كرامة المــــرأة عنــــد
الموحّــــدين الـــــدّروز
الموحّدون الدّروز يحرّمون تعدّد الزّوجات توخّياً للعدل
ويحظرون إعادة المطلّقة بل مقابلة الرّجل مطلّقته
نساء جبل العرب اخترقْنَ صفوف المقاتلين يستَنْهضْهنَم للقتال
فكُنّ بذلك سبباً مهمّاً في تغيير مجرى الكثير من المعارك
للمرأة في كلّ المجتمعات دورٌ خاصّ قد يتفاوت من حيث الأهمّية حسب التّنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ومنظومة العقائد والقيم والتقاليد، لكنّ مجتمعَ الموحّدين الدّروز جعل للمرأة مكانةً تتميّز بها عن غيرها من النساء، وهذه المكانةُ مستمدّةٌ من صُلبِ مذهب التّوحيد الذي خصّها بقواعد ووصايا، فكان الموحّدون بذلك سبّاقون في إعطاء المرأةَ دورَها الكاملَ في المجتمعِ، وقد تكرَّست لها تلك الحقوقُ بنصوصٍ مكتوبة وأحكام مُلْزِمة.
من الفروضِ التّوحيدية أنّه عندما يتزوج موحّدٌ موحّدة، عليه أن يجعلَها مُساويةً له في كلّ شيء، وأن يُقسّم بينه وبينها كلَّ دَخْله، وأن يستشيرَها في كلّ أموره، وعليه احترامُها بحيثُ لا يُسمِعُها أيَّ كلمةٍ نابية.
كما أقَرّ مذهبُ التّوحيدِ الموحّدين على ألاّ يظلموا النّساءَ، ولا يسيئؤوا معاملتهنّ ، وأوصى النّساء بالعدل والتّعَفُّف، وعلى المؤمن أن يتّقي اللهَ في النّساء، ومن جانب آخر فإنّ المولى قد نهى النّساء عن التهتّكِ والظّهورِ بمظهر المُسْتهترات، أو أنْ تسلك إحداهنّ سلوكاً في الطّريق لِلَفْتِ النظر سواءَ في مَشْيتها، أو لبسها وكلامِها، أم في صوتها الذي يجب ألاّ يرتفعَ، وعليهنّ عدمُ لبسِ الفاقع من الألوان والمكشوفِ من الثياب1.
وقد حَرَّمَ مذهبُ التّوحيد تعدَّد الزّوجات. لذلك، فالمرأة الدّرزيّة هي سيّدةُ بيتها من دون أن ينازَعها منازع. كما حَرَّمَ المذهبُ أيضاً الزّواجَ بطريقةِ التّهديد أو التّرغيب إذْ “لا يتزّوجُ أحدٌ بالرّغم منه”. وإذا أَجبر وَليُّ أمرِ فتاةً على الزّواج، فلها الحقُّ في إبطالهِ أمام أولي الأمرِ من الموحّدين، ويُعاقَبُ الأبُ ــ الوليّ ــ عقابا” أدبيّا”.
مكانة اجتماعية رفيعة
إنّه لَأمرٌ مُشتَهر أنّ أكبرَ إهانةٍ في نظر الموحّدين الدّروز هي التعرّضُ للعِرض ــ النّساء ــ وتستوي في ذلك نساؤُهم ونساءُ غيرهم، حتى الأعداء. فهم يوجِبون لهنّ الصَّوْنَ والاحترام، حتى إنّ قاطعَ الطّريق منهم الذي ثارَ على الفرنسيين في عهد انتدابهم على لبنانَ، وأطلق الناسُ عليه لقبَ “روبن هود” كان يرفعُ يدَه عن المرأة الفرنسيّة أو غيرها من النّساء باحترامٍ، ويعفُّ عمّا مع أيّ منهنّ، وهو يعلم أنّ رفقاء السفر حين رأوه خبّأوا محافظَ نقودِهم في مطاوي ثيابِ النّساء.
“من الفروضِ التّوحيديّة مساواة الرّجل لزوجته بنفسه في كلّ شيء وأن يقسّمَ بينه وبينها كلَّ دَخْلِه وأن يستشيرَها في كلّ أموره وأن يحترمها”
النصّ والصورة
الصّورة في باحة القرية: مناديلُ بيضٌ كسربِ حمامٍ حطّ على دوحة، مناديلُ تنحدرُ من على الرّأسِ التفافاً حول الكتفينِ إلى ما دونِ الخَصرِ. ثيابُ المرأةِ هادئةُ الألوانِ، أمْيَلُ ما تكونُ إلى العمقِ والقتامة، بسيطةٌ تتهدّل بحرّيّة في خطوط تسيلُ هَوْناً حتى لا تعلو عن سطح الأرض إلاّ قليلاً، وتستديرُ المناديلُ البيض استدارةَ الهالاتِ بوجوه – إنْ هي التمّت على فرحٍ ــ ففي بشاشةٍ رَضِيّة، أو على حزنٍ ففي أسىً وَقور.
من باحة المناديلِ هذه يستطيع بحثُنا أنْ يستمدَّ حقائقَه ونماذِجَه للمرأةِ الدّرزيّة، فهي هناك في بيئتِها الأصلية على سجاياها وخصائِصِها المُمَيّزة.2
تمثّلُ المرأةُ في مجتمعها الدّرزيّ رمزاً للشّرفِ والكرامة3. كما تمثّلُ العنصرَ الأوّلَ والضروريَّ في إقامةِ عائلة متماسكة. إنَّ هذه المكانةَ مُستقاةٌ بصورةٍ رئيسيّةٍ من تعاليمِ المذهب التوحيديّ ومبادئه، والذي أمر بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ وضروريّ، حيث يُعتبرُ التّعليم حقّاً لها لمساواتِها بالرّجل. كما خصّص لإنصافهن العديد من الوصايا.
لقد يسّرَ المذهب أو المسلك التّوحيدي الأمرَ على المرأة الموحِّدة، وساعدها في الرّياضة الرّوحيّةِ التي أوجبَها عليها. فهو صريحٌ في إِعزازِه لها وتكريِمها، فأعطى في ذلك المثلَ، ورسمَ الطّريقَ للمجتمع وللرّجل خاصّة. قال لها في ما قال:” إنّ المقصود بمخاطبة النّساء ودعوتهنّ للمسلك القويم لم يكن فقط حُنُوّاً عليهنّ، بل “اجلالاً وشرفاً وإعزازاً”.
ويظهر جلِيّاً في التراث التوحيدي، ورواد المسلك القويم للنّساء أسلوب الاحترام ومناداة العقل، كما يظهر فيه معنى التّشاورِ والاستفتاء، ومعنى موقفِ العاقلِ من العاقل، وتكليف الإرادة الحرّة في الاختيار. إذ أن مسلكها الذي سيغدو دستورَ حياتها، ومرتكزَ إيمانِها لا يتقرّر بضغطٍ، بل بإرادة واعية من المرأة، وعقلٍ ومَلَكَة تمييز.
إنّ عدَم تعدّدِ الزّوجاتِ في مجتمع الموحّدين الدّروز، زاد من اقدام المرأة، وعمّقَ شعورَها بالعزّة والكرامة والاستقرار النفسيّ. وقد حـرَّم مذهب التّوحيد تعدّدَ الزّوجاتِ لتحقيق العدل وفقاً للآية الكريمة” وإنْ خِفْتم أنْ لا تعدلوا فواحدة”، وقد رافق هذا التّحذير توكيد من الله تعالى بقوله “ولن تستطيعوا ان تعدِلوا بين النساءِ ولو حرِصْتم”. ومن نصائحِ الخليفةِ المعزّ لدين لله لأتباعه أنْ “لا يميلوا إلى التكثيرِ من النساء، بل يكتفي الرجلُ بزوجةٍ واحدة، فحسبُ الرّجلِ الواحدُ المرأة الواحدةَ”. ويقول المؤرّخون إنّ ما يسترعي الانتباهَ هو إشارةُ المُعزِّ لدين لله إلى زوجته كرفيقةٍ يبحث معها الشؤونَ العامّةَ وكشريكة في مجالسه، وإنْ كان ذلك من وراءِ حجاب4.
فالمرأةُ في مجتمع الموحّدين هي” سيّدةُ بيتها، تتمتّع بالاحترامِ والكرامة والطمأنينة على مصيرها فلا ينازعُها منازعٌ، بل تحظى بمحبّة زوجِها وأولادِها وعائلتِها. وكانتِ البنتُ تُربّى منذُ نعومةِ أظفارِها لتكونَ زوجةً صالحة، لأنّ العائلةَ تُعتبر مؤسّسةً مقدّسة، فعليها أن تعيشَ بوئامٍ وفضيلة مع زوجها ومن أجل استقرار أسرتها وهنائها وصلاح أولادها.
والعمل بين الزّوج والزّوجة تعاونيٌّ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. المرأةُ شريكُ الرّجل، ولم تقتصر مساهمتُها على حفظ التّراثِ والتقاليد وتربية الأطفال، والمحافظةِ على كيان الأسرة من حيثُ التّماسكُ الاجتماعيُّ والأخلاقيُّ فحسب، بل ساهمت مساهمةً فعليّةً في الإنتاجِ الاقتصاديّ والماديّ. فكانت اليدَ اليمنى للرّجل من حيثُ المشاركةُ في أعمال الحقل والأرزاق، أو إدارة المنزل وتأمين الغذاءِ والكساء للعائلة.
المرأة في ميادين الحياة
في مجتمع الموحّدين الدّروز، هناك الكثيراتُ من النّساء ممّن اتّبعنَ سيرةَ التّقوى والتّقشّف، وابتعدنَ عن الحياةِ الدّنيا ليكرّسنَ وقتَهنّ للصّلاة والعبادة؛ ففي قرى الشوف وعاليه والمتن وحاصبيا وراشيا وجوارها، وفي بيروت سيّداتٌ تقيّاتٌ تصعبُ الإحاطةُ بهنّ جميعاً، وعلى سبيل الذّكر لا الحصر نذكر:
على الصّعيد الدّينيّ، “ السّتُّ سارة والأميرَة نفيسة التنّوخيّة التي حفظت الكتابَ العزيزَ عن ظهر قلب وهي بنتُ سبعِ سنوات”5. وعلى الصّعيد السّياسيّ، نذكر الأميرةَ “طيبة معن” والدة الأمير قرقماز، وأم دبّوس أبي اللمع والسّيّدة نَسَب التّنوخيّة والدة الأمير فخر الدّين الثاني والسيّدة حبوس أرسلان زوجة الأمير عبّاس أرسلان، والتي اغتالها الأميرُ بشير الثاني بكمين أعدّه خِصّيصاً لها. والسيّدة نايفة ابنة الشّيخ بشير جنبلاط وزوجة الشيخ خليل شمس. والسّيّدة نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط التي لعبت دوراً” سياسيّاً كبيراً” في لبنانَ خلال الانتدابِ الفرنسيّ، وبدايةِ عهد الاستقلال.
وقد قيلَ كثيرٌ في تقييم السّتّ نظيرة، ومن ذلك القولُ الشائع: إنّ الكُبراءَ والأجانبَ الّذين يزورون لبنان لا يكونون قد أنصفوا أنفسهم ما لم يزوروا مَرْجِعَين هما: البطريرك المارونيّ، والسّتّ نظيرة جنبلاط في المختارة.
وفي هذا الأطار، لا بُدّ من الإشارة إلى بعضِ العلاماتِ البارزة في مسيرةِ بعضهنَّ، كالسيّدة نايفة جنبلاط مثلاً، والتي قال فيها الدكتور حَريز” كانت السيّدةُ نايفة جنبلاط على جانب عظيم من الذّكاء والحصافةِ والرّصانة. وكانت تقيّة جدّاً” وعملت على درءِ المخاطرِ والنّوازل عن أهل حاصبيّا، وخفّفت الكثيرَ من الوَيلات والمصاعب”، كما يتكلّم أحدُ معاصريها، وهو الشّيخ جمال الدّين شُجاع قائلاً بأنّ”العطفَ الفائق والثورةَ النفسيّة العنيفة التي ألمّت بالسيّدة نايفة، أثناء محنة 1860 في حاصبيّا نفسها، برهنت على أنّ السيّدةَ قد ارتقت إلى أرفعَ مستوياتِ الإنسانيّة. لقد برزت أريحيُّتها، وانفجر حنانُها وعطفُها على المشرّدين المنكوبين من إخوانِها المسيحيين، بشكل لم ترهُ عينٌ. لقد فتحت منزِلَها غرفةً غرفة، وقدمّت كلَّ ما في وسعها من عَوْن وغذاء. ثمّ إنّها لمّا حوصرت قلعةُ آل شهاب اندفعت بشجاعة فائقة تحت زخّات الرصاص، فوصلت إلى القلعة، وانقذت كلَّ من فيها من نساء وأطفال، وحَضَنتهم بحنان الأمّهات، حتى انقشعَ الأفقُ وزال القتال”. وقد زار الأمير شكيب أرسلان حاصبيّا، والتقى السيّدة نايفة وهي في آخر عهدها فكتب عنها:”لقد زرت كثيراً من الكُبَراء البارزين والفُصحاء، فلم يعتَرِني تأثيرٌ، كبعض ما أثارتني شخصيّةُ هذه السيّدة”6.
المرأة في المعارك
وعلى الصّعيد العسكريّ، كانت المرأة الدّرزيّة تقف في كثير من الأحيان إلى جانب إخوتِها وأبيها وأقاربِها، تساعدُهم بمختلف الوسائل، حتى إنَّ بعضَهنّ خُضنَ المعاركَ في ساحات القتال، واندفعنَ بين المقاتلين، يَحثُثْنَهُنَّ على القتال ويبثُثْنَ النّخوةَ والشّجاعةَ في نفوسهم، ويفرِضنَ وجودَهُنّ عاملاً هامّاً في تغيير مجريات الأحداث. وقد كانت هذه حال سعدى ملاعب مثلاً أثناء معركة “عيون” بين بني معروف في جبل العرب وبين الجنود العثمانيين عام 1895، إذ حصل في تلك المعركة التّاريخيّة أنْ تقهقر فرسان الدّروزُ القليلو العدد في بداية المواجهات أمام جحافل الجيش العثماني، وإذا بشبح يخترق الجموعَ المبعثرةَ ويصرخ فيهم:” إلى أين؟ رَمّلوا نساءَكم ويتِّموا أطفالكم. ولا تتراجعوا فَتُهتَكُ أعراضُنا؟؟ قالتها باللهجة العاميّة، وكأنّ حبّاتِ قلبِها تتناثر مع الكلمات، وما زالت تصْرُخ بهم وتستقبل نار العدوّ، حتّى ارتدَّ المقاتلون مُستميتين وتواثبوا، وصمدوا، وتلاحموا تلاحُماً أحبَط هجوم الجحفل العثماني الذي انكفأ جندُه وتبعثروا، فنال منهم المجاهدون قتلاً كبيراً، وعاد هؤلاء بهتافات النّصر والزغاريد. كذلك كانت الحالُ بالنّسبة لبعضِ الفتيات والنّساء الأُخرياتِ اللواتي لعبن دوراً استنهاضيّاً مماثلاً خصوصاً في معركة المزرعة الظّافرة ضدّ جيوش الفرنسيّين الحديثة عام 1925، وقد حفظ التّاريخ المواقف المجيدة للسّيّدة “بُستان شلغين” و “شمّا أبو عاصي” و “عبلا حاطوم” و “ترفة المحيثاوي” وغيرهنّ، واعتبر المؤرخون دورهنَّ التّعبوي، وتحرُّكهن البطولي بين خطوط القتال، وأناشيدهنّ الحماسيّة التي تحذّر الرّجال من العار في حال التخاذل من العوامل المهمّة التي ساهمت في انتصار مجاهدي سلطان باشا الأطرش في أكبر معارك الثورة، وإلحاقهم هزيمةً مُذِلّة بجيوش الفرنسيين الثّقيلة التّسليح. وما زال الدّروزُ يردّدون حتى اليوم هتافَات تلك المعركة:
لعيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك عبلا و شمّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منــــــــــــــــــــحطّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الدبــــــــــــــــّابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
والمدفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع مــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّوا إلا بّْيْــــــــــــــــــــــــــــــــض الشّـــاشيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّات7
وبرزت عَمشة القنطار أيضاً في البقاع، وتميّزت بالقوّة والشجاعة والسّطوة والبطش، واشتُهرت شجاعتُها في طول البلاد وعرضها حتّى اليوم، فكان بنو معروف إذا تفرّدتْ امرأةٌ بالقوّة والسّطوة يطلقون عليها لقبَ “عمشة”، فهي عنترةُ النّساء8. كما تميّزت فاطمة حسام الدّين زوجة حسن حمّود عابد من كفرنبرخ، واشتهرت بأمرين هما: أوّلاً، شدَّةُ تديّنها وصِحّةُ تقواها. ثانياً، قوّةُ بُنْيَتها ومتانةُ عضلاتها9.
رائدات في العمل الاجتماعي
وكذلك على الصّعيد الاجتماعي، لعبت المرأةُ الدّرزّية دوراً مُهمَّاً في تأسيسِ الجمعيّات، والمساهمة في إنشاء الحركات الاجتماعية. ومثّلث السيدةُ زاهية سلمان والدة الوزير السابق صلاح سلمان، والسيّدة نجلا صعب، والسيّدة أنيسة النجّار، زوجةُ الوزير السابق فؤاد النجّار. أهمّ العلاماتِ البارزةِ على هذا الصّعيد. فقد ساهمتِ السيدةُ أنيسة النّجّار في تأسيس جمعيّة “نهضة المرأة الدّرزيّة”، كما انْتُخبت السيّدة زاهية سلمان رئيسةً لـ “جمعية رعاية الطّفل في لبنان”، والتي كان لجمعيتِها هذه مدارسُ ابتدائيةٌ، وروضاتٌ للأطفال في القرى النائية. كما انتُخبت السيّدة نجلا صعب رئيسةً لـ”المجلس النّسائي الّلبناني” الذي يضمّ ستّاً وتسعين جمعيّةً من جميع أنحاء البلاد.


نظيرة زين الدين السبّاقة
وليس خافياً أيضاً تلك الانتفاضةُ الأدبيّة والاجتماعية التي قامت بها السيدة نظيرة زين الدين ابنة القاضي الكبير سعيد زين الدين وزوجة محافظِ مدينة بيروتَ سابقاً السيد شفيق الحلبي، وكان لأفكارِها عن الحجاب، وتحرر المرأة، تأثيرٌ كبيرٌ أدّت لردّةِ فعلٍ كبيرة، انقسم على أثرِها رجالُ الفكر والدين إلى قسمين، أيّدها أحدُهما بينما عارضها القسمُ الآخر.
وكانت السيدة نظيرة زين الدين من اوائلِ من أسّسَ الحركةَ النسائيّة الإسلاميّةَ في لبنان. كما ساهمت في تأسيس “اتحاد النساء العرب، واضعةً في ميثاقِه موادَ ذاتَ قيمةٍ عالية، تختصُّ بحقوقِ المرأة المسلمة وحريّتِها وتربيتها.
وفي ميدانِ الفنون كان الدروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفظ. وكان للمرأةِ من التصوّفِ والتحفظِ النصيبُ الاوفى، وهي الموصاةُ “بألا تضحكَ من الفرحِ ولا تبكي من الخوفِ والجزع”. فلم نعرف بها أدباً أو غناء في هاتيك الحقبة من الزمن إلاّ الزغاريدَ في الأفراحِ والندبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتسجيلِ والدراسة، لما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصدقِ التعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولما ينبضُ به جيّدهُ من نفحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في ميدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النساء الدرزياتِ كنَّ على العمومِ يعرفنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النهضةِ الصحيحةِ إلى أواخرِ القرن التاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين:
وفي مَيْدانِ الفنون كان الدّروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى، لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفّظ. وكان للمرأةِ من التّصوّفِ والتّحفّظِ النّصيبُ الأوفى، وهي المُوصاةُ “بألاّ تضحكَ من الفرحِ، ولا تبكي من الخوفِ والجَزَع”. فلم نعرف منها أدباً أو غناءً في هاتيك الحقبة من الزّمن إلاّ الزّغاريدَ في الأفراحِ، والنّدبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنّه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتّسجيلِ والدّراسة، لِما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصِدقِ التّعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولِما ينبضُ به جَيِّدُهُ من نفَحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في مَيْدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النّساء الدّرزياتِ كُنَّ على العمومِ يعرفْنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدّينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النّهضةِ الصّحيحةِ إلى أواخرِ القَرن التّاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين.
” مذهب التوحيد أمرَ بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ واعتبره حقّاً مُصانا لهنّ لمساواتِهن مع الرجــال. كما خصّص لإنصافـــهن العديد من الأحكام والوصـايا. “
دور الإرساليات
في أواخرِ القرنِ التّاسعَ عشَرَ ظهرفي لبنان رجل أميركيّ اسمُه “مستر برد”، وهو أوّلُ رئيسٍ لمدرسةِ البناتِ الأميركيةِ في صيدا، وكان يجوبُ القرى الدّرزيةَ بحثاً عن فتياتٍ درزيّاتٍ يقبلُ ذووهُن بإدخالهنّ هذه المدرسةَ، فيكنَّ طليعةً تتبعُها أُخْرَياتٌ، ويتخيّرُ وجيهَ كلِّ بلدٍ فيزورُه. وكان أوّلَ من استجابَ للمستر “بِرْد” من الآباءِ الدّروز رجلٌ عصاميٌّ ذو ثقافةٍ لُغَويّةٍ، وشَغفٍ بالشّعرِ العربيّ وسَعيٍ جادٍّ بطلبِ الكتبِ وتثقيفِ نفسِه عليها، واستقلالٍ فكريّ وإرادةٍ صلبة، اسمه الشيخ أبوعلي محمود حسن من عثرين – الشوف. في غدوةٍ من شهر تشرين الأول عام 1890، كنتَ ترى فتاتين تركبان فرساً، يصحبهُما أخوهما وأجيرٌ بينهما، يأخذون طريق جِزّين ــ صيدا، يسجّلون أوّل فتاتين درزيّتين داخليّتين في تلك المدرسة. وتلحقُ بناتُ آل تلحوق بمدرسةِ شملان الإنكليزيّة، وغيرهُن بمدرستيّ عين زحلتا وبعقلين الإنكليزيّتين. وكُنّ طلائعَ لطلبِ العلمِ تميّزن بالنَّهمِ في التّحصيل. واتّصفت خَزْما يونس بالعقلِ المتوقّدِ والتّفوّق، وحاولت نظمَ الشّعرِ بالإنكليزيّة، وهي خالةُ الشّيخ نسيب مكارم. وكان آباءُ هؤلاء الفتياتِ يتلقَّوْنَ بسببِ هذه الأسبقيّةِ سهامَ الأذى والتّجريحِ بشجاعةٍ وصدورٍ رحبة.
بهؤلاءِ الطّلائعِ ترتبطُ اليوم الأجيالُ المتلاحقةُ في المدارسِ صعوداً إلى الجامعاتِ، وأصبحَ لنا منها نماذجُ وبشائرُ في المِهنِ العلميّة.
” نايفة جنبلاط زعيمة الرّحمة إبّان أحداث 1860 ونظيرة جنبلاط مِحور السياسة الّلبنانيّة ونموذج الزّعامة المحنَّكة والآســـرة للقلـــــوب “
المرأة والــــزواج
يشجّعُ الموحدون الدّروزُ الزّواجَ ولا سيّما الزّواجُ المبكرْ، وقد كان الزّواج من الأقرباءِ شائعاً جدّاً نظراً لطبيعة مجتمعِ الموحدّين الصّارمةِ، وعدمِ سماحِهم بالاختلاط بين النساءِ والرّجال إلا ضمنَ حدودٍ دقيقةٍ وضيّقة. وفي الماضي غيرِ البعيد، لم يكن باستطاعةِ طالبِ الزّواج أن يتعرّفَ على عروسِه أو يراها قبلَ ليلةِ الزفاف. لكنّ ظروفَ العيشِ التي تطوّرت مع اقترابِ الموحّدين من الحياةِ العصريّة، سهّلت عمليّةَ التعارفِ التي تسبقُ الخِطْبة، وأصبحت عمليّةُ زيارةِ الشّابِّ لمنزلِ الفتاةِ للتعرّفِ عليها أوّلا،ً وطلبِ يدِها ثانياً، من الأمورِ الدارجةِ والطبيعيةِّ في مجتمعِ الموحّدين.
بعد الزّيارة، أو الزياراتِ التّمهيديّة من قِبَل طالبِ الزّواج، يُفاتحُ ذوو العريسِ أهلَ الفتاةِ برغبةِ العريس في الزّواجِ بابنتِهِم. عندئذٍ يقومُ أهلُ الفتاةِ بالتقصّي عن وضعِ العريسِ الاجتماعي والمادي والعائلي، وعن سمعتِه وسمعة أهله الأخلاقيةِ وطبيعةِ عملِه، إلى غيرِ ذلك، وقد يذهبون بزيارةٍ استطلاعيةٍ إلى بيتِ العريس للتعرفِ مباشرةً على وضعه، فإذا رأى أهلُ الفتاةِ أنّ طالبَ يدِها في وضعٍ ملائم، يحدّدون مَوعداً لإعطائِه الجوابَ المبدئيَ بالقبول. وإذا كان وضعُه غيرَ ملائمٍ لهم، فإنّهم يرسلون الجوابَ بالاعتذار بواسطةِ أحدِ الأصدقاءِ المقرّبين من الأُسرتين. وفي جميعِ الحالات، يكون رأيُ الفتاةِ صاحبةِ العلاقةِ هو الأساسَ الأوّلَ للرّفضِ أو القبول. لأنَّ القواعد التوحيدية تشدّدُ على وجوبِ قبولِ الفتاة بالعرضِ وموافقتِها على الزّواجِ من طالبِ يدها.
يجتمعُ أهلُ العروس، وبعضُ الأقرباءِ والأصدقاء، وتُشْهَر نِيّةُ أهلِ العروسِ بالموافقةِ على طلبِ العريس. ويُعتبَرُ هذا الإشهارُ بمنزلةِ وَعْدٍ للعريسِ بأنّ العروسَ “أصبحت على حسابِه” وعند ذلك تُقرأُ الفاتحةُ ويُقدّمُ الشّراب المُحَلّى، وتُسمّى المرحلةُ بمرحلةِ “التتميم”.
وتعقبُ هذه المرحلةَ فترةٌ من التّداولِ والتفاوض، يتّمُ الاتّفاقُ فيها على مَهرِ الزّواجِ من مُقدَّم ومؤخّر. والمَهْر ليس ركناَّ من أركانِ الزّواج أو شرطاً من شروطِه. لأنَّ عقدَ الزّواجِ يقوم ويتمّ بين الرجلِ والمرأة بمجرّدِ تبادلِ الإيجابِ والقبولِ بينهما10، شرطَ أن يتمَّ وفقاً للأحوالِ الشّرعيّةِ التي تنظّمُه وترعاه.
والمَهر يُقسم إلى نوعين:
“المُعجَّلُ والمُؤخَّر” والمَهْرُ المُعجَّلُ هو ما يقدَّمُه الزّوجُ لزوجته عند إجراءِ العقد، أمّا المَهرُ المؤخَّرُ فهو الذي يؤجَّلُ دفعُه إلى حينِ حلولِ أحدِ الأجَلَين: الطلاق أو الوفاة”11. وبعدَ الانتهاءِ من الاتّفاقِ على المَهرِ تُعْلَنُ الخطوبةُ في احتفالٍ عَلنّيّ، ويتمُّ إلباسُ خاتَمِ الخطوبةِ وبعضِ الحُلى الّتي يقدّمها الخطيب، أو بعض أفراد أهلِه وأهلها على سبيل المباركة، وإظهار السّعادة بالمناسبة.
ولا توجَدُ قاعدةٌ تحدّدُ مقدارَ المَهرِ من حيثُ حدُّه الأدنى أو حدُّه الأعلى. لكنّ القضاءَ المذهبيّ يوصي بعدمِ المُبالغة في طلبِ المهورِ الكبيرة، مُستنداً إلى الأحاديثِ النّبويّةِ الشريفةِ وخطى السلف الصالح التي تُوصي بعدمِ المغالاة في المهور، ومنها:
الأوّل:” إنّ أعظمَ النّكاحِ بَرَكةً أيسرُه مَؤونة”. والثّاني:” إنّ خيرَ الصّداقِ أيسرُه”12.


وبعد مرحلةِ الخِطْبةِ الّتي يُسْتحسنُ أن تكونَ قصيرةً، تأتي المرحلةُ الحاسمةُ وهي مرحلةُ عقدِ القِران. وعَقدُ القِران يتمُّ عادةً في المحكمةِ المذهبيّةِ للعامّةِ، وفي منزلِ العروس، إذا كان العروسان من الأجاويد. ويقوم بكتابةِ العقدِ شيخٌ مأذون. وقد يُجرى عقدُ القرانِ بحضورِ العَروسين شخصيّاً أو بحضورِ وكيلين عنهما كما هي العادةُ عند المُتديّنين. وبعد كتابةِ العقدِ وتوقيعِ الشّهودُ تُقرأُ سورةُ الفاتحةِ ثم سورةُ الإخلاصِ ثلاثَ مرات، تبدأُ كلٌّ منهما بالبَسملة، ثم تُتّلى خُطبةُ الزّواجِ التّالية:” الحمدُ الله الذي أبدعَ الكائنات، وأفاضَ من رحمتِه الخَيرات، وخلقَ الإنسان على أحسنِ صورةٍ فكان أشرفَ المخلوقات، سبحانَه وتعالى عن وصفِ الواصفين وإدراكِ الأنام، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدِنا محمّدٍ سيّدِ المُرسَلين، في كلِّ بدءِ وخِتام. وبعدُ: فإنّ الزّواجَ سُنّةٌ من سُننِ الأنبياء، وشِرعةٌ من شرائعِ البقاءِ، وصونٌ عن الفحشاء، ووقايةٌ من ربّ الأرض والسّماء. وقال تعالى:” ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجَين”13، و”ومن آياتِه أنْ خَلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعلَ بينكُم مودةً ورحمة”14.
وقال سيّدُنا الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسلام:” تزوّجوا وتكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُممَ يومَ القيامة”15، فأسألُه أن يلقيَ بين الزّوجين المحبّةَ والوداد، وأن يرزُقَهما النّسلَ الصًالحَ من الأولادِ، وأن يوسِّعَ عليهما الرّزقَ، وأن يحفظَهما من مكائِد الخَلق، وأن يباركَ هذا العقدَ الميمونَ إن شاءَ الله”16.
بسطتُ هذه الخُطبةَ بالتّفصيلِ لبيانِ الرّوحِ التي تحيطُ بهذه العتبةِ الفاصلةِ في حياةِ الموحّد؛ ومع عقدِ القرانِ يصبحُ مفعولُ الزّواجِ بين العروسين نافذاً، لكنَّ إقرارَه الفعليَّ يتمُّ بالاجتماعِ الصّحيح.
يتّضحُ ممّا تقدَم أنَّ الموحّدين يتزوّجون على سُنةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلّم، وأنّ أحكامَهم في الزواجِ أحكامٌ شرعيّةٌ إسلاميّةٌ مستمدّةٌ من القرآنِ الكريم والحديثِ، ومن المذهب الحَنَفي مع احتفاظِهم بخصوصيّةٍ اجتهاديّة تقضي بعدمِ تعدُّدِ الزوجاتِ تمسّكاً بقولهِ تعالى:”ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساءِ ولو حرصْتُم”17.
أمّا الخصوصيّةُ الاجتهاديّة الثّانية، فهي في عدمِ السماحِ للموحّدِ بإعادةِ المطلّقة. وهذهِ القاعدةُ قائمةٌ أصلاً على الاجتهادِ لا على النصّ. ويدافعُ الموحدون عنها بالقولِ: إنها تجعلُ الزّوجين يفكّران مليّاً قبلَ الإقدامِ على هذه الخُطوة. كما يذكرُ أحدُ العلماءِ الموحّدين إنَّ التوراةَ تنصُ على عدمِ رجوعِ المُطّقة18. ويشرحُ أحدُ الكتّابِ الدّروزِ مسوّغاتِ هذا التصرّف، فيقولُ إنّ الموحّدين لا يجيزون إعادةَ المطلّقةِ بوجهٍ من الوجوهِ تفسيراً للآية القائلة:” فإن طلَّقَها فلا تحلُّ له من بعد، حتى تُنْكَحَ زوجاً غيره، فإنْ طلّقَها فلا جُناحَ عليهما أَن يتراجعا، إنْ ظنّا أَنْ يُقيما حدودَ الله”19.
والتّحريمَ ناشئٌ عن تفسيرٍ للفقرةِ الأخيرة من هذه الآية، لأنّ عودة المُطَلّقَيْن إلى بعضهما هي اختياريّة، (فلا جُناح عليهما) إلاّ أنّهما حسب اعتقاد الموحّدين يصعب عليهما بعد الطّلاق والجفاء، وزواج المرأة بغير بعلها أنْ يقيما حدودَ الله، وأن يعودا لبناء أسرة متحابّة، وقد صدق الشاعر إذْ قال:
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدّها مثل الزجاجةِ كسرُها لا يُجبَرُ
وهكذا، فاجتهاد الموحّدين المتعلّق بالزواجِ يحكمُه تفسيرٌ مُدقّقٌ وخاصٌّ لآياتِ القرآنِ الكريمِ يتوخّى الموحّدون من جرّائِه اجتناب الشُّبُهات، واعتمادَ ما يعتقدون أنّه أفضلُ السّبلِ للتّمسّكِ بهدي الكتّاب وتمتينِ روابطِ الأسرة20.
المرأة والطّـــلاق
لقد سمحَ مذهبُ التّوحيدِ بطلب الرّجل الطّلاق في حالاتٍ مُعيّنة، كما سمحَ للزّوجةِ بالحقِّ في طلبِ التّفريق، وفسخِ العقد إذا تعذّر استمرارُ الحياةِ الزّوجيّةِ لأسبابٍ حدّدها قانونُ الأحوالِ الشّخصيّة. فالطّلاق عند الموحّدين الدّروز لا يحصل بإرادة منفردة من الزوج لا تحتاج إلى تبرير منه، بل يمكن أن يحصل فقط بحكم قضائي من قاضي المذهبِ بعد النّظر في مُجريات دعوى الطّلاق، والحيثيات المُقدّمة من كلٍّ من الزّوجين المتخاصمين.
وبالطبع فإن هذا يتطلبُ وقتاً من الزمن، قد يعودُ الزوجان خلالَه عن نية الطلاقِ ويتوصّلان بواسطةِ المصلحين من الأهلِ والأصدقاء أو من تعيّنُهم المحكمةُ المذهبية، إلى وفاقٍ يكونُ لصالحِ العائلةِ والأولادِ وللزوجين أيضاً. أمّا إذا تعذّرَ إصلاحُ ذاتِ البينِ بين الزوجين، فقانونُ الاحوالِ الشخصية الصادر عام 1948، المستمدُّ من التعاليمِ الدينيّة ومن التقاليدِ والتراث، يشترطُ على الزوجِ أن ينصفَ زوجتَه، وكذلك أن تنصف الزوجةُ زوجها.
فأعطى القانون المذكور القاضي حق التعويض على المتضرر من الزوجين بما يزيد عن قيمة المهر وفقاً لتقدير الظروف والأسباب، أو العكس بإنقاص المهر، استئناساً لقاعدة حق الإنصاف بالملكية بين الفريقين الذي يكرسه مذهب التوحيد تبعاً لمبدأ التساوي بين الزوجين بحيث يحق لكل منهما نصف ما يملكه الآخر إذا كانت الفرقة بلا ذنب. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها اختيارياً إذا أراد الزوجين ذلك ضمن الشروط الخاصة في عقد الزواج، وللمرأة ثروتها الخاصّة بها والتي ورثتها، وفي الكثير من الأحيان الثروة التي كونتها في عملها خارج البيت أو داخله.
كما أنًّ التّعاليمَ لم تكتفِ يتحريم إعادة المُطلّقةِ، بل حُرّمَت رؤيتها على الزّوج بعد الطّلاق، وذلك لاجتناب الأسباب الّتي قد تًسهم في بعث الخلافات وتفاقمها، وكذلك على سبيل الحيطة في أن يعود الزّوجان للّقاء ببعضهما وهما مُطلّقَين بعد أنْ تكون قد هدأت انفعالاتُهما.
وبالرّغم من أنًّ حالاتِ الطّلاقِ قد زادت نِسبيّاً في مجتمعِ الموحّدين الدّروز عن السّابقِ لأسبابٍ عديدة، من أهمّها النّزوحُ إلى المدينةِ لطلبِ العلم والرّزقِ والانفتاحِ على العالم الغربي علماً وثقافةً، وعن طريق وسائلِ الاعلامِ بجميع انواعِها المكتوبةِ منها والمرئيةِ والمسموعةِ، والسّينما وخصوصاً التّلفزيونَ والفيديو والخليوي والإنترنت التي دخلت كلها المنازلَ بإذنٍ أو بدون إذن.
ولا شكّ في أنّ طموحَ المرأة للمزيدِ من العلمِ والتّخصّص، حتى بعدَ الزّواج، ودخولَها ميدانَ العملِ خارجَ البيت، وما يتبعه من حريّةِ التّصرّف، أو التّقصيرِ من حيثُ الاهتمامُ بتربيةِ الأولاد ورعايتِهم، أو إهمالُ الزّوج، أو التّفاوتُ الحاصلُ بين الزّوجين من حيثُ المستوى العِلْمِيُّ والثّقافيُّ والمِهنيّ، وأيضاً بسبب مُتطلّباتِ الحياةِ المتزايدة وضغوط الحالةِ الاقتصاديّة وغلاءِ المعيشة، كلّ ذلك يضاعف الضّغوط الماديّة والنفسيّة على الزّوجين، فتزداد بسبب ذلك حالاتُ التفكّكِ العائّلي، وبالتالي عددُ حالاتِ الطّلاق.
رغم كلّ هذا لم يتفسّخْ مدماكُ العائلةِ، ولم يتصدّعْ النّسيجُ الاجتماعيّ عندَ الموحّدين الدّروز. لأنَّ بعضاً من الموروثِ كالنّسغِ ما يزالُ مخزوناً احتياطيّاً، ويظهرُ هذا أكثرَ ما يظهرُ عندما تقومُ المرأةُ الدّرزيّةُ بدورِ الأمّ، فيصبحُ الأملُ في أولادِها، ويتحوّلُ حِرمانُ الماضي وما افتقدَت من إمداداتٍ للنّفسِ تعويضاً بأولادِها، ويأخذُ البدرُ استدارةً أوسعَ، وشخصيتُها المُهابةُ تكبر في عائلتِها ومجتمعها عندما تلبسُ ثوبَ الدّينِ كفعلِ يقين. فيصبحُ إيمانُها ثوبَ رِفْعَتِها الجديد، لاسيَّما إذا كانت تقفُ على أرضٍ صلبةٍ من الإيمانِ والثّقافةِ والعلمِ. ابتدأتْ رحلتُها هي لتستمرَّ الحياةُ، “نور على نور” وكأنّي هنا أرى طيفَ أميّ، وغيري كذلك…