السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

يوثيديموس

يُوثيدِيموس

سقراطُ يَدحضُ السّفسطائيّين

سقراط
لو اكتشفنا كيف نحوّل الحَصى إلى ذهب فإنّ هذه المعرفةَ
لن تكونَ لها أيُّ قيمة إنْ لم نكن نعلمُ كيف نستخدمُ الذّهب

تعتبر محاورة يوثيديموس التي كتبها أفلاطون في العام 384 قبل الميلاد واحدة من عدّة أعمال أعدّها في تلك الفترة بقصد التّصدي للمدّ السّفسطائي الذي كان قد انتشر وبدأ يعيث فساداً في الحياة العامّة وفي الثّقافة الأثينيّة التقليديّة. ومن المحاورات التي خصّصها أفلاطون للتّصدّي للسّفسطائيّين تلك المسمّاة بروتاغوراس ومحاورة جورجياس ومحاورة هيبياس وغيرها لكنّ محاورة ثيوديموس كتبت في المرحلة الوسطى من أعمال أفلاطون وهي تختلف عن المحاورات السّابقة التي تناولت السّفسطائية في تعامل سقراط السّاخر مع اثنين منهم يصبحان موضوع المحاورة الأساسيّ ويجعل منهما سقراط أضحوكة للحاضرين. وفي هذه المحاورة يبيّن أفلاطون هشاشة الحيل اللّفظية والمماحكات الفارغة التي يستخدمها أتباع هذا النّهج بهدف بلبلة المحاور وإخضاعه وكيف يستخدمان نوعاً من “اللّاأدرية” كدخان مناسب للهرب من تقديم إجابات شافية وتضييع الموضوع. ولهذا الغرض ربّما فإنّ الحوار في يوثيديموس يدور مع اثنين من السّفسطائيين لم ينالا شهرة كبيرة كما نال مؤسّس المدرسة بروتاغوراس ومن بعده جورحياس واللّذين يحظيان في محاورتين لأفلاطون سُمّيتا باسمهما بمعاملة أكثر اعتدالاً رغم الاختلاف معهما في كلّ الأمور تقريباً. وبهذا فإنّ يوثيديموس جاءت ربما في مرحلة استفحل فيها أمر السّفسطائيّين لكن مع تدهور شامل في مضمون دعوتهم لصالح المهارات الكلاميّة والأحابيل الجداليّة، وهو أمر غالبا ما يحصل في كلّ تيار إذ يكون في عزّه في ظلّ المؤسّسين الأقوياء والأفذاذ لكنّه ينتقل من بعدهم إلى فريق واسع لا يتمتّع بأيٍّ من المواهب التي توافرت لمن سبقهم وهو ما يعجل في التّداعي التّدريجي لذلك التيار الفكري الذي يفقد لا محالة ثقة النّاس واحترامهم.

إن مقارنة الحوار بين سقراط والسّفسطائيين الأوائل مثل بروتاغوراس وجورجياس بالحوار الذي أورده أفلاطون في يوثيديموس كاف لوحده لإظهار التّبدل الكبير الذي حصل للسّفسطائية في مدة قصيرة نسبيّاً من الزّمن. وبسبب هذا التّبدّل أو التّراجع في مصداقية تلك المدرسة نرى سقراط على غير عادته ينحو منحى الهزء والسّخرية المبطّنة في الحوار مع بطلَيّ المحاورة السّفسطائيّين يوثيديموس وشقيقه ديونيسودوروس. وقد ظهر الاثنان للقارئ كمثال سيّىء عن المنهج السّفسطائي وبدا واضحاً قدر التّخريب الذي باتت تلك المدرسة تحدثه في النّسيج الأخلاقي والفكري للمجتمع الإغريقي. وبالطّبع وبسبب غرابة منطق الرّجلين وأسلوب المماحكة بل اللّامنطق الذي يلجآن إليه في محاولة لكسب الحجّة، فإنّ سقراط لم يجد أيّ صعوبة في كشف هشاشة منطقهما للمشاركين الآخرين في المحاورة.
ومن أجل فهم خلفيات هذه المحاورة المهمّة (والطويلة نسبيّاً) لأفلاطون سنحاول أوّلاً إعطاء وصف موجز لمدرسة السّفسطائيّين مع مقارنتها لاحقاً بالمنطق الجَدليّ لسقراط الحكيم في تعليمه للشّبيبة ولكلّ من كان يأتي إليه طلباً للمعرفة.

