حكايات وعِبَر الحكيم الساخر
مُلّا نَصْرُ الدِّينْ
شخصية ألهبت مخيلة الناس وأثْرَت المكتبة العالمية
بألوف الحكايات الساخرة الغنية بالحكم وعبر الحياة
هناك الكثيرُ من الحمير المقيدين بوهم المعرفة
يعتبر نصر الدين خجا (ملّا نصر الدين) شخصية بالغة الأهمية في الإرث الشعبي لبلدان وسط آسيا، والصور الموروثة عنه أنه “حكيم” واسع المعرفة سريع الفطنة حاد الذكاء إلا أنه يلبس حكمته والعبر التي يأتي بها طابع السخرية واللامعقول، وهذا الأسلوب تميّز به نصر الدين وبات طابعه الشخصي في إيصال تعليمه وحكمته لعامة الناس بأسلوب الفكاهة والمفارقة والمفاجأة، ولم يكن لدى نصر الدين أي مشكلة في أن يظهر للبعض باعتباره غريب الأطوار، وربما كان أسلوبه وأسلوب بعض الوعاظ من أمثاله وراء القول الشائع في العربية “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” وهذا القول الهدف منه تنبيه العامة إلى أن أهل العقول قد يستترون أحياناً في قناع الغرابة أو السخرية كجزء من أسلوبهم أو رسالتهم في الحياة. وقد جعل نصر الدين رسالته في الحياة أن يجعل الناس يضحكون على أنفسهم ويضحكون من كثرة ما هو غريب ومتناقض في المجتمع، بل إن هدف نصر الدين أن يبرهن للعامة الذين يعتقدون انهم على جانب الإدراك والفهم أنهم هم الحمقى لكنهم ربما لا يدركون ذلك ، وأن الحكمة قد تأتي إليهم متنكرة بثوب الغرابة، وعليهم بالتالي أن لا يهملوها كما لو أنها كلام حمقى أو بهاليل. والحكيم أو الفيلسوف الشعبي حرّ في الأسلوب الذي يبلغ فيه مواعظه وتعليمه، وهناك من الأساليب في توصيل التعليم والتربية على عدد ما وجد من حكماء ومرشدين وممثلين لثقافة العقل والإتزان. وها هو أبو يزيد البسطامي وقد كان، من أجل أن يضرب مثلاً في قهر النفس، يختار بعض أماكن الحي التي يكثر فيها الأولاد ويلبس من غريب الأسمال والثياب ما يجعله على الفور عرضة لمداعبات الأولاد وتحرشاتهم وقد كان بعضهم يرميه بالحجارة، فيقول إن طريق الله هي في احتمال المشقات وما يخالف النفس.
إذاً أسلوب نصر الدين خجا في إيصال الأمثال يستعير من حكماء الأزمان وقيمة الغرابة في الصدم وتنبيه الناس من غفلتهم وتعريفهم بتناقضاتهم ونواحي الضعف في مسلكهم، لكن على الرغم من أهمية نصر الدين في الأدب الشعبي فإنه لا يوجد اتفاق واضح على تصنيفه بإستثناء بعض الصوفية الذين اعتبروه “صاحب سرّ” أي اعترفوا له بالولاية وإن كانوا اتفقوا على أن حياته بقيت محاطة بالأسرار والغموض.
تكريماً لهذه الشخصية المثيرة أعلنت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)عام 1996-1997 السنة العالمية لنصر الدين، وكرست دولاً عديدة ذلك العام للتعريف بشخصيته وحكاياته وحكمه وعقدت الندوات الثقافية والأمسيات والاحتفالات الشعبية وأنتجت أفلاماً ووثائق عن ملا نصر الدين. أما بلدة آق شهر التي يقال إنه ولد فيها حسب المصادر التركية فإنها تنظم سنوياً مهرجاناً الملا نصر الدين ما بين 5 و10 تموز/يوليو من كل عام.
وبالنظر الى أهمية هذه الشخصية الشعبية وأثرها الذي امتد مع الوقت ليطاول مختلف البلدان والحضارات تبدأ مجلة “الضحى” مع هذا العدد نشر سلسلة من الحلقات تتناول شخصية هذا الدرويش الساخر وأهش حكاياته مع التعليق على مغزاها، ونبدأ في هذه الحلقة بالتعريف بشخصية ملا نصر الدين نفسه وتقديم بعض الأمثلة على فلسفته في الحياة والتعليم الذي تمكّن من أن يوصله الى مختلف فئات العامة عبر روح الطرفة والغرابة التي اشتهر بها.
“الضحى”
الفلسفةُ الساخرة هي أدبٌ هادف في تراث الشعوب منذ عهود قديمة، وقد استخدم سقراط السخرية الفلسفية لفضح زيف السوفسطائيين، وقد استُحضِرَت السخرية في السياق الفلسفي لإيصال المغزى والعِبرَة الحكميّة بشكلٍ سلس وقابل للفهم. وفي إحدى محاورات أفلاطون، يقول سقراط بعبارة ظريفة ذات مغزى عميق إنَّ أُمَّه “كانت قابلة تستولد النساء وهو غدا يستولد العقول!”. وتظهر الفلسفةُ الساخرة التناقضَ والمفارقة لدى المتشكّكين بأسلوبٍ حكمي يدفع إلى البحث في الذات واستكشاف الحق والخير والجمال، أي إنّها تحفّز يقظة ذاتية من خلال العِبْرَة المستخلصة من الحكمة الساخرة.
في التراث الإسلامي، هناك شخصية ألهبت مخيّلة الشعوب وأصبحت مثالاً للحكمة والفطنة والموعظة والعِبرة الكامنة وراء قصص ونوادر ساخرة، إنّها شخصية ملّا نَصْر الدِّين الذي يختلف عن جُحا العربي، الشخصية المماثلة التي اشتهرت في أدب الطُرفة من التراث العربي منذ القرن التاسع وربّما السابع ميلادي. وعلى الرغم من الخلط بين الشخصيتين. فإننا نرى أنّ ملّا نَصْر الدِّين أكثر تميُّزاً بحكمته وعمق تفكيره وأسلوبه اللاذع في إظهار الحقائق للناس بطريقة “تعليمية” (Pedagogical).
مَنْ هو ملّا نَصْر الدِّين؟
بحسب التقليد التركي هو درويش صوفي عاش ومات خلال القرن الثالث عشر ميلادي في بلدة “آق شهر” بالقرب من مدينة قونية التركية، عاصمة الدولة السلجوقية في بلاد الروم آنذاك، ويدّعي أهل البلدة أنّ قبره موجودٌ فيها. وبينما يتشابه مع جُحا بقصصه الفكاهية وحكاياه الساخرة، فإنّ ملّا نَصْر الدِّين يُعتبر من خلال هذا التراث العالمي فيلسوفاً وحكيماً وصاحب فطنة ومعلِّماً مُرشِداً ولو بأسلوبٍ ساخر، قد يبدو حماقةً للبعض لكنّه في حقيقته أشبه بإلهامٍ روحي وحكمةٍ تنويرية جارية على لسان صوفي عارف إلا أنه يخفي علمه وراء قناع الرجل الأحمق أو الغريب الأطوار.
التراث الفارسي بدوره ينسب ملّا نَصْر الدِّين إلى مدينة خوي في منطقة أذربيجان الغربية. وتقول الرواية الفارسية:تدّعي شعوب الأوزبك في أوزبكستان أنّ ملّا نَصْر الدِّين وُلِدَ وعاش في مدينة بُخارى، وهم في الأمسيات والاجتماعات العائلية يتسامرون بقصصه الحكميّة التي يُطلِقون عليها “لطيفة الأفندي”.
ولا يقف الأمر عند الأتراك والفرس والعرب في ادّعاء انتماء مُلّا نَصْر الدِّين إليهم، فنجده عند الأفغان، ومُسلمي مقاطعة سكيانغ الصينية، وكذلك في ألبانيا، والبوسنة، وبلغاريا، وروسيا، ورومانيا، وفي ثقافة الأوردو، وذلك بتسمياتٍ مختلفة مقرونة بلقب “خُجا”، وخواجة”، و”خودجا”، و”أفندي”، وغيرها، وأحياناً يُختصَر فقط بلقبه “مُلّا”.
ودخلت قصصُه ضمن التراث الشعبي البلغاري الذي ازدهر خلال الفترة العثمانية كرجلٍ قروي حكيم. أمّا في صقلية، التي سادَ فيها الحُكم العربي لقرون، فعُرِفَ بإسم “جيوفا” (Giufà)، وعُرفت هذه القصص أيضاً في رومانيا عبر حِكَم شعرية من تأليف الشاعر واللغوي الكبير أنطون بان العام 1853.
الخلط بين مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا
أمّا في الثقافة العربية فقد جرى الخلط بين شخصيتَي مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا في القرن التاسع عشر بعد أن تمّت ترجمة مجموعات من نوادر جُحا من العربية إلى التركية والفارسية. ففي التاريخ العربي الإسلامي، تعود شخصية جُحا بدايةً إلى القرن السابع الميلادي حيث يتحدّث التراث العربي عن شخصية فكاهية في العصر الأموي تُدعَى أبو الغصن دُجين الفزاري، وشخصية أخرى في القرن التاسع ميلادي هو أبو نواس البغدادي، نديم الخليفة هارون الرشيد، وقد شاعت نوادره في أرجاء العالم العربي خلال القرن الحادي عشر ميلادي.
تراثٌ عالمي
في ما تتوالى الأجيال، تُضاف قصصٌ جديدة إلى إرث ملّا نَصْر الدِّين، مع بعض التعديل، وأصبحت مواضيع هذه القصص جزءاً من التراث الشعبي لعددٍ من الدول لتعكس الخيال الخصب لمجموعة متنوّعة من الثقافات وكلّها تنطوي على حكمة شعبية تنتصر على كلّ التجارب والمحن. وجدير بالقول إنّ أقدم مخطوطات متبقّية لقصص ملّا نَصْر الدِّين، هي تركية، تعود إلى العام 1571 ميلادي.
واليوم، تتناقل قصصُ ملّا نَصْر الدِّين في أرجاء العالم الإسلامي، وحتى دول أخرى من العالم، بعد أن تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات، وحيث كلّ شعب طوَّر شخصية مماثلة للمُلّا الذي أصبحت قصصه جزءاً من الأرث الشعبي.
حتى في الصين تنتشر جميع قصص ملّا المعروف هناك بتسمية “أفنتي” بحسب لسان شعوب “اليوغور” الإسلامية. وتدّعي شعوب “اليوغور” في منطقة تركستان الشرقية الصينية أنّ الـ “أفنتي” (الأفندي) هو من مقاطعة سكيانغ.
وفي العام 1979، أنتج أستوديو صناعة الأفلام في شنغهاي Shanghai Animation Studio مسلسل رسوم متحرّكة من 13 حلقة تتمحور حول شخصية مُلّا نَصْر الدِّين تحت عنوان “قصة الأفنتي” وأصبح أحد الأفلام الرسومية الأكثر تأثيراً في تاريخ الصين. وكذلك فعل الروس، في الحقبة السوفياتية، حيث أنتجوا العام 1943 فيلماً بعنوان “نَصْر الدِّين بُخارى”، مستنداً إلى رواية للكاتب ليونيد سولوفيوف في العام 1947، كما أنتج فيلمٌ آخر بعنوان “مغامرات نَصْر الدِّين”. أمّا الموسيقار الروسي الشهير شوستاكوفيتش فقد كرّم نَصْرَ الدِّين بمقطع من سمفونيته الـ 13 يصوّر الفكاهة “العميقة” كسلاح ضد الديكتاتورية والطغيان.
ونشر الفيلسوف الصوفي إدريس شاه مجموعات من قصص ملّا نَصْر الدِّين باللغة الإنكليزية، وشدّد على قيمتها التعليمية.
وكان ملّا نَصْر الدِّين الشخصية الرئيسية لمجلة دورية ساخرة تحمل إسمه نُشرِت في أذربيجان وكانت “مقروءة عبر أرجاء العالم الإسلامي من المغرب إلى إيران”. نُشرت بداية في تفليس (ما بين العامين 1906 و 1917)، ومن ثم في تبريز (العام 1921)، وباكو (ما بين 1922 و1931) باللغتين الآذرية والروسية، وكانت تُحارِب عبر هذه الشخصية عدمَ المساواة والتعصُّب الثقافي والديني والفساد.
ومقارنة بنوادر جُحا، تبدو قصص ملّا نَصْر الدِّين الساخرة أكثر حكمةً وإرشاداً وتُفهَماً على مستوياتٍ عديدة، أو كما يُفسِّرها بعض الباحثين: نكتة، يعقبها عِبرة، ومن ثم نفحة تدفع الباحث عن الحقيقة للتأمل في تناقضات النفس وقصور الإنسان.
في ما يلي وعلى سبيل المزيد من التعريف بـ “ملّا نصرالدين” نعرض لباقة من حكاياته وقصصه الساخرة ونُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية1 كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسية والتركية، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً:
لا وعْظَ لمَنْ لا يَعْلَم
دُعِيَ ملّا نَصْرُ الدِّين يوماً ليعظَ القوم. وما إنْ صعِدَ إلى المنبر حتى سألَ الحاضرين:
“هل تعلمون ما سأقوله”؟
فأجابوا: “لا”.
فبادر إلى القول: “لا رغبةَ لي في التحدُّث إلى قوم لا يعلم عمّا سأتحدّث عنه!”، وغادر المكان.
وشَعَرَ القومُ بالإحراج واستدعوه مجدداً في اليوم التالي. وهذه المرّة، حينما طرحَ السؤالَ ذاتَه، أجابَ القومُ بـ “نعم”.
عندها قال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، بما أنّكم تعلمون مسبقاً عمّا سأقوله فلن أهدرَ مزيداً من وقتكم!”، وانصرف.
وهنا وقعَ القومُ في الحيرة تماماً. وقرّروا المحاولة مرّة أخرى، ودعوا ملّا مجدداً ليعظهم في الأسبوع التالي. وسألهم مرّة أخرى:
“هل تعلمون ما سأقوله؟”
وكان القومُ عندئذ مستعدّاً فأجابَ نصفُهم بـ “نعم”، فيما أجابَ النصفُ الآخر بـ “لا”.
عندها قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “دعوا النصفَ الذي يعلم ما سأقوله يُخبِر النصفَ الآخرَ الذي لا يعلم”.
وأخلى المكان.


نصرالدين مرشداً صوفياً
كان ملّا نَصْرُ الدِّين يسير في السوق مع مجموعة كبيرة من أتباعه. وكلُّ ما كان نَصْرُ الدِّين يقوم به، يفعلُ الأتباعُ مثلَه على الفور، فما أنْ يخطو نَصْرُ الدِّين بضعَ خطواتٍ حتى يُلوّح بيديه عالياً، ومن ثم يلمس قدمَيه ويقفز في الهواء صائحاً: “هو هو هو!” وكان الأتباعُ يتوقّفون ويقومون بالأمر ذاته.
وتقدّم أحدُ التجّار الذي يعرف ملّا نَصْرَ الدِّين وسأله:
“ماذا تفعل يا صديقي القديم؟ ولماذا يُقلِّدُك هؤلاء القوم على هذا النحو الغريب؟”
أجابه نَصْرُ الدِّين: “لقد أصبحتُ شيخاً صوفياً، وهؤلاء هم المُريدون؛ وأنا أُساعدهم على تحقيق الكشف العرفاني!”.
فسأله التاجر: “كيف تعلم متى يبلغون مرحلة الكشف العرفاني؟”
فقال: “هذا أمرٌ سهل! أُعِدِّهم كلَّ صباح، فأولئك الذين غادروا المجموعة هم الذين بلغوا مرحلة الكشف!”.
بُورِكتَ خجا أفندي
طلب نَصْرُ الدِّين خجا من مُريدِيه أنه بمجرد أن يعطسَ فإن عليهم أن يُصفقوا بأيديهم ويصيحون: “بُورِكتَ خجا أفندي!”.
وصودِفَ يوماً أن وقع دلوٌ في البئر […] فنزلَ نَصْرُ الدِّين إلى قعره، والتقط الدلو، وأخذ الفتيةُ يسحبونه إلى الأعلى، وإذْ به قبل أنْ يصل إلى حافة البئر أنْ عطسَ صدفةً. عندئذ بادر تلاميذه التزاماً بأمر معلِّمهم إلى إفلات الحبل، مصفقين في الهواء، مُهلِّلين صادحين بحناجرهم: “بُورِكتَ خجا أفندي”، فسقط نَصْرُ الدِّين إلى قعر البئر بعنف مرتطماً بجدرانه […]،
وقال: “حسنٌ أيُّها الفتية، هذا ليس ذنبكم، بل ذنبي: الكثير من التعظيم ليس صالحاً للمرء”.
بين المعرفة والجزرة
قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “المعرفةُ هي كالجزرة (النابتة في التربة)، قلَّ مَنْ يُدرِك وهو ينظر إلى الجزء الأخضر الظاهر منها، أنّ ما يتوارى منها هو الجزءُ الأفضل فيها. وكشأن الجزرة، إذا لم نعمل لأجل ذلك الجزء (المتواري من المعرفة)، فسيذبل ويذوي. وأخيراً، تماماً كما هو الأمر مع الجزرة، هناك الكثيرُ الكثير من الحمير المقيدين بوهم المعرفة!”.
زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين
قالت زوجةُ نَصْرِ الدِّين خجا: إنّهم يُعاملون المرأة في مجتمعنا وكأنَّ لا إسمَ لها، فيُقال دائماً إنّها زوجةُ فُلانٍ ابن فُلان. لقد ذَكَرْتُ ذلك أمام زوجي مرّة – وصدِّقوني، لم يكن ذلك لإلقاء اللوم على أيٍّ كان أو لتوبيخه، فتأثَّر زوجي أيما تأثُّر وانتابهُ الحزنُ وقال لي: “أنتِ على حق، يا زوجتي العزيزة، ومن الآن فصاعداً متى سُئلت عن إسمي، فإنني سأجيب: أنا زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين خُجا”.
شمعةٌ في الليل
قال مُلّا نَصْرُ الدِّين: “يمكنني أنْ أرى في الظلام”.
فسأله أحدُهم: “قد يكون الأمرُ كذلك مُلّا. لكن لو كان صحيحاً كما تقول، لماذا تحمل أحياناً شمعةً في الليل؟”.
فأجاب: “كي أمنعَ الآخرين مِنَ الاصطدام بي”.
تهريبُ الحمير!
إعتاد ملّا نَصْرُ الدِّين أنْ يَعْبُرَ فوق حماره الحدودَ كلّ يوم، والسلّتان على جانبَي الحمار مملؤتان بالقش. وفيما كان يبدو كمهرِّبٍ وهو عائدٌ أدراجه إلى البيت مُتعباً كلَّ مساء، دأبَ حُرّاسُ الحدود على تفتيشه مراراً وتكراراً، يُدقّقون في ثيابَه، ويُنقّبون في القش وينقعونه في الماء، ويحرقونه بين الحين والآخر عبثاً […]. وصُودِفَ أنْ التقاه أحدُ آمِري الحرّاس بعد ذلك بسنين.
وسأله: “يمكنك الآن أنْ تُخبرني يا نَصْرُ الدِّين ما الذي كُنتَ تُهرِّبه، وما استطعنا أبداً الإيقاع بكَ؟”.
فأجابه ملّا نَصْرُ الدِّين: “الأمر سهل كنت أهرِّب الحمير!”.
الحمّالُ المحتال
ذات يوم، ابتاعَ نَصْرُ الدِّين خجا الكثيرَ من سوق بلدة “آق شهر” وعثرَ على حمّالٍ لينقل له كلَّ ما اشتراه، وكانت للحمّال سلّةٌ كبيرةٌ على ظهره أثقلها الخجا بكلِّ مشترياته، واتّجها معاً نحو منزل نصر الدين. وكان نَصْرُ الدِّين يسير في المقدّمة ليدل الحمال على بيته والحمال يسير خلفه، لكنّ الحمّالَ المحتال قرّر الفرار بمشتريات الخجا بدلاً من تلقِّي أجره.
وسرعان ما لاحظ الخجا أنّ الحمّالَ المخادع لم يعد يتّبعه، وقد توارى عن الأنظار. وشكا نصرالدين ذلك لصحبه وجيرانه، لكنّ لا أثرَ للحمّال.
وبعد ذلك بعشرة أيام، وفيما كان نصرالدين وصحبُه جُلوساً في مقهى، لمحَ أحدُهم الحمّالَ اللص. وقال وهو يُشير باتّجاه الرجل: “انظرْ نصر الدين أفندي! أليسَ ذلك هو الحمّال الذي أضعته؟”.
لكنّ ملّا نَصْرَ الدِّين بدلَ أنْ يهبَّ نحو الرجل ويتصدّى له، حاول الاختباء. فقال الجميعُ في المقهى ذهولاً: “خجا أفندي، لماذا لا تذهب وتُواجه الرجل؟”.
فقال: “ماذا لو سألني أنْ أدفعَ له أجرَ حمّالٍ لعشرة أيام؟”.


الرجلُ على الشجرة
حدثَ ذات يوم أنْ تسلَّقَ رجلٌ شجرة،
وفيما كان يتسلّقها، لم يُدرِك مدى طولها بالفعل، وواصلَ الصعود، وما إن وصلَ إلى أعلاها، نظرَ إلى الأسفل، فأيقنَ أنّ النزولَ عن الشجرة لن يَكون سهلاً كتسلُّقِها، ولم يجد وسيلةً للنزول من دون أنْ يؤذي نفسَه.
سألَ القومَ الذين صُودِف مرورهم في المكان المساعدة. لكنّ أحداً لم يسعه التفكير بطريقةٍ لإنزاله بشكلٍ آمن. وما هي إلا هُنيهة حتى تجمّعَ حشدٌ من الناس حول الشجرة لمساعدة الرجل، لكن أُسْقِطَ في أيديهم. وبقيَ الرجلُ عالقاً أعلى الشجرة.
وصودف مرور ملّا نَصْرِ الدِّين، فرأى ما يحدث وتساءل ما الخطْب؟ أطلعَه الجمع المحتشد في المكان عمّا ورطة الرجل العالق في الشجرة. فقال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، سأُنزله سريعاً”. فأخذ حبلاً ورمى طرفَه عالياً نحو الرجل، وأخبره أنْ يربط الحبلَ حول خصره. وتساءل الجميعُ عمّا يُخطِّط له نَصْرُ الدِّين. وعندما استوضحه أحدُهم، أجاب: “دع الأمرَ لي فحسب. إنّها خطةٌ مُحْكَمَة.
وما إنْ ربطَ الرجلُ الحبلَ بإحكامٍ حول خصره، حتى جذبَه نَصْرُ الدِّين بكلِّ قوته. فوقعَ الرجلُ من أعلى الشجرة وتأذَّى بشدّة. وصُدِمَ الحاضرون والتفتوا نحو نَصْرِ الدِّين سائلين: “ما هذا الذي فعلته ؟ أيُّ خطةٍ سخيفة هي تلك؟”.
فأجاب نَصْرُ الدِّين: “حسناً، لقد فعلتُ الأمرَ ذاتَه مرةً وأنقذتُ حياةَ رجل”.
فسأله أحدُهم: “هل ذلك صحيح؟”.
أجاب نَصْرُ الدِّين: “حتماً!”، لكنّه أردفَ قائلاً: “الشيء الوحيد الذي لا يسعني تذكُّره هو هل أنقذت ذلك الرجل من شجرة أو من بئر”.


مَرَقُ مَرَقِ الأرنب
قصدَ بضعةُ أشخاصٍ من قريةٍ مجاورةٍ بلدةَ “آق شهر” في تجارةٍ ما، وعند نهاية النهار، قرعوا بابَ نَصْرِ الدِّين خجا، وهو مِن معارفِهم:
“خجا أفندي، بما أنّنا في بلدتكم، عنَّ لنا أنْ نقومَ بزيارتكم. وهاكُم أرنبَ عربونَ احترامنا لكم”.
رحَّبَ الخجا بضيوفه وسألهم البقاءَ لتناول العشاء. فأعدَّت زوجته الأرنبَ وتناولَ الجميعُ وجبةً شهية. وبعد بضعة أيام، طرقَ البابَ مجدداً آخرون. لم يعلم الخواجة مَن هم، لذا عرّفوا عن أنفسهم قائلين:
“ نَصْرُ الدِّين أفندي، نحن أقاربُ الصَحْب الذين أحضروا لكَ الأرنب”. كانوا يمرّون ببلدة “آق شهر” وخطر لهم زيارتكم.
رحَّبَ نَصْرُ الدِّين خواجة وزوجتُه بهم في بيتهما كُلَّ ترحيب، وأعدَّا حساءً للعشاء.
وأوضحَ الخجا: “إنّه مَرَق الأرنب”.
ومرَّ يومان وإذ بمجموعةٍ أخرى من الغرباء تقف بباب ملّا نصر الدين. قالوا:
“جئنا من قرية القوم الذين أحضروا لكَ الأرنب”.
ولم يكن أمامَ الخجا خيارٌ سوى دعوتهم للدخول. وعندما حانَ موعدُ العشاء، أحضرَ الخواجة قِدراً كبيراً من ماء البئر ووضعُه على المائدة.
فتساءل الضيوفُ بإستياء: “ما هذا يا خجا أفندي؟”
فصاحَ الخجا في وجههم قائلاً: “إنّه مَرَقُ مَرَقِ الأرنب”.
الولدُ الحمار
في يومٍ من الأيام، اشترى نَصْرُ الدِّين خجا من السوق حماراً، وأمسكَ بإحكامٍ حبلَ رَسَن حمارِه الجديد، وعاد مشياً إلى منزله، ساحباً الحمار خلفه. ورأى ولدان شقيّان الخجا وحمارَه، وقرّرا خداعه وعزما على سرقة الحمار ومعرفة ما إن كانا سيفلتان بفعلتهما. وانسلَّ أحدُ الشقيَّين خلف ملا نصر الدين، وحلَّ طوقَ الرَسَن عن عُنقِ الحمار ووضعه حول عنقِه. أمّا الولدُ الآخر، فعادَ بالحمار إلى السوق ليبيعه.
وواصلَ الخجا طريقَه إلى المنزل غافلاً عمّا جرى، ساحباً الولدَ خلفَه بدلَ الحمار. وعندما وصلَ المنزل، التفتَ من الخلف يتفقد حماره فرأى الولدَ مكانَ الحمار. فنهره سائلاً: “مَنْ أنت؟”.
فقال المحتالُ الصغير مخادعاً: “آه يا أفندي، لن تُصدِّق قصّتي. كنتُ ولداً شقياً، وأسأتُ الأدبَ طوال الوقت، وجعلتُ أُمي تعيسة. وعندما لم يعُد بوسعها التحمُّل، دَعَت عليَّ وحوّلتني إلى حمار، وعندما ظننتَ أنّني صالحٌ للشراء، حلّتِ اللعنةُ عنّي، وبفضلك وإحسانك عُدتُ ولداً من جديد”.
فقال له الخواجة: “سأدعك تذهب، لكن لا تُعذِّب أُمَّكَ ثانيةً، كُنْ ولداً صالحاً من الآن فصاعداً!”
وفي اليوم التالي، ذهبَ نَصْرُ الدِّين خجا مجدداً إلى السوق، سعياً إلى شراء حمارٍ جديد. فرأى الحمارَ الذي سرق منه معروضاً للبيع، فاقترب منه الخجا وهمسَ في أذنه: “أنتَ ولدٌ شقي! لقد عصيتَ أُمَّك مجدداً، أليسَ كذلك؟”.
حمايةُ المئذنة
كان نَصْرُ الدِّين خجا يقيم بالقرب من جامعِ قريته. وذات يوم، رآه سُكّان بلدة “آق شهر” يربط حبلاً حول مئذنة الجامع، ويشدّه بإحكام إلى جذع شجرة كبيرة.
وسألوه ذاهلين: “خجا أفندي، ماذا تفعل؟”.
قال: “إنّي أحمي المئذنة، كي لا يسرقها أحدٌ في الليل”.
وأبدى المارّون ارتيابَهم، وسعوا إلى معرفة ما الدافعُ وراءَ ما يقوم به الخجا.
وقالوا: “خجا أفندي، إذا ما أقدَمَ أحدُهم على سرقة المئذنة، فأين عساه يضعها؟”.
أجاب: “ذلك الذي يسرق مئذنة، سيكون متهيِّأً لمثلِ هذا الفعل مسبقاً!”.


أين القطّة؟
اشترى نَصْرُ الدِّين خجا في أحد الأيام رطلاً من اللحم مِن عندِ جارِه اللّحام، وأحضره إلى المنزل وسألَ زوجتَه أنْ تعدَّ يَخْنَةَ لحمٍ لذيذة للعشاء. وبذلك ضمَنَ الخواجة وجبةَ المساءِ واتّجه هانئاً إلى حقله للعمل.
أعدَّت زوجته يَخْنَةَ اللَّحم، وحدَثَ أنْ جاءها زائراً بعضُ الصَّحْب والأقارب، وعندما لم تجد طعاماً آخر تُقدِّمه للضيوف، وضَعَتْ لهم اليَخْنَة. فأكلوا هنيئاً ومليئاً.
وعاد الخجا بعد يومِ عملٍ طويل، وسألَ زوجتَه إذا كانت يخنة اللحم جاهزة. فأجابت زوجتُه: “ربّاه، ليتكَ تَعْلَم ما جرى لليَخْنَة. لقد التهمتها القطة”.
فتلفّتَ نَصْرُ الدِّين خجا حوله ورأى القطةَ الصغيرة النحيلة في إحدى الزوايا، تبدو جائعةً كشأنه.
أمسكَ نصرالدين خجا بالقطة، ووضعها في كفّة الميزان. فكان وزنُ القطةِ المسكينة رطلاً واحداً تماماً.
فقال لامرأته: “يا امرأة، إذا كانت هذه هي القطّة، فأين اليَخْنَة؟ وإذا كانت هذه هي اليَخْنَة، فأين القطة؟”.
ديكٌ يُفكِّر كالبشر!
فيما كان نَصْرُ الدِّين خجا يتجوّل في السوق ذات يوم، رأى طيراً زاهي الألوان معروضاً للبيع لقاء اثنتي عشرة ذهبية. فدُهِشَ. واقتربَ من الحشد المتحلّق حول الطيرِ وبائعِه.
وسألَ القومَ المُحدِّقين بالطير: “كيف لهذا الطير أنْ يكونَ باهظَ الثمنِ هكذا؟”.
فأجابوه: “إنّه طيرٌ مميّز، بوسعه أنْ يتحدّث كالبشر!”.
وهنا لمعت فكرةٌ في خاطر الخجا. فذهبَ على الفور إلى منزله والتقط ديكاً رومياً وأحضره إلى السوق. ووقفَ بقُرْبِ بائعِ الببغاء. وأخذَ يصيح: “ديكٌ روميٌّ لقاء عشرة دنانير ذهبية!”.
فاحتجَّ الحاضرون وقالوا: “خجا أفندي، كيف لهذا الديك الروميّ أن يكون بعشرة دنانير ذهبية؟”.
فأصرَّ الخجا على موقفه بعناد.
وحاول القومُ أنْ يفهموا السببّ، وقالوا: “خجا أفندي، هذا الطير باهظ الثمن لأنه في إمكانه أن يتكلّم كالبشر”.
بيدَ أنّ الخجا لم يتراجع.
وردَّ بثقةٍ قائلاً: “وهذا الديكُ الروميّ يمكنه أن يُفكِّر كالبشر”.


إطعام الملابس
حضر ملّا نصر الدين مأدبة ضمن كبار القوم ووجهاء القوم لكنه عندما اقترب من مدخل القاعة لاحظ الحجّاب أنه في مظهر غير لائق فرجوه بتهذيب أن يعود الى المنزل ويرتدي ثياباً مناسبة لهذا الحدث. امتعض نصر الدين خجا لكنه عاد على مضض وارتدى ثياباً فاخرة ثم عاد إلى المأدبة فسمح له بالدخول ورحّب به الجميع. اتخذ مكانه إلى الطاولة الحافلة بما لذّ وطاب لكنه بدلاً من أن يأكل كغيره أخذ قطعةَ لحمٍ وحشرها بين طيّات قميصه. ودسَّ قطعةً ثانية في زنّارِه، ثم بدأ يغمس طرف كمه في الحساء ويقول له : كل، كل!!
توجهت الأنظارُ بدهشةٍ نحو نَصْرِ الدِّين خجا فيما كان يغمسُ كُمَّي عباءته الطويلين في وعاءِ حساءِ مَرَقِ اللحم الساخن، وانتفضَ أحدُ الضيوفِ المنذهلين وخاطبه قائلاً: “يا أفندي! ما معنى تصرُّفكَ الشائن هذا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين خجا: “حسناً، عندما تجدُ نفسَكَ في مكانٍ يُرحَّب فيه بالملابس أكثر من المرءِ الذي يرتديها، فحريٌّ بكَ أنْ تُطْعِمَ الملابسَ أولاً، والمرءَ لاحقاً!”.
باقٍ في الأربعين!
سأل أحدُهم نَصْرَ الدِّين خجا عن عمره فأجاب بالقول: أربعون سنة، لكن السائل علّق على الفور:”لكنني كُنتَ هنا يا نَصْرُ الدِّين قبلَ أربعِ سنوات، وسألتُكَ يومها ما هو عُمرُك، فقلتَ لي إنّه أربعون سنة. هل تجد هذا الأمر منطقياً أو قابلاً للتصديق؟ كيف حدثَ أنّك لا تزال في الأربعين؟”. أجابه نَصْرُ الدِّين: “أنا رجلٌ مستقيمُ القول. فإذا كُنتُ في الأربعين، فسأبقى في الأربعين. وما أنْ أُجيبكَ مرّةً، كأنّي أجبتكَ أبداً! لا يسعكَ أنْ تُضلّلني. أنا في الأربعين، وكلما سألتني فإنك ستحظى دوماً بالإجابة ذاتها”.