تمثِّل نظريةُ «المعرفة» مفهوماً محورياً في فلسفة أفلاطون لِمَا لها مِنْ صِلةٍ بمفاهيمِ خلودِ النَّفْس، و»المُثُل» الأوّلية، و»العِلْم تذكُّر». فالمعرفةُ بالنسبة إليه لا تُحرَز إلا بالرجوعِ إلى الحقائقِ المُطلَقة العُلْويّة الثابتة، عَالَم «المَعْقولات»، بمنأى عن العَاَلم المادي المُتَغيّر، عَالَم «المَحْسوسات». فالحواسُ البشرية تعجز عن معرفة حقيقة الوجود، بل هي تَمنّح الذِّهنَ انطباعاتٍ غير دقيقة ولا موثوقة عن عَالَمٍ مادي حِسّي، وينبغي إعمال العقل في تلك الانطباعات وتذكُّر المُثُل المُتأصِّلة في «النَّفْس الخالدة» من أجل تحقيق المعرفة. وفي بلورة نظريّته في المعرفة «إمبستمي» (episteme) أو بمعناها الأرقى («غنوسس») (Gnosis – γνῶσις)، ناغمَ أفلاطون بين مفاهيم في فلسفة سقراط حول الفضائل كـ «نماذج مِثالية ثابتة» (paradigms) مُستقلّة عن أي مسلكٍ، وكذلك تعاليم فيثاغورس، وبارمينيدس (Parmenides)، وهيرقليطس (Heraclitus)، وحتى تعاليم أورفيوس (Orpheus) الصُّوفيّة. فاستمدّ من فلسفة فيثاغورس وأورفيوس المَسْحة الدينية والرُّوحيّة وأبعاد خلود النفس ورمزية الكهف الصُّوفيّة، ومن فكر بارمينيدس استقَى النظرة إلى الحقيقة بأنّها سرمديّة، وأنّ كلّ تغييرٍ ما هو إلا وَهْم. أمّا من هيرقليطس فاستحضرَ وجهةَ النظر القائلة بأنّ لا شيء دائماً في عَالَم حواسِنا وكلّ شيءٍ في دَفْقٍ مستمر، وذلك في خُلاصةٍ إبستمولوجية بأنّ المعرفة لا تتأتَّى من الحواس بل تتحقَّق بالعقل يقيناً وهو ما تطرّق إليه أفلاطون في محاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) حيث أوضح أنّ سُبُل معرفة العَالَم المادي ليست من خلال الانطباعات الحِسّية بل في التفكُّر والتدبُّر بتلك الانطباعات، فيكتشف العقل حقيقتها.
استجلاء طبيعة المعرفة
تتمحور محاورةُ «ثياتيتوس» حول «الإبستمولوجي» (Epistemology) أو «طبيعة المعرفة»، وهو ما تناوله أفلاطون في محاوراتٍ عديدة لكنّ هذه المحاورة خصّصت نقاشاً حول المعرفة الحقّة، وهي تدور حول شخصية سقراط وخبير الرياضيات اللامع الشاب ثياتيتوس ومعلِّمه ثيودوروس (Theodorus) في تقصٍّ حول ماهية المعرفة، حيث يرفض سقراط خلال الحوار ثلاثةَ طروحاتٍ أو تعريفات للمعرفة مُفنِّداً إيّاها بمنطقٍ عقلاني، وهي: المعرفة إدراكٌ حِسّي، والمعرفة بمثابة «مُعتقدٍ» (Belief) حقيقي، ومن ثمّ المعرفة كمُعتقدٍ حقيقي مع تفسيرٍ منطقي، لتنتهي المحاورة في إشكالية بحثيّة (Aporia) تتطلّب مزيداً من التقصّي، وتركت تساؤلات أوضحها أفلاطون في محاوراتٍ أخرى عند تناوله لمسألة «المُثُل» و«العِلْم تذكُّر».
وفي محاولة لاستجلاء هذه الإشكالية المعرفية، يُشدِّد أفلاطون في محاورة «فيدون» (Phaedo) على أنّ المعرفة برمّتها، سواء كانت معرفة الكميات أو النوعيات والمقاييس والأشكال والألوان وحتى مفاهيم الجمال والأخلاق إنّما تتأتَّى عبر التفكُّر والتدبُّر العقلانيَين.
