إنّ إنحراف الأطفال أو الأحداث، بات من المشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيداً التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.
وهذا ما تؤكده الإحصاءات الرسمية حول التصاعد المستمر في نسبة جنوح الأحداث التي تزيد عن النسبة في زيادة عدد السكان، كما هو الحال في معظم بلدان العالم، ومنها لبنان.
سنتناول هذه الظاهرة في لبنان بعد التعريف بها وتناول أسبابها وأنواعها. ومن ثم نستعرض التشريعات الدولية واللبنانية المختصة بها.
تعريف الانحراف
تميل النظريات الاجتماعية إلى اعتبار الانحراف سيرورة سوسيو ثقافية ملازمة لكل مجتمع بشري كما يرى سيزرلاند…(١) ويرى جيفري أن سبب إنحراف السلوك لدى الفرد يعود إلى عدم تكيّفه اجتماعياً (٢). أما الفكرة الأساسية في الاتجاه النفسي فهي أن السلوك الاجتماعي لدى المنحرف ليس عارضاً، فلا بد أن يكون سمة واتجاهاً نفسياً واجتماعياً يميز شخصية الحدث، ويستند إليه في التفاعل مع أغلب المواقف، وإلا كان السلوك سطحياً عارضاً يزول بزوال أسبابه الناشئة عن عوامل إقتصادية أو صحية أو حضارية أو ثقافية (٣).
فالجانح ليس هو الطفل الذي اقترف حادثة سرقة واحدة، أو فعلاً لا-اجتماعياً عارضاً، لأن ذلك ليس دليلاً على توجه عام لدى الطفل نحو السلوك المنحرف. لذلك لا بد من دراسة حالة الطفل في ضوء تاريخ حياته، وسماته الشخصية حتى نستطيع تحديد مظاهر الجنوح (٤).
أسباب الانحراف أو أسباب تكوين الشخصية العنفية عند الأطفال
يظهر عادة سوء التكيف الاجتماعي للطفل مبكراً. فبعد سنوات معدودة من دراسة فاشلة إجمالاً، وفي حالة من إنعدام الدافع، يميل الحدث إلى الهروب من المدرسة بشكل عابر في البداية. ثم ينساق في ذلك لإغراءات متعددة لا تخلو منها حياة أي طفل. يذهب إلى البحر أو إلى المدينة أو إلى أحد أماكن عبث الأطفال المشردين، أو يهرب ويهيم على وجهه في أماكن اللهو. تتميز تجربته العائلية والمدرسية في كل الحالات بالمعاناة. تنتابه مشاعر غامضة بانعدام الارتياح ويحس بشيء من الغربة أو التباعد عن الأهل وعن المدرسة. وقد يجد نفسه مدفوعاً بقوى خفية نحو ترك المدرسة والبيت.
في نظر ديبويست هناك ثلاثة مسالك أساسية تؤدي إلى الانحراف (٥) وهي: الطفل المحروم، والطفل المدلل، والطفل المتماهي بمعايير جانحة. إلا أن النهاية واحدة في كل الحالات رغم أن المسالك إليها تختلف من حالة لأخرى.
الطفل المحروم:
يتجه نحو الانحراف على الشكل التالي:
- حرمان لا مبرر له وغير عادل (إهمال، نبذ، قسوة، نقص في عاطفة الحب عند الأهل).
- رد فعل دفاعي حيوي ضد القلق الناتج عن ذلك الحرمان.
- صراع خطير ومتكرر مع المحيط يؤدي إلى مأساة داخلية وتذبذب ما بين الانسياق وراء الإشباع التعويضي من خلال اللذة الآنية وبين التكيف.
- ينتهي الصراع في اتجاه المعارضة والعداء للمجتمع والتمرد عليه مع إنسياق وراء إشباع الشهوات بشكل مباشر.
الطفل المدلّل:
يأخذ منحى انحرافي وفق السياق التالي:
- قصور في تعلم معنى الجهد، وشخصية لم تعرف سوى الإشباع المباشر لرغباتها.
- الإصطدام بمتطلبات وقيود المجتمع يؤدي إلى قلق شديد وشعور بالغبن وعدم القدرة على التلاؤم مع هذه المتطلبات بالتخلي عن مبدأ اللذة.
- صراعات خطيرة ومكررة مع المجتمع وسلطانه يؤدي إلى تكوين شخصية جانح يتوجه نحو النمط المنحرف.
في هذين النموذجين، يتعاطى المنحرف مع الآخرين بحذر، وكأنهم أعداء، فضلاً عن إحساسه بالمرارة تجاه غبن المجتمع المزعوم.
التماهي بمعايير جانحة:
لا يعطِ ديبويست لهذا النموذج وزناً كبيراً، إذ يعتبر ان التماهي الجانح لا يفسر لوحده التوجه نحو الانحراف بل لا بد من إدخال البعد النفسي. فالجانح من هؤلاء يمر بمرحلة صراع مع المجتمع الذي يتعارض سلوكه مع معاييره. واستمراره بانحرافه هو نتيجة تطور نفسي داخلي ترسّخ تماهيه بالقيم الجانحة.
إن تفسير ظاهرة الانحراف في أسبابها ليست بالمهمة السهلة أو البديهية. فقد سعى علماء في اختصاصات عدة (علم الإجرام، علم الاجتماع وعلم النفس…) تفسير وتحديد هذه الظاهرة. تعود أولى الدراسات العلمية المتعلقة بشخص المجرم إلى القرن السابع عشر. ولكن النظرية العلمية الأولى لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر وعرفت بنظرية لومبروزو.
وقد نشر العالم الإيطالي سيزار لومبروزو، بروفسور في مجال الطب الشرعي في كلية توران، أبحاثاً عديدة حول شخص المجرم إذ اعتبره امتداداً للإنسان البدائي. ويتم التعرف إليه عبر ندب تشريحية وعلامات تشكلية وبيولوجية واضطرابات وظيفية. كما يمكن كشف المجرم من خلال ضيق جبينه وطول عظام فكه وبروز وجنتيه (٦). وفي أيامه الأخيرة، حاول لومبروزو أن يثبت الصلة بين داء النقطة والانحراف. أما تلميذه أنريكوفرّي، فقد إستوحى من تعاليمه لتصنيف المجرمين. وبهذه الطريقة، اعتبر أن المجرمين المتخلفين يتصرفون تحت تأثير مرض عقلي، في حين يتميز المجرمون بالولادة بخصائص نفسية خاصة (فقدان للحس الأخلاقي والغفلة والابتذال). ويصبح المجرمون الذين إعتادوا الإجرام إنتكاسيين محنًكين. ويصبح المجرمون بدافع الشغف أشخاصاً عصبيين يتصرفون خاصة نتيجة الحب والغيرة وعدم حصولهم على ما يبتغونه. وكما يمكننا الملاحظة، إن تصنيف فيًري يبقى خاضعاً لنظرية لومبروزو المستندة على الوراثة الجرمية.
إلّا أنّ علم الإجرام انتقل تدريجياً من نظرية «المجرم بالولادة»، إلى نظرية المنحرف بنيوياً أي إلى نظرية الشخصية السيكوباتية، وهذا بفضل الأطباء الذين شددّوا على الدور الذي يلعبه الطب النفسي في تفسير الجرم. وحصل ذلك، خلال مرحلة زمنية كان لفرويد تأثيراً كبيراً فيها.
وهذا ما ساهم في اعتماد القانون الجزائي على الطب النفسي من أجل تحديد ما إذا كان مرتكب الجرم قد تصرف تحت تأثير حالة من الجنون، وبالتالي قد يستطيع الاستفادة، عند صدور الحكم، من أسباب تخفيفية. إضافة إلى ذلك، نشأ مفهوم خطورة هؤلاء الأشخاص وضرورة إستحداث مصحّات خاصة بالمجرمين المختلّين.
لقد حاول أيضاً أنريكو فيرّي الجمع بين التيارات التي تعطي الأولوية في علم الإجرام للعناصر الاجتماعية والأخرى التي تجعل من الإجرام نتيجة لعناصر فيزيولوجية وسيكولوجية. ودون تجاهل أهمية العناصر الاجتماعية، فقد لفت فيرّي النظر إلى أن ليس كل الأشخاص الذين يخضعون لتأثيرات معينة يقدمون على تصرفات جانحة، وبالتالي فإن في كل عمل جانح تأثير للحتمية النفسية للإنسان والبيئة التي تطور فيها. ويعود الفضل للإيطالي بنينيودي تيليو في التأكيد أن الجريمة هي تعبير عن عدم تكيّف اجتماعي، مستبعداً نظرية الوراثة الجرمية، بل معترفاً بوجود ميول جرمية لدى بعض الأشخاص ذوي استعداد لارتكاب الجرائم. وتكمن الصعوبة في القدرة على الإحاطة بأصحاب القابلية الجرمية مع الإشارة إلى أن الاكتشاف المبكر لهم يجعل من الوقاية حجر الأساس في الأنظمة الردعية (٧).
وتجدر الاشارة الى أن نظرية لومبروزو وفيرّي الوضعية، التي هدفت إلى حماية المجتمع أكثر من الاهتمام بالمنحرف، تجاوزها الزمن اليوم. فلومروزو لم يتمكن من إقناع كثيرين على المدى البعيد بنظرية «المجرم منذ الولادة». ولقد لقيت نظريته إنتقادات لاذعة من عدة علماء في الجريمة وخبراء في علم الإنسان، منهم الفرنسي ليونس مانوفريه، عالم بالإجرام، الذي نقد المقاربات الفيزيولوجية للجريمة، كما أسقط كافة التحاليل المنطلقة من علم الأمراض، وخلص إلى أن السلوك غير المستقيم والمنافي للآداب، إنما هو نتيجة عوامل خارجية دافعة إلى الانحراف، كتربية معيبة وناقصة، وظروف مفسدة. واعتبر نظرية لومبروزو «نظرية متخلفة» غير مبرهنة علمياً ومن الصعب برهنتها (٨). وهكذا، تبقى العوصامل الاجتماعية من أهم العوامل الدافعة إلى الانحراف، علماً أن ليس هناك من سبب أوحد لانحراف الأحداث بل هو نتيجة لتشابك عدة عناصر اجتماعية عائلية ونفسية وربما شخصية من هذه العناصر (٩).
الأسرة هي العامل الأول في عملية الاندماج الاجتماعي، كما يمكن أن تكون العامل الأهم في دفع القاصر أو حتى حثه على سلوك طريق الانحراف. في هذا السياق لقد حدد West and Farrington خمسة عناصر تنبئ بالانحراف، غالبيتها متعلقة بأوضاع العائلة الاجتماعية:
- كثرة عدد أفراد العائلة الواحدة.
- انحراف أحد الوالدين أو الأخوة الكبار.
- جهل للأساليب التربوية.
- تدني دخل العائلة.
- ضعف حاصل الذكاء لدى القاصر المقصود.
العوامل العائلية
إن المشاكل العائلية التي يعاني منها الأحداث المنحرفين، تدور بشكل خاص حول أربعة محاور:
الطريقة التي تمارس بها السلطة داخل العائلة:
- بعد الوالدين عن أولادهم وضعفهم تجاههم، يؤدي إلى خضوعهم لنزوات هؤلاء الأولاد بغية تجنب المشادات والمشاكل معهم.
- اعتماد الوالدين مبادئ أخلاقية مختلفة متضاربة مع تلك المعتمدة في المجتمع بصورة عامة.
- قيام الوالدين بتحديد المبادئ والقوانين الأخلاقية بطريقة صحيحة وعدم تطبيقها في حياتهم اليومية مع أولادهم الذين يعيشون في ضياع، بسبب هذا التناقض بين القول والفعل.
- تعسّف الوالدين في استعمال السلطة: سوء المعاملة والضغوط النفسية والجسدية على أولادهم.
طبيعة الحنان والعطف المؤمنان من قبل الوالدين:
تنبّه الوالدين وحنانهم تجاه أولادهم هما عنصران أساسيان في بناء الثقة والقدرة على المبادرة وكذلك الاستقلال الداخلي. إن القصور العاطفي قد يؤدي إلى خلل في شخصية القاصر وربما إلى انحرافه. وقد يكون لهذا القصور عدة أوجه: القصور العاطفي المتواصل في سن مبكرة، الرفض العاطفي الخطير تجاه الأولاد، والعلاقات العاطفية غير المرضية.
الرابطة الأسرية أو العائلية
إن تفكك الأسرة أو انفصال القاصر عنها يؤثران على توازنه. وهذا ما يحصل عند غياب أحد الوالدين بسبب الموت أو السفر أو الطلاق، أو تعدد الزيجات، أو تمزّق العائلة خاصة في مرحلة المراهقة.
الديناميكية العائلية وسياق التماثل
تكمن المشكلة هنا في تضارب الأدوار داخل العائلة (دور الولد، الوالدة، علاقة الزوجين، الأولاد، الأخوة والأخوات)، سيما إذا كانت طبيعة العلاقات َمَرضية. وهذا التضارب في الأدوار يتجلى عبر المشاكل التالية: غياب الصورة الإيجابية التي يمكن للقاصر التماثل بها، تماثل القاصر بصورة سلبية تجسد الانحراف، تماثل القاصر بصورة مرفوضة وغير محترمة من قبل أحد الوالدين. وقد تكون هذه الصورة تمثّل أحدهما، اعتماد القاصر تصرف من شأنه لفت الأنظار والتميز عن أشقائه. كما يمكن للقاصر أن يكون أيضاً كبش المحرقة، تعتبره العائلة مسؤولاً عن كل المشاكل التي تصادفها مع العلم أن المشكلة الأساسية هي وضع العائلة المَرَضي.
من الملاحظ أنه كل ما ازدادت تلك المشاكل ضمن العائلة، كلما دفعت بأفرادها نحو الانحراف. ومع التغيرات التي تمر بها العائلات التي أعيد تكوينها، تكثر التساؤلات حول مدى تأثير هذه العوامل الجديدة على العائلة وأفرادها، ناهيك عن الضائقة الاقتصادية التي تزيد من الضغوط وتبعد المسافات بين أفراد البيت الواحد.
ورغم ذلك، إن عدداً من الشبّان المنتمين إلى عائلات دافعة إلى الانحراف، استطاعوا التغلب على هذه الظاهرة، لا بل تمكنوا من أخذ العبر والاستفادة من الخبرات السيئة التي عاشوها، كونهم يتحلون بقدرة على التكيف، فأصبحوا كالحصن المنيع أمام تلك الصعوبات التي تكون عادة فتاكة.
ومن الأمثلة اللبنانية عن دور المشاكل داخل الأسرة، في دفع الأطفال أو الأحداث الى الانحراف نورد هنا تجربة أحد الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»:
المدرسة
تعتبر المدرسة العامل الثاني الأهم بعد الأسرة في عملية الاندماج الاجتماعي، فهي تلقن القاصر مجموعة من القواعد، وتقترح عليه نماذج ومثل من شأنها دفعه نحو حياة اجتماعية مستقرة ومنسجمة. كما أنها تساهم في تطور القاصر من الناحية الفكرية والعاطفية والاجتماعية وتحضره لمواجهة المستقبل.
كما أن العملية التربوية مبنية على التفاعل الدائم والمتبادل بين الطلاب ومدرسيهم. حيث أن سلوك الواحد يؤثر على الآخر (الطالب يتماثل عادة بالمدرس) وكلاهما يتأثران بالخلفية البيئية، أي الإطار العام للمجتمع والمدرسة. كما أن للأهل دورهم أيضاً، فالمشاكل المدرسية مرتبطة عامة بمشاكل عائلية.
إن العوامل التي قد تدفع بالقاصر خارج المدرسة والتي قد تحثه نحو طريق الانحراف تتوزع على ثلاث محاور:
الإطار العام للمدرسة: عدم احترام التلميذ، وعدم الاستجابة لحاجة الفهم والمعرفة والنقاش وإبداء الرأي في عدة أمور.
علاقة المدرّس بالتلميذ: إذا كانت مرتكزة على إحاطات وكبت وقمع التلميذ.
علاقة الأهل بالمدرسة: إن معظم ذوي الأحداث الذين يعانون من مشاكل مدرسية، يعترضون على أداء المدرسة من خلال انتقادهم لأنظمتها وبرامجها، أو عبر عدم مراقبة حضور أولادهم إلى المدرسة، أو حتى من خلال عدم مبالاتهم بما يجري في المدرسة عامة.
فإذا لم يكن هناك تناغم وتفاهم وحوار بين المدرسة والمدرس والأهل والتلميذ قد يواجه هذا الأخير عدة مشاكل منها:
- عدم التكيف المدرسي: نعتبر أن القاصر يعاني من مشكلة عدم التكيف المدرسي عندما يتعرض لرسوب متكرر، أو عندما يكون غير مكترث لفروضه المدرسية.
- التسرب المدرسي: أي عدم الالتحاق بالمدرسة يومياً. وهذا يعني بالطبع غياب الرقابة من قبل الأهل والمدرسة على السواء.
- عدم الانضباط: وتترجم هذه المشكلة المسلكية المقلقة بتصرفات من قبل التلميذ كمضايقة الصف والمعلم عن قصد، وكثرة الحركة والميل إلى الشغب، واعتماد الغش في الامتحان، وإظهار نزعة إلى الهدم والتخريب.
وهذا النوع من السلوك لدى الطالب ينبئ بإمكانية سلوكه طريق الانحراف. وتلعب المدرسة دوراً كبيراً ومهماً في هذا الخيار عبر طريقة معالجتها لهذه المشاكل المسلكية التي يعاني منها التلميذ. ففي معظم الأحيان تعمل المدرسة على عزل هؤلاء التلامذة أو طردهم، مما يسرع في قرار تخليّهم عن الحياة المدرسية وما تمثله من علم وانضباط واندماج اجتماعي.
الرِّفقة
إن العيش ضمن مجموعات يمثل عاملا مهماً في التطور الطبيعي للمراهق. فمنذ دخول الطفل إلى المدرسة، يصبح للرفاق دور مهم في حياته. في البداية يبقى تأثير الأهل على ولدهم أقوى من تأثير الرفاق. ولكنه يخف تدريجياً عند بداية سن المراهقة حيث تنقلب المعايير ويصبح الأهل والمدرسون في الدرجة الثانية.
فبالنسبة إلى المراهق تمثل المجموعة حقل اختبارات بعيداً عن أنظار الراشدين يسعى من خلالها إلى بناء الهوية التي سيعتمدها في المستقبل. فمجموعة الرفاق تؤمن له الدعم العاطفي كما تسمح له ببناء علاقات مع الجنس الآخر، وتدعمه في حال جابه أي مشاكل مع السلطة الوالدية أو مع أي راشد آخر. فتصبح هذه المجموعة مكاناً يتعلم المراهق عبره قواعد الحياة في المجتمع الأوسع. وإذا كانت الرفقة من رفاق السوء، أو إذا تعدت كونها مجموعة من الرفاق وانتقلت لتصبح عصابة، تلعب دوراً مهماً في دفعه الى الانحراف. فللرفاق أهمية كبيرة بالنسبة إلى المراهق فعبرها تنقل قواعد الحياة في المجتمع الأوسع.
والعصابة هي مجموعة من المراهقين، يترأسها أحدهم وتقسم الأدوار على الباقين وفق شخصياتهم ويعتمدون طقوساً وعادات خاصة بهم قد تكون غامضة وتدعو للريبة. تنشأ العصابة في المدرسة أو في الشارع، وتنحصر أعمالها في معظم الأحيان بالإيذاء والسرقة والدعارة وتعاطي الممنوعات والمتاجرة بها. وتجدر الإشارة إلى أن المراهق الذي قرر الانتماء إلى عصابة ما، لم يكن بالضرورة مقيد القرار أو مسلوب الإرادة، بل فعل ذلك رغبة منه بالانتماء إلى المجموعة، فيقبل بها ويقوى بها.
إن هذه الظاهرة تبقى قليلة الانتشار في لبنان، مع العلم أنه واستناداً إلى إحصاءات مصلحة الأبحاث في وزارة العدل، عام 2001، نلاحظ تزايد السرقات ضمن مجموعات من المراهقين. ورغم أن تلك المجموعات تبدو غير منظمة، وبالتالي لا يمكن وصفها بعد بالعصابات، ولكن قد يكون من الضروري العمل على استيعابها والإحاطة بها قبل أن تتبلور أكثر، خاصة وأن ارتكاب أعمال السوء ضمن عصابة، يقدم للقاصر الدعم النفسي والتقنيات الأوسع والتخطيط، كما يسمح له بزيادة أرباحه المالية والتغلب على خوفه وشعوره بالذنب لمخالفة القوانين.
عمل الأطفال
إهتمت الاتفاقيات الدولية بقضية عمل الأطفال وتحديد القواعد التي تنظم هذا العمل لناحية العمر وفقاً لطبيعة وخطورة هذه الأعمال. كما اهتمت بالبعد الاجتماعي والتربوي للطفل. وظلت ظاهرة عمل الأطفال تحظى باهتمام كبير تضاعف في العقدين الأخيرين، نظراً لأبعادها الاجتماعية والإنسانية، التي بدأت تثير القلق، خاصة في البلدان النامية.
أما لبنان الذي وقع على اتفاقية حقوق الطفل في 18 تشرين الثاني 1991، فقد سعى إلى التوفيق في تشريعاته ذات العلاقة بالأطفال مع أحكام تلك الاتفاقية، وما
سبقها من اتفاقيات عالمية ذات علاقة بالطفل، وخاصة في مجالات العمل. وبما أن تلك الاتفاقيات تفرض تعيين حدود دنيا لتشغيل الأطفال، عدل لبنان قانون العمل المتعلق بتشغيل الأطفال بتاريخ 24/7/1996، وذلك برفع سن التشغيل بوجه عام من ثماني سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، ومن اثنتي عشرة سنة إلى
خمسة عشر سنة عند ممارسة بعض الأعمال المرهقة.
كما حاول المشترع اللبناني حماية الطفل العامل، فحدد أنواع الأعمال التي يسمح له ممارستها، كما الزم أرباب العمل الذين يرغبون باستخدامه بشروط عدة متعلقة بظروف وساعات العمل، التي من المفترض ألا تتعدى الست ساعات يومياً، يتخللها ساعة للراحة على الأقل.
إن هذا القانون الذي حاول تأمين الحماية اللازمة للأطفال العاملين، بقي غير معمول به في معظم الأحيان، لعدم مراقبة تطبيقه. فلا زلنا حتى اليوم نصادف أطفالاً لا يتعدى سنهم التسع أو العشر سنوات يعملون لساعات طويلة. وتكمن الخطورة في أن عمل الأطفال المبكر يؤدي إلى حرمان الطفل من أحد الحقوق الأساسية وعلى وجه التحديد، حق الطفل في التعليم وحقه في مستوى معيشي ملائم. وكون عمل الأطفال يتسم عامة بعدم الاستقرار، فهم معرضون للتشرد والعيش في الشارع، وربما سلوك الطرق الملتوية كالانحراف وغيره.
العوامل الاقتصادية
يشكل الفقر دافعاً أساسياً الى الانحراف والإجرام، مع التذكير أن هذه الظاهرة ليست غائبة تماماً عن الأوساط الاجتماعية الميسورة. ومن العوامل الاقتصادية التي تساهم في نشؤ ظاهرة الانحراف:
إخفاض مستويات الدخل الفردي: ويُمكن أن ينعكس بصورة مباشرة على سلوك رب الأسرة وبصورة غير مباشرة على سلوك الأبناء ذاتهم. فقد يلجأون، في سن الطفولة والمراهقة، إلى تعويض ما يشعرون به من نقص في تلبية حاجاتهم، بطرق غير مشروعة.
إحساس الشباب بمستقبل مجهول: وحُجتهم في ذلك تدور حول ضآلة الدخل حتى بعد إتمام تعليمهم في أعلى مراحله. ومما لا شك فيه إن هذا الإحساس ينعكس على نفوس هؤلاء يأساً وإحباطاً، وربما يسهل لهم طريق الانحراف والجريمة كبديل مغر يوصلهم إلى ما يطمحون إليه بصورة أسرع.
البطالة: تلعب دوراً في دفع الإنسان نحو الانحراف سواء نتيجة للفراغ وللشعور وبالنقص الذي تولده عنده، ولعدم تمكنه من تأمين استقلاليته وحاجاته الأساسية، مما يؤدي إلى إمكانية انزلاقه في هاوية الإدمان على المسكرات، وكافة أنواع المخدرات، وربما يسعى إلى السرقة أو إلى جرائم أكبر لتأمين حاجاته من المخدرات أو حتى حاجاته الأساسية من مأكل وملبس وغير ذلك.
ومن الأمثلة اللبنانية حول دور العوامل الاقتصادية في دفع الأطفال الى الانحراف، نورد حادثتين أوردتهما الصحف اللبنانية، ولطالما قرأنا في الصحف والمجلات عن عصابات يقودها أحداث، وحتى فتيات صغيرات السن نسبياً، جرى رميهم منذ الصغر في الشارع. وهكذا إضطرت والدتي لإعالة أربع فتيات «كنت كبيرتهن» فكانت المسكينة تقضي نهارها في تنظيف المنازل والشركات. وخلال تلك الفترة العصيبة جاءتني إلى المنزل سيّدة تسكن في الحي. وعرضت على والدتي تأمين عمل لي لمساعدتها في إعالة العائلة وأخبرتها أن طبيعة العمل هي في منطقة… عند عائلة محترمة ومرموقة… تلك السيدة أدخلتني، بالحيلة والمسايرة وبالمال، إلى عالم الشرور وأنا في الرابعة عشرة من عمري… وتم القبض عليّ وأنا متلبسة بتهمة الانحراف الخلقي، إنني اليوم أعيش أتعس لحظات حياتي…»(١١).
وهكذا، تقع العوامل الفردية للإجرام، في ثلاثة أنواع(١٢): العوامل المرضية العقلية التي تتمثل بالتخلف العقلي (Les arriérations mentales)، الأمراض العقلية العضوية التي تتمثل بالجنون (La démence)، الأمراض العقلية الوظيفية التي تعود لأسباب نفسية منها: مرض الذهان أو اختلال الوظائف العقلية، والعصاب، والخلل السيكوباتي.
إن هذه الأسباب تساهم في تكوين شخصية عنيفة لدى الطفل. من خلال دراسة أجرتها مديرية قوى الأمن الداخلي، في معهد قوى الأمن الداخلي، حول العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة ـ مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة، نستخلص ملامح شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية في لبنان على الشكل التالي(١٣):
الخمول: كثيراً ما نلاحظ هذا السلوك عند الحدث المخالف للقوانين الجزائية، والذي يعيش في فراغ كبير، ويصعب عليه تنفيذ أي قرار يتخذه. فهو غير مبال وغير قادر على أخذ المبادرة أو القرار بل يخضع لما تفرضه عليه الظروف.
عدم الاستقرار: تتميز شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية، بعدم الاستقرار من كافة النواحي: فهو عامة مزاجي، يصعب عليه الالتزام بعمل أو بنشاط ما. ويطال عدم الاستقرار هذا قدرته على التركيز، مما يفسّر بعض الشيء رعونته في الأعمال اليدوية، حيث كثيراً ما يخطئ.
العدوانية: تأتي مظاهر العدوانية لدى الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية مختلفة تبعاً لاختلاف شخصيتهم لناحية النشاط والحيوية. مع العلم أن لديهم طاقة باطنية أو غير معلنة من العدوانية تتجلى حسب المواقف. ويعبر الأحداث المخالفون للقوانين الجزائية عن عدوانيتهم تلك بطرق مختلفة، إما تجاه بعضهم البعض خاصة عند حصول مشاجرة، أو تجاه الفتيات. وقد تترجم العدوانية أيضاً بارتكاب السرقات وأعمال العنف تجاه الأشخاص الراشدين.
الانحراف مع الغرائز: إن هذا النوع من الطباع يميز الكثير من المراهقين، ويبدو مسيطراً في مجموعات الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية. فهم غير قادرين على السيطرة على غرائزهم وأهوائهم كونه لم يلقنهم أحد هذا التصرف. والراشدون المحيطون بهم غالباً ما يكونون هم أيضاً غير قادرين على السيطرة على ذواتهم فنلاحظ مثلاً أن القسم الأكبر من السرقات أو الهروب من المنزل يكون متسماً بعدم قدرة الحدث على السيطرة على نزواته وعلى أهوائه، فيندفع إلى تلك الأعمال دون تفكير.
حاجة الإشباع الفوري للرغبات: تأتي هذه الحاجة لتعزيز ما ذكر آنفا. فالأحداث المخالفون للقوانين الجزائية، لا يقبلون أن ترجئ رغباتهم وهي كثيرة. فبالنسبة إليهم قيمة الشيء لا تكمن في قيمته المادية بل بالأحرى بقوة رغبتهم بالحصول عليه، لا يعرفون الانتظار حتى ولو لم تتوفر لديهم القدرة الشرائية للحصول على مرادهم. كما أنهم يحتاجون إلى بلوغ النجاح بسرعة، ويتملكهم الإحباط أمام أول فشل كونهم يرفضون الفشل، مع العلم أن فرص النجاح لديهم وإمكانية تحقيق طموحاتهم ضئيلة قياساً على قدراتهم. إن الحاجة إلى بلوغ النجاح سريعاً تفسر ولو جزئياً عدم اندفاعهم نحو العمل (العمل وفق ما حدده القانون اللبناني في مجال عمل الأطفال)، فمن الصعب عليهم انتظار نهاية الأسبوع أو الشهر حتى يتقاضوا أتعابهم، وحتى ولو قرروا الرضوخ إلى هذا الأمر، فراتبهم المتدني عامة (كونهم في معظم الأحيان غير متخصصين) لن يكون كافياً لتحقيق تطلعاتهم الكبيرة.
عدم الاكتراث: لا يهتم الحدث المخالف للقوانين الجزائية إلا للأمور التي تعنيه مباشرة، فالسياسة والاقتصاد وما يدور في العالم والأمور الروحية ليست محطاً لاهتمامه كونها أمور تتطلب منه جهداً للبقاء على إطلاع دائم عبر متابعة الأخبار. فهو يفضل التهرب من الواقع عبر الغوص في عالم السينما الذي يقدم له عالم الخيال الذي يبتغيه دون أن يقوم بأي جهد يذكر.
الحاجة إلى الهروب: ذلك، حتى يتخطى الحدث الواقع ويتملص منه، كونه يعتبر أنه من الصعب أن يتعايش معه، يلجأ إلى الهروب عبر التسكع واحتساء الكحول والإدمان على المخدر وعلى أفلام السينما والتلفزيون… أي إلى كل ما يقدم له الفرصة للتفلّت من الواقع. فنراه مثلاً مسحوراً بالألعاب الأوتوماتكية والإلكترونية كالفليبرز والبايبي فوت والعاب الكمبيوتر. وحتى إن لم يملك المال للمشاركة بهذه الألعاب، فقد يمضي ساعات في أماكن اللهو يتأمل اللاعبين غافلاً عما يدور من حوله.
القلق: إن القلق الذي يسيطر على الحدث رغم محاولة طمسه والتستر عليه، يشكل أساساً لكل ما سبق وتكلمنا عنه من الطباع التي تميز الحدث المخالف للقوانين الجزائية. إن هذا القلق هو نتيجة للحرب النفسية التي يشنّها القاصر على ذاته بهدف تجاهل مشاكله. وتترجم عامة بتصرفات عدوانية تخفي شعوراً بالذنب تم كبته منذ زمن. فيخاف الوحدة والهدوء، ويخشى من ذاته، ويشعر بعدم الأمان أمام الراشدين بشكل عام، وتجاه العمل الذي سيجّبر على التغيير من عاداته، وأمام قرار عند اتخاذه، وغيرها من المخاوف التي ليست سوى تعبيراً عن خوفه من الفشل، والتي من شأنها أن تؤدي به إلى الفشل الذي يخشاه بقوة.
وهكذا نجد انه لا يمكن تحديد سبب واحد للانحراف. فقد دلّت الدراسات والأبحاث أن رفض القيم وقواعد السلوك والتنكر لها قد ينتج من أسباب تتعلق بالمجتمع ككلّ، أو أسباب تتعلق بالناشئ ومحيطه. وفي جميع الأحوال فإن تفاعل مسببات عدّة، وتكرار بعضها باستمرار، يؤديان إلى إيجاد مناخات مؤاتيه للسلوك المنحرف. ويُعتبر المراهق والشاب من الفئات الأكثر عرضة لهذه المسببات. وغالبا ما تكون هذه الأسباب فردية، بما تشكله من مواصفات لشخصية، أو أوضاع يعيشها الفتى تساعد في وقوعه في الانحراف، كعدم الاستقرار في العلاقات داخل الأسرة أو في المدرسة، والعدوانية الزائدة في التصرف والكلام، والفشل المتكرر والانفلات السلوكي والإحباط. وجدير بالذكر أن مرحلة المراهقة التي غالباً ما تتسبب بحالات من القلق والشعور بالكآبة وعدم الاستقرار والميل إلى التصدي ومعارضة الكبار وتجاوز الممنوعات، قد تشكل مرحلة أكثر عرضة للانحراف من بقية المراحل، إذا لم ترافقها المواقف التربوية السليمة من قبل الأهل والمربّين والمحيط.
ويبقى حديث المعالجات، أو محاولات المعالجة، وهو أيضاً موضوع معقد ويحتاج إلى بحث مستقل.
المراجع:
- Sutherland, (E), Principes de Criminologie, Paris Cujas, 1966.
- C.R, “An Integrated Theory of Crime and Criminal Behavior”, Journal of Criminal Law
- الشرقاوي. أنور محمد، انحراف الأحداث، القاهرة، دار الثقافة 1997، ص 95.
- Andry, (R.C), delinquency and Pathology, Mitchen Book, London. 1960,P. 120
- حجازي، مصطفى، ص 61 و 62.
- الجمهورية اللبنانية. وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، لبنان، المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، طبعة أولى، 2002، ص 48 و49.
- المرجع نفسه، ص 49.
- المرجع نفسه، ص 49.
- العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، المرجع السابق، ص 50، 54.
- مقابلة جرت مع أحد الشباب الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»، عام 2005.
- جريدة السفير 4 كانون الأول 1997.
- الجمهورية اللبنانية – وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، لبنان، مركز الامم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة، مكتب الامم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة ODCCP- 2002. «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، ص54.
- المرجع نفسه، ص 55 و56.