزراعة وتربية الحيوان

تتبع قرية العفينة إلى منطقة الاستقرار الثانية من حيث تصنيف استعمالات الأراضي الزراعية وغير الزراعية، وتبلغ مساحة عموم أراضي القرية 1461,3 هكتاراً (أي:14613 دونماً)، أما مساحة الأراضي القابلة للزراعة فتبلغ 8551 دونماً، مساحة المروي منها 7 دونمات فقط، والباقي زراعة بعلية، وتشغل الأبنية والمرافق مساحة 250 دونماً والأراضي الصخرية والرملية مساحة 356,2 دونماً.

اهم المحاصيل الحقلية في العفينة:
القمح: ويشغل مساحة 90 هكتاراً، ويبلغ متوسط إنتاج القرية منه 90 طناً في السنة.
الشعير: ويشغل مساحة 70 هكتاراً ومتوسط الإنتاج السنوي 90 طناً.
الحمَّص: ويشغل مساحة 45 هكتاراً والإنتاج 18 طناً في السنة.
الجلبان: 2هكتار وإنتاجه 1,2 طن / سنة، والكرسنّة مساحة 3 هكتار وإنتاجه 1,8 طن / سنة.

الأشجار المثمرة
ومعظمها زراعة بعلية، وتشمل:
الزيتون السقي: ويشغل مساحة 31 دونماً عدد أشجاره 465 شجرة مردود الشجرة 12كلغ، وكمية الإنتاج 5,6 طن.
الزيتون البعل: يشغل مساحة 1265 دونماً وعدد الأشجار المثمرة 14563 وتنتج 87,4 طناً.
الكرمة: وتشغل 695 دونماً عدد الأشجار المثمرة 29500 إنتاجها 170 طناً.
الفستق الحلبي: ويشغل مساحة 316 دونماً وعدد أشجاره 4896 شجرة المثمر منها 3450 شجرة مردود الشجرة الواحدة 3 كلغ، ومجمل الإنتاج 10,4 طن.
التفاح: يزرع في مساحة 91 دونماً وعدد أشجاره 2246 المثمر منها 2200 مردود الشجرة 12 كلغ ومجمل الإنتاج 26,4 طن.
التين: يزرع في 180 دونماً عدد أشجاره 2449 كلها مثمرة، مردود الشجرة 12 كلغ ومجمل الإنتاج 29,4 طن.
اللوز البعل: يزرع بعضه سقياً في مساحة 39 دونماً وعدد أشجاره 585 شجرة مردود الشجرة 5 كلغ ومجمل الإنتاج 2,9 طن.
اللوز البعل: يزرع في مساحة 68 دونماً عدد أشجاره 1661 المثمر منها 1196 مردود الشجرة 3 كلغ وكمية الإنتاج 3,6 طن.
الجوز (بعل): مساحته 8 دونمات وأشجاره 160 شجرة مردود الشجرة 10 كلغ وإنتاجه 1,6 طن.
الرمان: يزرع متفرقاً في الحدائق والكروم وعدد أشجاره 318 شجرة مردود كل منها 10 كلغ ومجمل الإنتاج 3,2 طن.
الكرز: يشغل مساحة 3 دونمات وعدد أشجاره 419 شجرة مردود الواحدة منها 10كلغ وكمية الإنتاج 4,2 طن.
الدراق: مساحته 24 دونماً وعدد أشجاره 1339 شجرة المثمر منها 1284 شجرة مردود كل منها 10 كلغ، وكمية الإنتاج 12,8طن.
الإجّاص: مساحته 183 دونماً أشجاره 4551 شجرة مردود كل منها 10 كلغ وكمية الإنتاج 45,5 طن.
السفرجل: مساحته 11 دونماً وأشجاره 375 شجرة مردود الواحدة 10 كلغ وكمية إنتاجه 3,8 طن.
التوت: يزرع في مساحة 5 دونمات وعدد أشجاره 90 شجرة المثمر منها 70 شجرة.

الثروة الحيوانية:
الأبقار الحلوب: وعددها 160 رأساً منها 6 رؤوس أجنبية مستوردة، مجمل حليبها 597 طناً.
الأغنام: وعددها 1060 رأساً، مجمل حليبها 41 طناً.
الماعز: وعددها 28 رأساً، مجمل حليبها 2طن.
الدجاج: عدد الدجاج الفردي في المنازل 700 دجاجة، مجموع بيضها 54000 بيضة/ سنة.
طيور الحبش: 12 طيراً والحمام 180 طيراً.
المداجن: في القرية10 مداجن تنتج سنوياً 191000 فروجاً مجمل وزنها 382 طناً.

الاغتراب في حياة القرية

ساهم الاغتراب في تحسين حياة السكان في القرية، فأثره واضح في دور المغتربين وحياتهم، وهو إلى جانب الزراعة يشكل مورداً مهمًّا في حياة العديد من مواطني القرية ومن المغتربات التي يرتادها شبان العفينة: فنزويلا (سابقاً) وأستراليا وبلدان الخليج العربي وليبيا، ولبنان سابقاً، وسواها من البلدان خاصة بعد المحنة السورية منذ العام 2011 حيث تضيق سبل العيش بالمواطنين.

المدارس

توجد في القرية مدرسة ابتدائية واحدة يبلغ عدد تلاميذها 280 تلميذاً وتلميذة بتعليم مختلط. وكذلك مدرسة إعدادية عدد تلاميذها 150 تلميذاً وتلميذةً.
ويبلغ عدد المعلمين والمعلمات 50 معلّماً ومعلّمة.
يضاف إلى ذلك حضانة تابعة لمديرية التربية للأطفال تضم عشرين طفلاً وطفلة، وحضانة قطاع خاص تضم40 طفلاً وطفلة.

المحلات التجارية والحرفية

تتواجد في القرية عدد من المحلات التجارية منها خمسة محلات للخضار ومحل للنجارة وأربعة محلات للحدادة الإفرنجية، كما يوجد فيها خمسة صالونات للحلاقة الرجالي وثلاثة للكوافير النسائي.

الدوائر الرسمية والجمعيات

في القرية جمعية فلاحية وفرع لجمعية الهلال الأحمر ومقر للفرقة الحزبية «حزب البعث العربي الاشتراكي».
وقد أنشئت في القرية محطة تنقية مياه حديثة تعمل بطريقة تنشيط نوع من البكتيريا بحيث تصلح مياهها لري المزروعات والخضار. وتخدّم هذه المحطة قريتي العفينة وحبران.

دور العبادة

لا يعبأ الموحدون بتضخيم دور عبادتهم لله تعالى، فالمجلس / المسجد، عبارة عن بناء بسيط مكوّن من غرفتين كبيرتين واحدة للمتعبدين من الرجال وأخرى مثلها للنساء، مفروشة بسجاد وفرش بسيطة للجلوس، دون وسائد، بينهما ستارة، قماشية لنقل صوت القرّاء من الرجال يجتمع المتعبدون فيها مساء، ولِلَيلة الجمعة أهمية خاصة عندهم.

محميّة أرز الشوف

محميّة أرز الشوف من أكبر المحميّات اللبنانيّة مساحة وأكثرها روعةً وجمالاً تشتهر بغابات أرزها الثلاث في معاصر الشوف – الباروك – عين زحلتا وبَمْهريْهْ من خشبها بنى سليمان الحكيم هيكله الشهيروفيها أكبر تنوّع أيكولوجي.
مساحة المحميّة تعادل 5 في المئة من مساحة لبنان والمساحة المُحَرَّجة 235 هكتاراً…. والأراضي التي أعيد تأهيلها 150 هكتاراً
المحمية قامت بتدريب 2100 شخص ضمن برنامج رفع القدرات
عام 2019 وصل عدد زوار المحمية الى 118 ألف سائح
نجيم لـ “الضّحى” : هدفنا تشجيع البيئة وعودة الناس إلى أراضيهم
هاني لـ “الضّحى”: عاما الثقة بيننا وبين المنظمات البيئية العالمية جعل محمية الأرز الأولى في الشرق الأوسط.

ما أن تطلَّ على جبل الباروك، ذلك المدى الجمالي الممتد من ظهر البيدر إلى تومات نيحا، سواء أتيته من جهة الغرب حيث يشرف على قضائي الشوف وعاليه، أم لجهة الشرق، حيث البقاعان الأوسط والغربي و بحيرة القرعون درّة البقاع – لو لم يفقدها التلوث الكثير من خصائصها الجمالية – وجبل الشيخ الذي لا يغادره الثلج إلّا لماماً؛ فأنت أمام لوحة طبيعية تجلّت فيها عظمة الخالق ومهارة الإنسان الواعي، لوحة ممتدة من السحر والجمال قلّ نظيرهما، بل ندر في هذه البقعة الجغرافية من العالم؛ الجافة تقريباً.