من هم السّفسطائيّون
عُرِف السّفسطائيّون بالدّرجة الأولى باعتبارهم معلّمين محترفين، ذاع أمرهم في النّصف الثّاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا ينتقلون بين المدن الأثينيّة ويعرضون خدماتهم في تعليم الشّباب الإغريق من أبناء الطّبقة الثريّة مقابل أجر، وكان الغرض من تعليمهم مساعدة الشّباب على الترقّي في المناصب أو كسب الحجّة في المحاكم أو دخول مجال الخطابة والسّياسة. وبالنّظر لأنّ السّفسطائيّين لم يهتمّوا بالعلم ولا بالفلسفة بل بالجدل وفنّ المناظرة والبلاغة الكلاميّة واستخدام هذه الفنون في قهر الخصم وكسب الحجّة أو المسألة فإنّ المرداف الأقرب لتعليمهم هو ما نسمّية “الدّيماغوجيّة”. لقد تخصّصوا في فن “الإقناع” وتخريج أشخاص لديهم من حيل البلاغة وقوّة اللّغة ما يمكنهم من تشويش الحقائق وبلبلة الخصم وضعضعته. ادّعى السّفسطائيّون أنّ هدفهم بدل تعليم الفلسلفة والشؤون النّظرية هو مساعدة شباب الأسر الثريّة على النّجاح في حياتهم العمليّة والارتقاء في الحقل العامّ أو المهن وهو ما يمكن تشبيهه اليوم بدورة للتّدريب على القيادة.. وبسبب توجّه الحياة في أثينا نحو الرّخاء والثّراء المادّى أو السّلطة فقد لقيَ السّفسطائيّون إقبالاً واسعاً واشتهر الكثير منهم وحقّقوا مكانة وثروات كبيرة.
لكنّ تعليم السّفسطائيّين كان في الوقت نفسه بمثـابة نكسة أخلاقيّة وفكريّة كبيرة لأثينا والمدن اليونانيّة التي كان التّعليم فيها قبل السّفسطائيّين متركّزا على اكتساب الفضائل وقيم الأرستقراطية وخصال المحاربين الأبطال مثل الشّجاعة والقوة البدنيّة والشّهامة. وكان لنشوء الدّيمقراطيّة الأثينيّة وحالة السّلم والرّخاء دور كبير في هذا التّحول إذْ باتت الحاجة أقوى لدى الناس للترقّي الاجتماعيّ عبر قوّة الحجّة والحضور الشّخصي والبراعة في الإقناع والتّأثير على النّاس بالخطابة. ومن أبرز ممثلي المدرسة السّفسطائية بروتاغوراس وجورجياس وأنتيغون وهيبياس وبروديكوس وثراسيماخوس. وقد أقلق صعود السّفسطائيّين بشدّة الحكيم سقراط وتلميذه أفلاطون وقد خصّص الأخير عدداً من محاوراته لدحض الفكر السّفسطائيّ وإظهار فساده وخطره على المجتمع الإغريقي. وحمل العديد من تلك المحاولات أسماء السّفسطائيين المذكورين.
لذلك فإن الهدف الأوّل لأفلاطون من هذه المحاورة هو إظهار التّعارض الأساسيّ بين مفهومين لـ “المعرفة”: مدرسة السّفسطائيّين التي تقوم على الجدل وفن البلاغة وكسب الحجّة بأيّ أسلوب ومدرسة سقراط التي تقوم على المعرفة من خلال البناء المنطقيّ أو الديالكتيكي للحوار بهدف التوصل إلى المعرفة أو الحقيقة.
يعرض أفلاطون محاورة يوثيديموس ليس كحوار بين أشخاص المحاورة -كما يفعل في المؤلّفات الأخرى- بل على شكل رواية يقصّ سقراط وقائعها على صديقه كريتو وهي تتناول جلسة مع السّفسطائيَّين يوثيديموس وديونيسودوروس حضرها بنفسه مع جمع من الشبّان. وأفلاطون هنا لا يريد أن يعطي لهذين الشّخصين صفة المحاورين، لأنّهما حسب تقديره لا يستحقّانها وهو ما سيتّضح لاحقاً من خلال عرض مُجْريات “المحاورة”. .
يبدأ كريتو صديق سقراط بالسّؤال عن اؤلئك الأشخاص “الغرباء” الذين كان سقراط يتحادث معهم في اللّيسيوم وهو مكان للاجتماعات العامّة في أثينا القديمة. ويجيب سقراط بالقول أنهما “أُخرِجا” من المدينة التي كانا فيها ثم وجدا طريقهما إلى الديار الأثينيّة، وهذا الكلام يشير إلى العداء الذي كان عامّة الناس بدأوا يظهرونه للسّفسطائيين والذي كان يصل إلى حدّ سجنهم أو حتى قتلهم أو طردهم. لكنّ السّفسطائيين بدأوا مع ذلك يستفيدون من مناخ الديمقراطيّة اليونانية ويجولون في المدن عارضين خدماتهم لتعليم نهجهم في الجدل وكسب الحجّة. ويتّضح أنّ الرّجلين (يوثيديموس وديونيسودوروس) غريبان عن أثينا من قول كريتو لسقراط إنّه لا يعرف أيّاً من الرّجلين. ويردّ سقراط بتعريف ذي دلالة للرّجلين فهو يخبر كريتو أنّ الرّجلين لا يتمتّعان فقط بخبرة القتال بالدّروع والسّلاح ولكنّهما ماهران في “حروب القانون” فهما يعلِّمان من يدفع المال لهما كيفيّة سوق الحجّة القويّة أمام القضاء. وهما يمتلكان مهارة خاصّة في “حروب الكلام” لدرجة أنّ في إمكانهما أن يدحضا أيَّ حجّة سواء كانت صحيحة أو خاطئة. وإشارة سقراط الأخيرة تشير إلى علّة أساسيّة في تقنيّة السّفسطائيّين وهي إنهم على استعداد لهدم حجّة صحيحة ومحقّة من أجل كسب حرب الكلام، ولهذا السّبب بالذّات فقد شكّك أفلاطون بالمضمون الأخلاقيّ لتعليمهم واعتبر أنّ همّهم الأساسيَّ هو المبارزة بالحجّة والجدل وليس الوصول إلى الحقيقة أو الفضيلة.
يشرح سقراط لكريتو كيف تمكّن من حضور مجلس هذين السّفسطائيّين وما حصل بعد ذلك من حوار بينهما وبين الحاضرين، وبصورة خاصّة الشابّ كلينياس، الذي حضر بهدف معرفة ماذا يمكن لهذين الرّجلين أنْ يعلّماه. وكلينياس كما يصفه سقراط شابّ حقّق الكثير من التقدّم في المعارف وله معجبون كُثر رافقوه إلى مجلس السّفسطائيَّين. وهذا الوصف يجعلنا نفهم لماذا فشل الرّجلان في إقناع كلينياس بتعليمهما وبنهجهما. علماً أن أفلاطون يعطي حيّزاً مهمّا لحوار جانبيّ بين كلينياس وسقراط ليظهر الفارق الكبير في الطّريقة التي تعامل بها السّفسطائيون مع هذا المريد أو طالب العلم وبين الأسلوب الجَدَليّ المنطقيّ الذي يتّبعه سقراط.
النّقطة المهمّة التي سيبدأ بها سقراط استدراج السّفسطائيّيْن هي سؤالهما عمّا يُعلِّمانه، وهو كان يتوقّع أن يُجيبا بما يعلمه عن خبرتهما في فنّ الجدال والقانون مثلا أو الخطابة لكنّه فوجِئ بقولهما إنّهما “يعلّمان الفضيلة” وهو تصريح خطير في نظر أفلاطون الذي اعتبر أنّ من الجرأة بل الصّفاقة أن يُدليَ سفسطائي مهتمٌّ بكسب المال عبر تعليم المماحكة وقلب الحقائق بهذه الدّعوى، وهذا ما يجعله يعمد إلى عرض الحوار لإظهار كذب الادّعاء وتوضيح حجم الضّرر الذي يوقِعه السّفسطائيون في عقول العامّة وفي انتظام المجتمع والفضيلة.
يوثيديموس السّفسطائي لا يكتفي بادّعاء تعليم الفضيلة بل إنّه يزيد بالتّأكيد لسقراط أنّه وشقيقه يعلّمانها أفضل من أيِّ إنسان آخر.
صاح سقراط لدى سماعه لهذا الجواب: يا إلهي! أين تعلّمتم هذا الفنّ؟ كنت أظنّ أنّكما تتقنان فنّ القتال بالدّروع والسّلاح فقط ، لذلك أرجو أن تَعْفُوَا عن قلّة أدبي مع أشخاص عظام مثلكما، لكن هل أنتما واثقان فعلاً ممّا تقولان؟
يردّ الرّجلان بتأكيد دعواهما ويضيفان بأنّهما مستعدّان لتعليم الفضيلة لأيٍّ كان يطلب ذلك (وكأنهما يعنيان بذلك سقراط أيضاً). يردّ سقراط بأنّه متحمّس فعلاً للتّعلّم منهما وأنّ هناك أيضاً شباب مثل كلينياس وستسيبّوس ينتظرون للسّماع من الرّجلين.
يتابع سقراط مخاطباً يوثيديموس: ما يهمّني هو أن أعرف إنْ كان في إمكانكما أنْ تقنعا الشّباب الحاضرين هنا أنّ في إمكانهم تعلّم الفضيلة وأنّ عليهم أن يتعلّموها. ويشير سقراط هنا إلى وجود الشّاب كلينياس الذي يخاف عليه أنّ يسير في الطّريق الخطأ نتيجة تأثير بعض النّاس ويهمّه لذلك (على سبيل الجدل) أن يقوم يوثيديموس وشقيقه بأخذه إلى الطريق الصّحيح. بالطّبع سقراط هنا يستدرج الرّجلين وهو عالم بهشاشة منطقهما، لكنّه يريد للمجتمعين أن يلمَسوا ذلك من خلال الحوار نفسه، وهو سيلعب دوراً مهمّاً لاحقاً في هذا السّياق.

بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية
بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية

أحابيل السّفسطائيين
يبدأ هنا فصل مثير تظهر خلاله الأساليبُ الملتوية للسّفسطائيّة في ميدان المجادلة وما سمّاه سقراط “حروب الكلام”.
وافق يوثيديموس على طلب سقراط تعليم كلينياس لكنّه اشترط على الشّابّ أن يجيب على عدد من الأسئلة.
هنا يتابع سقراط رواية ما جرى لصديقه كريتو وهو يذكر أنّ يوثيديموس بدأ بطرح السّؤال التّالي على كلينياس:
يوثيديموس: أجبني يا كلينياس من الذي يطلب العلم هل هو الرّجل العاقل أم الجاهل؟
أصيب كلينياس بالحَيْرة والصّدمة لهذه البداية، لكنّ سقراط شجّعه على أن يجيب بما يفكّر به ولا يخاف!
هنا انحنى ديونيسودوروس حتى اقترب من أذن سقراط وهمس له ووجهه طافح بنشوة الفوز قائلا: مهما كان جواب الفتى فإنّني أتنبّأ لك يا سقراط بأنّه سيتمّ دحض جوابه”
يورد أفلاطون هذه اللّفتة من ديونيسودوروس ليظهرَ من أوّل الطّريق كذب السّفسطائيين في ادّعاء تعليم الفضيلة، وأنّ همّهم الأوّل هو ربح معركة الكلام وهدم المُحاوِر وليس إسداء خدمة التّعليم والإرشاد؟
أعطى كلينياس جوابه فقال إنّ الذي يطلب العلم هو العاقل.
أجاب يوثيديموس من فوره: هناك من يمكن تسميتهم المُتعلِّمون أليس كذلك؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: وهناك الأساتذة الذين يعلمون الشّباب اللّغة والقواعد أو عزف اللّير أو غير ذلك، وهؤلاء هم الأساتذة وأنتم الطلّاب؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: عندما كنتم طَلَبة في طور التَعلّم فإنّكم لم تكونوا عندها تعلمون شيئاً عمّا تتعلمونه؟
كلينياس : كلّا
يوثيديموس: وهل كنتم عقلاء عندها؟
كلينياس: لا، بالتأكيد
يوثيديموس: لكن إن لم تكن عاقلاً يومها فهذا يعني أنّك لم تكن متعلّماً
كلينياس: بالتّأكيد
يوثيديموس: إذن وبما أنّك كنت تتعلّم ما لا تعرفه فلا بدّ أنّك كنت جاهلاً عندما كنت تتعلّم؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: إذن يا كلينياس الجاهل هو الذي يتعلّم وليس العاقل كما تظنّ!
يكمل سقراط حديثه إلى صديقه كريتو فيذكر له أنّ أتباع السّفسطائيّين هبّوا في تلك اللّحظة في جوقة من الضّحك والتّهليل الحماسيّ ليوثيديموس الذي “سحق” الولد بعد سلسلة من الأسئلة التي تحمل الكثير من المنطق الشّكليّ والحيل الكلاميّة لكن التي تفتقد لأيّ محتوىً نزيه. كأنّ جمهور السّفسطائيّين كان يشهد مباراة في تسجيل الأهداف ربحها رجلهم يوثيديموس.
قبل أن يستفيق كلينياس من الصّدمة أخذ السّفسطائيّ الآخر، ديونيسودوروس بيده برفق وبدأ ما بدا أنّه فصل جديد في محاولة إذلال الشابّ. أمّا الحيلة فهي أن يظهر له ديونيسودوروس أنّ الجواب الذي أعطاه ليوثيديموس وبدا أنّه الجواب الصّحيح هو الخطأ وأنّ جوابه الأوّل الذي سفّهه يوثيديموس هو الصّحيح! وهذا هوتطبيق ما أسرّ به ديونيسيدوروس لسقراط قبل قليل عندما أكّد له بأنّ كلينياس الشابّ سيخسر الجولة مهما كان جوابه (!).
الحوار-الفخّ الذي نصبه ديونيسودوروس لكلينياس جرى كالتّالي:
ديونيسودوروس: أخبرني يا كلينياس ، عندما كان أستاذ اللّغة والقواعد يُملي عليك شيئاً ممّا يعلمه هل كان الأولاد العاقلون أم الجاهلون هم الذين يتعلّمون ما يمليه؟
كلينياس: العاقلون
ديونيسودوروس: إذن العاقلون هم الذين يتعلّمون وليس الجاهلون، وهذا يعني أنّ جوابك الأخير ليوثيديموس كان جواباً خاطئاً.مرّة أخرى. وكما روى سقراط لكريتو هبّ أنصار الرّجلين جَذلِين بالأسلوب الذي خَيّب فيه ديونيسودوروس الشابّ المسكين كلينياس مجدّداً.
أخذ يوثيديموس ناصية الحديث مع كلينياس وسأله: هل أولئك الذين يتعلمون يأخذون أشياء يعلمونها أم أشياء لا يعلمونها؟
وهنا -يقول سقراط – انحنى ديونيسودوروس باتّجاهه ليُسِرَّ في أذنه مجدّداً أنّ الأمر سيتكرّر أي أنّ كلينياس سيخسر الجولة مهما كان جوابه!
كلينياس: الذين يتعلّمون يتعلّمون الأشياء التي لا يعلمون عنها
يوثيديموس: أليست لك معرفة بالأحرف؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: كلّ الأحرف؟
كلينياس: كلّها.
يوثيديموس: إذن أنت لا تتعلّم كلّ ما يُملي الأستاذ بل الذي لا يعرف الأحرف هو الذي يتعلّم
بعد يوثيديموس تدخّل ديونيسودوروس ليبدأ جولة جديدة من هذه التّرّهات مع الشابّ الذي بدا عليه الضّيق أكثر فأكثر، وحسب سقراط بدا الشابّ مثل كرة يتقاذفها هذان السّفسطائيّان في لعبة مشينة ليس فيها شيء من تعليم الفضيلة بل كلّ ما فيها احتيال بالكلام واللّامنطق وهدف واحد هو تحطيم الطّرف المحاور. وقد ثارت الشّفقة على الشابّ في نفس سقراط وأدرك أنّه بات الآن في حاجة إلى المساعدة.
عند هذه النّقطة في المحاورة، وبعد أن يظهر سخافة الأسلوب السّفسطائي ينتقل أفلاطون ليقدّم حواراً مختلفاً تماماً يجري الآن بين سقراط وبين كلينياس، أي الشابّ نفسه الذي سعى السّفسطائيّان يوثيديموس وديونيسودوروس لإحباطه بمنطقهما الشّكلي الملفّق وأحابيلهما الكلاميّة. وقصد أفلاطون أن يقيم فوراً المقارنة بين أسلوب السّفسطائيين وبين الأسلوب السّقراطي في تربية الشّباب وتوجيهه نحو الفضيلة والسّعادة. من الناحية التقنيّة يبدو وكأنّ الحوار يجري جانباً بين سقراط والشابّ لأنّه يستمرّ لبعض الوقت، ممّا يعني أنّ الآخرين انشغلوا في نقاش آخر ممّا أعطى سقراط الفرصة لكي يحدّث كلينياس.
بادئ الأمر أوضح سقراط لكلينياس أن يوثيديموس وديونيسودروروس كانا يلعبان به ربما على سبيل تدريبه وشد عوده (سقراط يحاول دوماً إلقاء وجه إيجابي على أيّ أمر قبل أن يصل بمحاوره إلى النقطة التي يريد أن يخرج بها). واعتبر سقراط مناورات الرّجلين من قبيل “الرّقص الاحتفالي” حول كلينياس. وأضاف قوله إنّ الرّجلين غير جادّين وأنّهما يستخدمان علمها لنصب الشّراك للنّاس وتضليلهم عبر اللّعب على الكلام. وشبّه سقراط ما فعله السّفسطائيان بمن يسحب كرسيّاً من تحت شخص يهمّ بالجلوس عليها فيسقط الأخير أرضاً، فيغرق هذا في ضحك ساخر من صديقه الذي وقع على قفاه. وهذا التّشبيه الأفلاطوني لفعل السّفسطائيين فيه إدانة شديدة واتّهام لهم بسوء الأدب والرّعونة في التّصرّف.
ثم يبدأ سقراط هذا الحوار مع كلينياس يبدأ بسؤاله أولا: أليس ما يسعى إليه جميع الناس هو السعادة
كلينياس : لا يوجد إنسان على الأرض لا يسعى إلى السّعادة.
سقراط: بما أنّنا نسعى جميعاً إلى السّعادة فكيف نكون سعداء؟ ألا نكون سعداء إذا كان لنا العديد من الأشياء الجيّدة؟
كلينياس: بالتّأكيد
يسأل سقراط بعدها إذا كانت الصّحّة مثلا سبباً للسّعادة، وكذلك اليُسر أو الثّروة أوالوسامة أو الجمال وعلى كل هذه الأسئلة يجيب كلينياس بالإيجاب. يضيف سقراط عوامل مثل الأصل الشّريف والسّلطة وعُلُوّ المقام في وطن الإنسان كأسباب إضافية للسّعادة فيوافق كلينياس أيضاً.
سقراط: لكن ماذا تقول في اعتدال المزاج والشّجاعة والعدل، ألا يجب يا كلينياس أن نضيف هذه القيم إلى خانة الأمور الحسنة أي التي تعطينا السّعادة؟
كلينياس: بالتّأكيد
سقراط: فكّر يا كلينياس إذا كنا قد نسينا سبباً يحقق السّعادة أيضاً.
كلينياس: (بعد تفكير) لا أظنّ أنّنا نسينا سبباً وجيهاً من أسباب السّعادة
سقراط: لقد نسينا أهمّ سبب وهو حُسْنُ الطالع أو التوفيق. إنّ أبسط النّاس يعلمون أنّ التوفيق هو أهم سبب من أسباب السّعادة.
يوافق كلينياس على اقتراح سقراط، لكنّ الأخير يفاجئه بأنّ موافقته هنا في غير محلّها لأنّ كل ما ذكر من أسباب السّعادة قبل ذلك هي التّوفيق بعينه وحُسن الطالع، وبالتالي لم يكن ضروريّاً أن يذكر حُسن الطالع لأنّ في ذلك تكرار للأمر نفسه.
بعد ذلك سيُبيِّن سقراط لكلينياس أنّ الحكمة هي التي تجلب التّوفيق للمرء لأنه بفضل الحكمة فإنّه لن يضلّ المرء أبداً، وسيقوم بعمله جيّداً ويحقّق النّجاح. على هذا الأساس يبيِّن سقراط لكلينياس أنّ من يمتلك الحكمة لا حاجة له بحُسن الطالع أو الحظ.
يُذكِّر سقراط كلينياس بما كان قد بدأ به حديثه حول السّعادة وكيف تنجم عن امتلاك الأشياء الحسنة ، ثم يسأل الشّاب: هل تأتي السّعادة من امتلاك أشياء حسنة لا نستفيد منها أم من امتلاك أشياء حسنة نحقق فائدة منها؟
كلينياس: من أشياء نحقق فائدة منها.
سقراط: وهل نحقّق أيَّ فائدة منها إن لم نستخدمها؟
كلينياس: بالتّأكيد لا
سقراط: إذن أيّ إنسان سعيد لا يكفيه أن يكون لديه أشياء حسنة بل عليه أن يقوم باستخدامها.
هنا يبين سقراط أنّ المقصود هو استخدام الأشياء بالحقّ لأنّ استخدام الأشياء التي نمتلكها بالباطل هو أسوأ من عدم استخدامها، لأنّ الأوّل يفعل الشّرّ بينما الثاني لا يفعل خيراً ولا شرّاً.
سقراط يسأل بعد ذلك: أليست المعرفة هي التي توجِّهنا لاستخدام الأشياء الحسنة التي بين يدينا والعناية بها؟ وهو يبين لكلينياس أنّ المعرفة هي التي تعطي المرء ليس فقط التّوفيق بل أيضاً النّجاح. كما أنّه يظهر للشابّ أنّ الحكمة هي الخير الوحيد الذي يتحصّل للإنسان وليس الممتلكات، وأنّ الجهل هو الشرّ الوحيد الذي يصيبه. بناء على ذلك فإنّ كلّ إنسان عليه واجب تحصيل ما أمكنه من الحكمة قبل التّفكير بتحصيل المال وأنّ عليه أن يطلب الحصول عليها من أب أو من معلّم أو صديق سواء كان مواطناً أم أجنبيّاً.
هنا يثير سقراط نقطة تشكل مفترق خلاف أساسيّ مع السّفسطائيّين وهي أنّ الحكمة يمكن تعليمها ولا تأتي بصورة عفويّة للإنسان. على هذه النّقطة يسارع كلينياس للموافقة مؤكّدا لسقراط أنّه يؤمن بانّ الحكمة يمكن تعليمها، وهذا ما بعث السّرور في نفس الأخير.

أفلاطون الحكيم
أفلاطون الحكيم

سقراط يتحوّل لفضح السّفسطائيّين
بعد إعداد كلينياس وتوضيح الأمور له أخذ سقراط يمهّد لجولة مواجهة مع السّفسطائيَّيْن اللّذَيْن بدآ بمحاولة هدم معنويات الشابّ وإظهار تفوّقهما بحيل كلاميّة. سقراط أوصل كلينياس إلى أنّ كلّ امرئ يهدف إلى السّعادة، وأنّ السّعادة تأتي من الحكمة ومن المعرفة بكيفيّة التّعامل مع الأشياء، مثل الثّروة أو المهارات المختلفة. والأهمّ أنّ الحكمة أو المعرفة يمكن أن تتأتّى بالتّعليم. وفي هذا التّأكيد الذي أوصل سقراطُ كلينياسَ إليه تمهيد مهمٌّ للمواجهة لأنّ السّفسطائيّين لا يعتقدون بأن الحكمة أو المعرفة يمكن تعليمها.
توجّه سقراط هنا إلى الأخَوَيْن يوثيديموس وديونيسودوروس وقال:
أوَدّ أن أعلم رأيكما في ما إذا كان على هذا الشاب (كلينياس) امتلاك المعرفة كلها أو أن هناك نوعا من المعرفة يمكن أن يجعله صالحا وسعيدا وما هي تلك المعرفة في هذه الحال؟ وكما أوضحت سابقا فإننا نعلق أهمية كبيرة على أن نعطي هذا الشاب المزيد من الحكمة والفضائل.
على هذا السؤال البديهي كان جواب ديونيسودوروس صادما فعلا . فهو سأل سقراط: هل أنت جادّ في هذا السؤال أم إنك تمزح؟
أجاب سقراط: نحن جادّون تماما
ديونيسودوروس: أي أنكم ترغبون فعلا في أن يتعلّم كلينياس الحكمة؟
سقراط: بالتّأكيد

ديونيسودوروس: أليس كلينياس حكيماً بعد؟
سقراط: نحن نتمنّى أن يصبح كذلك وأن لا يكون جاهلاً.
ديونيسودوروس: أيّ أنّكم تريدون منه أن يكون ما ليس هو
دهش سقراط لهذا التّفلسف. لكن ديونيسودوروس أكمل منطقه الأعوج بالقول: أنت تريد من كلينياس أن يكون إنساناً آخر غير كلينياس أي أنّك تريد منه أن يموت؟
هذا الجواب من ديونيسودوروس فجّر الوضع إذْ هب ستسيبّوس وهو صديق حميم لكلينياس غاضباً مخاطباً السّفسطائيّ بالقول: لولا واجب الأدب أيّها الغريب لكنتُ قلتُ لك: ليذهبْ بك الطاعون! ما الذي يجعلك تردّد مثل هذه الأكاذيب عني وعن الآخرين.
أخذ يوثيديموس الحديث ليسأل ستسيبّوس: وهل تعتقد أنّ بإمكان إنسان أن يقول كذباً؟ ويبدأ نقاشاً طويلاً آخرَ لا يقلّ عقماً عن الحوارات السّابقة، لكن يظهر من خلاله مدى اعتماد السّفسطائيّين على المماحكة والجدل اللّامنطقي من أجل كَسب جولة النّقاش ستسيبّوس الذي يتمتّع بثقافة وبشخصيّة نقديّة وصراحة ردّ على يوثيديموس بالقول: ماذا تعني بقولك هذا يا يوثيديموس؟ لقد كنت أُدْهَشُ دائماً وأنا مندهشٌ الآن لسماع هذه المقولة التي تردّدها والتي استخدمها تلامذة بروتاغوراس وآخرون قبلهم، إنّها تبدو لي فكرة رائعة وانتحاريّة كما هي مدمّرة وهي قولكم: “لا يوجد شيء اسمه الكذب” لأنّ المرء إمّا أن يكون صادقاً في قوله أم ان يكون كاذباً. وأنا أسألك يا يوثيديموس: هل أنت جادٌّ في قولك أنّه لا يوجد هناك جهل أم أنّك تستخدم القول على سبيل المثال أو المجاز.
يوثيديموس: فلتدحض هذه المقولة إذن.
ستسيبّوس: كيف تطلب منّي أن أدحض قولك وأنت القائل بأنّه لا يمكن لأحد أن يقول كذباً؟!

“سقراط يخاطب السّفسطائيّ يوثيديموس: إنْ لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبـــــرني بحقّ السماء ما الذي أتيــت إلى هنا لتعلِّمه؟!”

الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثة
الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثةال

هجوم مباغت من سقراط
كان جواب ستسيبّوس مفاجئاً ومفحماً للسّفسطائيّ المغرور. وفي هذه اللّحظة قرّر سقراط التّدخّل، موجّهاً الكلام ليوثيديموس.
سقراط: إنّ لديّ فهماً شحيحاً لهذه الأمور المعقّدة وآيات الحكمة التي تأتي بها يا يوثيديموس، وأنا أبذل جهداً لكي أفهم تلك الأمور. لذلك أرجو منك أن تعذرني إن طرحت عليك سؤالاً أحمقَ وهو: إذا كان الكذب غير موجود وإذا كان الرّأي الخاطئ أو الجهل كذلك لا وجود لهما فإنّه لن يكون هناك عمل خاطئ لأنّه لا يمكن للمرء أن يرتكب خطأً في العمل، أليس هذا ما تعنيه؟
يوثيديموس: هذا ما أقصده
سقراط: سأطرح عليك الآن السّؤال: إن لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبرني بحق السّماء ما الذي أتيت إلى هنا لتعلِّمه؟ ألم تَقُلْ قبل قليل أنّ في إمكانك أن تُعلِّم الفضيلة أحسن من أي إنسان آخر لأيِّ شخصٍ يرغب في تعلُّمها؟
هذا السّؤال من سقراط يُعتَبرُ ذروةَ الحبكة الأفلاطونية وهو ولا شكّ النّقطة التي تهاوى عندها مثلَ بيت من الرّمال منطقُ السّفسطائيّين.
ماذا كان ردّ فعل ديونيسودوروس على هذه الصّفعة من سقراط؟
لنسمع كيف أجاب هذا الدّعيّ قال: هل أنت جاهل إلى هذه الدّرجة يا سقراط بحيث تثير الآن كلاماً قلتَه في أوّل الجلسة أوربّما كلاماً قلتَه في العام الماضي؟
أي أنّ هذا السّفسطائيّ لم يجد دفاعاً سوى لَوْم سقراطَ كيف يثير في وجهه كلاماً قاله قبل قليل، “أو قاله السّنة الماضية”! وهذا بالطبع تدليسٌ صريحٌ واستهزاءٌ بعقول الحاضرين كـأن ديونيسودوروس يأخذ بالقول المأثور “كلام الليل يمحوه النّهار” أي لا قيمةَ لأيّ كلام أوموقف فالمسألةُ كلُّها إذن لَعبٌ.
حافظَ سقراط على هدوئه متابعاً المناقشةَ، مضيِّقاً حلقة المنطق عليهم ومظهراً تناقض كلامهم في أيّ أمر يتحدّثون به. وبالطّبع فإنّ هدفَ سقراط لم يكن النّقاش للنّقاش بل لكي يُظهر للشّباب الحاضرين بمن فيهم كلينياس وستسيبّوس هُزالَ منطق هذين الغريبين عن المدينة كما أصبح يسمّيهما، مُسْدِياً بذلك خدمة الحكمة بصورة غير مباشرة للشّبان الحاضرين.
أحد الأمثلة على تهافت منطق الرّجلين كانت مثلاً رفض ديونيسودوروس أن يجيب عن أسئلة سقراط وإصراره أن يجيب سقراط بنفسه عن أسئلته. في مكان آخر يُحرج سقراط ديونيسودوروس في مسألة فيغضب يوثيديموس على أخيه مظهراً له أنّه أعطى بأدائه الضّعيف فرصة لكي يحشرهما سقراط ويظهر فشلهما.
هنا يعيب سقراط على يوثيديموس ضَعف منطق شقيقه، فماذا كان جواب يوثيديموس:
قال بكل صفاقة: وهل تزعم يا سقراط أن ديونيسودوروس هو شقيقي؟!!!
هذه عيّنة أخرى من اللّامعقول الذي ينحدر السّفسطائي إليه عندما يجد نفسه وقد وقع في الشّرَك الذي ينصبه للآخرين وهو سلوك يقترب من السّخف المطلق.
على هذا النوع من الهذر لم يتمالك ستسيبّوس نفسه فخاطب الرّجلين بالقول: أيُّها الغريبان! يبدو لي، وبغض النّظر عمّا تعتبران نفسيكما أنّه لا مانع لديكما أبداً لإطلاق كلام فارغ ولا معنى له!
هنا يدخل سقراط على الخطّ ليقدّم للشّباب المستمعين وصفاً آخرَ ممتعاً لهذين السّفسطائيّين. فيقول: هذان الرّجلان ليسا جِدّيّيْن على الإطلاق، لكنّهما مثل ساحر مِصرَ بروتيوس يستخدمان السّحرَ ليظهرا بصور مختلفة فيصيبا النّاس بالدّهشة والذّهول.
يغتنم سقراط هذه السّقطة المنطقيّة الأخيرة من يوثيديموس ليُظهرَ في المقابل نظرة الحكمة الحقيقيّة لأمرِ الفلسفة ولأسلوب تحصيل الفضيلة والمعرفة وهو يسهم بذلك في إظهار التّناقض بين العبث السّفسطائيّ وبين الفائدة الكبيرة التي تنجم للإنسان من تحصيل المعرفة.
وهو يخاطب كلينياس وستسيبّوس وأصحابهما مُذكّرا بأنّ الجميعّ اتفقوا على أهمّية دراسة الفلسفة باعتبارها طريق تحصيل المعرفة، لكنّه يوضح أنّ المَعرفة المطلوبة ليست أي معرفة بل هي التي تحقّق الخير لصاحبها. وهو يذكر الشّباب هنا بأنّه “لو عرفنا جميع الأماكن التي يوجد فيها ذهب في العالم أو لو وجدنا طريقة لتحويل حَصى الأرض إلى ذهب فإنّ ذلك العلم لن يكون له أيُّ فائدة إن لم نكن نعلم كيف نستخدم الذّهب”، أو “لو كان هناك علم يجعل النّاس يعيشون إلى الأبد لكنْ دون أن يزوّدهم في الوقت نفسه بعلم يرشدهم إلى الكيفية التي يستخدمون بها ذلك الخلود فما هو نفع ذلك العلم؟”. وكذلك فإنّ تعلّم أيِّ علمٍ لصُنع الأشياء مثل علم جمع المال أو الطب أو أي فن من الفنون الأخرى سيكون بلا فائدة إن لم نتعلم كيف نستخدم هذه الفنون ونفيد منها في طريق الخير. وبهذا المعنى فإن الفن الذي يصنع الأشياء هو غيرُ الفنّ الذي يعلّمنا كيف نستخدمها بالصورة المُثلى، وهذا مثل الفارق بين من يعرف كيف يصنع آلة موسيقيّة مثلَ العود وبين من يعرف كيف يَعزف عليها.
وسقراط يعيد عن طريق هذه الملاحظة التشديد على أهمّية العلاقة بين المعرفة وبين استخدامها، فلا فائدة من أيّ معرفة إذا لم يكن ممكناً استخدامها في أمر مفيد. وفي هذا تمهيد لتسديد ضربةً قاضيةً للسّفسطائيّة التي تتلهّى بالمعارك الكلاميّة وتسجيل النّقاط والظّهور بمظهر التّفوّق، لكن دون أن يكون لما تقوله أيُّ فائدة أو استخدام عَمَليّ. لقد كانت السّفسطائيّة مرض حقيقيّ ابتُليت به أثينا والمدن اليونانيّة في زمن سقراط وما بعده، لكنّه نَهْج لم يَطُل الأمر به حتى ظهر فساده للجميع فلم يبقَ من آثاره إلا ما ندر.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي