حكايــات حمّــــــود بشنــــــق
حمّــود وسارقو العنب
حمّود بشنق واحد من أولئك الرجال الذين يتميّزون ويثبتون جدارتهم أينما وَضَعَتهم الظّروف، أو حطّت بهم الأقدار. كانت «الرافقة» خربة قديمة ترقد على الحضن الشرقي لقمّة مشرفة من قمم السفوح الجنوبية لجبل الدروز، إلى الجنوب من مدينة صلخد. ومنذ قرون لم يشقَّ تربة تلك الخربة محراث، حوّلها الخراب المتمادي إلى مراعٍ للبدو يرتادونها في الربيع والصيف، وينأون عنها بعيداً عن براري الحماد في الخريف والشتاء هرباً من الثلوج وبرد الجبل. وقد زاد نشاط الرعي تلك البقعة خراباً، فلا زراعة ولا شجر، بل قفر ووحوش، وبريّة تذكّرك بالعصور الأولى.
لكن حال «الرافقة» تبدلت جذرياً منذ أن نزل بها حمّود وبعض أقاربه من آل عبيد وشرف، إذ قام حمّود وجماعته بحرث الأرض إلى الأسفل باتجاه الجنوب المشمس، وغرس كروم من عنب وتين، بعد أن سوّر الحقل المستحدث بسور من الحجارة الدّبش، وهو الأسلوب القديم الذي اختطّه الأنباط الذين كانوا أوّل من استزرع أرض ذلك الجبل قبل أكثر من ألفين من الأعوام، وأصبح كرم حمّود مضرب المثل بجودة عنبه وتينه، وحسن صيانته.
بعيداً من كرم حمود، إلى الجنوب منه ببضعة عشر كيلومترات، وراء تل الشيح، جماعة من البدو الرعاة، خيّم عليهم الظلام، وما من قمرٍ تلك الليلة من أوائل شهر أيلول، كانوا قد قرّبوا قطعانهم إلى بعضها بحيث تسهل حمايتها من غارات اللصوص أو الذئاب الكاسرة، هم قرروا بدورهم أن يكلّفوا ثلاثة منهم أن يغيروا على كرم حمود ليسرقوا من عنبه.
مشى الرجال مع ظلام الليل قاصدين هدفهم، وصلوه بعد نحو ثلاث ساعات من مسير عبر طريق وعرة؛ كانوا قد اقتربوا من سور الكرم، كفّوا عن الحديث إلاّ همساً ومشَوْا على رؤوس أصابع أقدامهم التي خشّنها الحفاء فما عرفت حذاءً، انتشروا ثلاثتهم على حافة سور الكرم الجنوبية متباعدين قليلاً، ظلمة حالكة تلفّ السفوح، والنجوم غائرة في الليل العميق.
أمسك أحدهم (ويدعى زيدان) حجراً ملء قبضته وقرع به حجراً آخر أعلى السور ضرب ضربتين، فعل ذلك ليختبر إن كان في الكرم مَنْ يحرسه، لحظة صمت مريب انقضت، أعاد زيدان قرع حجر السور بضربة ثالثة للتأكّد، برهة صغيرة، دوّى إثرها طلق ناريّ هشّم الحجر الذي ضُربَ عليه قبل لحظة إلى شظايا متناثرة، رُعِبَ الرجال لسرعة الرد ودقّة الرمي، صاح زيدان لشدّة الخوف: ” آ حمّود، حِنّا بوجهك” أي نطلب عفوك وحمايتك.
أجاب حمود : انزلوا
تسوّر الرجال حائط الكرم ومشوا باتجاه الصوت، لاقاهم حمود قائلاً: «والله لو لم تقولوها لكنت قنّصتكم واحداً واحداً ، هيّا اقطّفوا عنباً وكُلوا وخذوا ملء عباءة أحدكم وولّوا».
حمّود والولد خاطف البارودة
العام 1925، لم يتخلّف حمّود بشنق عن المشاركة في معارك الثورة السورية الكبرى. ذات يوم والوقت عند العصر كان الرجل عائداً على ظهر فرسه من إحدى المعارك ضد الفرنسيين بعد أن أصيب بشظية من قنبلة مدفع في رجله، لكنه ظلّ متماسكاً، وقد ضمّدوا له جرحه في الميدان على ما تيسّر ريثما يصل إلى أهله، لم يكن للثوّار من مستشفيات، وعندما صار قرب قرية العفينة جنوب السويداء أحسّ بثقل جرحه وبآلام تشتد عليه.