فأيُّ انطباعٍ تُثيره الحواسُ في الذهنِ حول شكلِ «مُربَّعٍ»، على سبيل المثال، لا يمنح معرفةً في «الماهية المُربَّعِيّة»، بل في تفكُّر العقل في الانطباعات التي يُثيرها المُربّعُ إنّما تتسنَّى له معرفة الطبيعة الحقَّة لتلك الماهية. وهذه المعرفةُ إنّما تنطبق على جميع المُربّعات، لا على مُربّعٍ محدّد تراه العينُ آنيّاً ومكانيّاً. وكان أفلاطون قد أضاءَ في محاورة «مينون» (Meno)، على هذه المعرفة الحقَّة المتأصِّلة في النفس، في قصة العبد غير المتعلِّم الذي أظهرَ معرفةً بحقائق هندسيّة حول المقارنة بين أحجام المُربّعات من دون معلِّمٍ أو مُرشِد، حيث أثبتَ سقراط لمينون نظرتَه في أنّ «العِلْمَ هو تذكُّر» أي تذكُّر تلك الحقائق العُلْويّة، التي سنتناولها في ما سيلي سواء تحت تسمية «مُثُل» أو «صور» أو «كُلّياتٍ أوّلية».
تفكُّر وتذكُّر
هذا التفكُّرُ العقلاني الذي يُحقِّق المعرفة، إنّما هو ذلك التذكُّر للحقائق العُلْويّة المتأصِّلة في «النفس الخالدة»، كما نتتبَّع أثرَ هذا الفكر في تعاليم فيثاغورس والتعاليم الهِرْمسية القديمة، المرتبطة بنظرية الصُّور والمُثُل، تلك الجواهر الكُلّية المُطلَقة. وهذ التذكُّرُ هو ما يُطلَق عليه في اليونانية (Anamnesis). وما تتذكَّره النَفْسُ إنّما هو كُلّيات المُثُل المُطلَقة (Universals) لا الجُزئيات الحيثيّة المُتغايرة (Particulars)، فأيُّ مثالٍ تفصيلي عن العدالة أو الجمال، على سبيل المثال، إنّما ندركه، لكنّ المثالَ الكُلِّي للعدالة لا يُعلَّم بل هو معرفة كُلّية بالمُثُل العُليا، إنّما هي متأصِّلة في النفس الخالدة بَدهِيّاً (a priori). ويثبت أفلاطون في محاورة «فيدون» وجودَ معرفة أوّليّة أسبقيّة في تلك الحقائق المُطلَقة العُلْويّة الكامنة في النفوس الخالدة، فأنْ نعرف يعني أن نستعيد تلك المعرفة الراسخة بَدْهياً في النَّفْس.
وكما في محاورة «ثياتيتوس» كذلك في محاورتَي «تَيماوس» (Timaeus) و»الدفاع» (Apology)، يعتبر أفلاطون أنّ العقلَ «نوس» (nous: νόος)، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قِوى النفس هو مَنْ يُدرِك المُثُلَ العُليا، تفكّراً وتذكُّراً. فالمُثُل تُمثِّل فعلاً عَالمَ «اللوغوس» (Logos) الذي أُحْصِيت فيه الكائنات بالقوة، وهو ما طوَّره أفلاطون في مفهوم «الديميورج» (Demiurge) «الصانع» أو الوسيط العُلْوي بين مصدر عَالَم المُثُل وعَالَم الطبيعة، لا سيّما في محاورة «تيماوس». وتُبنَى نظرية أفلاطون في المعرفة على هذه المفاهيم: الحواس لا تجعلنا نُدرِك الحقيقة، والنفس الخالدة تتأصَّل فيها معرفة بَدْهِيّة أوّليّة، وهذه المعرفة إنّما هي معرِفة لحقائق عُلْويّة مُطلَقة، أو مُثُل أو كُلّيات أو صور «إيدوس» (eidos – εἶδος) أو أفكار أوليّة «إيديا» (idea – ἰδέα).
في المفهوم الأول، نرى أنّ عالِمَ الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) يشير في هذا الصدد إلى أنّ الأشياء هي «مجموع صفاتها»، تلك الصفات التي تُدرَك بالحواس ولذلك يستدرك أنّ العَالَم المادي بذرّاته ومجرّاته وطاقاته لا وجودَ له سوى في ما تبنيه الحواسُ غير الكاملة في انطباعاتها، وهذا ما يُردِّدُ صدى تعاليم أفلاطون.
ولا عجبَ إذا ما تحدَّث عالِمُ النفس الشهير كارل يونغ (Carl Jung) عن أنّ العَالَم المادي لا يوجد إلا كما يُختَبَر في الوعي، وبقدر ما نُنتِج صورةً عنه في ذهننا، فالمادة بالنسبة إليه فَرَضِيّةٌ و»رمزٌ لشيءٍ مجهول»، وإنّما ما نُدرِكه ونشعره ونُفكِّر به ما هو إلا صورة نفسانية، وذلك إشارة صريحة إلى المفهوم الأفلاطوني بوجود معرفة بَدْهِيّة في النفس الخالدة (فقد قارَن يونغ بين مُثُل أفلاطون والأنماط أو ما أطلق هو عليه تسمية «المُثُل الأوليّة البَدْئية» Archetypes النفسانية). حتى إنّ أرسطو رأى في ماورائيّاته أنّ النفسَ تُولَدُ وفي داخلها مجموعة مِن المُثُل الميتافيزيقية التي تسعى في الحياة الأرضية إلى تحقيقها.
ويجدر التنويه إلى أنّ مفهوم المُثُل يستند بحدّ ذاته إلى النظرية الفيثاغورية القائلة بأنّ البُنَى المُدرَكة بالعقل (Intelligible)، وهي أرقامٌ بالنسبة إلى فيثاغورس، لا العناصر المادية هي التي تمنح الأشياءَ سِماتَها المتميِّزة، وطوَّرَ أفلاطون هذا المفهوم إلى مبدأ «المُثُل السَّرْمَديّة» (Eternal Forms) تلك الجواهر الثابتة التي يُعتبر العَالَمُ المادي المحسوس ظِلالاً لها.
نظرية الصُّور أو المُثُل الأفلاطونية
لكن ما هي «المُثُل الأفلاطونية»؟
في محاورة «كراتيلوس» (Cratylus)، يتحدّث أفلاطون عن تلك المُثُل بكونها «الطبيعة الأزلية للأشياء»، أمّا في محاورة «أوثيفرو» (Euthyphro)، فيصفها بكونها «الصُّور الجوهرية»، أو «المُثُل الأوَل». ويعتبرها في محاورة «بارمينيدس» (Parmenides) «أفكاراً أو أشبه بالأنماط الأولية»، ومن ثمّ يعتبرها «جواهر» كُلّية، وهو ما يشير إليه أيضاً في الكتاب السادس من «الجمهورية» (The Republic)، حيث يعتبر الصورة «كينونة» أو «جوهر»،
وكذا يتحدّث عنها في محاورة «فايدروس» (Phaedrus) بصفتها «كينونة حقيقية»، تتبدَّى انعكاساتُها ماثلةً في الحيثيات الجزئية، تماماً كما وصفها في محاورة «غورجياس» (Gorgias).
وقد أطلقَ شارحو فلسفة أفلاطون، وعلى الأخص نيكولاس وولترسورف (Nicholas Woltersorff)، وأر. جي. كروس (R. G. Cross)، وأيه. دي. وزلي (A. D. Woozley)، وآر. سي. لودج (R.C Lodge)، وأر. أف. أيه. هويرنلي (R. F. A. Hoernle)، العديدَ من التسميات على هذه الحقائق العُلْويّة المُطلَقة، ما بين «الجواهر» و»النماذج المثالية الثابتة» (Paradigms) أو «المفاهيم المِثالية» و»المبادئ العُليا» أو «معايير الكمال» أو «الكُلّيات» و»الأمثلة الكاملة بحدّ ذاتها»، وذلك تفسيراً للكلمة الإغريقية التي يستخدمها أفلاطون للتعبير عن الصور أو المُثُل العليا وهي «إيدوس» (eidos)، والتي يُشار إليها أحياناً بـ «إيديا» (idea) أي الأفكار. وقد أجمعوا على أنّ الكلمة الإنكليزية Form أي «الصورة» و«المثل» هي أفضل تعريفٍ لمفهوم أفلاطون حيث إنّ هذه المُثُل العُلْويّة لا تُدرِكها الحواس بل يتفكَّر في انطباعاتها العقلُ، وإنّ المعرفةَ ليس في علاقة الجزئي بالكلّي أي الصور فحسب، بل في علاقة الفكر بالصورة. إنّ الأهمية الأوّلية هي قدرة العقل على فَهْم الصورة العُلْويّة للشيء المدروك بالفكر. وقد ألمحَ أفلاطون في «جمهوريّته»، وفي عددٍ من المحاوارات السقراطية، إلى أنّ الفلاسفة فحسب هم القادرون على معرفة عَالَم المُثُل ولذلك يستحقّون أن يكونوا حُكّاماً كنخبة متنوّرة حاكِمة.
وفي «الجمهورية»، صوَّرَ أفلاطون مفهومَه القائل بأنّ المعرفةَ مُستمدّةٌ مِن عَالَم المُثُل الجوهرية الأزلية في ثلاثِ قصصٍ مجازية (Metaphor)، وهي أُمثولات رمزيّة، الأولى أُمثولة «الشمس» كمجازٍ لمصدر التنوير العقلي الذي يدلُّ على صورة الخير الأسمى، ومن ثمّ أُمثولة «الخط المقسَّم» في إشارة إلى الأقسام الأربعة للوجود بحسب المفهوم الأفلاطوني، ومن ثمّ أُمثولة «الكهف» (Allegory of the Cave)، حيث يتناول أفلاطون مسألةَ العلاقة ما بين التجربة الحِسّية للإنسان وحقيقة الوجود، في رحلةٍ نحو الحكمة والعرفان والتحقُّق الصوفي تبدأ بالتفكُّر بالمُثُل الجوهرية تلك التي تتعدَّى الظِّلال الحِسّية للعَالَم المادي:
أُمثولة «الشمس»
يرمي أفلاطون في قصة «الشمس» إلى أنّ ماهية الحقيقة لا يمكن إدراكها بالحواس العادية، لذا ينبغي استخدام العقل لفَهْم الحقائق العُليا للوجود، والعقلُ كالنظر يحتاج إلى «وسطٍ ثالث» لكي يعمل، وبالنسبة إلى أفلاطون إنّه مِثالُ الخير. وهنا يقول أفلاطون على لسان سقراط إنّ «الشمس» تُضيء العَالَمَ المَرْئي بالنور كما يُضيء مِثالُ الخيرِ العَالَمَ المدروك بنورِ الحقيقة، وهو ما يتيح للإنسان أن يُحقِّق المعرفة. فكما تُتاح قدرة العين على الرؤية بفضل نور الشمس، كذلك قدرة النفس على المعرفة تُصبح متاحةً بحقيقةِ الخير، بل إنّ «الشمسَ» هي مصدرُ الحياة والنمو وكذلك مِثال الخير هو أصلُ وجود الأشياء وكينونتها، وهذا يتصل بمفهوم أفلاطون للعقل «نوس» والوسيط العُلْوي «الديميورج» كما سبق القول.
أمثولة «الخط المجزّأ»
العَالَمُ بالنسبة إلى أفلاطون، قسمان: «مَرْئي» وهو العَالَمُ المادي المُتغاير، وآخر «مُدرَك بالعقل»، أي عَالَم الصور أو المُثُل، وهو ما يتطرَّق إليه في «الجمهورية»، كما سبق القول، حينما يضربُ مَثَل «الخط المجزّأ» الذي يعكس هذين العَالَمَين. ينقسمُ هذا الخطُ إلى أربعة أجزاء متساوية، يُمثِّل القسمُ الأول المُثُلَ المُدرَكة بالعقل (المعقولات)، والثاني «الأرقام»، أمّا القسمُ الثالث في فئة العَالَم المَرْئي المُدرَك بالحواس (المحسوسات) (Sensible, Perceptible) فيُمثِّل الحيوانَ والنبات والجماد، فيما يتضمّن الرابعُ ظِلالَها وانعكاساتها. وتُدرَك هذه الأقسام الأربعة بقوى إدراكية مختلفة، «الفكر العقلاني» وهو أرقاه، و»الفَهْم»، و»المُعتقد»، و»التصوُّر الحَدْسِي» (Conjecture)، والقسمان الأوّلان يدعوهما «تفكُّراً عقلانياً» (Intellection)، أمّا القسمان الآخران فيدعوهما «رأياً» (Opinion). فبالرأي نعرف العَالَم المادي، وبالتفكُّر العقلاني واليقين نُدرِك الصورَ والمُثُل العُلْويّة الجوهرية.
فإذا ما أعملنا الفكر في «العَالَم المرئي» فحسب فإنّه لن يُحرِز سوى الرأي، لكن إذا ما انصبَّ هذا الفكر على الصور الجوهرية، فإنّه سيُحقِّق «المعرفة». ولو أنّ الرأي الصائب أحياناً، كما في محاورة «المائدة» (Symposium)، قد يكون «أفضل من الجهل»، أو ربّما يقود في الاتّجاه الصحيح نحو معرفة الصور الجوهرية، كما في محاورة «مينون»، لكنّه لا يرقى إلى تلك المعرفة البَدْهِيّة التي تُمثِّل بالنسبة إلى أفلاطون «حقيقةً ثابتة لا متغيِّرة»، لأنّ الرأي يستند إلى العَالَم المادي، عَالَم «الدَّفق الهيرقليطي» (Heracliean Flux) المُتغيِّر أبدا.
فمن وجهة نظر أفلاطون، فإنّنا لا نُحقِّق معرفة فضيلة العدل، على سبيل المِثال، إلا من خلال معرفتنا بمِثال العدل الجوهري، لا من خلال رأينا في تصرُّفٍ جزئي عادل. وبالتالي يعكس الخطُّ المجزّأ دلائلَ ميتافيزيقية. فالمستوى الأدنى أو ما يُسمّيه أفلاطون في «الجمهورية» عَالَم «الصيرورة، عَالَم الكون والفساد»، وهو نموذج ميتافيزيقي لعَالَم الدَّفق المتواصل الظواهري. أمّا المستوى الذي يليه، فهو عَالَم الأشياء المادية الثابتة وهو نموذج الميتافيزيقيا الأرسطوطالية. أمّا المستوى الثالث، فقد يشير إلى عَالَم فيثاغورس الرياضياتي اللامتغيّر، والمستوى الرابع هو عَالَم المُثُل الأفلاطونية وعَالَم «حقيقة» بارمينيدس، عَالَم المُثُل العُليا السَّرمديّة. وهنا يربط أفلاطون بين مفهومِ المعرفة كما خلُصَ إليه في محاورة «ثياتيتوس»، وبالتالي فَهْم المُثُل، وفَهْمِ علاقتها بالمستويات الأربعة الآنفة الذكر. فنَفِي احتمال المعرفة إنّما هو لعَالَم الكَوْن والفَسَاد المُتغيِّر أبداً، في حين أنّ المستويَين الآخيرَين، الرياضيات والمُثُل، أزليَان ولا مُتغيِّرَين.
أمثولة «الكهف» الرمزيّة
يختصر أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية» مفهومَه للمعرفة الحقّة بأمثولة «الكهف» الرمزيّة، حيث يضع سقراط لمَنْ يحاوره تصوُّراً عن سجناءٍ في كهفٍ تحت الأرض مقيَّدين بالأصفاد ورؤوسهم مثبّتة في اتّجاه جدارٍ، ولا يرون إلا ما ينعكس أمامهم من ظِلالٍ تتراءى لدُمَى تتحرّك وراءهم انعكاساً مِن ضوء نارٍ مُوقَدة خلفهم، لذا لا يرون من العَالَم غير صور تلك الدُّمَى المتعددة الأشكال. لكن إذا ما أُطلِق سراح أحدهم واصطُحِبَ صعوداً نحو فُتحة الكهف نحو عَالَم النور لينظر تجاه الشمس فإنّه سينبهرُ من سطوعها ولا يرى بوضوح لفترةٍ من الزمن حتى تعتاد عيناه على رؤية الأشياء الحقيقية في عَالَم النور والحقائق الجليّة تحت أشعة الشمس الساطعة، وسرعان ما يُدرِك أنّ ما يراه الآن هو الحقيقة وأنّ ما كان يراه في الكهف ما هو إلا ظِلال وهمية، ويتأمّل الشمسَ في حقيقتها ويعلم أنّها مصدرُ حياة كلّ ما هو في الوجود ومصدرُ الحقيقة والمعرفة.
نعم، في أُمثولة «الكهف» الرمزيّة كما في أُمثولة «الشمس» المنوَّه عنها أعلاه، إنّما يرمزُ أفلاطون إلى «المبدأ الأول» أو «الخير الأسمى» الذي هو مصدر كلّ المُثُل بـ «الشمس»، ذلك المصدر الماورائي لكلّ مُثُل الخير والحقائق والفضائل، وهي تماماً صفات «اللوغوس» كما بيّن في محاورات أخرى. لعلّ أُمثولة «الكهف» الرمزيّة هي الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة والفكر، ولو أنّ تناولها وفيرٌ في الأدبيات الفلسفية، فقلّما مَنْ يُدرِك أبعادها الإبستمولوجية والميتافيزيقية والصُّوفيّة الحقيقية. وقد أشارَ الفيلسوف وعالِم الرياضيات في القرن العشرين ألفريد نورثوايتهد (Alfred Northwhitehead) إلى أنّ الفلسفة الغربية على مدى 2،500 عام إنّما «تؤلّف سلسلة من الهوامش على فلسفة أفلاطون، لا سيّما أُمثولة الكهف».
مَعْرِفة وعرفان وعِلْم!
إنّ نظرية «الكهف» هي مفتاحٌ لفَهْم التحقُّق الصُّوفي، وكان لها تأثيرٌ عميق على الفلسفة بأكملها بل على الدِّين والعرفان بأبعادها الميتافيزيقية الصريحة ورمزيّتها الرُّوحيّة. فما يتغاضى عنه العديدُ مِن الباحثين الغربيين هو أنّ تعاليمَ أفلاطون كانت بمعظمها تقاليدَ شفهيّة سرّية مخصّصة للتلاميذ النُّجَباء المُهَيأين للاطّلاع على الحقائق (initiates) نهجاً حِكْموياً صُوفياً لا تنظيراً أكاديمياً فحسب، وهي جاءت لأجل هذا الغرض بلغة الرمز، ولذلك يُطلِق الصُّوفيون على أفلاطون لقب «أفلاطون الإلهي».
هل مهَّد أفلاطون، بما استقاه من الفكر الفيثاغوري والأورفي والهِرْمسي، في تحدّيه للفكر البشري حول «ماهية المعرفة»، لظهورِ مفهومٍ أكثر دلالةٍ روحيّة عن «المعرفة» في العصور التي ستليه؟ وهل كان أفلاطون في نظريّته هذه يرمي إلى أنّ ثمة مِثالاً أو صورةً أسمى للإنسان هي ما تسعى النفسُ إلى معرفتها معرفة قُدُسيّة هي فوق المعرفة بمُثُل المَعْقولات وكُلِّ رأي في انطباعات المَحْسوسات؟ وهل تُرِّسخ هذه الصورة «عِلْماً» قُدُسيّاً بما يتعالى تجريداً على الإدراك الحِسّي للموجودات والمُعتقدات والاعتقادات؟ وهل ثمة في التجريد فرقٌ بين «المعرفة» و «العِلْم»؟ ذلك بحثٌ آخر!
المراجع
Barnett, Lincoln: The Universe and Dr. Einstein. New York, Bantam Books, 1975.
Guthrie, W.K.C.: History of Greek Philosophy,
Vol. 4. and 5. Cambridge: Cambridge University Press, 1978.
Jung, C.G.: Psychology and Religion, Vol.2. New Haven: Yale University Press, 1938.
Hoernle, R.F.A.: Idealism as a Philosophy. New York: The New American Library, 1958.
Lodge, R.C.: Plato’s Theory of Ethics. London: Routledge and Kegan Paul Ltd, 1928.
Woozely, A.D.: Theory of Knowledge: An Introduction, New York, Hutchinson’s University Library, 1949.
Wolterstorff, Nicholas: On Universals. Chicago, University of Chicago Press, 1970.