يتمتع جبل الباروك بميزة خاصة تميّزه عن سائر جبال لبنان. فهو من حيث العلو متوسط الارتفاع إذ تبلغ أعلى قممه 2222 م عن سطح البحر، بطول يفوق الـ 50 كيلومتراً، وبغابات أرزه الثلاث، لعلها الأكبر والأجمل بين كل غابات الأرز في لبنان، تنتشر في مناطق معاصر الشوف، والباروك، وعين زحلتا – بمهريه. بمحاذاتها لجهة الجنوب طريق المعاصر – كفرَيّا الشهيرة، التي تربط الشوف بالبقاع ووادي التيم، بعد أن كانت قديماً تقتصر على الممر الجبلي عبر ثغرة مرستي. بإمكان الزائر أن يصل إلى تلك الغابات انطلاقاً من القرى المشارإليها، وبأقل من 20 دقيقة من الوقت، بعد أن يكون قد متّع نفسه بالمناظر الخلّابة في الاتجاهين، من الغرب حيث قرى الشوف وعاليه والإقليم. ومن الشرق حيث سهل البقاع الخصيب وقراه المترامية في كل مكان بين حرمون والباروك وعلى جانبي الليطاني، وبحيرة القرعون الشهيرة. هذا الامتداد الطبيعي والتاريخي لجبل الباروك جعله لفترة طويلة الدرع الواقي والسَّد المنيع لما كان يعرف بالإمارة الدرزية التي حملت أسماء من تعاقبوا على إدارة شؤونها فيما مضى، منذ أيام الأرسلانيين، إلى التنوخيين، إلى المعنيين والشهابيين، وصولاً إلى المتصرفية، قبل أن تتحول إمارة الجبل إلى الأساس في دولة لبنان الكبير سنة 1920. كذلك تجذّرت علاقة الأسرة الجنبلاطية التي تموضعت في القسم الجنوبي الشرقي من الإمارة، بجبل الباروك، والقرى الواقعة في سفوحه، أو ما كان يعرف بالشوف الحيطي، وذلك بحكم الموقع والأهمية، وما يحمله من رمزية تاريخية، فكان الاهتمام بغابات الأرز والمحافظة عليها أولوية بالنسبة إليهم، وخاصة أيام الشيخين علي وبشير جنبلاط وصولاً إلى المعلم كمال جنبلاط، فالأستاذ وليد جنبلاط الذي أولى غابات الأرز في الباروك والمعاصر وعين زحلتا – بمهريه عناية فائقة، وبات الإنجاز مرتبطاً بعنايته وسخائه وحرصه إلى حد كبير.

فمنذ تسلّمه المسؤولية السياسية، أولى وليد جنبلاط بيئة منطقة الجبل عامة عناية خاصة، وكانت ثرواتها الطبيعية شغله الشاغل، وبالأخص الثروة الحرجية، وغابات الأرز والسنديان، وكل النباتات والحيوانات البرية الموجودة في هذه المنطقة، في الاتجاهين الغربي والشرقي، مشدداً على العناية القصوى بالبيئة، وبعضها منع قطع الأشجار تحت طائلة المسؤولية.

قد يكون وراء اهتمام جنبلاط بالمحافظة على البيئة وعلى الجمالية الطبيعية التي تتميز بها منطقة الجبل نابعاً من حرص الأسرة الجنبلاطية على مرّ التاريخ بالمحافظة على هذه المنطقة التي كانت قاعدتهم السياسية، إلَّا أنها كانت بعد ذلك امتداد لتلك الثقافة البيئية التي أرساها المعلم الشهيد كمال جنبلاط ومارسها نهجاً وأسلوباً طوال حياته، لتنتقل من بعده إلى نجله الوليد. وجبل الباروك هو بعض قصيدة الشاعر شوقي بزيع التي ألقاها في نادي الإمام الصدر في صور بمناسبة أربعين المعلّم الشهيد، قبل أن يخلّدها الفنان العالمي مرسيل خليفه بصوته:

كأنما جبـــــل البــــــــاروك أذهـــــله
أن تنحني فمشى فــي نعشك الشجرُ
والثلج أفلت مــن حـــرّاسه ومشـــــى
وفـــي ثناياه من جُنــــح الرَّدى خَدرُ

بعد إرساء الدولة الأمن والاستقرار في البلاد في بداية التسعينيات، أنشأ وليد جنبلاط جمعية أرز الشوف، وهدفها العناية بغابات الأرز ثم أسس محمية أرز الشوف لترعى شؤون تلك الأماكن وتحافظ عليها وتصونها من التعديات، ومن جشع العابثين والطامعين.
زوار محمية أرز الشوف يجدون أنفسهم أمام خليّة نحل لا تهدأ، أو وزارة بيئة ناشطة بكل طواقمها بخلاف واقعها الحالي. فأنّى اتجهت تطالعك وُرَش التشذيب والتشحيل المنتشرة هنا وهناك، وفي أكثر من مكان، في الأحراج البعيدة وعلى جانبي الطرقات المعبدة والترابية. المهمةُ واضحة، ومحدَّدة: تنظيف المساحات الحرجية وتشذيبها من النباتات الطفيلية التي تفرّخ عادة حول جذوعها منعاً للحرائق أولاً، وإضفاء الطابع الجمالي والبيئي عليها ثانياً.

مدير المحمية الأستاذ نزار هاني أو ما تصح تسميته بـ دينمو المحمية، طاقةٌ لا تهدأ. فخيار تعيينه في هذا الموقع كان صائباً بكافة المقاييس. فهو الحاضر دائماً وفي كل مكان، والناشط دوماً في كافة المجالات، وهو المطّلع على كل شاردة وواردة في المحمية، يوزّع الوُرش ويعطي التعليمات ويتولّى بنفسه الإشراف على تنفيذ الأعمال. أينما تطلبه تجده، وكيف توجهت تلتقي به، في المكتب كما في الورش، وحيث لا تجده تجد بصماته واضحة في العمل الميداني المتشعب.

لذلك كلّه كانت زيارة “الضّحى” إلى بيت المحمية في معاصر الشوف متابعة لهذا التحقيق، للقاء رئيسها المحامي شارل نجيم، ومديرها الأستاذ نزار هاني. صودف وجود السيدة نورا جنبلاط في جولة تفقديّة لسير العمل في المحمية، ما يعكس مدى اهتمام وليد بيك والسيدة نورا بمواكبة فريق العمل ومتابعة كل المستجدات لتطوير المحمية وتحقيق الأهداف التي أنشئت لأجلها.

هيكل سليمان من خشب أرز الباروك

في المنحى التاريخي، يُجمع الباحثون، وعلماء التاريخ أنّ سليمان الحكيم قد بنى هيكله من أرز الباروك، بعد أن أمر بنقل أخشابه من جبل الباروك إلى صور عبر نهر الليطاني. وفيما يرى آخرون أن أخشاب الأرز التي استخدمت لبناء هيكل سليمان الحكيم نقلت من الباروك عن طريق القوافل التي كانت تمر آنذاك في وادي الباروك بتلون المختارة بمحاذاة مجرى النهر، وصولاً إلى مرج بسري، ومنه إلى نهر الأوّلي فصيدون، ومن هناك إلى حيفا لتنقل بعدها إلى القدس.

غابات الأرز

مدير المحمية نزار هاني الذي لا يحبذ الحوارات الصحفية، كما قال، تاركاً للمهام التي ينفذها أن تتحدث عن نفسها، لخّص في حديث لـ «الضّحى» الأسباب التي دفعت رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي الأستاذ وليد جنبلاط لتأسيس المحمية بهدف الحفاظ على غابات الأرز الموجودة ضمن نطاقها، هي عبارة عن غابات ثلاث متقاربة، ولكنها منفصلة وموزعة على أرض واقعة في نطاق بلدة عين زحلتا وبَمهريْهْ، والباروك ومعاصر الشوف. الجهة الشرقية من الغابة تشرف على سهل البقاع وتطل على مستنقع «عَمِّيق»، أمّا الجهة الغربية فتطل على منطقة الشوف. هذه الغابة يطبّق عليها قانون المحميات الطبيعية الذي يمنع الصيد البري بداخلها، كما يمنع قطع الأشجار منها واستثمار أراضيها، ودخول المواشي إليها وإشعال النار وحرق الأعشاب ضمنها. وقد حدّد القانون رقم532 حدود المحمية كما يلي: مشاعات تسع قرى. تشمل في قضاء الشوف مشاعات سبع قرى هي: نيحا – جباع – مرستي – الخريبة – معاصر الشوف – الباروك – عين زحلتا. وفي قضاء عاليه مشاعات قريتين هما: مشاعات بمهريْهْ وعين دارة. بالإضافة إلى ملك الدولة في الجانب الشرقي من جبل الباروك، وبذلك تمتد المحمية من تومات نيحا جنوباً، حتى عين دارة – ظهر البيدر شمالاً لجهتي الجبل الغربية والشرقية. يبلغ طول المحمية 50 كلم وعرضها 11كلم أي أنّ مساحتها تبلغ 550 كيلو متر مربع. ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 1000 و2220 م عند القمم العالية. وتحوي المحمية أكثر من 500 هكتار مكسوّة أرزاً، وفيها نحو 200 نوع من الطيور، و27 نوعاً من الثدييات البرية وأنواع مختلفة من النباتات البرية. تُعتبر هذه المحمية من أكبر المحميات في لبنان، ومن أغناها ثروة بيئية في منطقة الشرق الأوسط. تشرف على المحمية جمعية أرز الشوف التي تأسست سنة 1994. وفي العام 1996 أصدر مجلس النواب القانون رقم 532 الذي شرّع مشروع محمية أرز الشوف لجهة الحدود والمواد الجزائية والقانونية التي تحمي التنفيذ رسميّاً. وبتاريخ 25 آذار 1997 تم تعيين فريق عمل المحمية إيذاناً ببدء التنفيذ، ويتألف هذا الفريق من 11 موظفاً إدارياً ومرشداً وجوّالاً. ويتم تنفيذ مشروع المحمية على مراحل وفقاً لخطة عمل مسبقة ومن ضمن مشروع المحميات الطبيعية في لبنان بالتعاون والتنسيق مع وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة undp والاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة IVCN وبتمويل من مؤسسة التمويل العالمي GEF.