ربّما أصابه نعاس، كان يتّجه جنوباً إلى المقرن القبلي، بصحبة رتل من العائدين، جرحى ومتعبين، هم إلى قراهم، وهو إلى قريته. سقطت منه إحدى البارودتين اللتين غنمهما في المعركة، هو لا يستطيع النزول من على ظهر فرسه وتناوُل البارودة والعودة إلى ظهر الفرس ثانية، الجرح يصعّب عليه الأمر، نادى صبيّاً كان يلعب مع أترابه على جانب الطريق ليناوله البارودة، التفت الصبي إلى الرجل وركض قاصداً البارودة، انقضّ عليها كنمر غائرٍ على صيده، تناولها ومضى هارباً عبر الزواريب الضيّقة في القرية.
بادر بعض من كانوا في رتل العائدين يتبعون الصبي ليستردّوا البارودة، صاح بهم حمّود: «اتركوه، لو لم يكن يستأهلها لما هرب بها، هي حلال عليه».
الأمير شكيب إرسلان في أُم الرمّان
كان المغفور له الأمير شكيب إرسلان نائباً عن جبل الدروز في مجلس المبعوثان – المجلس النيابي العثماني – في الفترة الأخيرة من حكم بني عثمان في اسطنبول ( الآستانة ) وبقدر ما كان الرجل واسع الاهتمام بشؤون الأمّة العربيّة والإسلاميّة عموماً، إذ كان من أوائل المبشّرين بفكرة الجامعة الإسلاميّة قبل العربيّة، فقد كان يؤرقه ما حلّ ببلاد الإسلام من تأخّر، وما أصابها من أطماع استعماريّة أوروبيّة خاصة مع نزول الفرنسيّين في شمال أفريقيا (الجزائر وتونس والمغرب ) والطليان في ليبيا والإنكليز في عدن والبنجاب وأفغانستان …
كان الأمير التنوخي شريكاً لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في حمل هموم العرب والمسلمين، والبحث عن مخارج للمحنة التي وقعت بها الأمّة بسبب الهجوم الشرس للدول الأوروبية التي كانت منشغلة بتقطيع أوساط الدولة العثمانية والتسابق على الفوز بأطرافها شرقاً وغرباً في ما بدا أشبه بحرب صليبية جديدة تستهدف بلدان الشرق الغنية بثرواتها والمهمة جداً في موقعها ودورها في التجارة الدولية.
إلى جانب كل ذلك كان الأمير شكيب يكن محبة كبيرة لبني معروف، وهم قاعدته الاجتماعيّة وقومه الذين يعتز بدورهم وبتضحياتهم الكبيرة والتاريخية في نصرة العرب والإسلام.
وهنا حادثة لطيفة تضيء جانباً من شخصية الأمير الحماسية واهتمامه الشديد ببني معروف وحرصه على كل ما يؤلف بين قلوبهم ويبقيهم جبهة واحدة في مقاومة الأطماع والطامعين.
فقد علم الأمير شكيب أنّ أهالي قرية أم الرمّان، وهي قرية تقع على التخوم الجنوبيّة لجبل الدروز ( محافظة السويداء حالياً ) وقع بينهم خلاف، ولمّا كانت القرية في ذلك الزمان تواجه مع سائر الجبل علاقات متوتّرة مع الدولة العثمانية، بما في ذلك غزوات بدو الصحراء من جهة ثانية، فقد سارع الأمير شكيب إلى أم الرمّان، وأقام فيها أيّاماً حتّى أنجز المصالحة بين المتخاصمين من أهل القرية الذين أولموا ابتهاجاً بنجاح مسعاه، وقرروا على سبيل التكريم والتعظيم له إقامة «عرض» وسباق للفرسان في ميدان القرية الرئيسي.
وبالفعل، ومن على الرّجم الضخمة المشرفة على الميدان (الرجم كومة من الحجارة تشرف على ما حولها من أرض ) رُتّبت مقاعد حجريّة وفُرشت عليها البُسط، وجلس الأمير ووجهاء القرية والناس من حولهم يشاهدون السبق، ويروي الأحفاد عن الأجداد بأنّ الفرسان انطلقوا بأسلحتهم في باحة الميدان، وانعقد الغبار سحابة في السماء وصدحت زغاريد المبتهجين، ولعلع الرصاص في الجو.
في تلك اللحظة أخذ الأمير الحماس حتّى بدا وكأنّ طربوشه يرقص اعتزازاً فوق رأسه ورَبّت على كتف جليسه حمد الأطرش، شيخ أم الرمّان قائلاً له: « ليك إبن عمّي ليك، عز جبل لبنان معقود بحوافر خيل جبل حوران».