السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محاورات أفلاطون

محاورة لاكيس
عن الشجاعة العاقلة

سقــــراط:
الشّجاعــة ليســت عنــد الفرســان بل هــي مجالــدة الفقــر
والألم والخوف ومجاهــدة شهوات النّفــس وأهوائهــا

الشجاعــــة يجــــب أن تقتـــرن بالحكمــــة
وإلا تحوّلــــت إلى طيــــش يــــورّد المهــــالك

تدور محاورة لاكيس حول تعريف الشجاعة ويطرح الموضوع بسبب اهتمام اثنين من قواد الجيش السابقين بتدريب ولديهما على المهارة في الحرب والإثنان يشعران بالتقصير لأن كليهما ابنين لمحاربين معروفين في الجيش ولهما إسم وشهرة، وهما بالتالي يريدان أن يستمر الإرث العسكري المرموق في الأسرة ويخشيان من أن يندفع الشابان ولديهما إلى اللهو وما لا طائلة تحته في حال عدم دفعهما إلى تعلم مهنة المبارزة والقتال بالدروع، وقد كانت هذه سمة الجيوش الإغريقية في تلك الفترة.
يقرر الرجلان الصديقان التوجّه إلى إثنين من معارفهما من الذين لهم خبرة في الأمر وهما لاكيس ونيسياس لاستشارتهما في الأمر لكن الأخيرين ينصحانهما على الفور بالتوجّه إلى سقراط الذي كان قريباً منهما باعتباره الشخص الأفضل ليقدم النصحية ولاسيما وأن سقراط كان قد أبلى البلاء الحسن في الحروب التي شارك فيها مع مواطني مدينته.
يبدأ سقراط بالإعتذار عن الخوض في الموضوع مباشرة فهو يريد أن يسمع رأي لاكيس ونيسياس وهو يعتبر انه من اللائق أن يعطيا الكلام أولاً، وهذا هو دوماً أسلوب سقراط أي الإصغاء باهتمام أولاً وترك المحاورة تأخذ مجراها وتكشف عن الثغرات في منطق المتحاورين، وهو لذلك يبقى خلال المحاورة في موقع الحكم أو الناصح الذي يساعد على استخلاص الأسئلة اللازمة للتقدّم بالحوار، وهو قد يدخل لمساعدة المتحاورين على تصويب نقطة أو فكرة ولا يتدخل إلا بعد أن يكون تدخله أصبح مفيداً لبلورة النتائج وبعد أن يكون المتحاورون قد حققوا فعلاً تقدماً وباتوا قاب قوسين أو أدنى من بلوغ النتيجة.
يترك سقراط السؤال المباشر لوالدي الشابين وهما ليسيماكوس ومليسياس حول الفائدة من الخدمة العسكرية والتدريب على الحرب ويقرر طرح سؤال حول الهدف المقصود من الاهتمام بالتدريب العسكري في أولاد الصديقين، لأنه يجب أن نعرف أولاً الغاية من اي شيء.
سقراط: إنّي، يا ليسيماكوس سوف أعطيك رأيي في الموضوع الذي سألتني فيه، ولكن أرى أنّ الأدب يلزمني أن أسمع أوّلاً لهؤلاء الرّجال وأن أتعلّم منهم، فهم أكبر منّي سنّاً، وأكمل خبرة بالأمور. فإن بدا لي أنّ هناك ما يُزَادُ على ما قالوا، فسوف أبسطه لكم.
يفتح نيسياس حواراً غير موفق مع لاكيس، إذ سيتبين أن لكل منهما وجهة نظر متعارضة تماماً مع الآخر: نيسياس يرى من جهته أن الخدمة العسكرية تربي قيم الجدية وتوفّر للشاب القوة البدنية ومهارة القتال كما إن الزي المدرع للمقاتلين الأشداء يعطي الشاب قيافة ومظهراً جميلاً ومهيباً على الجبهة، كما إنه يعطيه فرصة الدفاع عن نفسه في حال تضعضع الجيش. ويعتقد نيسياس أنه يجب أن يلام مع غيره من الآباء لتركهم أولادهم في حال من الفراغ الذي يقودهم إلى حياة وادعة وربما إلى ضعف التربية والقيم النبيلة.
بعد هذه المرافعة ينبري لاكيس ليدحض وجهة نظر نيسياس مقدماً أمثلة عديدة على أن التدريب العسكري والعدة الكافية ليسا هما من يقرر النتيجة بل المواهب الشخصة وهو يعطي أمثلة على قواد أو عسكريين كانوا يبدون بمظهر مهيب في الحياة العادية لكنهم عندما جد الجد خيبوا الآمال بسبب ما ظهر منهم من انعدام المهارة في استخدام السلاح أو حتى الفرار من وجه الخصوم عند اشتداد وطيس المعركة.