وعن الهدف من خطة المحمية أوضح هاني أنها تهدف الى تأهيل الغابات والسهول والأراضي الواقعة في نطاقها أيكولوجياً وإنمائياً، وصولاً إلى تصنيف المحمية بطريقة تحمي التنوع البيولوجي والموارد الطبيعية فيها من جهة، وإلى تأهيل الطرق والممرات وإقامة المنشآت لاستقبال زوار المحمية من لبنان ومن الخارج، لا سيما المهتمين بالسياحة البيئية. وهكذا سوف تشكل المحمية مورداً اقتصادياً هاماً يدعم استمرارية الحماية وإعادة التوازن الطبيعي وفتح الأبواب للسكان المحليّين خصوصاً والمحيطين بها، للعمل في قطاعات جديدة للخدمات وعن السياحية البيئية، يؤكد أنها ناشطة بصورة دائمة وفي مختلف الفصول. ومؤخّراً أُقيمت بحيرة اصطناعية داخل محمية أرز الشوف تتسع لنحو 4000 متر مكعب من المياه تم تنفيذها بتمويل من السفارة اليابانية في لبنان، تؤمّن استقرار الحياة البرية خاصة للغزلان والطيور في المحمية.

في العام 2005 أُعلنت محمية أرز الشوف والقرى المحيطة كمحمية محيط حيوي من قبل الأونيسكو. وأكثر ما تشتهر به المحمية هي غابات الأرز الثلاث، ويقدّر عمر بعض أشجارها بنحو 2000 عام.
تجاهد المحمية للوصول إلى ثلاث وظائف أساسية:
-حماية الكائنات الحيّة
-خلق فرص عمل للسكان المحليّين
-دعم البحث العلمي ومراقبة الأنواع والتوعية البيئية وتبادل المعلومات المتعلقة بالطبيعة.

ولتحقيق هذه النشاطات تحتوي المحمية على ثلاث مناطق: منطقة الحماية – منطقة العزل – منطقة التنمية. تضم المحمية 500 نوع من النباتات، 25 منها مهدّد على الصعيد الوطني والعالمي، و48 نوعاً مستوطناً فيها. المحمية هي مأوى لـ 32 نوعاً من الثدييات وأهمها الذئب والضبع والهر البري والخنزير البري.
المحمية منطقة هامة للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا وغرب آسيا. وفيها ما يزيد عن 250 نوعاً من الطيور، عدد منها مسجل في مستنقع عَمِّيق زواحف وبرمائيات، أحدها مُهدد بالانقراض على الصعيد العالمي، ونوعان منفردان، وآخران نادران.

هاني تحدث عن أهمية التواصل بين محمية أرز الشوف وكبريات المحميات المنشرة في العالم والمنظمات الدولية الداعمة لهذه الأنشطة عازياً السبب إلى الثقة المتباَدَلة بيننا وبينهم، بعد أن تيقّنوا أنّ المحمية متعاونة معهم إلى أقصى الحدود، إنْ لجهة الالتزام بتنفيذ المشاريع بدقة، أو لجهة تبادل الخبرات والمعلومات، وإنَّ محمية أرز الشوف اليوم تتصدركافة مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى العالم، فالتنسيق معهم قائم ومستمر، ويكاد لا يمر يوم من دون تبادل المعلومات والخبرات في تعاون مشرك. وهو ما ساعد على تطوير المحمية لتصبح في مصافي المحميات العالمية. إنّ عامل الثقة هو الأساس. وانطلاقاً من ذلك وصلنا إلى هذا المستوى الذي نحن عليه، وكل المشاريع التي يتم تنفيذها تُموَّل من الجهات المانحة والمنظمات الدَّوْليّة.

هاني كشف عن إنّ فريق عمل المحمية استفاد من مرحلة الإقفال بسبب جائحة كورونا، وقمنا بمبادرة التقاط آلاف الصور للطيور والحيوانات في نطاق المحمية لمراقبة طبيعة عيشها، وخاصة بناء الأعشاش بالنسبة لأنثى الطيور التي تضع بيضها فيها للتكاثر، وللاستفادة أكثر من هذه الدراسة تم تركيب كاميرات فيديو لتتبع كل حركة من لحظة تجميع الأعشاب إلى لحظة تفقيس البيض وطريقة إطعام العصفورة الأم لأولادها الزغاليل ومساعدتهم على النمو بعد أن يكسو أجسادهم الريش ويصبحوا قادرين على التنقل والطيران بهدف وضع دراسة علمية موثقة عن عملية التكاثر.

رئيس المحمية المحامي شارل نجيم لفت في حديث لـ”الضّحى” إلى دور المحمية في حماية البيئة وورش التشذيب القائمة بهدف الحفاظ على الثروة الحرجية ومنع حصول الحرائق، عبر تنظيف الأشجار على جانبي الطرقات، وشق طرقات إلى الأحراج البعيدة لتأمين كيفية الوصول إليها بسهولة ومن دون معوقات. بالإضافة إلى مساعدة المزارعين عن طريق فرم الأغصان وتحويلها إلى كمبوست لتسميد التربة بدل استخدام المواد الكيماوية، والعمل على تطوير البيئة. لافتاً إلى أنَّه من غير المسموح استخدام الأراضي الخاصة الواقعة في نطاق المحمية لغير المشاريع الزراعية، وتوسيع أقنية المنحدرات العالية وتجميع المياه في برك زراعية للاستفادة منها في فصل الصيف، وأشار إلى حملات التشجير التي لا تتوقف، وذلك بمساعدة خاصة من وليد بيك. متحدّثاً عن أكثر من عشرة آلاف غرسة من الأرز تمت زراعتها حتى الآن. وإنّ المحمية تشكل 5 بالمئة من مساحة لبنان، وإنها تتلقى المساعدات من USA و undp ، وأن كل المشاريع السياحية المَنْوي إنشائها من عين دارة إلى نيحا لا تتم من دون علم المحمية وموافقتها. نجيم لفت إلى أن هدف المحمية تشجيع الناس على العودة إلى الزراعة والمساعدة على استصلاح أراضيهم حتى ولو كانت موجودة خارج نطاق المحمية. كما تشجع المحمية على إقامة بيوت الضيافة وترميم المنازل الأثرية، وإعادة إحياء الممارسات القديمة، وإعادة تأهيل النظم الأيكولوجية وتشمل كل الأراضي حتى تصبح جزءاً من حياتنا اليومية التي يعتمد اقتصادنا المحلّي عليها.

برنامج المحمية ومشاريعها

من المشاريع التي أُنجزت ويتم العمل عليها بدقة من قبل فريق العمل، وما يهم إدارة المحمية لفت النظر إليها، بحسب ما أشار إلى ذلك نجيم وهاني، ما تضمنه التقرير السنوي للعام 2019 وهو:
نظام إيكولوجي بيو ديناميكي – حماية النظم الإيكولوجية – خطة الحماية والمراقبة – التدريب ورفع القدرات – السياحة البيئية والزراعة – التوعية البيئية والتسويق – التقييم البيئي الاستراتيجي والحدود – الشركاء – الأرقام – لجنة الحماية وفريق العمل.

وتحت عنوان نظام أيكولوجي بيوديناميكي

إشارة لما تشكله محمية أرز الشوف الطبيعية ومحيطها الحيوي من نموذج لتطبيق أهداف التنمية المستدامة، يمكن تعميمه على كافة المناطق اللبنانية، كما ويصلح تطبيقه في دول محيط المتوسط كافة.
وبناء عليه تعمل المحمية منذ سنوات على إدارة وإعادة تأهيل المشاهد الطبيعية، وبالتالي النظم الإيكولوجية كوحدة متكاملة ومترابطة ليجسد هذا المشهد البيوديناميكي، تفاعل الكائنات مع بعضها البعض.

تشكل غابات الأرز أساس هذا النظام الأيكولوجي المتكامل، لتكون قلبه النابض الحي، متصلة برؤوس الجبال العالية ( 1800 – 2000م ) عن سطح البحر، والتي تتعرض اليوم لأخطار التغير المناخي، مثل التعرية والجفاف من جهة والتغطية ببعض أنواع الأشجار من جهة أخرى. وسوف يؤثر ذلك على طبيعة المنطقة ويؤذي عشرات الأنواع من النباتات والكائنات التي بمعظمها متفردة للمحمية ولبنان. أما الأودية والسواقي، الشرايين الحية لكل حياة، فتمتد من قمم الجبال إلى الهضاب المحيطة مروراً بغابات الأرز وصولاً إلى الداخل المتمثل بغابات الصنوبر والسنديان والأراضي المفتوحة لتضخ المياه السطحية الى باطن الأرض والأجزاء المختلفة من هذا المشهد الطبيعي المتوسطي.

تشكل الأراضي الزراعية القائمة والمهملة اليد الممدودة لسكان هذه المنطقة، ونظراً لأهمية الدور الذي تلعبه في التنمية المحليّة وطرق العيش المستدامة، تسعى المحمية جاهدة إلى دعمها وتطويرها. منها الأراضي المروية، وبساتين التفاح والكرز، والفواكه والخضار المختلفة. والأراضي البعلية المزروعة بالتين والعنب والزيتون، ومنها أراض زراعية مهملة تعمل المحمية على إعادة تأهيلها من خلال برنامج الزراعة المستدامة الذي يرتكز على الزراعات البعلية، وقد تمكنت من تحديد ستة أنواع هي: السمّاق، الزعتر، التين، الصنوبر المثمر، الجوز والرمان. نظراً لقدرتها على التأقلم مع التغيرات المناخية، وبناء على دراستين للسوق ولسلاسل القيمة.

ولن تكتمل هذه السلسة وتترسخ دون مساهمة الإنسان. إنه الآن يبحث عن بدائل لممارسات أثبتت عدم جدواها وضررها على الصحة والبيئة. لذلك فهو مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى أن يضع يده بيد المحمية للسير قدماً نحو مستقبل أفضل وبيئة أفضل وحياة أفضل.

الحماية والإدارة المتكاملة للنظم الإيكولوجية

لخّص تقرير الخطوط التوجيهية لإعادة تأهيل الغابات والمشاهد الطبيعية خبرة المحمية ولبنان في هذا المجال، والذي هدف الى إدارة المشاهد الطبيعية كوحدة متكاملة من إرتفاع 800 م الى إرتفاع 2000 م لكي تستطيع هذه الغابات التكيف مع المتغيرات المناخية وزيادة خدمات هذه النظم لخير البيئة والإنسان، وخاصة المجتمعات المحلية في المحمية. كذلك فإن إصدار الخطوط التوجيهية لسياسات وقوانين إدارة الغابات والأراضي في لبنان، سوف يكون وسيلة تعريف وتوعية للسلطات المحلية وخاصة البلديات.

وَعْلُ الجبل

بدأت المحمية بمشروع إعادة وَعل الجبل إلى المحمية وبالتالي إلى لبنان، بناء على دراسة التقييم التي قامت بها مؤسسة أويكوس الإيطالية بالتعاون مع الخبراء المحليين، والتي وافقت عليها وزارة البيئة. أكدت المحمية على دور هذا الحيوان في إعادة التوازن إلى قمم الجبال وإبقاء أعالي الجبال التي تقع فوق خط الشجر خالية من الأشجار لتشكل معبراً للطيور والثدييات البرية خاصة في ظل المتغيرات التي تدفع بالغطاء النباتي للهجرة إلى ارتفاعات أعلى.

حصلت المحمية على أوّل دفعة من الوعول (12 رأس) من الأردن في تشرين الأول 2017 بالتعاون مع الجمعية الملكية لحماية الطبيعة ومحمية وادي رَمْ حيث تمت عملية النقل من مسيّج وادي رم – الأردن إلى مسيّج العميد كارلوس إدّه في عانا – البقاع.
وحالياً تعمل المحمية على نقل مجموعة ثانية من المملكة العربية السعودية وذلك بالتعاون مع الهيئة السعودية للحياة الفطرية، والسفارة السعودية في بيروت بهدف ضمان التنوع الجيني للمحافظة على هذه النوع لمدة طويلة بعد إطلاقه في الطبيعة.

وتحضيراً لاستقبال المجموعة القادمة من السعودية تمَّ إنشاء مسيّج في قرية الخريبة بمساحة 16 ألف متر مربع، ويتسع لحوالي (15 إلى 20 رأساً) ويعتبر المسيج جزءاً من بيت التنوع البيولوجي، ومركزاً إرشادياً من أجل التوعية وتعزيز تكاثر وعل الجبل.

الرّعي

يعزز رعي الماشية في محيط المحمية التنوع البيولوجي ويقلل من خطر الحرائق، ويحسن خصوبة التربة على المدى الطويل، وخاصة في غابات السنديان التي تعتبر مراعي غنية وخاصة بالنسبة للماعز الذي يعتمد على نظامه الغذائي على أنواع خشبية وخشنة أكثر من تلك العشبية. ومن أهم إيجابيات الرّعي أنّه يساهم بشكل كبير في تشحيل الأحراش وبالتالي التخفيف من المنافسة بين النباتات، إضافة إلى زيادة التنوع بنشر البذور في
الأراضي. ويُعتبر وجود الرعي مؤشراً إيجابياً للحياة البرية، إذ يحافظ على وجود الذئاب والضباع في الجبال والمحمية. إن إدارة خطة الرعي في الأراضي التي تحتوي أحراش السنديان وإعادة إحيائها لا يقتصر فقط على أعداد الحيوانات الرعوية في المنطقة بل يعتمد أيضاً على الموسم والفصل المتعلق بنمو الشجر.

في العام 2011 تم العمل على تقييم الأنشطة من أجل وضع خطة متوازنة بين ما بين الأراضي المحمية والأراضي الرعوية وترسيم هذه المناطق للبدء بالعمل على تدوير الرعي. وبعد عدة اجتماعات وزيارات ميدانية إلى الرعاة تبين أنه خلال الـ 30 سنة المنصرمة انخفض العدد إلى أقل من النصف في مناطق الباروك – عين زحلتا – بمهريه حيث كان يقدر عدد الرعاة بـ 30 راعياً، أمّا اليوم وبناء على دراسة التقييم التي أُعدّت خلال العام 2019 تبين أن عدد الرعاة لا يتجاوز ستة رعاة، وعدد الماعز حوالي 6000 رأس. أمّا في منطقة البقاع المحاذية لمحميّة عَمِّيق – عانا – قب – الياس، تبين أن عدد الرعاة بلغ حوالي 19 وعدد رؤوس الماشية 9000.

حماية الكلاب الشاردة

بعد تزايد خطرها وبمبادرة من الأستاذ وليد جنبلاط في سبيل حماية الكلاب الشاردة قدم فريق عمل المحمية الدعم التقني لإنشاء مأوى لهم في منطقة بدّة – جديدة الشوف يحيطه مُسَيّج. وفي أواخر شباط 2019 تم تأهيل مأوى آخر مع مسيّج من قبل اتحاد بلديات الشوف السويجاني في منطقة الصليب وتوظيف أربعة شبان لهذه المهمة.

التّحريج

بهدف زيادة رقعة الغابات والمساحة الخضراء وبخاصة غابات الأرز، يتابع فريق المحمية نشاطاته في مشاريع التحريج، وقد بلغت المساحة المحرَّجة منذ العام 2012 حتى العام 2019 ما يزيد عن 235 هكتاراً بما يعادل 188 ألف غرسة موزّعة على 24 موقعاً في معظم قرى المحمية. في العام 2019 تم زرع 22 ألف غرسة من أنواع حرجية ذات قيمة اقتصادية مثل الصنوبر المثمر واللوزيات على الارتفاعات الأدنى. إنّ نسبة النجاح في معظم مواقع الزرع كانت جيدة وصلت إلى 9 بالمئة خاصة في نيحا – جباع – مرستي في المقلب الغربي للمحمية، وبلدة عيتنيت في المقلب الشرقي.

إدارة الكتلة الحيوية

استكملت هذا العام عمليات تشحيل وتنظيف الغابات بالتعاون مع البلديات، وبإشراف وزارة الزراعة من خلال مراكز الأحراج المحيطة بالمحمية لتشمل نحو 43 هكتاراً من أحراج الصنوبر والسنديان. أمّا في ما يتعلق بمخلفات تقليم الأراضي الزراعية، فقد تم تجميع وفرم 400 طن من جانب نحو 130 مزارعاً. وذلك بالتعاون مع التعاونيات الزراعية في مرستي، والمعاصر، وبطمة، وعين زحلتا، والباروك، وبمهريه. واعتُبر هذا تقدماً جيداً في إطار التخفيف من أسباب حرائق الغابات حيث اعتاد المزارعون حرق تلك الفضلات. يتم استخدام النشارة الناتجة عن تنظيف الغابات والفضلات الزراعية لإنتاج الحطب المضغوط في معمل «السيمي» الذي تم تحديثه في العام الفائت بمعدات إضافية ساعدت على مكننة العمل وزيادة إنتاجه، حيث أنتج هذا العام حوالي 300 طن حطب. إنّ اللافت في هذه العملية هو تعاون ومساهمة المزارعين في تقديم الأراضي الخاصة بهم لاستخدامها في عملية الجمع والتسبيخ، وكذلك مساهمتهم بفعالية في تجميع الكتلة الحيوية الناتجة عن التقليم في الأماكن المحددة لعمليات التسبيخ.

الزراعة المُستدامة

لإدارة أفضل لمحيط المحمية تم إعداد خارطة طريق نحو زراعة مستدامة في محيط محمية أرز الشوف، بالتعاون مع المزارعين والتعاونيات الزراعية في المنطقة، هدفت هذه الخطة إلى إعادة تأهيل الأراضي الزراعية المهملة التي تقع في محيط المحمية باستعمال أنواع محلية ذات قيمة اقتصادية، وبممارسات زراعية مستدامة صديقة للبيئة تضمن هذه الأراضي تأمين الممرات الإيكولوجية للأنواع البرية التي تنتقل إلى ارتفاعات أدنى في فصل الشتاء، وكذلك تؤمن هذه الزراعات مدخول جيد لأصحاب هذه الأراضي، إذ إنّ الأنواع والممارسات المستدامة تتكيف مع التغيرات المناخية ولا تحتاج إلى الأسمدة الكيميائية.

في العام 2019 تم تأهيل 36،23 هكتاراً من الأراضي الزراعية المهملة بناء على هذه الاستمارة وعلى الارتفاعات الأعلى، تم إنشاء أحواض ترابية أو جلول صغيرة (1 الى 2 م) من الجهة الخارجية، وبموازاتها تم حفر أحواض صغيرة لتكون بمثابة خنادق لجمع مياه الأمطار من جهة الجبل. كما زرعت هذه الأحواض الترابية بأنواع محلية مثل السماق والعنب والكرز والصعتر والحبوب وغيرها ونُفّذت هذه التجربة في قرية مرستي، بالإضافة إلى ذلك تم إعادة تأهيل 25 هكتاراً من الأراضي الزراعية في قرى المحمية في الشوف والبقاع الغربي، من خلال مشروع سبل العيش المموَّل من الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ) والمدعوم من برنامج التغذية العالمي(wfp) ليصل مجموع الأراضي المُعاد تأهيلها إلى 150 هكتاراً بين عامي 2017 و2019. بالإضافة إلى ذلك قامت المحمية من خلال المشروعين بتوزيع 70500 غرسة من الأنواع الست: الصعتر، والسماق، والتين، والعنب، والرمان، والصنوبر المثمر، وأنواع أخرى كالجوز، والورد الجوري والزعرور، والكرز وغيرها على المزارعين والتعاونيات الزراعية.

إدارة المياه

في ظل تغير المناخ وندرة المياه الناتجة عن ذلك، ومن أجل حماية طبقات المياه الجوفية وموارد المياه السطحية، ومعالجة النقص المتوقع في المياه وقلة كمية المتساقطات، تم إعادة تطوير تقرير لتقييم المياه العذبة في محمية أرز الشوف المحيط الحيوي بمساعدة تقنية من شركة «مورز» ضمن مشروع الموزييك المتوسطي والمموَّل من مؤسسة مافا السويسرية، ويتم العمل على إعداد مرجع توجيهي لإدارة المياه والتعويض عن الخسائر الناجمة والناتجة عن التغير المناخي.

تتميز منطقة الشوف بطبقات المياه الجوارسية الكارستية التي تسمى بطبقة المياه الجوفية. والجدير بالذكر أنّ إحدى طبقات المياه الجوفية الرئيسية في لبنان موجودة في الباروك، ونيحا، وفقاً لتقرير مجموعة ANTEA الفرنسية التي تم إصداره في العام 2017. تتكون هذه الطبقات بشكل أساسي من المياه الجوفية التي التي تجري في أكثر من 200 نبع في المنطقة. تصب هذه الينابيع في نهر الليطاني، وفي الدامور والأولي، وتزوّد عدداً كبيراً من البلدات، وتساهم المحمية في حماية جودة وكمية هذه الينابيع من خلال صونها وحمايتها من الانتهاكات والتلوث. وعليه، كانت هناك حاجة ماسة إلى اتخاذ تدابير وإجراءات لتحسين إدارة الموارد المائية ومجابهة التحديات القادمة. لذلك نظمت المحمية العديد من الزيارات الميدانية مع الخبراء لدراسة جيولوجية أفضل للتضاريس وموارد المياه السطحية، والممارسات الزراعية المعتمدة، وكذلك دراسة مخاطر تلوث المياه وسوء إدارتها، أبرزت جميعها الحاجة إلى تحسين الإدارة المحلية لقطاع المياه لدعم توفرها وحمايتها واستدامتها، ومعالجة:
– زيادة نسبة تلوث موارد التربة والمياه.
– إهمال الزراعة على المرتفعات.
– ضرورة إعادة تأهيل وتطوير التكيف مع التغير المناخي.
– ندرة المياه السطحية في المرتفعات في ظل نزوح الحيوانات إلى المرتفعات العالية.
– الضخ المستمر للمياه الجوفية عبر الآبار حتى على المرتفعات.
– غياب الوعي الكافي وعدم إدراك السلطات المحلية والسكان لهذه المخاطر.

خطة الحماية والمراقبة

بناء على المعلومات المتوافرة من خلال قاعدة بيانات نشاطات المحمية ومراقبة التنوع البيولوجي، يتم تسيير الدوريات بحسب جدول أسبوعي يتم إعداده من قبل منسق الحماية وموقع من مدير المحمية يبين مسار الدوريات واتجاهها للتأكد من تغطية كافة أجزاء المحمية بحسب خصوصية كل فصل من الفصول الأربعة. كذلك فإن أعمال الحماية مرتبطة ارتباطاً وطيداً مع البيانات العلمية الخاصة بالتنوع البيولوجي.

التدريب ورفع القدرات

ضمن برنامج رفع القدرات العلمية الذي تعمل عليه محمية أرز الشوف وخلال العام 2019 تم التنظيم والمشاركة في حوالي 75 ورشة عمل تدريبية لحوالي 2100 شخص من المجتمع المحلي وتضمنت التدريبات المواضيع التالية:
-الزراعة الإيكولوجية والتحريج وإعادة تأهيل النظم الإيكولوجية.
– إنتاج المزروعات والزراعة المستدامة والبيو ديناميكية.
– ورش حول التكييف مع المتغيرات المناخية في المحمية ومحيطها الحيوي.
– السياحة الزراعية
– بناء الجدران وفحص التربة وأخذ العينات.
– التوعية والتربية البيئية.
– مكافحة الحرائق وإدارة النفايات العضوية والصلبة.
– الإرشاد السياحي.
– التصنيع الزراعي من المربيات والمخللات وغيرها.
– كيفية دعم الصادرات الزراعية.
– العناية بالأشجار والنباتات العطرية.
– النظام الجغرافي للمعلومات GIS ونظام المبيعات POS.
بالإضافة الى المشاركة بحوالي 30 ورشة عمل على الصعيد الوطني والإقليمي والدَّوْلي.

السياحة البيئية والزراعية

استقبلت المحمية في العام 2019حوالي 118 ألف سائح من محبِّي الطبيعة وممارسي النشاطات المتنوعة والمتاحة، وأهمها السير على الممرات داخل الغابات والتعرف على النباتات والأشجار ومراقبة الطيور والحيوانات والمشي على الثلج وقطف العسل ومراقبة النجوم. بالإضافة إلى نشاطات التوعية البيئية الموجهة إلى طلاب المدارس والجامعات.

للمحمية 6 مداخل رئيسية: مدخل غابة أرز عين زحلتا – بمهريه، مدخل غابة أرز الباروك، مدخل غابة أرز معاصر الشوف مدخل قلعة نيحا، مدخل جباع، مدخل مرستي الذي ما زال قيد الإنشاء. الجدير ذكره أن جميع هذه المداخل متصلة مع بعضها البعض عبر شبكة دروب يصل طولها إلى حوالي 48 كلم أهمها:
– درب وادي نهر الباروك – المختارة 2012.
– درب السنديان الروماني – مرستي 2015.
– درب الباروك – الفريديس الوطني 2017.
– درب الإدارة المستدامة للغابات – الباروك – بتلون – معاصر الشوف – بطمة.
– درب قب الياس- وادي الدّلب التاريخي والأثري 2019.
– درب الوزّال في قرى مرستي – الخريبة -المعاصر 2018 – 2019.
– درب الينابيع عين زحلتا – نبع الصفا 2018 – 2019.
– درب بعذران الطبيعة والتراث 2018 – 2019.
– درب عيتنيت التاريخي والأثري 2018 – 2019.
– درب الحجل جباع الشوف 2018 – 2019.
– الدرب النباتي BOTANICAL TRAIL.

التوعية البيئية والتسويق

يبدأ الوعي البيئي حين يدرك الفرد أهمية المحافظة على البيئة، ومنع تلوثها، واستخدام مواردها بطريقة مستدامة، والتصدي إلى المخاطر التي قد تتعرض لها.

من هذا المنطلق تسعى محمية أرز الشوف دائماً إلى إشراك المجتمع المحلي في الحياة البيئية ورفع الوعي حول أهمية التنمية المستدامة، من خلال الحملات والأنشطة التثقيفية لطلاب المدارس والجامعات والمنشورات التوعوية، والتعاون مع الجمعيات البيئية المحلية والعالمية ورعاية الأنشطة المرتبطة بالبيئة والسياحة البيئية في قرى المحمية، وشمل برنامج التوعية البيئية التي تقوم به محمية أرز الشوف كل سنة عدداً من المدارس المحيطة بالمحمية حيث يتعرّف الطلاب على أهداف التربية المستدامة بطريقة مفصلة وتطبيقية. في هذا الصدد تعرّف 920 طالباً على التسبيخ ( الكومبوست) وفرز النفايات. كما نظمت المحمية نشاط الباسبور الأخضر الذي شارك فيه 50 طفلاً تعلّموا على كيفية المحافظة على الغابات والمياه والحياة البرية. كما نظّمت سباق الطبيعة، وتم الاتفاق مع بلدية الخريبة على تحويل مبنى الطوارئ إلى بيت للتنوع البيولوجي وإلى جانبه تم إنشاء مُسيّج لاستقبال وعل الجبل.

التسويق

عملت محمية أرز الشوف خلال العام 2019 لتسويق المنطقة كوجهة للسياحة البيئية المستدامة من خلال المقابلات الإعلامية، والمقالات، والمعارض المحلية والعالمية، ووسائل لتواصل الاجتماعي.

بالإضافة إلى ذلك تم إنشاء سوق الزراعة المستدامة في الباروك الذي يهدف لتسويق المنتجات الزراعية، من خضار وفواكه، ومونة بيتية وحرف يدوية.
التقييم البيئي الاستراتيجي والحدود

انطلاقاً من الحدود الإدارية الموضوعة للمحمية والدراسة التي أُعدت في العام 2017 بهدف ترسيم وتحديد حدود المحمية، بدأت المحمية من العام 2019 بالتعاون مع شركة «مورز» ومهندس التنظيم المدني سيرج يازجي بمراجعة حدود المحمية وإعداد تقرير التقييم البيئي الاستراتيجي وتحديد مصادر المياه الجوفية والينابيع الموجودة بالإضافة إلى المواقع الأثرية. وبناء عليه سيتم وضع المخطط التوجيهي العام، والمخطط التفصيلي للمنطقة الحزامية المحيطة بحدود المحمية (500 م).

