كثيرون من النّاس، يسمعون عن حدثٍ ما، أو شخصيّةٍ ما، أو معركةٍ ما، ذات طابَع تاريخيٍّ (قديماً كان أم حديثاً)، لكنّ الأغلبيّة منهم لا يحاولون التعمُّق في المعرفة الدقيقة والجوهريّة للمعركة أو الشخصيّة أو الحدث، مكتفين بالاسم فقط، أو ببعض العموميات عنها… ومتجاهلين الأثر والتأثير الذي أحدثته، كلٌّ منها، على مختلف الأصعدة والمستويات… مع العلم أنّ ما خلّفته من آثار سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو عسكريّة أو نفسيّة… إلخ، يفوق بكثير ما تُحدثه الهزّات الأرضيّة والأعاصير والكوارث – على أنواعها – على البشر والشّجر والحجر مجتمعة…
من هذا القبيل، تمثّل بعض المعارك الكبرى في التاريخ، (والتي يُطلق على بعضها اسم «المعارك الفاصلة») أنموذجاً حيّاً في مجتمعاتنا، كما في دولنا، رغم القرون التي مرّت على حدوثها، وما تمخّض عنها من مُتَغيّرات لم تنحصر آثارها بالزّمان والمكان فقط، بل تجاوزتهما إلى قرون وشعوب ودول لاحقة، وربّما لم يكن لها وجود من قبل وقد كانت «معركة مرج دابق» التي حصلت بين العثمانييّن والمماليك عام 1516 (كما بين حلفاء كل منهما)، إحدى هذه المعارك الكبرى في تاريخ الشرق، فألغت سلطنة وسلاطين، وأوجدت بديلاً عنها وعنهم، مثلما شطبت إمارات وأمراء، وقام على أثرها إمارات جديدة وأمراء جُدد (مثلما هو الحال مع التنوخييّن والمعنييّن)…
لقد أَحدثت تغيُّرات جذريّة تتعلّق بالانتقال من مرحلة القرون الوسطى إلى مرحلة العصور الحديثة، لا سيّما في المجتمع اللبناني خاصّة، وبلاد الشرق عامّة…
كما أفرزت «تبديلاً سلطويّاً» على جانب كبير من الأهميّة، التاريخيّة والجغرافيّة، فضربت السلطنة (المملوكيّة) وسلاطينها (المماليك)، من قِبَل «بكوات» و«حُماة أطراف وحدود» (عثمانييّن) فانقلبت الآية رأساً على عقب، فانهار السلاطين القدماء مع سلطنتهم، وقام على أنقاضها وأنقاضهم سلطنة جديدة – بغير اسم، وسلاطين جدد – بغير أسماء أيضاً – وكان تغييرٌ هائلٌ في «الحكم» و «السّيطرة والتسلّط» على جغرافيا واحدة موحّدة وديموغرافيا واحدة (ولكن غير موحّدة)، في ظلّ سُلطة جديدة، نفضت عن كاهلها لقب «الباكويّة» و«حُماة الحدود» لترتقي إلى منصب السلاطين وأصحاب سلطنة مترامية الأطراف، ذات طابع «إمبراطوري»، ولكن بمعزل عن «صفة الإمبراطور»…
تلك هي «معركة مرج دابق»، إحدى أكبر معارك التاريخ العالمي – كما وصفها المؤرّخ السوفياتي نيقولاي إيفانوف – التي أخذت اسمها من الموقع الجغرافي الذي حدثت فيه بتاريخ 24 آب 1516. وهي ذاتها التي دفعت بالعثمانيين المنتصرين على المماليك إلى أن ينطلقوا بعدها خارج الحدود الجغرافية لبلاد الشرق، مهدّدين دول الغرب بأنظمتها وملوكها وأمرائها وناسها وممتلكاتها، وفي كلّ شيء…
فماذا عن هذه المعركة؟ وما الأسباب الكامنة في وقوعها؟ وماذا حصل أثناء سيرها؟ وماذا تمخّض عنها من نتائج على الصعيد العثماني – المملوكي، وعلى الصعيد التَّنوخي – المعني تحديداً؟
في الحقيقة، إنّ معركة «مرج دابق» لم تكن «بنت ساعتها» – كما يقال – بل كانت نتيجة لأسباب كثيرة أدّت في النهاية إلى حصول هذه المعركة التاريخيّة بين العثمانيين والمماليك، الذين يجمع بينهم الدين الإسلامي، والمذهب السنّي خاصّة.
فضلاً عن ذلك، هناك كثير من القواسم المُشتَركة بين الجانبين، إذ يتشابه تاريخ كل من دولة المماليك والدولة العثمانية في وجوه كثيرة، ففي الدولتين سادت العلاقات التي تميّز هنا الإقطاع الشرقي، وكلتاهما مثّلتا سلطة عسكرية عملت تحت راية الإسلام السنِّي المؤمن. وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة لم تنشأ بينهم أية خلافات سياسية أو عقائدية ولا حتى تنافس تجاري أو اقتصـادي أو غيره. وحتى سقـوط القسطنطينيّة عــام 1453، كــان الحكّام العثمانيون يعترفون بالأولويّة الدينية والسياسية للمماليك كزعماء لدار الإسلام، بينما خصصوا لأنفسهم دوراً متواضعاً هو دور «البكوات حماة الأطراف» الذين يدافعون عن الحدود العامة لدار الإسلام. أما المماليك، من ناحيتهم فقد ظلّوا ينظرون
إلى تحركات العثمانيين كجزء من المسألة الإسلامية العامة. كما أنّ القاهرة اعتبرت الاستيلاء على القسطنطينية نصراً للمسلمين قاطبة.
بيدَ أنّ الوضع تغيّر جذرياً بعد عام 1453. وكان تبادل البعثات والاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الاستيلاء على القسطنطينيّة آخر مظهر من مظاهر الوفاق العثماني – المملوكي. فقد لاحظ حكام القاهرة بقلق شديد، أنّ دولة إسلامية قويّة وديناميّة أخذت تنمو على حدودهم وتشقّ طريقها الخاص بها. ثمّ تزايد قلقهم عندما نشطت في اسطنبول (القسطنطينية)، العاصمة الجديدة للسلطنة العثمانية، المساعي لتغيير كلّ نظام العلاقات الذي أوجده الإسلام وكان له فيه دور القائد الموجّه. ويؤكد مؤرّخو المماليك أنّ «البكــوات حُماة الحدود»، وللمرة الأولى بــدأوا يتكنـَّوْن بألقاب «الملوك» أو «السلاطين» بعد أن كانوا يكتفون بلقب «غازي» الذي يعني المكافح في سبيل العقيدة. على أنّ سلاطين المماليك كانوا في رسائلهم يُطلقون عليهـم ألقاب «أمير» أو «خوند كيار».
ويؤكّد ابن إياس أنّ محمّداً الثاني كان أوّل زعيم في بني عثمان اتّخذ لنفسه لقب «سلطان»(١) وبدأ على الأقل يدَّعي بمساواة نفسه بحكّام مصر.
كان اتخاذ الألقاب السلطانيّة يرمز إلى تحوّل العثمانيين إلى سياسة الدولة العظمى. وكان المقصود بذلك تأكيد الدور العالمي الجديد للسلطنة العثمانية. فقدّم مناصرو فكرة الدولة العظمى السلطان محمّد الثاني على أنّه الحاكم المسلم الأعظم بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، أمّا هو فقد اعتبر نفسه وريث ملوك الرّوم البيزنطييّن. وقصد سمّاه أحد مادحيه من اليونانيين ويدعى جيــورجـي تـرابيزونتس «إمبراطور الروم». سعى محمّد الثاني، كما يذكر المؤرّخ التركي المعاصر خليل اينالجيك إلى الجمع بين التقاليد الإسلامية والتركيّة والبيزنطيّة في الزعامة الدنيويّة وجعل اسطنبول العاصمة الجديدة للسلطنة ذات الامتداد الواسع(٢).
أدّت سياسة الدولة العظمى التي انتهجها محمّد الثاني إلى تدهور حاد في العلاقات العثمانية المملوكية. وأصبح الصراع على الهيمنة وبالدرجة الأولى على الأولويّة في زعامة العالم الإسلامي، السبب الأساسي والرئيسي للنزاع العثماني – المملوكي. وتفاقمت العلاقات أكثر فأكثر إثر شائعات تقول إنّ بني عثمان هم من أصل عربي، من قبيلة حجازية كانت تقطن وادي الصّفرا. وبسبب انتشار محبّة العثمانيين على نطاق واسع، تهدّد بناء المجتمع المملوكي بأسره. فقدّم العثمانيون بديلاً موضوعياً للأزمة الخلقية والاجتماعية التي عصفت بالعالم العربي في القرن الخامس عشر. زِدْ على ذلك أنّ العثمانيين باكتسابهم مشاعر الفلّاحين أثاروا عداء الفئات العليا في المجتمع وأضفَوْا على الصراع كلّه طابع التناقضات الطبقية. وهكذا أصبح التنافس على أشدّه بين هاتين القوّتين. وتمثّل أول اختبار سافر للتنافس العثماني – المملوكي بفضيحـة ديبلوماسية عام 1463 عندما رفض السفير العثماني الانحناء لحاكم مصر. وفي عام 1464 أدّى الصراع على السلطة في قونيـه وقضيـة ميراث قــرمــان إلى أول صدام سياسي كبير. كما حـدد الاستيلاء على قونيه وضم قرمان في عام 1468 إلى الممتلكات العثمانية بداية لمواجهة واسعة. وتحوّلت الدول الإسلامية الفاصلة بين الفريقين كدولة الرمضانييّن الذين حكموا كيليكيا (آسيا الصّغرى) ودولة القادرييّن الذين حكموا كابادوكيا (قيساريه)، إلى ساحة رئيسية للصراع بين الدولتين، فدعّمت كلّ منهما المناصرين لها وأمدتهم بالمال والسلاح وأحيانا بالقوّات المسلّحة.
تحوّلت القاهرة واسطنبول إلى ملجأ سياسي لكل زعيم يفرّ من غضبة سلطات بلاده. وحصل عدد كبير من الزعماء اللاجئين على مساعدات للعمل ضد حكوماتهم. فتمكّن العثمانيون من التحكّم بالطرق التجارية وعلى مصادر المواد الخام الاستراتيجية البالغة الحيوية بالنسبة إلى المماليك كأخشاب السّفن مثلاً، فبذلوا جميع المحاولات لتقويض طاقة مصر العسكريّة، ووضعوا العراقيل على طريق شراء المماليك الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر. وقد اعتبر د. كانتيمير ذلك أحد الأسباب الرئيسية للنشاط العثماني في شبه جزيرة القرم والقفقاس بما في ذلك حملة العثمانييّن على تشير كاسيا في عام 1484 التي دُمِّرت خلالها كلّ المراكز الأساسية التي كانت تؤمن الإمدادات البشريّة للمماليك(٣).
ثمّ أدّت الصدامات المسلحة (1483-1485) التي نشبت مع حاكم كابادوكيا علاء الدولة القادري الذي طلب مساعدة الجيوش العثمانيّة، في أوّل حرب عثمانيّة- مملوكيـّة (1486-1491)، فاستطاع المماليك إلحاق الهزيمة بالعثمانييِّن ثلاث مرات، إلّا أنّهم لم يتمكّنوا من إحراز نصر حاسم. وفي عام 1491. ونتيجة لوساطـة تونس، عقــدت اتفاقية سلام بينهما، وتخلّى العثمانيون عن مطالبهم في كابادوكيا وكيليكيا، اللتين تقرر اعتبارهما مشمولتين بحماية الحرمين الشريفين مكة والمدينة المقدستين، أي اعتبارهما في الواقع تحت حماية المماليك. إلّا أن هذه الاتفاقيّة ظلّت هَشّة للغاية، وتحت ستار علاقات السلام والإخلاص الظاهري استمرّ الصّراع بين الدولتين دون انقطاع… ثمّ بدأ المماليك يتوجّسون خيفة من العثمانيين، لا سيّما في أواخر القرن الخامس عشر، عندما بنى العثمانيون أسطولاً قويّاً…
وفي حرب 1499-1503 ضد البندقية، أظهر هذا الأسطول مزايا عسكرية لا بأس بها، وكفاءة عالية في مجابهة أفضل الأساطيل الأوروبية. فأخذت الطوائف الإسلامية، الواحدة تلو الأخرى تلتمس المساعدة والحماية لدى العثمانيين. وفي عام 1485 وصلت إلى اسطنبول بعثة من غرناطة، وطلب المغاربة الإسبان (الأندلس) من با يزيد الثاني «تقديم المساعدة لهم بوصفه حامياً للدّين الإسلامي». فقرّر الباب العالي تلبية الطلب. وفي صيف عام 1486 أُرسل الأسطول
العثماني إلى غرب البحر الأبيض المتوسط، واجتاح البحّارة العثمانيون بقيادة كمال علي باشا، وهو كمال رَيس الشهير، شواطئ إسبانيا وإيطاليا ومالطا. ومنذ ذلـك التـاريــخ خـاضـت السفن الحربية العثمانية وبعض السفن التجارية حرباً متواصلة ضد القوات البحرية للدول الأوروبية المسيحيّة. في هذا الوقت، كان كلُّ انتصار جديد للعثمانييِّن يعني هزيمة قاسية للمماليك، ويؤدّي قبل كلّ شيء إلى الانتقاص من هيبتهم بصفتهم «سلاطين المسلمين». ولم يخفّف ظهور العدوّ المشترَك لهما (وهو العدو الصّفوي الشيعي في إيران) من التناقضات بين الدولتين السنيّتين (الشقيقتين) اللتين كانت كلّ منهما
تتصرّف بمعزل عن الأخرى.
اتّخذت علاقات الدولتين في الشرق الأدنى شكلاً أكثر غرابة. فقد رفض المماليك بعناد، بدءاً من عام 1502، أي تعاون مع العثمانيين لمقاتلة الصّفويين، حكام إيران، رغم عداوتهم لهم. كــان العثمانيّون في وضع أكثر حرجاً من المماليك وكان بإمكان هؤلاء أن يقدموا لهم مساعدة أكثر فاعلية. لكنهم، وفي تلك الفترة بالذات، قرّروا تلقين حكــام اسطنبــول درســاً لا يُنسى. كــان قانصوه الغوري، كزعيم للمسلمين السنّة، مُلزماً أن يشنّ حملة ضد باشوات قيزيل . غير أنّه فضل اتّخاذ موقف المراقب من بعيد وترك «الدولة التي يحرسها الله» وحيدة في مواجهة الصفوييّن.
ودون تبصّر بنتائج ما يقوم به اسماعيل الصفوي من أعمال عدوانية متزايدة وعلاقات وطيدة مع البرتغاليين أراد المماليك تدبير استفزاز لإثارة صدام بين إيران وبين تركيا، لكي يتحطّم أحــد العدوين بيد العدو الآخر، ثمّ يتقدم المماليك للقيام بدور مُنقذ الإسلام السنّة وربما بدور وريث السّلطنة العثمانية. وتدلّ مدوّنات ابن إياس أنه لم يكن يساورهم أي شك في قوّتهم العسكريّة الذاتية، وأنّ العثمانيين لن يتمكّنوا من التغلب على الصَّفوييّن. فتحوّلت مسألة النزاع مع المتطرّفين الشيعة إلى حجر عثرة بين الدولتين السنّيتين. وتبيّن أنّ هذه المسألة هي القشّة التي قصمت ظهر البعير في النزاعات العثمانيّة – المملوكية.
لقد اعتُبِرت سياسة المماليك تجاه اسطنبول مظهراً من مظاهر العداوة السافرة التي أضعفت مواقع المماليك في مصر، وقوّت المشاعر المعادية لهم في
الأوساط العثمانية الحاكمة، فأخذ الحكام العثمانيون يميلون تدريجيّاً إلى اعتبار المماليك عدوّهم الرئيسي والأشدّ خطراً. هذه القوى بالذات وفـي مقدمتهـا القوى الانكشارية، هي التي أوصلت إلى الحكم السلطان سليم الأول، الملقب بالرّهيب، الذي اعتلى عرش السلطنة العثمانية في 24 نيسـان (أبريل) 1512.(٤)
وهكذا أصبح السلطان العثماني سليم الأوّل وجهاً لوجه مع قوى كبرى تمثّل تهديداً لوجوده على رأس السلطنة أوّلاً، كما لوجود السلطنة واستمرارها من
جهة ثانية. لذلك أصبح الاستعداد للحرب هو الخيار الأكبر. وفضّل البدء بحربه مع الصّفويين، كرسالة للمماليك ومقدّمة للقضاء عليهم عبر توجيه ضربة قاضية لهم في معركة حاسمة، وهكذا كان…
بدأ سليم الأوّل يستعد للحرب مباشرة بعد طرح مسألة من يستطيع، بل من ينبغي أن يكــون الخليفة الحقيقي وزعيم دار الإسلام. خلال فترة قصيرة تمكّن سليم الأول من إنجاز الإصلاح العسكري، وقمع تحرّكات باشاوات قيزيل داخل البلاد، وتجهيز جيش جرّار. وفي أيار (مايو) 1514 بدأ هذا الجيش حملة ضد الصفوييّن. ووصلت في الوقت ذاته إلى القاهرة بعثة عثمانية كرّرت اقتراحها بعقد تحالف بين العثمانييّن والمماليك لمحاربة اسماعيل الصفوي. لكنّ المماليك رفضوا الاقتراح، وتمسّكوا بسياستهم مع تفضيل اتخاذ موقف الانتظار. وفي العاشر من حزيران (يونيو) 1514، قرّر المجلس العسكري في القاهرة إرسال قوّة مراقبة عسكرية إلى حلب، التي أثارت غضب الطّرفين المتحاربين لكنّها لم تلعب أي دور في تطوّر الأحداث.
نتيجة حياد مصر المراوغ، وفشل الحملة الصليبيّة الأوروبية التي أجهضتها انتفاضة الفلاحين عام 1514 في هنغاريا، نشأت ظروف مناسبة تماماً لتحقيق مخطّطات سليم الأوّل. وبفضل تفوّق العثمانيين الملموس في مجال تنظيم الجيوش وتجهيزها التقني تقرّر مصير الحملة سلفاً. في 23 آب (أغسطس) 1514 نشبت معركة تشالديران، فتكبّد جيش الصفوييّن هزيمة ساحقة ودخل سليم الأوّل تبريز عاصمة إيران الشيعيّة في 5 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام. كانت هزيمة باشاوات قيزيل الذين فقدوا قرابة الـ (50) ألف رجل(٥) في مرج تشالديران، مفاجأة غير منتظرة بالنسبة إلى المماليك على حد قول ابن إياس. وقد اهتزت القاهرة لهزيمة الصفوييّن ولم يستطع حكّام مصر إخفاء خيبة أملهم. وأمام دهشة العالم الإسلامي كلّه، لم يبتهج المماليك لانتصار العثمانييّن على باشاوات قيزيل. كانت لمعركة تشالديران نتائج حاسمة على مصير المعركة المُرتقبة مع المماليك. ففي ربيع عام 1515 وصلت إلى القاهرة تباشير الأنباء عن استعدادات العثمانيين العسكرية. فقد كان الجيش والأسطول العثمانيّان يستعدان لشن حملة على مصر. وسيطر على اسطنبول جو محموم للحرب التي صوّرها العثمانيون ضد المماليك كما لو كانت واجباً على كلّ مسلم خوضها. كما أصدر علماء السلطنة العثمانية ثلاث فتاوى تضفي على الحرب طابع الجهاد الديني التحرّري. فقد ورد في إحدى هذه الفتاوى أنّ المماليك خانوا الإسلام وأنهم يساعدون الكفّار. وأعلن مفتي اسطنبــول الأكبر: «أنّ من يساعد أعداء الله هو عدو الله أيضاً»(٦). أمّا الهدف المُعلن للحملة فهو تحرير المضطهَدين وحماية المسلمين من العدو الخارجي. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تطوّرات الموقف بعد السيطرة على تبريز والانتصار على قوات الشاه، والتفرّغ لحرب المماليك.
وأصبح الامتداد العثماني باتجاه البلاد العربية والسيطرة عليها أمراً حتميّاً، ووجد المماليك أنفسهم أمام عدوّ قويّ لا مفرّ من مواجهته، في ظلّ علاقات عثمانيّة – مملوكيّة تأرجحت بين مدّ وجزر لسنوات طويلة، تمهيداً لساعة الصفر، المتمثلة في معركة «مرج دابق» الفاصلة…
تُعَدُّ ظاهرة ضمِّ العثمانيين للبلاد العربية، خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، من الظواهر التاريخيّة الجديرة بالدراسة، بفعل أنّ هذا الضمَّ امتدّ أربعة قرون من التاريخ الحديث، وفي أجزاء استراتيجيّة في آسيا وإفريقيا، وشكَّل العالم العربي أحد العوالم الجغرافيّة الثلاثة الكبرى التي تكوّنت منها الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، أمّا العالمان الآخران فهما عالم الأناضول وعالم الروملِّي.
والواقع أنّ الظروف الداخلية والخارجية في المنطقة العربية قد دفعت العثمانيين إلى ضمِّ البلاد العربية، وكأنّ العالم العربي أراد استبدال الحكم المملوكي بحكم عثماني جديد كون الشعوب العربية اعتادت على نمط الدول والدويلات السلطانية. لكنّ المنطقة العربية غدت مزدحمة بالصراعات الإقليمية بين الصفوييِّن والمماليك والعثمانيين، وعُرضة لتهديدات القوى الأوروبية وأطماعها، وبخاصة القوى البرتغالية التي شغلت تهديداً مباشراً لسواحل شبه الجزيرة العربية الجنوبية، الشرقية منها والغربية بفعل وقوع موانئها على طريق التجارة مع الهند.
وجاءت نتائج ضمّ العثمانيين إقليم الجزيرة الفراتية أنْ فتحَ الباب أمام العثمانيين للتمدّد باتجاه الأراضي العربية، لتأمين خطوط استراتيجية جديدة، إنْ في بلاد الشام أو في العراق تصل إلى المحيط الهندي.
وكان التنافس على زعامة العالم الإسلامي قد بلغ آنذاك أشدّه بين القوى الإسلامية الثلاث العثمانيين والمماليك والصفوييّن، ما دفع العثمانيين إلى الاصطدام بالصفوييّن وتحجيم قوّتهم، ومن ثم التفتوا نحو المشرق العربي ليصطدموا بالمماليك. وكان السلطان سليم الأول مستعداً لتنفيذ خططه الكبرى في الشرق، لأنّ العرب أرادوا من هذا القادم الجديد حالة خلاص أخرى على يديه ينتشلهم من الحكم المملوكي المُتَعسّف(٧). في الوقت الذي فشلت فيه كل المقترحات العثمانية مع المماليك وسلطانهم قانصوه الغوري في مصر، الذي وجد في الصراع العثماني الصّفوي إضعافاً للجانبين، وعامل قوّة له، إلّا أنّ حساب الحقل لم يطابق على حساب البيدر المملوكي، حيث فسّر العثمانيون موقف حياد المماليك موقفاً عدائيّاً منهم، ممّا قرّب ساعة الحسم في «مرج دابق». هذا، ومن المعروف أنّ أيّة حرب، مهما كانت، تكمن فيها عوامل وأسباب وأهداف، مباشرة وغير مباشرة، وصولاً إلى حصولها في الوقت المناسب. ولم تكن معركة «مرج دابق» خارج هذا الإطار إطلاقاً.
لقد عدّ العثمانيون سياسة المماليك هذه مظهراً من مظاهر العداوة السافرة، وأخذوا ينظرون إليهم على أنّهم العدو الرئيس، وقد نجح السلطان سليم الأول في تسريع الأحداث تجاه المماليك لكي يوفّر لنفسه أسباباً استراتيجية جيدة تمكّنه من ضم الممتلكات المملوكية، وتمثَّل ذلك بسيطرته على موانئ قيليقيا لتأمين الطريق المائي الذي يربط إستانبول بـ «بياس». واكتفى قانصوه الغوري، أثناء الصدام بين العثمانيين والصفويين، بإرسال قوّة مراقبة إلى حلب لحماية الأراضي الواقعة تحت النفوذ المملوكي، لكن إرسال هذه القوة وقيامها بمنع الجيش العثماني من عبور طرق تمر بأراضي واقعة تحت السيطرة المملوكية، أدّى إلى تدهور العلاقات بين سليم وقانصوه الغوري، وبدا واضحاً أنّ الأوّل عاد من تشالديران وهو ينوي الدخول في حرب مع الثاني، لأنّه كان يخشى وجود دولتين كبيرتين معاديتين له وتشرفان على حدوده الجنوبية.
كان من أبرز هذه الاتجاهات أنّ السلطان سليم الأول أسرع بعد عودته من إيران إلى ضمِّ إمارة ذي القدر الفاصلة بينه وبين المماليك، والمشمولة بحماية هؤلاء، وقبض على حاكمها علاء الدولة وقطع رأسه وأرسله إلى القاهرة. ويبدو أنّ السبب المباشر لضم هذه الإمارة
االسلطان العثماني سليم الاول
يتعلّق بغاراتها المتكرّرة على القوافل العثمانية، ومنعها إمدادات الحرب من المرور إلى الجبهة الشرقية، فانتقم منها سليم، وملك مرعش وألبستان وعينتاب وملطية، ومعنى ذلك أنّ الطريق أضحى مفتوحاً الآن أمامه في مواجهة المماليك(٨). والواقع أنّ ضمَّ سليم الأول إمارة ذي القدر كان عملاً جريئاً، لأنّ المماليك كانوا يعدّون أنفسهم، منذ زمن بعيد، سادة للإمارة، ثم إنّ تعيين حاكم عثماني عليها يُعَدُّ عملاً معادياً، وكان سليم الأوّل يريد استدراج قانصوه الغوري للذهاب إلى شمال بلاد الشام لمراقبة الوضع هناك، ثم الانقضاض عليه فجأة.
عدَّ قانصوه الغوري تصرّف سليم الأول هذا بمثابة إعلان للحرب، وقرّر أن يستعيد هيبته في المنطقة وأمر بالاستعداد للحرب. ويبدو أنّه كان يودّ أن لا تتطور العلاقات بينه وبين السلطان العثماني إلى حرب، ويعمل جاهداً على تفاديها، إذ إنّه أدرك الأحوال السيئة التي كانت تمرّ بها السلطنة المملوكية وسط اتّساع التعاطف مع العثمانيين، بفعل القوى المناهضة لها في مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، بالإضافة إلى مناهضة البرتغاليين لها في المياه الإسلامية وفي المحيط الهندي.
وانتقلت المشاعر المعادية للدولة إلى صفوف الجيش المملوكي، فانخفضت درجة الانضباط بشكل ملحوظ. وارتفعت أصوات الجند تطالب بالمال والمكافآت واللحوم، وأخذوا في التمرّد، وراحوا يعيثون فساداً في الشوارع العامّة.
نتيجة لهذه العوامل، أيقن الغوري أنّه غير مستعد لخوض غمار حرب كبيرة ضد العثمانيين الأقوياء، وحاول تأخير اندلاعها بكل الوسائل، إلّا أن السلطان سليم الأول أصرّ على أن يكون السيف هو الحَكَم إنْ لم يعلن الغوري خضوعه له. وكان هذا هو ذروة الاستهانة به. وشعر سلطان مصر أن جيشه لا يستطيع وحده الصمود أمام الجيش العثماني الجيد التسليح والتجهيز، فسعى إلى التحالف مع الشاه اسماعيل الصّفوي ضد العدو المشترك، ولعلّ ما شجَّعه على سلوك هذا المسلك، أنّ الشاه كان مستعدّاً بعد تشالديران لمتابعة العمل ضد السّلطان سليم الأول.
ولكن الكراهية التي كان يكنّها الشاه للغوري لم تكن تقلّ عن كراهيته للسلطان العثماني، بالإضافة إلى أنّه لم يفكر، بعد تشالديران، في خوض معركة مكشوفة مع العثمانيين، واكتفى بتثبيت حكمه في إيران والقيام ببعض المحاولات الارتدادية الضيقة. ولهذا، لم تُسفر محاولة الغوري التحالف مع الشاه إسماعيل عن نتيجة إيجابية بل انعكست سلباً على علاقاته مع العثمانيين، الذين رأَوْا في هذه المحاولة طعنة للدولة العثمانية من الخلف، وأضحت الحرب حتميّة بين الطرفين(٩).
وعلى الرغم من ذلك، لم يفقد قانصوه الغوري الأمل بالمفاوضات السلمية، وعملت الدبلوماسية العثمانية على ترسيخ هذا الوهم في ذهنه، مستغلّة ذلك لإرباك العدو وإبقاء المبادرة في يد السلطان سليم الأول، الذي ظلّ، حتى اللحظة الأخيرة، يحتفظ بإمكان تحديد مكان وزمان المعركة. ولجأ كل طرف إلى تنفيذ الأساليب التي تضعف قوى الطرف الآخر، كالاتّهام بخيانة الجهاد ضدّ أوروبا، وكما اتّهم العثمانيون المماليك بخيانة العالم الإسلامي كذلك اتّهم المماليك السلطان سليم الأول، الذي لقبوه بـ «ملك الروم»، بالارتداد عن الدين الحنيف والسنّة. وكسب كلّ طرف أعواناً له من بين رجالات الطرف الآخر فتحوّلت اسطنبول والقاهرة إلى ملجأ سياسي لكلّ زعيم من غضب سلطانه. لكنّ إفادة السلطان سليم الأول من اللاجئين إليه من المماليك كانت أكثر من إفادة السلطان الغوري من اللاجئين إليه من العثمانيين، حيث إنّ التفكك الداخلي في الدولة المملوكيّة كان يعطي السلطان العثماني فُرَصاً أفضل للإفادة المثمرة، على عكس الجبهة الداخلية العثمانية الصلبة. واستطاع العثمانيون جذب بعض كبار رجال المماليك، أمثال يونس بك، والي عينتاب، وخَير بك نائب حلب، التي تُعَدُّ خط الدفاع الأول عن الشام ومصر، في حين لم يستفد الغوري من الذين لجأوا إليه من العثمانيين سوى إفادة معنوية، ما أدّى إلى استنزاف المقاومة المملوكيّة وفقدانها حيويتها(١٠).
أزعج السلطان قانصوه الغوري ضمّ السلطان سليم الأول أراضي إمارة ذي القدر إلى أملاكه، فاضطرب الموقف السياسي، ولم يكن أحد يدري ما يدور في خلد السلطان العثماني. وما أن تأمَّنت جميع منافذ بلاد الجزيرة وشمالي العراق ومسالكهما، من خلال السيطرة العثمانية عليها، حتّى تحرك الجيش العثماني عبر الأناضول في (أوائل 922هـ/ ربيع 1516م) بقيادة السلطان، وتعداده ستون ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ويمَّم وجهه شطر بلاد الشام. ولما علم الغوري بأنباء التحرك العثماني، حرّك هو الآخر جيشه الذي خرج به من القاهرة، وقد بلغ تعداده ثمانين ألف جندي.وتبادل الرّجلان الرسائل في مرج دابق شمالي حلب، حيث عسكر جيشاهما، وبدا كأن هناك مشروعاً للتفاوض وحقن دماء المسلمين، وهو ما كان يريده الغوري على عكس سليم الأول الذي كان يضمر الدخول في معركة، بعد أن نجح باستدراج المماليك إلى ساحة القتال بأسلوب ذكي بارع، وأمَّن خطوط مواصلاته مع الأناضول عبر حلب، المدينة الاستراتيجية، لذلك فشلت المفاوضات وأهان كلّ منهما رسل الطرف الآخر، وأضحت الحرب وشيكة الوقوع. وعبّأ كلّ عاهل جيشه استعداداً للّقاء الحاسم، الذي بدأ في (25 رجب 922هـ/24 آب 1516م)، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة استمرّت أقل من ثماني ساعات، أسفرت عن انتصار واضح للعثمانيين، ولم يصمد المماليك أمام مدفعيّة هؤلاء المتفوقة. وانتحر السلطان الغوري أثناء انهزام الجيش، حيث تناول السّم عندما علم بنتيجة المعركة، ووقع عن حصانه بعد أن فقد وعيه ومات على الفور. ومما يجدر ذكره أن انسحاب كل من خير بك نائب حلب، وجان بردي الغزالي نائب حماة من جيش الغوري وانضمامهما إلى صفوف السلطان سليم الأول، كان من العوامل التي أثرت على نتيجة المعركة.
استثمر السلطان سليم الأول انتصاره هذا وضمَّ حلب وحماة وحمص ودمشق، وكان السكان يُرحِّبون به ويحتفون بمقدمه بصورة لم يألفها أيّ سلطان عثماني من قبل. وعيَّن السلطان على هذه المدن ولاة من طرفه، واستقبل في دمشق وفوداً من العلماء فأحسن وفادتهم، وفرَّق الإنعامات، وأمر بترميم المسجد الأموي وقبريّ صلاح الدين الأيوبي والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كما شيَّد مسجداً باسمه، ولما صلّى الجمعة أضاف الخطيب، عندما دعا له، هذه العبارة «خادم الحرمين الشريفين». كانت بعض القوى المحلّية الحاكمة في بلاد الشام تقف موقف المتردِّد من هذه الحرب، لتتخذ، بعد انتهاء المعركة، الموقف الذي يتناسب مع مصالحها، مثل آل معن، لكن بعض القوى الأخرى، ومنهم آل بُحتر، فضّلوا الوقوف إلى جانب المماليك، وترتّب على مثل هذه المواقف أن ارتفعت مكانة آل معن وهبطت مكانة آل بحتر(١١).
فخر الدين الاول في حضرة السلطان سليم الاول في دمشق
وبالفعل، فقد شكّلت معركة «مرج دابق» هذه، محطّة مفصليّة هامّة في تاريخ المنطقة، ومن بينها لبنان بالطبع. إذ كان الانتصار العثماني فيها هو بحدّ ذاته انتصاراً لحلفاء العثمانيين أيضاً، كما كانت هزيمة المماليك، هزيمة لحلفائهم أيضاً. وفي الوقت الذي وقف فيه التنوخيّون إلى جانب المماليك في هذه المعركة، بينما وقف المعنيّون في صفّ العثمانيين، فقد مثّل فوز العثمانييّن بدايةً لسطوع نجم بني معن والإمارة المعنيّة، على حساب التنوخييّن وإمارتهم التنوخيّة، التي أَفُل نجمها وزالت سيطرتها بعد نفوذ استمرّ حوالي ثمانية قرون كأوّل إمارة عربيّة إسلاميّة في الشرق دام حكمها 800 سنة.
وعندما أنهى السلطان سليم الأوّل فتوحاته في بلاد الشام ودخل دمشق، ذهب إليها وفد يضم أمراء المناطق اللبنانيّة لتقديم الطاعة وإعلان الولاء للحاكم الجديد، وكان الوفد الكسرواني برئاسة عساف التركماني، ووفد الشوف برئاسة فخر الدين المعني الأول، وجمال الدين الأرسلاني. تقدم فخر الدين المعني الذي تكلم باسمهم، وقبل الأرض أمام السلطان العثماني ودعا له الدعاء التالي «اللّهم أَدِم دوامَ من اخترته لملكك، وجعلته خليفةَ عهدك، وسلطته على عبادك وأرضك، وقلدته سنَّتك وفرضك، ناصر الرّعية النيّرة الغراء، وقائد الأمة الطاهرة الظاهرة، سيّدنا ووليّ نعمتنا أمير المؤمنين، الإمام العادل، والذكي الفاضل، الذي بيده أزمة الأمر بادِشاة، أدام الله بقاءه، وفي العزّ الدائم أبقاه، وخلّد في الدنيا مجده ونعماه، ورفع إلى القيامة طالع سعده، وبلغه مأموله وقصده… أعاننا الله بالدعاء لدوام دولته بالسعد والتخليد بأنعم العزّ والتمهيد. آمين»(١٢). أعجب السلطان سليم بشخصية فخر الدين الأول
الوقورة وبمظاهر إخلاصه وببلاغته. وأقرّه كما أقرّ رفاقه الأمراء اللبنانيين على إقطاعاتهم، وسمح لهم بممارسة امتيازات الحكم الذاتي الذي كانوا يتمتعون به في ظل حكم المماليك. كما جعل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني والياً على بلاد الغرب، والأمير عسّاف التركماني أميراً على بلاد كسروان وبلاد جبيل وأوصاهم خيراً بقومهم. ويقول محمّد كرد علي في هذا الإطار: «وقَدِمت إليه الناس من كلّ جانب إلّا الأمراء التنوخييّن القيسيين، فإنّهم لم يأتوا لأنّهم كانوا من حزب الدولة الشركسيّة»(١٣).
وبالنّظر إلى ما كانت عليه المناطق اللبنانية في أيام العهد المملوكي من حكم إقطاعي بين الأمراء والمقدّمين والمشايخ وزعماء العائلات والولاة، فقد أبقى العثمانيون على هذا الحكم، حفاظاً على الأمن والنظام من جهة، وحتى لا يؤلّبوا اللبنانيين عليهم من جهة أخرى، معتمدين على شعار مركزي في تعاملهم مع سكان المناطق اللبنانية مفاده: «فرض الطاعة عليهم وجباية الميري منهم».
وكان من الطبيعي أن يمنح العثمانيون حلفاءهم من أمراء لبنان حكماً ونفوذاً مميّزاً، كمكافأة لهم على مناصرتهم ضدّ خصومهم المماليك، في معركة تعتبر بمثابة «كسر عظم» بين الجانبين (هي معركة مرج دابق). وقد كان المعنيّون من أوائل الذين نالوا هذه المكافأة، وترأّسوا على غيرهم بموجب فرمانات سلطانية عليا. وقد جاء الاعتراف العثماني بزعامة الأمراء المعنيين وترئيسهم على سائر الأمراء اللبنانيين، و«بحق أبنائهم من بعدهم فيها بحيث تنتقل السلطة من أمير معني إلى أمير معني آخر دون أن يكون لغيرهم من الأمراء الوطنيين يد في الحكم الأعلى»(١٤).
جاء ذلك، لإحداث الخصومات والانقسامات بين الأمراء اللبنانيين وبقاء النَّير العثماني فوق رقابهم مجتمعين، وهذا ما أدّى بالفعل فيما بعد إلى العداوة التي تأصّلت بين المعنيين من ناحية، وبين آل سيفا وآل فريخ من ناحية ثانية، وما نتج عنها لاحقاً من مآسٍ وكوارث بحق المعنيين وبلادهم خاصّة، وبحق اللبنانيين ككُل من ناحية ثانية… وصولاً إلى القضاء على الأمراء المعنييِّن، الواحد تلو الآخر، كمقدّمة للقضاء على إمارتهم وحكمهم كأسرة عام 1697، بعد أن مَدْمَكَتْ الأساس للكيان اللبناني الحديث، على ركائز وطنيّة
عروبيّة صحيحة، رغم كل الاتهامات والافتراءات الباطلة التي لا تطال إلّا الوطنيين المخلصين للمواطنين والوطن على السواء.
بعد هذا العرض شبه التفصيلي عن معركة «مرج دابق»، يجدر بنا التطرّق إلى الأسباب الكامنة في هذا الانتصار العثماني على المماليك، والذي كانت بمثابة الضربة القاضية على هذه السلطنة التي حكمت قروناً عدّة، وبعض النتائج التي تمخّضت عنها. لذلك نستطيع تسجيل الملاحظات التالية:
- كانت الجيوش العثمانيّة جيّدة التسليح والتجهيز، وطبقّت الأساليب التكتيكية الحديثة.
- لجأت هذه الجيوش إلى تدعيم مواقعها بواسطة قلاع متحركة، تشكلت من عربات مربوطة بعضها بالبعض الآخر.
- وزّع السلطان سليم الأوّل قوّاته ومدفعيته بحيث تستطيع الاختباء خلف سلاسل من العربات المتصلة بعضها ببعض، وخلف حواجز من الأشجار والأخشاب.
- امتازت المعدات المقاوِمة للخيّالة، كالشوكات والخطّافات الحديدية المربوطة بالحبال، بأهمية كبيرة في المعركة، إذ كان الجنود العثمانيون يُطلقون هذه الأدوات على فرسان المماليك المدججين بالسلاح، فيسحبون فرسانهم من على ظهور الخيل ويقتلونهـم بالفأس أو بالسيف.
- كان العثمانيون يمتلكون أفضل مدفعية في العالم آنذاك، واستخدموا أحدث أنواع المدفعيّة النّحاسية المركبة على عجلات يجرّ الواحد منها زوج من الثيران، في حين لم يعرف الجيش المملوكي مثلها.
- على الرّغم من أنّ جنود الجيش العثماني كانوا ينتمون إلى قوميّات مختلفة وطوائف دينيّة متعددة، إلّا أن هذا الجيش عُرِف بانضباطيّته وتماسكه المعنوي على عكس الجيش المملوكي الذي تنازعه الإحجام.
- انسحاب بعض أمراء بلاد الشام من الجيش المملوكي وانضمامهم إلى الجيش العثماني عند بدء القتال، أمثال خَير بك نائب حلب وقائد الميسرة، وجان بردي الغزالي ما أثّر سلباً على قوّة ومعنويات السلطان الغوري.
- تراجع القاعدة الإسلاميّة للمماليك بفعل الانتفاضات الشعبيّة ضدّهم، في القرى والمدن الإسلاميّة (١٥).
- أفرزت هذه المعركة نهاية سلطنة وبداية حكم سلطنة أخرى على أنقاضها، دامت سلطتها نحو أربعة قرون حفلت بأحداث تاريخيّة مهمّة، وبمتغيّرات سياسيّة هامّة في تاريخ بلاد الشام ومصر والعراق والبلقان وأوروبا.
- أدخلت هذه المعركة الرّعب في قلوب الأوروبيين، كما في قلوب الفرس.
- أزالت من الحكم في الإمارة اللبنانية إمارة تاريخيّة عريقة، هي الإمارة التنوخيّة التي حكمت نحو ثمانية قرون)، لتخلق على أثرها الإمارة المعنيّة (الحليفة للتنوخييّن تاريخياً ومن أنسبائهم)، دون أن تتخلّى عن مهمّة التنوخييّن الوطنيّة والعروبيّة والإسلاميّة، فكانت امتداداً لها واستمراراً كخير خلف لخير سلف…
- كرّست هذه المعركة السلطان سليم الأوّل «خليفة على المسلمين» و«حامي الحرمين الشريفين» والسلطان الأقوى في عصره. كما كانت المفتاح الذهبي الذي فتح به السلطان سليم بلاد الشام…
على هذا الأساس، تُعتبر معركة «مرج دابق» التي جرت في شمالي حلب بين العثمانيين والمماليك في 24 آب 1516، نهاية عهد وبداية عهد جديد، تجاوزت في تأثيرها المنطقة الجغرافيّة التي وقعت فيها، إلى ما يتعدّى حدود السلطنتين معاً، بكل ما رافقها من تغيّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وديموغرافيّة وعسكريّة… فكانت بحقّ إحدى معارك التاريخ الكبرى في الشرق والغرب معاً، والانقلاب الكبير في التحالفات والولاءات المختلفة، كما بالصراعات والاصطفافات المضادة على مختلف الأصعدة… وهذا هو سرّ أهميّتها التي أخرجتها من الجغرافيا وأدخلتها التاريخ… بعد أن نقلت المرحلة من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، في نقلة نوعيّة مميّزة على جميع المستويات…
المراجع
- ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، القاهرة 1961-1962، المجلد الخامس، ص 364-365.
- نيقولاي إيفانوف «الفتح العثماني للأقطار العربية» (1516-1574)، نقله إلى العربية يوسف+ عطا الله، راجعه وقدّم له د. مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1988، ص 54.نيقولاي إيفانوف، المرجع السابق نفسه، ص 56، نقلاً عن: Demetrius Cantimir, «Histoire de l’Empire Ottoman où se voyant les causes de son agrandissement et de sa décadence», traduit en français par M. de Joncquières, Paris 1943, Tome2, p. 95.
- للتفصيل في ذلك، يستحسن العودة إلى:
- نيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 58-59، ود. جلال يحيى، «المدخل إلى تاريخ العالم العربي الحديث»، دار المعارف بمصر 1965، ص 25-27. ومحمّد كرد علي «خطط الشام». دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الثاني 1972، ص 205-206. ود. محمّد سهيل طقّوش «تاريخ العثمانيين»، دار النفائس، بيروت، ص 152-153.
- ابن إياس «بدائع الزهور في …»، مرجع سابق، المجلد الخامس، ص 361. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، دار النهضة العربية، بيروت 1973، ص 73-75. وأيضاً: محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 189. وسعيد أحمد برجاوي «الإمبراطورية العثمانية»، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1993، ص 91-93.
- إيفانوف، مرجع سابق، ص 60، نقلاً عن: بارتولد «الخليفة والسلطان»، موسكو 1966، ص 60.
- محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 191. وسيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت، الطبعة الأولى 1989، ص 356.
- راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
- راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
- – ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص73 و89-92. وأيضاً: سيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مرجع سابق، ص 338-342. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 166.
- ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص60.
- ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص69-71. ومحمّد فريد بك المحامي، مرجع سابق، ص 192-193. وعبد الكريم رافق، «العرب والعثمانيون»، ص 61. وسعيد أحمد برجاوي، الإمبراطوريّة العثمانيّة، مرجع سابق، ص 95-96. ود. طارق قاسم، تاريخ لبنان الحديث، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص 12-15.
- د. إميل توما، فلسطين في العهد العثماني، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان/الأردن، لا ت، ص 22. وسعيد أحمد برجاوي، ص 97. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 28.
- محمّد كرد علي، خطط الشام، الجزء الثاني، دار العلم للملايين، بيروت 1972، ص 213.
- فيليب حتّي، «لبنان في التاريخ»، دار الثقافة، بيروت 1978، ص 437-438. وأيضاً: عادل إسماعيل Adel Ismail, L’histoire du Liban», Tome 1, Paris 1955, p. 58-59.
- ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، 67. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 169. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 11 و14.