” «كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث سيجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأســرار حياته اليوم، وحياته الماضية»!! “

نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع
نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع

من أجل الهدف التعليمي المنهجي في محاورات أفلاطون والجدلية السقراطية يبدأ الموضوع بوجهتي نظر متعارضتين تماماً، وبذلك يكون المسرح قد هيّئ لدراما الحوار التي يلعب فيها سقراط دوماً دور الحكم الذي يقود المحاورة بالصبر والتسلسل المنطقي إلى نهاية إيجابية. أفلاطون يظهر هنا أمراً أساسياً في محاوراته بانياً على الدور السقراطي وهو أن الحكمة ضرورية لتوضيح الحقيقة وأن الناس إذا تركوا لأنفسهم فإنهم سيبقون في حالة انقسام لأنهم لا يمتلكون الحكمة ولأنهم غالباً ما ينطلقون من حقائق ذهنية جزئية تتأثر بأهواء كل منهم، وبهذا نكون غالباً أمام مشهد من الأفكار المتصارعة والتي لا توجد وسيلة للفصل بينها وإحلال التوافق إلا عبر نهج الحكمة لأن الحكيم يرى ما لا يراه عامة الناس فهو يعلم بحقيقة نفوسهم كما إنه يرى الصورة العامة للمسألة بحدسه وبما أوتي من بصيرة.
بعد ظهور الخلاف بين « نيسياس» و«لاكيس» يتوجه والد أحد الشابين وهو «ليسيماكوس» بالطلب بحرارة من سقراط أن يشارك الجميع في الفصل في الخلاف، موحياً أنه لو كان لاكيس ونيسياس قد اتفقا فإن الحاجة كانت أقل ربما إلى التحكيم. هنا يتدخل سقراط رامياً أول سهم له في ميدان النقاش مستغرباً كيف يعول ليسيماكوس على أكثرية الأصوات لتبين ما هو الخيار الأفضل لإبنه، فالأكثرية ليست ضمانة بل لا بدّ من أن يكون الخيار في حد ذاته عاقلاً.
سقراط: واعجبي يا ليسيماكوس، أفأنت تريد اتباع الرّأي الّذي يكون عليه أكثر النّاس!؟ فلو أنّ الكلام كان يدور مثلاً في الرّياضة وفي أمر تعليمها لابنك، أفكنت ستستفتي أكثر النّاس أم أنّك ستطلب النصيحة ممن كان قد تعلّم الرّياضة على يد معلّم بارع؟
لم يكن سقراط بريئاً لأنه عن هذا الطريق سيسأل الجميع البحث عن من هو أهل لتدريب الفتيين وما ينبغي أن تكون مؤهلاته ، وهو سيتوصل ببراعة إلى إعادة الكرة إلى ملعب نيسياس ولاكيس لأنه لا يريد أن يعطي جواباً بل يريد للمحاورة أن تسير في طريقها .