الشّركاء

تتعاون وتعمل المحمية بالتعاون مع عشرات الشركاء محلّياً وإقليمياً ودولياً، على سبيل المثال لا الحصر البلديات، والتعاونيات الزراعية، والوزارات المختلفة، خاصة وزارة الزراعة، ومصلحة الأبحاث الزراعية، والجمعيات وشركاء التحريج في لبنان واليونيسكو، وبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي.

وكان من نتائج هذا التعاون مجموعة من المشاريع أهمها:
– حماية النظم الأيكولوجية والمشاهد الطبيعية، وترسيخ العادات التقليدية في الشوف والبقاع الغربي الممول من «مافا» يركز على المعرفة العلمية والرعي، وإعادة تأهيل المدرجات الزراعية، والتوعية والتعاون مع مؤسسات محلية ومتوسطية.
– فسيفساء منطقة البحر الأبيض المتوسط والممول من «مافا» ويركز على الإدارة المستدامة للغابات والتعاون مع مؤسسات متوسطية ومن خلاله تم إعداد دراسة تقييم المياه الجوفية في المحمية ومحيطها، وكذلك تقرير التقييم البيئي الاستراتيجي.
– إعادة تأهيل ودعم الأنشطة والأنظمة الزراعية التقليدية بهدف التطوير الاقتصادي والحفاظ على البيئة في محمية أرز الشوف الممول من مكتب التعاون الإيطالي بالتعاون مع جمعية OIKOS ويركز على الزراعة وسلاسل القيمة.
– مشروعان من خلال برنامج سبل، العيش يتمحوران حول الاستدامة والتدريب على الأعمال التي تخفف من آثار تغيير المناخ، بما في ذلك إدارة الغابات والكتلة الحيوية والتحريج والسياحة المستدامة بالإضافة إلى التصنيع الزراعي من المربيات. والمخللات، والتوعية البيئية. وقد تم تنفيذ المشروعين في عدد كبير من قرى الشوف وفي قرية عيتنيت في البقاع الغربي حيث عمل في هذا الحقل ما يفوق عن 500 عامل وعاملة من اللبنانيين والوافدين السوريين.
– أعمال تحريج ذات فائدة اجتماعية وبيئية في محمية أرز الشوف والمحيط الحيوي. الممول من الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع وزارة الزراعة.
– زراعة يركز على التحريج وتشكيل لجان بيئية في قرى المحمية كافة من خلاله تم إعداد الخطوط التوجيهية لإعادة تأهيل المشاهد الطبيعية والخطوط التوجيهية لسياسات وقوانين إدارة الغابات والأراضي في لبنان.أمّا الشركاء الفعليون فهم وزارة البيئة، وبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي اليونيسكو، وبلديات قرى المحمية، والتعاونيات الزراعية والجمعيات، والمخاتير والمتطوعون من كافة الأعمار والاختصاصات. كذلك وزارات الزراعة والسياحة والداخلية والبلديات، والدفاع المدني، والصليب الأحمر، ومجلس الإنماء والإعمار وجمعيات حماية الطبيعة والثروة الحرجية والتنمية وجبلنا، والمحميات اللبنانية الأخرى، ودرب الجبل اللبناني، وسوق الطيب، والدروب المحيطة بالمحمية، والجامعات ومراكز الأبحاث. كذلك بنك بيبلوس وطيران الشرق الأوسط، وفتّال وموزرن ومياه نسلة، وبنك البركة، وشركة MSI والشركاء الإقليميون والدوليون.

خلاصة

وبعد، فمحمية أرز الشوف مثال حيّ لقدرة الإنسان على إعادة التوازن لحياته، من خلال إعادة التوازن لبيئته الطبيعية أوّلاً، ثم الاجتماعية. إلّا أنّ ذلك لا يتحقق إلّا بنماذج من الوعي والإخلاص اللذين شاهدناهما في تأسيس المحمية، في متابعتها، والعناية بها، فباتت أرثاً وطنياً وإيكولوجياً لهذا الجيل كما للأجيال القادمة.
شكراً لكل من بذل جهداً في تأسيس هذه المحميّة وفي حمايتها وتطويرها، من شركاء لبنانيين ودوليين: نموذج عسى يجد ما يشبهه في مناطق لبنان وبلاد العرب كافة.


تكريم مدير محميّة أرز الشوف الأستاذ نزار هاني

للمرة الأولى في لبنان يتألّق مدير محميّة أرز الشوف كمنارة للأمل من لبنان.
بتاريخ 26 آب 2020 وفي حفل جرى عبر مواقع الإنترنت برعاية الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN) واللّجنة العالمية للمحميات الطبيعية (WCPA) ، تم تقديم جائزة كينتون آر ميلر المرموقة والقيّمة للابتكارات الجديدة في المتنزهات الوطنية واستدامة المحميات الطبيعية إلى نزار يوسف هاني من محمية أرز الشوف الطبيعية في لبنان وبيدرو إستيفاو موغورا من منتزه جورونجوسا الوطني في موزمبيق.

إنّ هذه الجائزة هي بمثابة تكريم لأفراد يتخذون خطوات جريئة ومثمرة لضمان استدامة المحميات الطبيعية. الجائزة تحمل اسم الدكتور كينتون آر ميلر الذي كان المدير العام للاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN) عام 1983 حتى 1988 ورئيس اللّجنة العالمية للمحميات الطبيعية WCPA لثلاث دورات. وتُعتبر الجائزة تكريماً لإرثه الباهر المتمثل في تعزيز المعرفة، وتوجيه وإرشاد القادة في مجال صون الطبيعة والحفاظ على التنوع البيولوجي في جميع أنحاء العالم.

نزار يوسف هاني: ولد في العام 1976 في بعذران الشوف. تخرّج من الجامعة اللبنانية بدرجة ماجستير في العلوم الزراعية. بدأ العمل في محمية أرز الشوف الطبيعية كمنسق علمي في العام 2000، وأصبح مديرها العام في سنة 2010.

قاد نزار هاني برنامجًا شاملاً تعدى كونه يسعى إلى الحفاظ على غابات الأرز والحياة البرية في جبل لبنان، ليعمل على لإعادة تأهيل المشاهد الطبيعية، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة وتنمية المجتمع، والتكيف مع تغيّر المناخ، والعمل على التسوية السلمية للنزاعات.

ولقد ساهمت هذه الجهود في تحويل محمية أرز الشوف الطبيعية (التي تغطي 550 كيلومترًا مربعًا، أي أكثر من 5٪ من مساحة لبنان) إلى نموذج عالمي للتنمية البيئية والاجتماعية والاقتصادية المتكاملة، يحتل موقع الصدارة في مجال الحفاظ على البيئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

بالإضافة إلى برنامج حماية الطبيعة الذي يشمل عمليات إعادة التشجير ومراقبة الحياة البرية والمحافظة عليها، فلقد تمكنت المحمية منذ إعلانها محمية محيط حيوي في العام 2005 من اعتماد منهج تشاركي أدّى إلى إدماج القرى الـ 22 التي تشكل المنطقة التنموية للمحمية في إدارتها، وإلى تبني سكانها وقياداتها وسلطاتها المحلية للقرارات والمشاريع كافة. وبالتالي تمكنت من تطوير فرص ريادة الأعمال للسكان المحلّيين من خلال السياحة البيئية والخدمات المتصلة بها، والزراعة المستدامة وكل ما ينتج عنها، والتنمية الريفية من خلال تحسين جودة المنتجات المحلية ممّا أدّى إلى خلق فرص عمل وبناء قدرات مع إيلاء اهتمام خاص بالنساء والشباب. أدّى كل ذلك إلى توليد الإيرادات بشكل ملحوظ، مع الحفاظ على التراث الثقافي القائم.

عند تسلمه الجائزة قال الأستاذ هاني: «في الشوف، الطبيعة هي أساس سبل عيشنا وقدرتنا على الصمود. تشرفت وسعدت كثيرًا بهذه الجائزة التي تعترف بالعمل الذي استمر لعقود من الزمن شاركت خلاله مع زملائي في الحفاظ على أرزنا وإحياء تراثنا الزراعي والثقافي التقليدي».

محمية الشوف المحيط الحيوي

محمية أرز الشوف: المحمية الأكبر في لبنان التي أعلنت في العام 1996، تبلغ مساحتها حوالي 160 كلم 2، وهي تحتوي على 30 % من غابات الأرز المتبقية في لبنان والتي تنتشر في غاباتها الثلاثة:
غابة أرز عين زحلتا – بمهريه، غابة أرز الباروك وغابة أرز معاصر الشوف.

في العام 2005 أعلنتها منظمة اليونيسكو مع القرى الـ »22« المحيطة بها، محمية محيط حيوي لتغطي مساحة حوالي 500 كلم 2 أي حوالي 5% من مساحة الوطن.

إنّ ما يميز هذه المحمية في محيطها المتوسطي، بالإضافة إلى تنوعها البيولوجي الغني جداً والذي يتطور بشكل ملفت في عودة اللبونات المتوسطة الحجم وأهمها الذئاب والوشق، وإشراكها للمجتمع المحلي وعلاقتها الوثيقة به، حيث أنها تدار من قبل أهلها ولجنة محلية تحت مظلة وإشراف وزارة البيئة الراعية لكل المحميات الطبيعية في لبنان والتي أصبح عددها 15 محمية. تعمل محمية أرز الشوف للوصول إلى رؤيتها من خلال أربعة أهداف عريضة:
– حماية الطبيعة والمحافظة على الكائنات الحية.
– دعم السكان المحلّيين بطريقة مستدامة.
– وضع المحمية على خارطة المحميات العالمية.
– بناء قدرات فريق العمل وتعزيزها.

إصلاحُ النّظام الترّبويّ

كان مطلب الإصلاح في لبنان، على الدوام، جزءاً من كل خطاب سياسي، وفقرة في البيان الوزاري الأوّل لحكومة الرئيس رياض الصلح الاستقلالية في تشرين الثاني سنة 1943، وصولاً إلى آخر بيان وزاري قبل بضعة أشهر.
وتوالت بعد ذلك مطالب الإصلاح وتحوّلت جزءاً دائماً في كل خطاب وبيان، وأخيراً شرطاً عربيّاً ودولياً للمساهمة في إنقاذ لبنان من أزمته الراهنة الخانقة.

إلّا أنّ القارئ لكل خطاب إصلاحي مقترح سيلاحظ أن كل الأوراق الإصلاحية المُقدّمة، دون استثناء، قد غرقت في مجالات مالية وإدارية وسياسية، واقتصادية إلى سواها. ومع أهمية المجالات تلك، والحاجة المُلحّة إليها؛ إلا أنّ أيّاً منها لم يُشِر إلى الصلة الجوهرية والحاسمة بين الإصلاحات المطلوبة للنظام السياسي اللبناني والإصلاح التربوي تحديداً، وهو في أهمية الإصلاحات الأُخرى، بل نزعُم أنّ كل إصلاح لا يبدأ أو يستند إلى نظام تربوي وطني حديث، هو إصلاح سطحي، مؤقّت، سرعان ما يستنفد فاعليته بعد سنوات، لتعلو الصرخة إلى الإصلاح من جديد.

غير خفي على عاقل أو باحث أنّ حقلَي التعليم والتربية، معاً، هما من دون رَيب مفصل أساسي في كل نظام سياسي، أو اجتماعي، في كل مكان وزمان. إلّا أن النظام التربوي ذاك اكتسب في لبنان أهمية إضافية للنظام السياسي المُهَيمن منذ فترة طويلة، والقائم على مرتكزات طائفية وطبقية في آنٍ معاً.

حقل التربية والتعليم هو المكان الذي جرى، وتجري فيه، عملية إعادة إنتاج النظام السياسي الطائفي على نحو يكفل استمراره. هذا هو المسكوت عنه في الخُطَب والبرامج السياسية اللبنانية الراهنة.

لذلك فكلّ سعيٍ لإصلاح النظام السياسي في لبنان (ومعه النظام الاجتماعي وحتى الاقتصادي) باتجاه نظام سياسي مدني، تعدُّدي، ديمقراطي، حديث (كما يشتد الكلام فيه اليوم) يجب أن يبدأ برأيي بإصلاح النظام التربوي فيه. أمّا من دون ذلك فالتغيير سطحي، آني، وغير مستدام. ولكن كيف؟
عمليّاً، على نحو محدّد، ومن دون مُقدَّمات نظرية، يجب العمل في لبنان، إذا كنّا راغبين بإصلاح تربوي حقيقي، على سبعة محاور أساسية متلازمة ومترابطة:
1- تعزيز ثقافة الانتماء لوطن واحد، من خلال توحيد كتب: التربية الوطنية، التاريخ، والجغرافيا، وجعلها بلغة البلاد الرسمية، العربية، وبما يعزز ثقافة المواطنة والانتماء متساوين إلى وطن واحد. فكيف نكون وطناً واحداً وناشئتنا تتداول أكثر من تاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، وبأكثر من لغة، بل وبغير اللغة الوطنية للبلاد؟ هذا غير موجود في أي بلد آخر! وذلك لن يتحقق إلّا بإلزامية التقدّم إلى البكالوريا اللبنانية لكل طالب يدرس البكالوريا على الأراضي اللبنانية. لغة التدريس والامتحان، هي من الأهميّة بمكان. وأياً تكن مكاسب تعدد لغات التدريس، إلّا أنها ستكون على حساب وحدة الانتماء الوطني.

2- تعزيز التعليم العام في لبنان، من خلال تعزيز المدرسة الرسمية، مناهج ومدرسين وأبنية مدرسية وتجهيزات حديثة، وتعزيز الجامعة اللبنانية الوطنية من خلال تحريرها من الفاسدين والفاشلين والطائفيين، وجعل الرئاسة فيها، كما في كل المراكز، دورية، وحقاً دستوريّاً لمن تتوفر فيه الشروط الأكاديمية والقانونية، بعيداً عن الاستتباع لهذا الزعيم أو ذاك، ولهذه الطائفة أو تلك.

3- مراقبة التعليم الخاص غير المجّاني، ما قبل الجامعي والجامعي، وتحريره من سلطة المراكز الطائفية ومن الهيمنة التجارية، وإلغاء التعليم الخاص المجاني حصراً، لأنه لا يؤدي اليوم أية وظيفة تربوية، بل هو حلقة غامضة تُنفق فيها المليارات على مدارس وهمية تعود لجيوب الطائفيين وأصحاب المصالح والمشاريع التجارية. إنّ التأسيس للثقافة الطائفية والمذهبية لا يجري في المرحلة الجامعية، بل هي مجرد خاتمة وتتويج. التأسيس إنّما يجري في مراحل ما قبل الجامعة، وبخاصة في المرحلتين المتوسطة والثانوية.

4- توحيد التعليم الديني في لبنان، وهذا أمر جديد، وجعله موحّداً وإلزامياً في كل المدارس الرسمية والخاصة، (وهذا اقتراح محدد من المصلح الكبير المعلّم المغفور له كمال جنبلاط)، وذلك بتكليف لجنة مؤلفة من رجال دين منفتحين وعلمانيين متخصصين تقوم باقتراح كتاب واحد للتعليم الديني يأخذ على عاتقه التعريف بأهمية الدين والانتماء الديني معرفياً وأخلاقياً ونفسياً، ويعرّف الطالب اللبناني على معنى الدين عموماً، والمشترك بين الأديان كافة، وأنواع الاختبارات الدينية المتنوعة التي يزخر بها المجتمع اللبناني، وفي أهمية الاحترام والتفهم المتبادلين بين أبناء ديانات الله كافة.

5- العمل على تعزيز حس الاشتراك والتشارك لدى الشباب اللبناني، ويتضمن ذلك تعزيز روح العمل والمبادرة والتبادل والاعتراف بالآخر وفتح مساحات للنقد الذاتي والحوار السَّلمي الديمقراطي، من دون استبعاد أو إلغاء أي مكوّن أو رأي، بل اعتبارها كلها عناصر إثراء وغنى للإجتماع اللبناني.

6- تعزيز المجتمع المدني اللبناني، المكوّن من أندية وجمعيات مدنية ومنظمات ثقافية ونقابية وحقوقية وإعلامية ونسائية وبيئية وخيرية، باعتبارها:
أ – حالة مستقلة عن الطوائف، ب – غير تابعة للقطاع الخاص، وهي، ج – الصلة المدنية الحديثة بين المواطن والدولة، بل والرديف للدولة في المجالات التي لا تستطيع الدولة العمل فيها بكفاءة وفاعلية.

7- وأخيراً، إبراز قيمتَيّ المواطنة، والحس الإنساني العالي، باعتبارهما الهدف الحقيقي لكل تربية وتعليم، قبل وأعلى من كل اختصاص أو مجال معرفي مفيد نزوّد الطالب به. لقد أثبتت الأبحاث التي أُجريت على الصلة بين نوع التربية التي يحصّلها الناشئ والميل للاتجاهات المتطرّفة والإرهابية، أن لا الاختصاص ولا الشهادات العليا هي ما يحصّن الطالب والخريج من الاختراق الإرهابي: بل إنّ ما يحصّنه حقّاً هو العمل على تجذير قيمتَيّ المواطنة والعالمية في شخصيته منذ بواكير حياته التعلّمية، بالإضافة إلى تعزيز شخصيته الفردية من جهة، والناقدة، من جهة ثانية.

هذه بعض العناوين ذات الصلة بما هو مطروح اليوم من مطالب إصلاحية، والتي يمكن التفصيل والتوسّع أكثر فيها، برسم البرامج الإصلاحية المطروحة الآن.

“الضّحى”: المهمة الصّعبة، في الزّمن الأكثر صعوبة

سيدرك القارئ، من دون شكّ، الأسباب القاهرة التي أمْلَت رفع سعر المبيع والاشتراك في الضحى على الشكل التالي: سعر المبيع، من 6000 ل.ل. إلى 10000 ل.ل.، واشتراك الأفراد من 37500 ل.ل. إلى 50000 ل.ل.، والمؤسسات من 75000 ل.ل. إلى 150000 ل.ل.
ولكن لِمزيد من الإيضاح للأصدقاء قرّاء الضّحى نقول: لو كانت الضّحى كسائر الدوريات المحكومة بالمعايير التجارية لكان عليها أن تتوقف عن الصدور منذ زمن – إذ لا مردود مالياً لأيّة مطبوعة أو دورية ثقافية عادية في بلادنا يقوم بمستلزمات الحد الأدنى، فكيف إذا كانت المطبوعة توحيدية، ثقافية، توعوية، ملتزمة أخلاقياً ووطنياً؟ هذا بعامةٍ، فكيف إذا كانت في ظروف لبنان المعروفة منذ أواخر 2019 وسحابة 2020، حيث تفاقمت دفعة واحدة كل المشكلات الحياتية والاقتصادية والمالية والصحيّة على نحو غير مسبوق منذ 40 سنة على الأقل، فكانت الاضطرابات والإغلاقات المتعاقبة وإقفال المؤسسات لأسابيع طويلة؛ وكان أكثر من ذلك انهيار سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية – وهي المستخدمة في شراء مواد المطبوعات وإنتاجها – من 1500 ل.ل. إلى 11000 ل.ل. للدولار الأمريكي الواحد، فزادت كلفة الطباعة وحدها ستة أضعاف، لتبلغ أكثر من 37 مليون ليرة لبنانية للعدد الواحد، أي ما يزيد عن ثلثي مردود الاشتراكات لعام كامل – مع غياب الإعلانات التجارية وللأسباب العامة التي أشرنا إليها آنفاً. هذه بعض صعوبات العام الماضي، والممتدة كما يبدو للعام الجديد، 2021 – آملين أن يخالف التوقعات ويحمل الخير العميم لبلادنا ولمجتمعنا. وعليه، فـ “الضّحى” على ثقة أن قراءها – بل أصدقاءها – يقدّرون جيّداً الأسباب التي أملت الزيادة البسيطة في أسعار المبيع والاشتراكات، والتي تبقى دون سقف الكلفة تحديداً.
لكن الصعوبات تلك لن تمنعنا من قول إنّ “الضّحى” مستمرّة، في العام الجديد وأبعد إن شاء الله، لا بسبب من مردودها المادي، وإنّما بفعل الحاجة إليها، والدور الأخلاقي والوطني والثقافي الذي باتت تمثله في المجتمع التوحيدي وفي مجتمعنا على وجه العموم.
إلا أنَّ ذلك لم يكن ليتحقق في العام الصعب الذي انقضى، ولا في العام الجديد الأكثر صعوبة، لولا إخلاص أفراد أسرة المجلة جميعاً وتضحياتهم الشخصية؛ ولولا الدعم المعنوي والمادي من المشتركين، ونخص مؤسسة العرفان بالذكر على وجه الخصوص؛ ولولا، أخيراً، سخاء السادة أعضاء مجلس أمناء “الضّحى”، وأمانة سرّ المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز واللجنة المالية فيه، والدعم الكامل من سماحة شيخ العقل.

شيخٌ من الجُرد

شيخٌ من الجُردِ، عبدُ الخالقِ النَّسَبُ
الشيخُ الجليلُ سُليمانٌ، تُزيِّنُه الـ
من دوحةٍ صلُحتْ، من خلوةٍ صدَحتْ
أكرِمْ بخيرِ أبٍ، من سيِّدٍ وأبٍ
الشبلُ كاللَّيثِ، والتوحيدُ مَملكةٌ
أبو المحامدِ، نِعمَ الكُنيةُ؛ اللَّقَبُ
تقوى، ويُغنيهِ من أجدادِه الحَسَبُ
والشيخُ فيها أخٌ، بل قُدوةٌ وأبُ
أبي الفوارسِ محمودٍ، فلا عجبُ
فيهـا الرجالُ ومنهـا السادةُ النُّجُـبُ.
أبا المحامدِ، يا ذا الهمَّةِ، انتصرتْ
ما جئتُ أَرثيكَ، لا، بل جئتُ مُمتدِحاً
ما جئتُ أُغنيكَ بل قد جئتُ مُغتنياً
فلا الجواهرُ بالكنزِ الثمينِ، ولا
حتى القصائدُ لا تَعنيكَ، ما نُظِمَتْ
فيكَ الخصالُ، وأهلُ الجاهِ قد غُلبوا
ماضيكَ، أُهديكَ شعراً، منكَ يُستلَبُ
من جوهرٍ فيكَ، لا ماسٌ ولا ذهبُ
مظاهرُ الجاهِ عندَ اللهِ تُحتسَبُ
لتحتويكَ، ولن يُعليكَ ما كَتبوا.
أبا المحامدِ، يا إرثاً غدا قِيماً
بساطةُ العيشِ كنزٌ لا تُبدِّلُه
نشأتَ في كنَفِ التوحيدِ، مُرتقياً
فأنبتتْ فيك شيخاً سيِّداً علَماً
وتاجُكَ العقلُ، والتوحيدُ دُرَّتُه
من عُمقِ ذاتِكَ حيثُ الجحفلُ اللَّجِبُ
وليس يُغريكَ لا شَهدٌ ولا رُطَبُ
بالذِّكرِ والفكرِ، تَروي زرعَكَ الكتبُ
ثمارُكَ السدقُ والإخلاصُ والأدبُ
وليس تَقوى على تقوى الحِجا الرُّتَبُ.
مَجدانِ مجدُكَ يا شيخَ الثِّقاتِ هُما
الجردُ يَبكيكَ، والأشوافُ شاهدةٌ
مشايخُ الدينِ في التيمَينِ في غُصَصٍ
وفي فلسطينَ أشواقٌ يُرنِّمُها
جرحُ السُويداءِ يَبكي والصدى ألمٌ
الكلُّ للكلِّ، في حُزنٍ وفي فرحٍ
والقومُ سيرتُهم تَروي مسيرتَهم
مجدُ المكان، ومجدٌ منكَ يُكتَتَبُ
والمتنُ كالغربِ، كالشحَّارِ مُكتئِبُ
وفي قرى الشيخِ دمعَ الحبِّ قد سَكبوا
صوتٌ بعيدٌ بلونِ الحُبِّ يَختضِبُ
تُعيدُه هَضْبةُ الجَولانِ أو حلَبُ
ويَجمعُ الكلَّ في صَونِ الحِمى غضَبُ
إنْ غابَ عينٌ فعينُ الكلِّ تَنتحبُ.
ويسألُ الناسُ هل في الناسِ مَن بَلغوا
وهل يسودُ على الأقرانِ أبسطُهم
ومن قضَوا عمرَهم في حُبّ خالقِهم
وشاهدوهُ بمرآةِ النفوسِ، متى
فأدركوا أنَّ نيلَ الفوزِ مُرتَهَنٌ
والسعدُ ليس غِنىً بالمالِ والجاهِ، بلْ
مقامَ عزٍّ، وما في عيشِهم صخَبُ
حالاً، ومَن تَركوا الأقداحَ، ما شرِبوا
بالجِدّ والجَدِّ خيلَ الكَدِّ قد رَكِبوا
لهم تجلَّى، فزالتْ عنهمُ الحُجُبُ
بطاعةِ اللهِ، والتقوى هي السببُ
في حُبِّه، فهناكَ القصدُ والأرَبُ
يا أيُّها الناسُ، ها كم مرةٍ جُمِعتْ
كم دعوةٍ لَمعتْ، كم نجمةٍ سطَعتْ
تَعمى البصائرُ، والأبصارُ ناظرةٌ
ولا نُبالي، ولا نَسعى لآخرةٍ
وليس يُوقِظُنا من نومِنا خبرٌ
لكنَّما الشيخُ أفنى عمرَه يَقِظاً
تلكَ الفراخُ، فصَدَّ القومُ، ما رَغِبوا
والأُذنُ ما سمِعتْ، والناسُ ما طَلبوا
والعينُ حائرةٌ، والوعدُ يَقتربُ
ولا نُداري ولا نَنهى ونجتنبُ
ولا تُحرِّكُنا الأهوالُ والنُّوَبُ
يحيا التوازُنَ؛ يَستغني ويكتسبُ.
لِذاكَ يا شيخَنا نَأسى لفُرقتِكم
وفاقدِ الضَّوءِ في الظَّلماءِ يَطلُبُه
لكنَّ ذِكرَكَ يَروينا ويُنعِشُنا
فأنتَ مدرسةٌ تُرجى، ومبدَؤها
صدقتَ عهدَكَ واستبسلتَ من صِغَر
كم همَّةٍ نهضَتْ، والشوقُ أقلقها
تَسابَقتْ في ميادينِ التُّقى هِممٌ
كفاقدِ الفَيءِ في الصحراءِ يَلتهبُ
وفاقدِ الماءِ في الرَّمضاءِ يَضطربُ
نَأوي إليه إذا ما حاقَنا تعَبُ
كُنْ صادقاً، إنَّ رأسَ الخَيبةِ الكذِبُ
جاهدتَ ليلاً نهاراً، والمدى رحِبُ
والخوفُ أحرقَها، والوعدُ مُرتَقَبُ
وأنتَ أوَّلُها، بل أنتمُ النُّخَبُ.
جِهادُكم زادَكم خوفاً ومعرفةً
حفِظتَها خلوةً من شرِّ فانيةٍ
فكنتَ في العجزِ محفوظاً على سُرُرٍ
تقولُ: فَلْيرحمِ الرَّحمنُ مَن صَدقوا
ولْيرحمِ اللهُ مَن بانوا ومَن رَحلوا
فعُدتَ منه وفي أعماقِكَ الطرَبُ
حَفِظتَ فيها من الآياتِ ما يَجِبُ
من السعادةِ، تهفو نحوكَ الشُّهُبُ
ولْيرحمِ اللهُ مَن للخَلوةِ انتُدبوا
ومَن لهم في الحنايا تُرفَعُ القِببُ.

 

2021