الصفحة الأخيرة
أعمالُكُم عُمّالُكم
خطر في بالي شيء وأنا أمر كل يوم بركام النفايات والأنقاض ومخلفات البشر التي تنتشر على الطرقات. جاءني أن هذه الأوساخ ليست بنت الصدفة ولا هي نازلة هوت علينا من السماء. لا.. ليس الأمرُ أزمة مع هذه الشركة أو تلك، ولا هم السياسيون ولا هو نقص الأماكن المناسبة للتخلص منها..ولا أي سبب آخر. إنما هي شيء يتعلق بنا نحن، فهي إلى حد كبير أوزارنا كلها التي نكسبها كل يوم ويجمعها ملائكة كرام في حسابنا لا يتركون صغيرة منها ولا كبيرة، هي أوساخنا المعنوية وقد اتخذت شكلا يجعلنا نراها فينتبه كل ذي لبّ وتفكّر إلى ما وصلت إليه حالنا كبشر.
في مجالسِ السمر أو في كل مرة يجتمع شخصان أو أكثر، فإن أول ما يكون الحديث هو عن تردّي الطبيعة الإنسانية، عن انفلات الأنانية وقسوة القلوب، عن الطمع وظلم الإنسان للإنسان، عن ترك الأوامر والنواهي، عن النفاق، وهو أعظم كبائر الأزمان، عن تجارة الحقد وحرفة القتل الرائجة واللائحة طويلة.. مجالس السمر نفسها والأحاديث هي أيضا مجالس للشكوى من الزمان ومن الدولة ومن ضيق سبل العيش ومن المرض ومن سيول النفايات التي نزلت على البيوت والأحياء وأصبحت تقطع طريقنا وتكدِّر أيامنا وتحرمنا هناء الغفلة التي نغُطّ فيها.
الملفت هو أن الناس قليلا ما تنتبه إلى العلاقة بين الأمرين، أي بين تردي النفوس وزوال النعم وتردّي بيئة الحياة، فتشكو من كل أمرٍ دون أن تشكّ في أن يكون له علاقة بالأمر الآخر. بذلك أصبحنا جميعنا أهل شكوى لكن لا نجد إلا القليل من أهل الفطنة والاعتبار، وقد حذَّر المولى تعالى في كتابه الكريم مما نراه من إعراض ومن تجرّؤ على حدوده فقال، جلّ من قائل: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا{ (طه: 124). وجاء في الحديث الشريف: }إنما هي أعمالُكم تُردُّ أليكم{
وهناك قاعدة يعرفها أهل السلوك، وهي أنه لا يوجد فصل بين ما هو في داخل الإنسان وبين ما هو خارجه، فهما يتبادلان التأثير بصورة مدهشة. إن أمكن للمرء أن يصلح داخله وأن يجد حلاوة الطمأنينة والإنس بالحق تعالى، فإن كل ما حوله سينتظم من تلقاء ذاته، وسيلمس كيف يمكن أن يغيِّر محيطه دون أي جهد سوى الجهد الذي يبذله في إصلاح النفس ونصحها بل وزجرها. على العكس من ذلك، إن اضطرب حال النفس وابتعدت بها الوساوس والمعاصي ورزايا الأعمال عن الحق فإن العالم حولها سيبدو مخيفا متهاويا، لا تقترب من شيء إلا فرّ منها كما يختفي الهباء في الريح العاصف.
فيا أخي إذا مررت غدا بنفاياتنا السائبة فكرهت عيناك منظرها وعافت نفسك نَتَنَها فلا تبدأ باللعن ولا تتعب نفسك بهذا العبث ولا تهدر طاقتك في كيل اللوم. فكِّر قليلا كما يفكر العاقل الرصين، وانظر، لعلك ترى الخيط الموصل بين شقاء الحياة وبين شقاء النفوس وأنت رجل مؤمن بأن الجزاء من جنس العمل دنيا وآخرة. اترك مهنة الشكوى، ولا تَسَل عمن أوصل الحال إلى ما هي عليه، لأن الناس كلهم صالحُهم وفاسدُهم ليسوا إلا من خلق الله، والظالم المسلط على رقاب العباد هو من خلق الله، ونتوقف عندالعنت والفقر والمرض هي من خلق الله، والطبيعة التي لم تَعُد تجود بخيرها هي أيضا، وفساد البرّ والبحر وما يصيب بيئة الأرض من كوارث حيث قال تعالى: }سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{ (النمل: 93)
خلاصة هذا القول، الذي قد يراه البعض صادما، هو أن من الأفضل والأجدر اتخاذ نوائب الحياة وتغيُّر الأحوال وزوال النعم سببا للتفكر، والإقلاع عن الانشغال بما هو خارجنا والانتباه إلى ما في نفوسنا، وقد جاء في الحديث أيضا: }طوبى لمن شغله عيبه عن النظر في عيوب الناس{. ولهذه النصيحة سبب وجيه هو أنه مهما حاولنا أن نبدل واقعنا دون أن تكون البداية تبديل ما في النفوس فإنه لن يأتي إصلاح ولن يستقيم شيء، بل على العكس، فإن ما نراه من تفاقم العلة يجعلنا نخشى المزيد من العنت وسوء الحال.
}إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ{ (الرعد:11)
صدق الله العليُّ العظيم