“سقـــــراط: عجباً يا ليسيماكوس! أتريد اتبــاع الــرّأي الّــذي يكــون عليه أكثر النّاس أم عليــــك طلــــب النصيحــــة ممــــن تعلّم علــى يد معلّم بارع؟”

مشهد للحرب في أيام الأغريق - هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب
مشهد للحرب في أيام الأغريق – هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب

سقراط: قبل قليل يا ليسيماكوس كان لاكيس قد حضّك على ألاّ تدعني حتّى تحصل مني على الجواب الشافي بشأن موضوعنا، أمّا الآن فأنا من يحضّك على ألاّ تدع أبداً لاكيس ولا نيسياس حتّى تسألهما، وقل لهما بأن سقراط يقسم بأنّه لا دراية له البتّة بهذا الأمر، وأنّه لعاجز على أنّ يتبيّن أيّاً منهما كان محقاً في رأيه، لأنّه لا هو معلّم في هذا الفن، ولا كان تلميذاً لأحد من المعلّمين البارعين في هذه الأمور.
على أثر ذلك يقتنع ليسيماكوس برأي سقراط فيعود ليطلب من لاكيس ونيسياس أن يستلما الحوار مجدداً علهما يتوصلان معاً إلى النتيجة المرجوة. هنا يفطن نيسياس إلى مناورة سقراط ويأخذ على لاكيس سذاجته فهو لا يعرف سقراط على حقيقته ولا يعرف عن طريقته وأسلوبه البارعين واللذين يصفهما في هذه السطور:
نيسياس: أراك (يا لاكيس) كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث في أيّ موضوع قد اختاره هو، فلا مناص من أن يجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأسرار حياته الحاضرة وحياته الماضية!! ومتى بلغ به الحديث هذا المقام، فإن سقراط لن يطلقه أبداً حتّى يمحِّص كلّ ما كان سيقوله. وأنا اعتدت على طريقته تلك وأعلم حقّ العلم أنه لا مفرّ لأحد ولا لي أيضاً من أن يوقع به في سياق الحديث. فأنا أخشى الدنوّ من سقراط يا ليسيماكوس، وأنا لا أستغرب أن يبلوني، وإنّي لأعلم حق العلم بأنّه لن يجعل الحوار ينحصر بأمر الشابّين، بل هو سيحوله ليصبح حواراً عن أنفسنا نحن، لكنني لا أرى حرجاً البتّة في أن يسلك سقراط بحوارنا هذا كما يشاء.
يمثّل هذا المقطع على لسان نيسياس وصفاً رائعاً من قبل أفلاطون للأسلوب السقراطي الشهير في الحوار والذي يعتبر خاصية اشتهر بها الحكيم وبرز فيها جميع أقرانه السابقين واللاحقين.
بدوره، سيقبل لاكيس تحكيم سقراط خصوصاً وأنه عرف شجاعته عندما كانا معاً في الظروف الصعبة لمعركة ديليون.
لاكيس: أمّا سقراط، فلا أعلم ما سيقوله، لكنّه، كما قلت آنفاً، كان قد ظهر لي فضله من فعَاله وثبت عندي أنّه أهل للكلام الصادق.. وبسبب هذه الخصلة فيه فإنني سأسلّم نفسي له حتّى يمتحنني، ولن أجد غضاضة أبداً في أن أتعلّم منه (…) فهلا رضيت إذاً، يا سقراط في أن تعلّمني وأن تمحِّص أقوالي، وسأدلي لك بكل ما أعلمه. فلقد صرت معظَّماً في نفسي منذ ذلك اليوم الّذي ثبتّ فيه معي في ساحة الموت، حيث ظهر فضلك بأجلى صورة. فلتتكلّم كما يبدو لك، ولا تنحرج أبداً من تقدمنا في السن.
ستؤدي مناورة سقراط إلى أمر مهم وهو أن الحوار سيعود ليتركز بين نيسياس ولاكيس حيث يمثل سقراط دور المحرك الخفي فهو يقود الحوار بعد ذلك حتى نهايته من دون أن يكون عليه إبداء رأي قاطع إلا في الفقرات الأخيرة.
يقود سقراط الأطراف المتحاورة للإتفاق اولاً على أن الهدف مما ينشدونه من فكرة الخدمة العسكرية هو الفضيلة، لكن الفضيلة تعريف واسع جداً والمطلوب هو أن نعرف جانب الفضيلة الخاص بإستخدام السلاح وهو -كما اتفق الجميع: الشجاعة. هنا يعتقد المتحاورون أنهم اقتربوا من الهدف عندما يثير سقراط سؤالاً جوهرياً وهو: ما هي الشجاعة؟
يقترح لاكيس أن الشجاعة هي أن يثبت المحارب في موقعه في المعركة وأن لا يركن إلى الفرار. لكن سقراط يلاحظ أن تعريف لاكيس ينطبق على مشاة المحاربين بالتحديد بينما المطلوب إيجاد تعريف للشجاعة يمكن أن ينطبق على العمل العسكري عموماً بل على كافة نواحي الحياة وليس الحربية فقط، كما يلاحظ أن الشجاعة في المعركة قد تقتضي أحياناً عدم الثبات في الموقع وهناك قادة عسكريون يتقنون فن الانسحاب كتمهيد للهجوم، ثم يتابع باقتراح مفهوم أوسع للشجاعة:

أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي
أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي

عند كلّ محارب، بل ليس فقط عند كلّ محارب، بل عند كلّ إنسان ركب خطر البحر، أو بقي رابط الجأش في الفقر، وفي مهالك السّياسة، ولي أن أزيد أيضاً، شجاعة الّذين يصبرون على الألم والخوف، أو الّذين يجاهدون شهوات النّفس وأهواءها، أفلا توافقني يا لاكيس أنّ هؤلاء هم أيضاً لَشجعان؟
لاكيس: بل هؤلاء هم غاية في الشّجاعة.
ثم يعترف لاكيس بأن تعريفه غير دقيق ويستدرك فيضيف تعريفاً آخر هو أن الشجاعة تقتضي الحزم، لكن سقراط يسارع إلى تحدي التعريف الجديد:
سقراط: لكن أفلا ترى أنّه ليس كلّ حزم شجاعة؟ وأنّ الحزم حين يقترن بالرّشد إنّما يكون محموداً وحسناً وإذا اقترن الحزم بالطيش، فسيكون ضارّاً ومهلكاً.
لاكيس: إنّه سيكون ضارّاً ومهلكاً.
سقراط: وإذا كانت الشّجاعة محمودة، وهذا الضّرب من الحزم مذموم، فأنت إذًا تنكر أن يكون الحزم تعريفاً صالحاً للشّجاعة.
لاكيس: نعم أنكر ذلك.
بعد هذه المحاولات غيرالموفقة لتعريف معنى الشجاعة يقدم نيسياس اقتراحاً جديداً. فقد تذكر أنه سمع من سقراط مراراً أن المرء إنما يكون جيّداً على الدوام في الأشياء الّتي له علم بها، وسيّئاً في الأشياء الّتي يكون جاهلاً بها.
نيسياس: حينئذ فإن صحّ أنّ الرّجل الشّجاع هو جيّد، فهذا الرّجل هو عالم لا محالة.
لكن لاكيس يظهر فوراً أنه لا ترابط حقيقياً بين الأمرين، ويزيد سقراط على ذلك ملاحظة مازحة مفادها أن الحيوانات مثل الأسود أو الغزلان أو القردة جيدة في ما تعمل فهل يعني ذلك أن لديها العلم؟
يستمر سقراط في محاولة رد الأمور إلى أصولها، وستسنح الفرصة عندما يأتي نيسياس باقتراح جديد يعتقد أنه يفي بالغرض:.
نيسياس: الرّأي عندي يا لاكيس أنّه لا يمكن وصف أيّ بهيمة بالشّجاعة، بل إنّ هذا الوصف لمرفوع عن كلّ إنسان يركب المهالك لسفاهته، بل هذا عندي لَرَجُلٌ مجنون وطائش، أو ربما حسبت أنني سوف أعدّ الأحداث الصّغار شجعانا لكونهم لا يرهبون شيئاً لجهلهم بعواقب الأمور؟ بل عندي أن يكون المرء غير هياب، وأن يكون شجاعاً لأمرين مختلفين. لذلك فإنني أرى بأنّ الشّجاعة والنّظر في العواقب خصلتان لا توجدان إلاّ في قلّة قليلة من البشر، أمّا التهوّر، والجسارة، وقلّة الخشية للجهل بعواقب الأمور، فإنّما هي من خصال أكثر المخلوقات، لذلك فإن الأفعال التي وصفتها أنت أو التي يشير إليها العامة على أنها أعمال شجاعة إنّما أسمّيها بالأفعال المتهوّرة، أمّا الأفعال المتروّيّة فتلك، لعمري، ما أسمّيها بالشّجاعة.
يستمر الجدل بين نيسياس ولاكيس الذي يتابع البحث عن تناقضات في منطق زميله لكن سقراط يشعر أن الجميع اقتربوا أكثر من محاولة تعريف «الشجاعة العاقلة» كما سمعا أي الشجاعة المقرونة بالحكمة والرشاد وليس الطيش. لكنه يعود فيسأل:

سقراط: لننظر ما هي الأشياء الّتي تُخْشَى، وما هي الّتي لا تُخْشَى، ولنبحث عنها معاً. من المعلوم أنّ الأشياء الّتي تُخْشَى إنّما هي الأشياء الّتي تبعث الخشية في النّفس، والأشياء الّتي لا تُخْشَى، فهي الأشياء الّتي لا تبعث الخوف في النّفس. وبلا ريب، فليست الشّرور الماضية، ولا الشّرور الحاضرة هي التّى تخشى، وإنّما الشّرور الّتي نترقّبها، إذ إن حدّ الخشية هو ترقّب شرّ نازل. فهل نسمي الشّجاعة العلم بهذه الأمور الّتي تُخْشَى والتي لا تُخْشَى؟
نيسياس: إنّ العلم بهذه الأمور هو الّذي أسمّيه شجاعة.
سقراط: الشّجاعة ليست علم ما يخشى ولا يخشى فحسب، فهي مثل سائر العلوم لا تشتمل فقط على المعرفة بالشرّ المتوقّع، بل وأيضاً على المعرفة بالشرّ القائم والشرّ المنصرم، أي على المعرفة بالشرّ في عمومه. حِينَئِذٍ، فإنّ كلّ رجل علم بالخير كلّه، وعلم كيف هو، وكيف كان، وكيف سيكون، وعلم بالشرّ أيضاً في جميع أحواله، سيكون الرّجل الّذي حوى الفضيلة كلّها. ولا جرم أنّ كلّ رجل أُوتِيَ الهمّة في أن يحتاط لنفسه ممّا يخشى ولا يخشى من الآلهة أو النّاس، وأوتي السّداد فسيكون هو الرّجل الوافر الحكمة، والعدل والتّقوى.
نيسياس: ليس لدي أي اعتراض على ما قلت ياسقراط.

خلاصة
ينتهي سقراط إلى خلاصة مهمة وهي أن السلوك القويم أو الفضيلة تحتاج إلى أمرين مختلفين: المعرفة، ومن ضمنها القدرة على تمييز الحق من الباطل (أي ما يخشى منه وما لا يخشى منه) أما الأمر الثاني فهو العزيمة والإرادة في عمل المرء بما يعلم من سبل الفضيلة وبالتالي مقاومة هوى النفس. هذه المقاومة بدأ سقراط الحوار بأن أدرجها ضمن قائمة أعمال الشجاعة مع أمور عديدة لا تتطلب بالضرورة القوة الجسدية أو المهارة في الحرب. وعدّ سقراط العزم أو الحزم في التزام جانب الصواب من مظاهر الشجاعة فأقام بذلك رابطاً بين المعرفة وبين العزيمة التي هي جانب من صفة الشجاعة. على العكس من ذلك، فإن من لا يتمتع بقوة الإرادة أو الذي تضعف عزيمته أمام المغريات أو الأهواء فإنه يفشل في التزام جانب الفضيلة أو التزام ما يعلم جيداً أنه جانب الحق أو الصواب. بهذا يكون قد فشل في امتحان الشجاعة كما يعرفها سقراط أي كجزء لا يتجزأ من المعرفة. من ناحية أخرى لفت سقراط إلى أهمية أن تقترن الشجاعة بالحكمة وتقدير عواقب الأمور وإلا تحولت إلى طيش مهلك فأعاد الشجاعة من طريق آخر إلى المعرفة أو البصيرة العاقلة.

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

سقراط الحكيم المحارب

في محاورة أفلاطون «لاكيس» يلعب سقراط دوراً مركزياً ويقود الحوار تقريباً من أوله إلى آخره. ولأن الموضوع يتعلق بأهمية الخدمة العسكرية وبمفهوم الشجاعة فقد كان سقراط مؤهلاً فعلاً ليس فقط لأنه كان حكيم أثينا المشهور، وكان مقصداً للشباب وكل من يرغب في طلب العلم، بل لأنه هو نفسه كان مقاتلاً شجاعاً وقد خاض مع الأثينيين على الأقل ثلاث حروب أظهر فيها قمة الجسارة ورباطة الجأش وهدوء الأعصاب الأمر الذي مكّنه من إنقاذ الألوف من الأثينيين أثناء هزيمتهم العسكرية الموجعة في معركة ديليون سنة 424 قبل الميلاد، إذ تعاون سقراط مع محارب آخر هو لاكيس (وهو الذي سيظهر في المحاورة التي أعطيت اسمه) لتجميع الأثينيين بعد الهزيمة وساعد بذلك على تأمين انسحاب منظم وفر المزيد من الضحايا على الحملة، واستحق سقراط تكريم الأثينيين وتعظيمهم بسبب دوره البارز في تلك المعركة. وبعد سنتين وفي العام 422 ق.م. شارك سقراط في معركة أنفيبوليس التي هُزِم فيها الأثينيون أيضاً وكان هدفهم مناجم الذهب الغنية في تراسيا، وقد شارك سقراط كمواطن مع القوات غير النظامية Hoplites التي كانت عادة أقل تدريباً من الجنود وكانت عدتها الرماح والدروع. وكان عمر سقراط يومها قارب الـ 50 عاماً مما يعطي فكرة عن قوة بنيته إذ يتطلب لبس الدروع الحديدية والقتال بالرماح وجهاً لوجه مهارة وشجاعة وفوق ذلك لياقة بدنية. ولا تتوافر معلومات عن دور سقراط في هذه المعركة لكن ما ذكرته كتب التاريخ هو أن المواجهة كانت شرسة وقد قتل فيها 600 مواطن أثيني منهم الديماغوجي الشهير كليون والاستراتيجي الأسبارطي براسيدس.
وكانت أول حملة عسكرية شارك فيها سقراط هي حصار مدينة يوتيدياس في شبه جزيرة كالسيديا وهي مستعمرة تابعة لكورنث وذلك في العام 432 عندما كان في سن الأربعين. وذكرالمؤرخون أن شجاعته ومهارته في المعركة الفاصلة التي جرت في حزيران 1932 لفتتا الأنظار وقد قاتل سقراط بلا كلل وأنقذ حياة صديقه ألسيبياديس واستمر حصار يوتيدياس أربع سنوات من سنة 432 ق.م. إلى سنة 429 ق.م. يذكر أن سقراط جرح مراراً في تلك المعارك.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي