الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

خصومــه اتهمــــوه بالتقيــــة فــي إسلامــــــه
و«رسالة الصحابة» استثارت حفيظة المنصور

يعتبر ابن المقفّع من آباء الأدب السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، فهو الأب الرّوحي المؤسّس للآداب السلطانيّة، تلك الكتابات التي تزامن ظهورها مع ما يدعوه الجميع بحدث “انقلاب الخلافة إلى مُلك”
وكانت في جزء كبير منها نقلاً واقتباساً من التراث السياسي الفارسي والحكم اليونانيّة والتّجربة العربيّة الإسلاميّة، وتهدف هذه الآداب إلى حسن تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة وتقوم على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم تتضمن موادّها مجموعة هائلة من النّصائح الأخلاقيّة والقواعد السلوكيّة الواجب على الحاكم اتباعها بدءاً ممّا يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيّته مروراً بكيفيّة اختيار خَدَمِه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه1. ويرى محمّد عابد الجابري أنّ ابن المقفّع أوّل من دشّن القول في هذا الباب، فأوضاع المجتمع العربي في العصر العبّاسي الأوّل كانت تتطور في الاتّجاه نفسه الذي تطوّرت فيه أوضاع المجتمع الفارسيّ من قبل وذلك عبر عمليّة انتقاله من دولة الدّعوة والخلافة إلى دولة السّياسة والسلطان2.
لكن قدر ابن المقفع أنه عاصر زمن صراعات عنيفة على السلطة بدأت بانتصار الثورة العباسية واهتمام أعلامها بتوطيد سلطاتها وقهر خصومهم وفرض الطاعة على المجتمع وقمع الثورات وأعمال الفوضى، وكان من الطبيعي أن تورث تلك الفترة لدى الحكام حذراً طبيعياً شديداً وميلاً للقسوة في التعامل مع معارضيهم، ويعتبر الخليفة أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية وأحد أعظم خلفائها وأقدرهم على إدارة شؤون الدولة المترامية الطرف التي تعتمل فيها على الدوام عوامل الفتن والتمرد، لذلك أوعز أبو العباس السفّاح لوزيره أبي مسلم الخراساني أن “اقتل من شَكَكتَ فيه”. وغدت هذه الوصيّة سيفاً مُسلطاً على الرقاب إذ استعان بها أبو مسلم لقتل بعض نقباء الدّعوة العبّاسيّة نفسها من الذين شاء التخلّص منهم سواء لعطفهم على العلويّين أو لعلوّ شأنهم “ وأصبح العلويّون ــ وهم ذريّة علي بن أبي طالب ــ هم الخصوم الجدد لبني العباس الذين سرقوا منهم دعوة الخلافة والثورة على الأمويين بالخديعة والعنف”3.
في ذلك الزّمن المفعم بالقمع، زمن الخليفة المنصور باني العاصمة بغداد؛ قدم إليه رسول لملك الروم، فكلّف الخليفة أحد أتباعه الخلصاء “عُمارة بن حمزة” لمرافقة الرّسول المهتم بزيارة بعض معالم المدينة الناشئة، وعندما كان الرّجلان يعبران على جسر الرّصافة استرعى انتباه الرّومي فقراء يستعطون (شحّاذون)، فقال لِعُمارة “إنّي أرى عندكم قوماً يسألون، وكان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤونتهم “4.
وقد عرفت بغداد في تلك الفترة عدداً لا يحصى من طوائف العيارين والشطّار والصّعاليك5 وأهل الكدية وهم نتاج لفساد الحياة الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية في العصر العباسيّ.
ولئن كان الناس قد أمِلُوا خيراً بالخلاص من دولة بني أميّة فقد

رسم تخيلي لإبن المقفع
رسم تخيلي لإبن المقفع

خابت آمالهم في الدولة الجديدة وحَنّوا لمظالم الأمويين حيال ما نالهم من خيبة في ظلّ بني العباس حتى قال الشاعر في ذلك:
يا ليتَ ظُلمَ بني مروانَ دامَ لنا وليتَ عدلَ بني العباسِ في النار

مولدُه ونشأتُه
لا يوجد دليل يقيني يوضح تاريخ مولد ابن المقفع، وبحسب البلاذُري أنه، ولد عام 80 هـ في قرية جور (فيروز أباد الحاليّة) القريبة من مدينة شيراز، ومعنى اسمه بالفارسيّة “المبارك.
لقِّب والده بـ “المقفع” لأنه اتهِم بِمّدَ يده واختلاس أموال المسلمين والدولة الإسلامية، لِذا نكّل بِه الحجاج بن يوسف الثقفي وعاقبه فضربه على أصابع يديه حتى تشنجتا وتقفَّعتا (أي تورمتا واعوجت أصابعهما ثم شُلَّت). وقال ابن خلكان في تفسيره: كان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولّى داذويه خراج فارس، فمدّ يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفَّعت يده فقيل له المقفع[3]، وقيل انه سمي بالمقفع لأنه يعمل في القِفاع[3] ويبيعها، ولكن الرأي الأول هو الشائع والمعروف وعلى أساسه عرف روزبه بابن المقفع4.
وهكذا ورث الابن اسم عاهة أبيه وإليها نُسِب. وفي رواية البلاذُري أنّ ابن المقفّع في شبابه المبكّر عمل على خراج بعض كُوَرِ (نواحي) دجلة في خلافة سليمان بن عبد الملك (عصر بني أميّة) الذي امتدّت خلافته من عام 96 إلى عام 99هـ وهذا يدلّنا على أن روزْبِه كان يتمتّع بمواهب خوّلته لعمل يجمع بين مهارة الحساب ومهارة الكتابة، كما عمل كاتباً لـ يزيد بن عمر بن هُبيرة، وكان والياً على كِرمان في عهد مروان بن محمّد، آخر خليفة أموي ثم كتب بعد ذلك لابنه داود الذي قُتل في خلافة السفّاح، كما قُتِل أبوه يزيد وأخوه إبراهيم ووجوه قادتهم على الرّغم من الأمان الذي منحه الخليفة المنصور لآل هبيرة، وكتبه بخط يده وجعل قُوّاده شهوداً عليه6.
ويعقّب أحمد عُلَبي على مقتل كثيرين ممّن شغلوا أعمالاً لدى بني أميّة ومنهم صديق ابن المقفّع الحميم عبد الحميد بن يحيى الكاتب، ونجاة ابن المقفع فيقول: “أمّا كيف سَلِمَ ابن المقفّع فهذا من جملة الأمور التي لم تنفرج لها شفتا التاريخ عن جواب مقنع يشفي منّا الغليل”.

صفاته
عُرِف عبد الله بن المقفع بذكائه وكرمه وأخلاقه الحميدة، وكان له سعة وعمق في العلم والمعرفة، ما جعله من أحد كبار مثقفي عصره، حيث تقوم معارفه على مزيج من عدة ثقافات هي العربية والفارسية واليونانية إضافة إلى الهندية، ولا يخفى الأثر الطيِّب لهذه الثقافة الموسوعية إذا تصفّحتَ مؤلفاً من مؤلفاته، إذ تنهال عليك الحكمة من بين الأسطر، وتنعم بالأسلوب السلس، والذوق الرفيع.
وكان ابن المقفع ملماً بلسان العرب فصاحةً وبياناً، وكاتباً ذا أسلوب، وذلك لنشأته في ولاء آل الأهتم، ووصف بمنزلة الخليل بن أحمد بين العرب في الذكاء والعلم، واشتهر بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب، والتشدد في الخلق وصيانة النفس. ونستطيع أن نعرف عنه صدقه من خلال كتاباته وحبه للأصدقاء حتى قال: “إبذل لصديقك دمك ومالك”.

إسلامه
اتصّل ابن المقفّع برجال الدّولة الجديدة بعد سقوط الأمويين، وكتب لعيسى بن عليّ عمّ المنصور، ولزم بعض بني أخيه إسماعيل ــ عم آخر للمنصور ــ يؤدّبهم ويشتغل بتعليمهم وتثقيفهم ثمّ كتب أيضاً لسليمان بن عليّ عمّ المنصور واعتنق الإسلام، وقد روي في ذلك أنّه بينما كان يمشي ذات يوم في طريق ضيّق إذ سمع صبيّاً يتلو بصوت مرتفع قوله تعالى: “ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً…” فوقف مُنْصِتاً حتى أتمّ الطفل قراءة السورة، ثمّ قال في نفسه: “الحقّ أنه ليس هذا بكلام بشر”، ولم يلبث بعدها أن ذهب إلى عيسى بن علي وقال له: “لقد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يديك”. فقال له عيسى: “ ليكن ذلك بمحضر من القوّاد ووجوه النّاس، فإذا كان الغد فاحضر”، ثمّ حضر طعامٌ لعيسى عشيّة هذا اليوم، فجلس ابن المقفّع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: “أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟” فقال: “كرهت أن أبيت على غير دين”، فلمّا أصبح أسلم على يده ــ وسمّي عبد الله ــ وصار كاتباً له واختصّ به7.

هل كان زنديقاً؟
لم تثبت تهمة الزندقة بأي حال على عبد الله ابن المقفّع، ولا يوجد في كل آثاره المكتوبة ما يدل دلالة صريحة عليها، لكن كثيرين أظهروا شكوكاً في صدق إسلامه فهو قلما يعود إلى أحكام الإسلام أو إرثه الواسع في شرح أخلاقياته على رغم الثروة الهائلة التي تضمنها الإسلام في الكتاب والسنة وأخبار الصحافة والتابعين. وهو سئل مرة من أدبّك؟ فأجاب على الفور: “نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحاً أبَيْته” وهذا من المفارقات لأن المسلم المؤمن غالباً ما يعتبر الإسلام الهداية التي بدلت حياته وأصبحت قانون سلوكه. واعتبر البعض أن ابن المقفع وإن لم يظهر الزندقة فإنه اعتنق الإسلام تقيّة ومن أجل تأمين حظ له في العهد العباسي الناشئ وإن قلبه بقي بالتالي متعلقاً سراً بالمجوسية، كما إن اهتمامه الشديد بالتراث الفارسي لم يكن سببه فقط انتماءه إلى ذلك التراث بل افتخاره الشديد به وشعوره الضمني أن الحضارة الفارسية التي تركها مكرهاً بسبب اعتناقه الإسلام وغيرها من المراجع اليونانية أو الهندية التي استعان بها ربما تفوق الإسلام في مضمونها، وبهذا المعنى فإن نشر ذلك الكم الكبير من التراث الفارسي كان من قبيل “المقاومة السلبية لصعود وغلبة الإسلام، وذلك عبر التذكير بمجد فارس وإظهار الحنين الضمني إلى تلك الحضارة التي قضى عليها الإسلام بعد الفتح.

نكبته
هناك إجماع على أنّ قاتله المباشر هو سفيان بن معاوية بن المهلّب بن أبي صُفرة والي البصرة من قبل الخليفة المنصور، وهو الذي خلف سليمان بن علي العباسي عمّ المنصور عليها، وكانت بين ابن المقفع وسفيان بن معاوية عداوة متأصلة نسجت حولها الأقاويل منها أن ابن المقفع كان يحتقر سفيان وأنه في مرة سبّ أمه، وأنه كان يسخر من ضخامة أنفه ويسلم عليه بالقول: السلام عليكما (أي السلام عليك وعلى أنفك الكبير) وغير ذلك لكن ابن خلّكان يعقب على هذه الروايات بقوله : “يخالجنا الشعور بأن ّهذه الرّوايات يخالطها الغلوّ، فكيف يعقل أن يصدر هذا الكلام عن إنسان عرف بأخلاقه الدمثة، ثم كيف يعقل أن يكون والي البصرة رجلاً حاكماً على هذا النّحو “الكاريكاتوري” بحيث يرضى الاستخفاف بشخصه وبالإهانة الواضحة تلحقه من غير أن يحرّك ساكناً في حينه؟” أي أن هذه الروايات تناقض أخلاق ابن المقفع واتزانه، لكن ربما نسجتها مصادر عباسية لتجعل مقتل هذا المفكر الجريء “حادثاً شخصياً” ناجماً عن ثأر أو ضغينة؛ وبذلك تخفي الأسباب السياسية لمقتله وتحطّ من قيمة موته في الوقت نفسه.
إن أكثر المؤرخين المتابعين يردون مقتل ابن المقفع لعلاقته بأعمام الخليفة المنصور الذين أعلن أحدهم وهو عبد الله بن علي الثورة على المنصور إثر موت السفاح معيناً نفسه خليفة للمسلمين، وقد سارع أبو جعفر المنصور إلى تجهيز جيش كبير فهزمه واضطره

كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس
كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس

للإلتجاء إلى شقيقيه علي وعيسى في البصرة. تبعت ذلك مساع من عدة جهات لأخذ الأمان من قبل المنصور لعمه عبد الله وكان ابن المقفع يومها كاتباً عند المنصور وقد نسب إليه أنه هو الذي أعدّ كتاب الأمان الذي طلب من الخليفة إعطاءه لعمِّه والإشهاد عليه، وكان كتاباً محكماً مُلئ بالشروط القاسية.
وممّا جاء في كتاب المقالات للنّوبختي أنّ ابن المقفّع ردّ سبعين أماناً أرسلها المنصور لعمّه ناصحاً موكّله برفضها لمآخذه عليها ولعدم احتوائها على ضمان الأمان بصورة مرضية من المنصور، وقيل أيضاً إن أحد أسباب إيعاز الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع كتاباته الجريئة ولاسيما كتبه “رسالة الصحابة” التي وجّهها ابن المقفع ضمناً إلى الخليفة المنصور محملاً إياها بالنصائح حول كيفية سوس الرعية وإقامة العدل وما إلى ذلك من أدبيات السياسة المستقاة من التراث الفارسي لكن التي وجد فيها المنصور تجرؤاً على سلطانه في مرحلة دقيقة كانت تشهد توطيد أركان الدولة العباسية والتعامل مع أعدائها الكثيرين.

نصّ الأمان الذي وقّعه المنصور لعمّه
ممّا جاء في نسخة الأمان التي وقّعها المنصور بخطّه: “وإن أنا نلت عبد الله بن عليّ أو أحداً ممن أقدمَهُ معه بصغير من المكروه أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سرّاً أو علانية على الوجوه والأسباب كلّها تصريحاً أو كتابة أو بحيلة من الحيل فأنا نَفِيٌّ من محمد بن علي (والد الخليفة) بن عبد الله مولود لغير رِشْدة (أي ابن زنا) وقد حلّ لجميع أمّة محمد خلعي وحربي والبراءة منّي ولا بَيعة لي في رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمّة وقد وجب عليهم الخروج من طاعتي وإعانة من ناوأني من جميع الخلق ولا موالاة بيني وبين أحد من المسلمين إلخ…وكتبت بخطّي ولا نيّة لي سواه، ولا يقبل الله منّي إلاّ إيّاه والوفاء به”. وقد جاء عند ابن خِلِّكان أنّ من جملة فصول الأمان هذا القول: “ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس (أي يبطل حقه في استخدامها لمصلحته الخاصّة وتصبح موقوفة في سبيل الله) وعبيده أحرار والمسلمون في حلٍّ من بيعته”.

المنصور يغضب على كاتب نص الأمان
يروي ابن النديم في كتابه “الفهرست” أنّ المنصور سأل عمّن صاغ نصّ الأمان، فقيل له “إنّه ابن المقفّع كاتب عمّه عيسى بن علي، فأحفظ ذلك أبا جعفر لأنّ ابن المقفّع تصعّب في احتياطه فيه، فقال أبو جعفر : “ فما أحد يكفينيه!” وهذا الكلام ظاهر في تحريضه على قتل ابن المقفّع.
ويرى أحمد علبي أنّه جدير بنا أن لا نبالغ في أمر هذا الأمان، بحيث نجعله السبب المباشر الوحيد لمصرع ابن المقفّع فإنّ تحرير الأمان حدث في السنة 139هـ وفيها عُزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة وتولّى مكانه سفيان بن معاوية في حين أنّ ابن المقفّع قُتِل في السنة 142هـ.
ويعرض علبي لرأي باحث حديث هو محمد غفراني الذي يرى أنّه لو كان الأمان سبباً مباشراً لتبرير مقتل ابن المقفّع لما صبر المنصور عليه هذه السنوات، ثم إنّ المنصور يعلم أنّ ابن المقفع كان كاتباً منفّذاً لرغبات أعمامه، فالمنصور كان قادراً على الصّبر ثلاث سنوات حتى يتخلّص من ابن المقفع وقد صبر على عمّه عبد الله بن علي قرابة عشر سنوات حتى فاز به وقتله مع ما لهذا الرجل من خطورة عسكريّة، ثمّ إن الاجتهاد القائل بأنّ ابن المقفع كان مجرّد منفذ لرغبات غيره لا يحرّره تماماً من مسؤوليته في صياغة الأمان كما إنّ حاكماً شديداً كالمنصور لم يكن في نظرنا ليأخذ القضيّة بهذه السهولة المنطقيّة بأن ابن المقفّع كان مجرّد طائع لطلب أولياء نعمته، كما إنّ ابن المقفع لم يكن شخصاً مجهولاً لدى المنصور فقد اشتغل كاتباً عنده، وكان بعيد الشّهرة كمترجم وأديب، وهو رجل مجتمع ما دام أنّ جلساءه في البصرة كانوا من عيون القوم، لذا فالمنطق يقودنا إلى أن نحكم على مسؤوليّة ابن المقفّع في كتابة الأمان من خلال ماضيه كأديب منظور، لا أن نجعل من كتابة الأمان حادثاً منفرداً.

دور أبو أيوب المورياني
وهناك إلى جانب المنصور الذي لم يكن يقبل أيّة معارضة مهما كان شأنها، وفضلاً عن سفيان بن معاوية والي الخليفة، هناك شخص آخر ينبغي تسليط الضّوء عليه هو “أبو أيّوب الموريانيّ” وكان هذا رئيس الدواوين عند المنصور ثمّ وَزَر له، لم يكن عربيّاً وقد وصل إلى هذه المرتبة الكبرى في زمن قصير، وكان مُلِمّاً بعلوم كثيرة، إلاّ أنّ ثقافته الفقهيّة لا يؤبه لها. كان أبو أيّوب يخشى أن يزاحمه أحد على رئاسة الدواوين، وكان بطبعه متشكّكاً طمّاعاً وذا سطوة، فاصطدم بكتّاب كبار في الدّولة وسعى لإطاحة كلّ منافسٍ مُحتَمل كـخالد بن برمك. والواقع أنّ آل المورياني أضحَوْا عائلة حاكمة إذ تولّى أبو أيّوب وأخوه وأبناء أخيه المناصب الكبرى، وقد شُبّهت نكبتهم التي حدثت في السنة 153هـ بنكبة البرامكة، وكان من أبرز منافسي أبي أيوب كاتبنا ابن المقفّع.
وروي أنّ المنصور أنكر شيئاً على أبي أيّوبَ فقال له: “كأنّك تحسب أنّي لا أعرف موضع أكتب الخلق وهو ابن المقفّع مولاي؟” 8 فلا شك أنّ قولاً كهذا كان كفيلاً بإثارة حفيظة أبي أيّوب على ابن المقفّع الذي سبق له وشغل عند المنصور مركز الكاتب الخاص، وكان الخليفة شديد الإعجاب بمؤهِّلاته، وهذه، في رأينا شهادة لها قيمتها، لأنّ المنصور شخصيّة تدرك أقدار الرّجال، لذا كان أبو أيوب يتحيّن الفرصة للإيقاع بابن المقفّع، فكانت مناسبة كتابة ابن المقفع الأمان المعروف التي استغلّها أبو أيوب ليوحي إلى المنصور ويحبّب إليه فكرة قتل ابن المقفّع فرضي بها، وإذا بأبي أيوب يوصل بواسطة أحد مواليه إلى سفيان بن معاوية أنّ قتل ابن المقفع ليس بالأمر الذي يسيء إلى الخليفة، فوافى هذا الخبر لدى سفيان نفساً راغبة فيه فكان ما كان.
إزاء ما يولّده تعدد الرّوايات في السبب الرئيسي لمقتل ابن المقفع

رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور
رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور

يقول علبي: لنا أن نتساءل عن السبب الذي أدّى إلى مقتل ابن المقفّع: أهو كتابته الأمان الشديد اللّهجة المُحْكم الحلقات الذي دبّجه بناء على رغبة عيسى بن علي؟ أم هي الضّغينة المستعرة في صدر والي البصرة على كاتبنا الجريء؟ أم إنّها الرّسالة الخيّرة، “رسالة الصّحابة” التي خاطب بها أمير المؤمنين في كثير من الدّهاء والحِنكة والشّجاعة،؟ أم تُرى أنّها تلك التّهمة الموضوعة قيد الاستهلاك، تهمة الزّندقة التي كان يُرمى بها المُصلحون أحياناً في عصره، ولكلّ عصر تُهَمُه المجهّزة لمحاربة صُنّاع الفكر والحياة. ويقرر أحمد علبي فيقول: “الرّأي عندنا أنّ الموقف الإصلاحيّ الذي اضطلع به ابن المقفّع في حياته هو سبب مصرعه، وها هي مؤلّفاته ومن ضمنها “رسالة الصّحابة” تشهد أنّه لم يهادن، في وقت لملم فيه بعض الفقهاء البارزين أنفسهم وولّوْا منزوين في بيت أو صَومعة، ضنّاً منهم بأجسادهم من أن تُجلد، أو بأرواحهم من أن تُزهَق؛ لقد آثروا السّكوت على الجهر والمصانعة على الصّراحة، أمّا الزندقة فقد توسّل بها الحكّام أحياناً كتهمة للإيقاع بخصومهم السياسيين.
لقد وجد المنصور في سفيان بن معاوية بعد ذلك بسنوات كفاءة إجراميّة للتخلّص من رجل يزعج الدّولة بآرائه و”يحرّض” الناس على الفضيلة والاستقامة وطلب العدل وسيادة الشرف دون الغدر والاغتيال. إنّه عنصر غير مرغوب به! ولنا في التاريخ العباسي أمثلة منها ملاحقة المعتزلة بعد الخليفة المأمون وتعرّضهم للقمع والاضطهاد والقتل. وليس بغريب على المنصور أن يتخلّص من ابن المقفّع فهو صاحب تاريخ في هذا الميدان وروى الطبري في تاريخه “ج8 ص 86”، أن المنصور تخلّص من محمد بن أبي العباس بواسطة “الخصيب” المتطبب الذي سقاه دواء مسموماً، وتخلّص من الشاعر سُدَيف بأن أمر أحد عمّاله فدفنه حيّاً ولمّا مات المنصور ترك لابنه المهديّ مفاتيح أحد الأبنية وكان قد شرط ألّا يُفتح إلّا بعد موته، وعندما اخترم الموت المنصور فتح المهديّ باب هذا البناء الكبير فعثر فيه على جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال ورجال شباب، ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهديّ ارتاع لما رآه وأمر فحُفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها.
يقول محمد فريد بن غازي: “عرف ابن المقفع كيف يؤدّي على حساب حياته الخاصّة الرّسالة الفلسفية التي صاغها الفيلسوف الهندي بيدبا لعدة قرون قبله. لقد عرف كيف يؤدي هذه الرسالة حتى النهاية.

آثاره
إنّ الأثر الكتابيّ الوحيد الذي لا يخالطه اقتباس أو ترجمة لابن المقفّع هو “رسالة الصحابة” بالإضافة إلى متفرّقات ثانويّة من تحميد أو تهنئة أو تعزية، ولكنه خلّف لنا كتباً تترجّح بين الاقتباس والتّرجمة منها “الأدب الصّغير” و “الأدب الكبير” وهما عند التدقيق يتضمنان اقتباسات من الآداب القديمة الهنديّة والفارسيّة والإغريقيّة. ورسالة “الأدب الوجيز للولد الصغير” وكتاب “الدرّة اليتيمة”، وقد ضُرِب به المثل في البلاغة، ويعتبر ابن المقفّع في رأس الطّبقة الأولى من الكتّاب العرب والفرس الذين أدركوا دولة بني العبس، و”زعيم كتاب الفرس والعرب “9.
وهو لم يمارس التّرجمة في فنّ واحد، بل وَردَ غير ينبوع من ينابيع المعرفة فتعدّدت موضوعاته بين حِكَميّة وتاريخيّة وحقوقيّة ودينيّة وفلسفيّة. ففي الحكمة؛ وهنا لا بد من ذكر “كليلة ودمنة” و “كتاب مزدك”، الذي يبدو أنه نوع من الأمثال.
وفي التاريخ، نقل ابن المقفع كتاب “خداينامه”، ويتضمّن تاريخ إيران منذ البدء وحتى نهاية الساسانيين، ومن مترجماته “كتاب التاج في سيرة أنو شروان” وكتاب التاج أو “تاجنامة” يدور على أحوال ملوك الفرس وأساليبهم في الحكم، وأقوالهم ورسائلهم ومراسلاتهم، كما نقل كتاب “آيين نامة”، أي كتاب الآداب والقواعد

الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه
الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه

والتقاليد وتربية النفس وكتاب “السكيسران” وكتاب “تَنْسَر”، وهذا الكتاب أقدم نص عن النّظم الفارسيّة قبل الإسلام.
وينسب المسعودي إلى ابن المقفّع أنّه نقل إلى العربيّة بعض كتب “ماني” و “ابن ديصان” و “مرقيون” وهذان الأخيران من الفلاسفة القدامى وقد عاشا في إيران وبلاد ما بين النهرين، وهما على المسيحية المتلقّحة بأفكار الحكيم الفارسيّ “ماني” ولعلّ هذا ما سهّل على خصومه اتّهامه بالزندقة، كما قيل إنّ ابن المقفّع نقل بعض كتب أرسطو من البهلويّة إلى العربيّة، وذكر بعضهم أنّ ابن المقفع اختصر هذه الكتب اليونانيّة، وقد ذهب محمد بن غازي إلى أنّ ابن المقفّع عرف الفارسيّة والعربية والسّريانيّة والعبريّة وربّما اليونانيّة.
وعموماً، فإنّ الرّجل كان يعبر في كتاباته عن حسّ اجتماعيّ إصلاحيّ كما يرى أحمد علبي، فرسالته “رسالة الصّحابة” موجّهة بالنّصح رأساً إلى أمير المؤمنين وتتميّز بالبحث في أمور سياسيّة واجتماعيّة، فنحن حيال أدب سياسي وفكر اجتماعي وهو نوع مبتكر جريء لا نعثر على نظيره إلاّ في عصر تالٍ لعصر ابن المقفّع. ويرى طه حسين في “رسالة الصّحابة” أنّها توشك أن تكون برنامج ثورة10، ويرجّح أن تكون هي التي قتلته..
فالمنصور كان خليفة قاسياً وكان يهمّه أن تُغلق الأفواه فلا تمتد الألسنة إلى الجهر، ولا حرج في أن يتحدّث الأدباء بأخبار الجاهليّة وقصصها فهي تروق لأبي جعفر لأنّها تحمل سامعيها على المهاجرة والتعزّي وإغماض العيون عن الواقع الرّاهن والغيبوية طيّ ماض مُسَلٍّ! أمّا أن ينبري مفكّر كابن المقفع ليوجّه وينصح في مشاكل اجتماعيّة وقضايا فقهيّة وأمور سياسيّة فهذه جراءة لأنّه يمشي في سبيل غير مطروق ولربّما حملت العدوى غَيْرَه على أن يعبّروا.

يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية
يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية

المنصور وابن المقفّع، منطلقان ضدّان
لقد وافت رسالة الصّحابة لابن المقفّع رجلاً صعباً، شديد المراس لا يمكن أن يكون للشورى الحقّة سبيل إلى نفسه ومزاجه، فعداوته مُرّة ومن يدلي برأي فكأنّما يفتئت على سلطانه ويشجّع الآخرين على نقض طاعته والمنصور شديد الحساسيّة بالنسبة إلى موضوع الطاعة، فهو يرى أنّ الرّعيّة لا تصلح إلاّ بها، يقول المنصور في خطبة له عَقِبَ قتل أبي مسلم الخراسانيّ : “أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وَحشة المعصية… إنّه من نازعنا عُرْوة هذا القميص (يقصد سلطة الخلافة) أجزرناه خَبِيّ هذا الغمد (يقصد: قتلناه بنصل السيف).
وهكذا كان المنصور صارماً جادّاً، فهو من الرجال البناة، ويمتاز بصفات لا نعتقد أنّ ابن المقفّع يُغفل قيمتها، فهذا الخليفة لم يعرف اللّهو سبيلاً إليه قطّ، يأخذ الحكم مأخذ المسؤوليّة، وقد عزل أحد ولاته في حضرموت لأنّه كان يتلهّى بالصّيد! ، فهو حاكم يصرف وقته بالعمل وينظر في أمور هذه الدولة الكبرى فلا يهمل شيئاً من نفقاتها ومتطلّبات أمنها، ويذكر الطبري في تاريخه أنّ ولاة البريد كانوا يكتبون إليه كل يوم بأسعار المأكولات ويطلعونه على الأنباء السياسيّة والقضائيّة والماليّة والأحداث المختلفة وكان يكره التبذير، فحافظ على أموال الدولة لأنّها حصن السلطان ودعامة الدين والدنيا وعزّهم…
ولو قدّر لابن المقفّع أن يَلِجَ تلك الحُجَيْرة التي كان يبيت فيها المنصور لعجب من زهد صاحبها بمتاع الدّنيا، إذ لن يعثر فيها إلاّ على فراش المنصور ومرافقه ودثاره وهو سيزداد عجباً عندما يعلم أنّ المنصور لا يستنكف وهو الخليفة ظل الله على الأرض عن ارتداء جُبّة مرقوعة وقميص مرقوع، بل إنّه يأمر بضرب كاتب لأنّه يسرف على نفسه فيلبس سراويل من الكَتّان11..

رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد
رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد

وهناك صفة في المنصور قلّما وقف عندها الدارسون وهي أنّه خطيب من الطراز الأوّل مفوّه طلق اللسان قويّ العبارة حسن القافة وهو في رأينا تكملة عبّاسيّة لتلك السلسلة الذهبيّة من خطباء العهد الأموي. هذه الخصال لا نظنّ أنّ مُصلحاً كـ “ابن المقفّع” يتغافل عن جوهرها إذا ما تحلّى بها حاكم يسوس الناس ولا يغمض الجفن عن أشجانهم، لكنّه فضلاً عن هذه الصفات كان ثعلبة داهية ماكراً دمويّاً ونعتقد أنّ آراء صحابته الذين خبروه عن كثب قدّموا أوضح شهادة في شخصه. قال عثمان بن عُمارة “إنّ حشوَ ثياب هذا العبّاسيّ لمكرٌ ونُكرٌ ودهاء”. لقد كان ابن المقفّع يأمل أن يكون المنصور مُصلحاً اجتماعيّاً لهذه الإمبراطوريّة لكن الكثير من تلك المفاهيم التي طرحها ابن المقفّع في “رسالة الصّحابة” والتي اقتبسها من معين التقاليد الفارسيّة واقترحها على الخليفة المنصور في مطالع عهده كانت سابقة لأوانها بل ربما غير مناسبة لدولة في مرحلة التأسيس تعلي شأن الطاعة ومصلحة الدولة على هذا النوع من النصح أو الوعظ للسلطان.

شهادة في كليلة ودمنة
يقول الدّينوَري في “الأخبار الطّوال”، إنّ “كسرى أبرويز” بعث إلى “بهرام” الخارج على الدولة رجلاً من ثقاته ليستطلع أمره، فكان ممّا أخبره الرسول أنّ بهرام يطيل النظر في كتاب كليلة ودمنة فقال كسرى أبرويز: “ما خفت بهرامَ قط كخوفي منه السّاعة حين أُخبرت بإدمانه النّظر في كتاب كليلة ودمنة؛ لأن قراءته تفتح للمرء رأياً أفضل من رأيه، وحزماً أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن”.

رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة
رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة

 

غزوة بدر

غزوة بدر الكبرى

الموقعة التي غيّرت وجه التاريخ

لا الله الا الله
لا الله الا الله

 

 

مهّدت لسقوط مكّة بعد ست سنوات وفارس والعراق بعد 10
وسقوط الحكم الرومي في بلاد الشام ومصر وفلسطين

الرسول أدخل في بدر لأول مرة تكتيك القتال بالصفوف
والدفاع بدل الهجوم وكان لقيادته أثر السحر في المجاهدين

توافق جميع المؤرخين، وليس المؤرخون المسلمون فقط، على اعتبار موقعة بدر أو غزوة بدر الكبرى التي حصلت في السنة الثانية للهجرة الحدث الذي غيّر وجه التاريخ البشري بكل معنى الكلمة. فلقد خرج الرسول (ص) والمسلمون إلى تلك الغزوة وهدفهم المباشر الإستيلاء على قافلة تجارية ضخمة لقريش عائدة من بلاد الشام ويقودها الزعيم القرشي أبو سفيان بن حرب، وخرج المسلمون لأول مرة بقوة كبيرة فاقت الثلاثمائة مقاتل بسبب المعلومات التي وصلتهم عن وجود 40 مقاتلاً من قريش يحرسون القافلة من أي اعتداءات محتملة، لكن قائد القافلة أبو سفيان كان من الخبرة والفراسة بحيث تمكّن من كشف نيّة القوة الإسلامية المغيرة وحوّل طريق القافلة ساحلاً وتمكن بالتالي من إيصالها بسلام إلى مكة، لكنه وبينما كان يناور بالقافلة بهدف

رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال
رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال

إنقاذها أرسل على عجل إلى مكة أحد رجاله لينذر أهلها بالخطر القادم ويحثهم على إرسال نجدة ضخمة يمكنها أن تواجه جيش المسلمين. وبالفعل استنفرت قريش وأرسلت جيشاً كبيراً يضم خيرة فرسانها وقادتها لمواجهة حاسمة مع المسلمين.
المفارقة هي أن أبا سفيان أرسل إلى قريش طالباً من القوة العودة إلى مكة على اعتبار أن القافلة وصلت الحمى بأمان، لكن أبا جهل كان مصراً على قتال المسلمين خصوصاً بعد أن بلغه الفارق الكبير في القوة بين الجيشين لصالح قريش، كما إن حكيم قريش عتبة بن ربيعة وافق أبا سفيان بضرورة عودة الجيش إلى مكة واجتناب سفك الدماء وهو حذر قومه بالقول: “يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا”.
رغم كل تلك النداءات مضت قريش إلى المواجهة معتدّة بقوتها وفرسانها وأموالها لتلقى على يد المسلمين الفقراء هزيمة نكراء قضت على 70 من صناديدها وأعطت المؤمنين والرسول (ص) نصراً عزيزاً قلب موازين القوة ومهّد لانتصار المسلمين وانتشار الإسلام في زوايا المعمورة بأسرها.
لهذا السبب، اعتبرت غزوة بدر من الأحداث التي غيّرت مجرى التاريخ، أي أنها في حدّ ذاتها كانت غزوة عادية وموقعة بين المسلمين والمشركين لكنها بسبب التوقيت الذي حصلت فيه وحجم الهزيمة التي لحقت بقريش تحوّلت إلى شرارة لأحداث هائلة لم تكن ربما في حساب المسلمين أنفسهم. ومن الأمور اللافتة أن الله سبحانه أطلق على نصر بدر في القرآن الكريم وصف “يوم الفرقان” وهو اليوم الذي فرّق به الله تعالى بين عالم قديم متخلف وبين مشروع الدولة الإسلامية التي أرست غزوة بدر قواعدها على أسس من العزة والهيبة والثقة بالنفس.
ولنذكر أن غزوة بدر حصلت يوم 17 رمضان وبعد سنتين من هجرة الرسول (ص) والمسلمين من مكة إلى المدينة نتيجة اضطهاد لا يطاق من قريش وقيام المجتمع الإسلامي الصغير في مدينة يثرب وسط قبيلتي الأوس والخزرج وعشائر اليهود. يومها كان الرسول (ص) قد بدأ يشن من قاعدته في المدينة نوعاً من حرب استنزاف لقريش من خلال سلسلة من الغزوات التي استهدفت إرهاق تجارتها والاستيلاء على بضائعها بهدف تمويل اقتصاد المدينة المتواضع والقيام بحاجات المجتمع الإسلامي الناشئ، لكن تلك الغزوات كانت معزولة وضعيفة الأثر باستثناء غزوة مهمة حصلت قبل قليل من موقعة بدر وسميت “سريّة نخلة” وقد حصلت في آخر يوم من رجب للسنة الثانية من الهجرة على مسافة بعيدة من المدينة المنورة وقريبة من عقر دار قريش مكة، وقد تميّزت الغارة بجرأة كبيرة وأدت لأول مرة إلى مغانم مهمة للمسلمين وقتل فيها أحد الحراس الأربعة للقافلة وأسر اثنان وفرّ الرابع. وبالنظر إلى التحدي الذي حملته الغزوة فإنها أحدثت توتراً غير مسبوق في قريش ودخل اليهود الذين كانوا متضايقين من وجود المسلمين في المدينة على خط تحريض قريش على الانتقام للغزوة وإخراج محمد (ص) أصحابه منها.

وبصورة عامة، فإن وضع المسلمين في المدينة، بعد سنتين من الهجرة، لم يكن مستقراً لأنهم كانوا لا يزالون أقلية وسط قبيلتي الأوس والخزرج وقبائل اليهود، وكانت قريش في مكّة في أوج قوتها وقبائل الأعراب تحيط بالمدينة من كل جانب، وهذه الأخيرة كانت تعيش قبل ذلك على الإغارة والسرقة، إلا أن قيام مجتمع إسلامي في المدينة حدّ من نشاطها وأثّر عليها اقتصادياً.
وبصورة عامة، فقد كان المسلمون يتحلّون بإيمان لا حدّ له وولاء مطلق للرسول (ص)، لكنهم كانوا لا يزالون بعيدين عن أن يصبحوا قوة يحسب حسابها ويمكن أن تبدّل واقع الجزيرة العربية، لكن المسلمين حالفهم التوفيق بسبب غرور القوة الذي كان يسيطر على قريش باعتبارها القبيلة الكبرى في الجزيرة، وبسبب عدم تقدير تلك القبيلة المنيعة لخطر الثورة الأخلاقية والروحية التي كان يحملها الإسلام، لذلك استهانوا بالرسول (ص) وصحابته وقتاً كان كافياً لتعاظم قوة المسلمين وتحولهم في وقت لاحق إلى تهديد لم يعد في إمكان قريش ردِّه أو حتى إنقاذ نفسها من سيله العرم.

رسم توضيحي لغزوة بدر
رسم توضيحي لغزوة بدر

تكتيك حربي غير مسبوق

ابتكر الرسول (ص) في قتاله في يوم بدر أسلوباً جديداً في مقاتلة الأعداء، لم يكن معروفاً من قبلُ عند العرب، إذ قاتل بنظام الصفوف، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في سورة الصف في هذه الآية: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ{ (الصف:4) وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة، وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعاً لقلة المقاتلين أو كثرتهم، وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، واتبع الرسولُ (ص) أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده سبباً في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر على العدو برغم تفوقه الكبير عدداً وعِدّة.

نصر يبدّل الموازين
لكن كيف تحول مشروع غزو لقافلة تجارية إلى معركة عسكرية تواجهت فيها لأول مرة على نطاق كبير جماعة المؤمنين المستضعفة مع سلطان قريش؟ لقد خرجت أكبر قبائل العرب بقضها وقضيضها لمواجهة المسلمين، أما هؤلاء فرغم أنه كان في إمكانهم حشد جيش كبير فإنهم قدموا في ثلاثمائة رجل فقط وفرسين على اعتبار أن ذلك العدد كاف للسيطرة بسهولة على قافلة أبي سفيان، كما إنهم اصطحبوا معهم سبعين بعيراً كانوا يتناوبون ركوبها بينما يتابع الباقون الرحلة سيراً على الأقدام. لقد جاء المسلمون للغزو ولم يكونوا يتوقعون مواجهة عسكرية مع أقوى قبائل العرب.

تفوق قريش عدداً وعدّة
علم الرسول الكريم بنجاة قافلة أبي سفيان كما إنه علم بأمر الجيش القادم لقتال المسلمين وكان يمكن للمسلمين في ضوء ذلك أن يقرروا أن الغزوة فقدت مبررها وأن يعودوا بالتالي إلى المدينة بدل المواجهة، لكن الرسول (ص).قرر استشارة أصحابه في الأمر وبدأ بالمهاجرين الذين أجمعوا على الفور على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو، ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب والمقداد بن الأسود، إذ قال المقداد بن الأسود (وهو من الصحابة المهاجرين) للرسول (ص): “يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: }قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{ ولكن امضِ ونحن معك”. إلا أن هؤلاء القادة الثلاثة الذين تكلموا كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب الرسول (ص) أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، فقال: “أشيروا عليَّ أيها الناس”، وقد أدرك الصحابي الأنصاري سعد بن معاذ (وهو حاملُ لواء الأنصار) مقصد الرسول من ذلك، فنهض قائلاً: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله”، فقال الرسول (ص): “أجل”، قال:“لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد”.

الرسول (ص) أمر بقتل اثنين من قادة قريش الأشد عداء للإسلام وقبل فدية أسرى آخرين ودفع بالباقين إلى أهل المدينة وأوصى بهم خيراً

وقام سعد بن عبادة، فقال: “إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا”، فقال الرسول(ص): “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم”.

التحضير للمعركة
بعد قرار المسلمين مواجهة قريش بدأ الرسول (ص) الاستعداد للمعركة فدفع لواءَ القيادة العامة إلى مصعب بن عمير، وكان هذا اللواء أبيض اللون، وقسّم جيشه إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علياً بن أبي طالب (ع) وكتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعداً بن معاذ وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن الأسود- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده هو.
كان قوام جيش قريش نحو ألف مقاتل، وكان معه حسب بعض الروايات مئة فرس وستمائة درع، وجِمال كثيرة لا يُعرف عددُها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل وهو عمرو بن هشام المخزومي القرشي، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل.1 وكانوا اصطحبوا معهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنّين بهجاء المسلمين.
وقبل وصول قريش إلى بدر قرر الرسول بناء على نصيحة أحد أصحابه السيطرة على ينابيع الماء بهدف منعها عن المشركين ثم اقترح سعد بن معاذ عليه بناء عريش له يكون مقرّاً لقيادته ويأمن فيه من العدو، فأثنى عليه الرسول ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش للرسول محمد على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر الصديق، وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون العريش.
وبدأ الرسول بالتحضير للمعركة، فصفَّ المسلمين مستقبلاً المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبل أعداؤه الشمس، أي جعل الشمس في ظهر جيشه وفي وجه أعدائه حتى تؤذي أشعتها أبصارهم، كما أخذ يعدّل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، ثم بدأ بإصدار الأوامر والتوجيهات لجنده، ومنها أنه أمرهم برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، وليس وهم على بعد كبير، فقد قال: “إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل”، كما نهى عن سلّ السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال: “ولا تسِلّوا السيوف حتى يغشوكم”، كما أمر الصحابةَ بالاقتصاد في الرمي، قال: “واسْتَبْقُوا نَبْلَكم”.
وكان لتشجيع الرسول لأصحابه أثرٌ كبيرٌ في نفوسهم ومعنوياتهم، فقد كان يحثهم على القتال ويحرضهم عليه، ومن تشجيعه أنه كان يبشر أصحابه بقتل صناديد قريش، ويحدد مكان قتلى كل واحد منهم، كما كان يبشر المسلمين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: “أبشر أبا بكر”، وقد دعا الرسول للمسلمين بالنصر فقال: “اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني”.

بداية المعركة
بدأت المعركة بخروج رجل من جيش قريش هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي قائلاً: “أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه”، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة وأثخنه في ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخُب رجلُه دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تُبَرَّ يمينُه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
وردّاً على ذلك، خرج من جيش قريش ثلاثة رجال هم: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة، ولكن الرسول أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، وقيل إن رجال قريش هم من رفضوا مبارزة هؤلاء الأنصار، فقالوا لهم: “من أنتم؟”، قالوا: “رهط من الأنصار”، قالوا: “أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا”، ثم نادى مناديهم: “يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا”، فقال الرسول محمد: “قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي”، وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى الرسول محمد، ولكن ما لبث أن تُوفّي متأثراً بجراحه، وقد قال عنه الرسول محمد: “أشهد أنك شهيد”.
ولما شاهد جيش قريش قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة غضبوا وهجموا على المسلمين هجوماً عاماً، فصمد المسلمون للهجوم وثبتوا في صفوفهم الدفاعية، وهم يرمون المهاجمين بالنبل كما

موقع معركة بدر اليوم
موقع معركة بدر اليوم

أمرهم الرسول محمد (ص) وكان شعارُ المسلمين: “أَحَد أَحَد”،ثم أمرهم الرسول بالهجوم قائلاً: “شدّوا”، وواعداً من يُقتل صابراً محتسباً بأن له الجنة، ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول الرسول محمد: }سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ{ (القمر:45).
ومن العوامل التي ساعدت المسلمين على النصر ما أوحى به الله من أنه ألقى في قلوب المشركين الرعب في غزوة بدر، وأنه أنزل ملائكة تقاتلهم إلى جانب المؤمنين، وقد جاء في سورة الأنفال: }إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ{ (الأنفال:12) وكذلك قوله سبحانه في سورة آل عمران:}وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون{َ ثم قوله }إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ{ كما قال الرسول (ص) يوم بدر: “هذا جبريل آخذُ برأس فرسه عليه أداة الحرب”،وروي عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس بن عبد المطلب: “يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم”، فقال الأنصاري: “أنا أسرته يا رسول الله”، فقال: “اسكت فقد أيدك الله بملك كريم”.

حال فشل واضطراب
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف قريش، واقتربت المعركة من نهايتها، وبدأت جموع قريش تفِرُّ وتنسحب، وانطلق المسلمون يأسرون ويقتلون حتى تمت على قريش الهزيمة.
وقُتل القائد العام لجيش قريش، وهو عمرو بن هشام المخزومي المعروف عند المسلمين باسم أبي جهل، فقد قتله غلامان من الأنصار هما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ويروي الصحابي عبد الرحمن بن عوف قصة مقتله فيقول:
“بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: “يا عم هل تعرف أبا جهل؟”، قلت: “نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟”، قال: “أُخبرت أنه يسب رسول الله (ص)، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا”، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: “ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي

مقبرة شهداء بدر
مقبرة شهداء بدر

تسألان عنه”، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله(ص) فأخبراه، فقال: “أيكما قتله؟”، فقال كل واحد منهما: “أنا قتلته”، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟”، قالا: “لا”، فنظر في السيفين فقال: “كلاكما قتله”.

بعد المعركة
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على قريش، وكان قتلى قريش سبعين رجلاً، وأُسر منهم سبعون آخرون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، وقُتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ولما تمّ النصر وانهزم جيش قريش أرسل الرسول (ص) عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بانتصار بدر وهزيمة قريش.
ومكث الرسول محمد (ص) في بدرٍ ثلاثة أيام بعد المعركة أشرف فيها على دفن قتلى المسلمين في أرض المعركة، ولم يُدفن أحد منهم خارج بدر. ووقف الرسول (ص) على القتلى من قريش فقال: “بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس”، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطُرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: “يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً”، فقال عمر بن الخطاب: “يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟”، فقال: “والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”.

أسرى قريش
لما انتصر المسلمون يوم بدر ووقع في أيديهم سبعون أسيراً، قال الرسول (ص): “ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟”، فقال أبو بكر الصديق: “يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم”، وقال عمر: “يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قرِّبهم فاضرب أعناقهم”، وقال عبد الله بن رواحة: “يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً”، فقال العباس: “قطعت رحمك”، فدخل الرسول محمد (ص) ولم يَرُدَّ عليهم شيئاً، فقال ناس: “يأخذ بقول أبي بكر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عمر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عبد الله بن رواحة”، فخرج عليهم الرسول محمد (ص) فقال: “إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: “فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: “إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: “وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: “وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ”
لقد كانت معاملة الرسول محمد للأسرى بأساليب متعددة، فهناك من قتل، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم. وكان الذين قتلهم المسلمون من الأسرى في بدر: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، ويرى المسلمون أن قتلهم ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية، فقد كانا من أكبر دعاة الحرب على الإسلام، فبقاؤهما يعدّ مصدر خطر كبيراً على الدين الجديد، فقد كان النضر بن الحارث يؤذي الرسول (ص) وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفُرس وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس الرسول محمد مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبْلَهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: “أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه”، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: “بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟” فلما أسره المسلمون أمر الرسول محمد بقتله، فقتله علي بن أبي طالب (ع).
ولما رجع الرسول محمد (ص) إلى المدينة المنورة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: “استوصوا بهم خيراً”، وقد روي عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير أنه قال: “كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله (ص): “استوصوا بالأسارى خيراً”، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله”.
وقال أبو العاص بن الربيع: “كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ”، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: “وكانوا يحملوننا ويمشون”.
وبعثت قريش إلى الرسول محمد في فداء أسراهم، ففدى كلُّ قوم أسيرَهم بما رضوا، وكان ناس من الأسرى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل الرسول فداءهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة، وبذلك شرع الأسرى يعلِّمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلِّم عشرة من الغلمان يفدي نفسه.

نتائج المعركة
كان من أهم النتائج المباشرة لغزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وما جاورها، كما أصبح للدولة الإسلامية الجديدة مصدرٌ للدخل من غنائم الجهاد، وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي بما غنموا من غنائم بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهراً.
بالنسبة لقريش كانت نتيجة المواجهة في بدر هزيمة كارثية قُتل بنتيجتها أبو جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم من زعماء قريش الأكثر شجاعةً وقوةً وبأساً، ولم تكن غزوة بدر خسارة حربية لقريش فحسب، بل خسارة معنوية أيضاً، لأنها كسرت شوكة أكبر قبائل الجزيرة في الحجاز، ونتيجة لذلك فإن المدينة لم تعد تهدد تجارة قريش فقط، بل أصبحت تهدد أيضاً سيادتها ونفوذها في الحجاز ككل.
تلك كانت النتائج المباشرة للغزوة لكن نتائجها البعيدة كانت استراتيجية بكل معنى الكلمة، فحسب المفكر الإسلامي د. راغب سرجاني فإن أيّ محلل عسكري في ذلك الوقت لم يكن ليرى في تلك المعركة أكثر من مواجهة بين قبيلتين أو مجموعتين من الناس، أو مشاجرة بين عائلتين، لا تحمل أيَّة خطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك. فقد كانت جيوش الروم في ذلك الوقت تقدَّر بالملايين، وجيش فارس يزيد على مليوني جندي، وكانت الدولتان البيزنطية المسيحية والفارسية المجوسية تشكلان إمبراطوريتين راسختي الأركان منذ مئات السنين..ولكن من الذي كان يمكنه أن يتوقع يومها وبعد بدر أن مكة ستفتح بعد ست سنوات فقط ويسود الإسلام في الجزيرة كلها وأن المسلمين سيفتحون فارس بكاملها بعد 12 عاماً من ذلك التاريخ وأن إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف ستقوم بعد أقل من 20 عاماً لترث ممالك الروم والفرس والرومان ولتجعل من الدين الجديد أقوى قوة على وجه الأرض. لقد أنتجت بدر أكثر من انتصار عسكري محدود فهي أسست لحضارة عظيمة ستغير مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد.

الإستشــراق و صياغة ذاكرة المغلوبين

الإستشــراق
و صياغة ذاكرة المغلوبين

المشروع الإستعماري للمنطقة تطلب تقديماً متحيزاً وجاحداً للإسلام
وتقديم أوروبا كقوة تمدين لشعوب متأخرة يحكمها الإستبداد

آرنست رينان رفض إعطاء أي فضل للعرب أو للإسلام
وهيغل رأى فضلهم في حفظ الحضارة الإغريقية للأوروبيين

برغم دفاع الأفغاني عن دور الحضارة الإسلامية

إلا أنه قبل تحليل رينان عن أسباب تأخر المسلمين

سياسات التدخل الغربي في شؤون المشرق العربي ( الإسلامي – المسيحي) وشمال أفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين لم تأتِ فجأة ومن دون مقدمات، بل مهّد لها خطاب معرفي إستشراقي حاول استبطان نقاط القوة والضعف في مجتمع الخصم المراد إضعافه قبل السيطرة عليه وإخضاعه، وكان من الضروري لنجاح ذلك المشروع الاستعماري، إعادة صياغة ذاكرة المغلوبين من موقع المركزية الأوروبية التي تفهم تشاركية العالم الجديد كرسالة تحضر يحملها المجتمع الأوروبي إلى الإنسان الآخر البربري المطلوب تمدينه.
والباحثون الغربيون في شؤون الشرق والإسلام في استخدامهم المنهج التجريبي الوضعي، كانوا دائماً ينفون وجود أهداف سياسية لعملهم البحثي ويصرون على أنهم منحازون الى الواقع فقط، فهم يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها، أما في الحقيقة فإن الحصول على هذه المعرفة يستلزم دائماً اللجوء إلى إطار نظري معين أو اتخاذ موقف للتفسير.
وأول أساطير الفكر الإستشراقي التي تكشف زيف موضوعيته، كانت ادعاءه تجانس هويته العرقية والحضارية بالقول بوجود استمرارية تاريخية بين حضارة اليونان القدماء وفكر عصر التنوير وأوروبا الامبريالية والتي أصبحت مصدر النزعة الإنسانية العلمانية، والادعاء بأنه ما نتج عن تلك الحضارة من فلسفة وعلوم كان وليد تطور الفكر اليوناني وحده ، ولكن الكثير منا بات يعرف الآن أن الإغريق بالحقيقة تأثروا بشدة في ثقافة جيرانهم الأقدم والأغنى والأقوى واقتبسوا منهم، ومن بين هؤلاء حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
أما الأسطورة الثانية التي بناها الفكر الإستشراقي حول أصوله الثقافية، هي أن حضارة الإغريق كانت أول تجربة ديمقراطية مقابل مجتمعات آسيا المستبدة، أما الحقيقة فهي أن المدن الإغريقية كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وكانت مجتمعات يحكمها طغاة أو حكومات أقلية أو نخب تنتمي الى عائلات أو قبائل محلية قوية أو مسيطرة على قبائل منافسة، أما المواطنون الأحرار فكانوا أقلية والعبيد هم الأكثرية.
حتى إنه في رحلة بحثه عن الأصول قام فكر الإستشراق بتهميش تاريخ الإمبراطورية الشرقية ( البيزنطية )، بسبب التأثيرات الشرقية والعربية التي أفسدتها !
كما تمّ تجاهل وطمس ما للعرب من حضارة مميزة في العصور الوسطى تمّ الحفاظ فيها على تراث الحضارتين اليونانية والرومانية وتطويره، الأمر الذي سمح لأوروبا في القرون الوسطى لاحقاً الاتصال بذلك التراث وبعث نهضتها من جديد. وليس غريباً أن نجد اليوم من يقول بأن ذلك التراث قد تمّ اختراعه لأنه ليس له وجود أصلاً1.

بدايات الإستشراق
في القرنين الخامس والسادس عشر بدأت تظهر دراسات عن لغات وأديان وثقافات هذا الشرق وكان للإسلام النصيب الأوفر منها، وقد ساعدت الاعتبارات السياسية والتجارية للدول الأوروبية على تطور حركة الإستشراق، فاستحدثت في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في منتصف القرن السابع عشر كرسي للغة العربية، وفي فرنسا استحدثت أول كرسي للغة العربية في العام 1539، وبشكل عام إحتوت تلك الدراسات على تقييمات نزيهة موضوعية بل كانت أحياناً مفتونة بالدولة والمجتمع العثمانيين.
وفي نهاية القرن السادس عشر وبسبب انحطاط الدولة العثمانية بدأت تتغير وجهات النظر فكل ما كان يعتبره الأوروبيون جديراً بالإعجاب في المجتمع العثماني أصبح عيوباً وأخذوا يصورون الأتراك بشكل متزايد كمستبدين وفاسدين.
وفي القرن الثامن عشر بدأت الدول الأوروبية التدخل في الأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني، وأصبح المفكرون السياسيون في عصر النهضة يعتبرون مجتمعهم قائماً على الحرية والقانون، وفي المقابل أصبحت الإمبراطورية العثمانية تعتبر المثل المعاصر للإستبداد.
وعلى يد المفكر الفرنسي مونتسيكو (1689-1755) تطور المفهوم ليصبح ( الإستبداد ) سمة عامة للشرق كله الأمر الذي أفسح في المجال لظهور مصطلح “الاستبداد الشرقي” وهو الذي عرض له مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) L’esprit des lois حيث رأى أن المناخ والجغرافيا في أوروبا يجعلان الناس يميلون للحفاظ على حريتهم، بينما المناخ الحار في الشرق يدفع بهم ليكونوا أذلاء لذلك كانت السلطة في آسيا إستبدادية.
في عصر التنوير الأوروبي تمّ الكف عن النظر للإسلام كنقيض للمسيحية بل أصبح ينظر إليه كمشروع حضاري مختلف و منافس، لذلك كانت الدراسات الاستشراقية في تناولها لحضارة الإسلام أكثر موضوعية وإنصافاً. أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ يغلب الدافع السياسي على المعرفي في فكر الاستشراق وتحول إلى مؤسسات بحثية متخصصة. ففي باريس أقيمت مدرسة للغات الشرقية العام 1795، وفي العام 1873 انعقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين ومنذ ذلك التاريخ انتظم عقد هذه المؤتمرات.

الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين - الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية
الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين – الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية

1758- 1838 ) دوراً مهماً في تطوير فكر الاستشراق سواء على صعيد المنهج أو نوعية الأبحاث المقدمة حيث نشر أبحاثاً وترجمات كثيرة بالعربية والفارسية والتركية وتتلمذت على يديه أجيالٌ من الباحثين والمترجمين وقدم المشورة في الشؤون الإسلامية للحكومة الفرنسية. وكان المنهج المسيطر على هذه الدراسات المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة التاريخي المقارن) بينما تمّ العزوف عن استخدام المنهج الأنثروبولوجي – (الذي ستظهر أهميته السياسية لاحقاً كعلم خاص بالشعوب المستعمرة أو التي تخلصت منه، حيث سيتم التركيز في تلك الدراسات على الظاهرتين العرقية والقومية) – وعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ حيث كانت تعدّ هذه العلوم لا شأن لها بالموضوع .
كان لانعطافة الدول الأوروبية باتجاه التدخل العسكري المباشر في شؤون المشرق العربي دورٌ حاسمٌ في تغيير وظائف الفكر الاستشراقي. (فنابليون بونابرت) الذي قام بغزو مصر سنة(1798م) استقى الكثير من معلوماته عن مصر من خلال روايات الكونت دي فولنى المنشورة سنة (1787م) عن رحلته في مصر وسوريا، وبما أن بونابرت كان يؤمن بالدور التمديني لفرنسا فقد جلب معه فريقاً من الباحثين والعلماء الذين أجروا دراسات شاملة صدرت لاحقاً في مجلدات بعنوان (وصف مصر).
وعلى يد الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) اختلفت الرؤية لتاريخ العالم من تعاقب دول وإمبراطوريات إلى تعاقب حضارات، حيث كل حضارة تحمل عبقريتها المميزة، وتضمحل هذه الحضارة بتحرك الروح المطلق التي كانت بالشرق في مرحلة الطفولة لمرحلة البلوغ بعد انتقالها إلى الغرب. كان هيجل يرى أن الدور المميز للإسلام يكمن في حماية تراث الحضارتين الإغريقية والرومانية من الاندثار والضياع، ونقله لأوروبا وهو بذلك يكون قد ساهم في نهضة أوروبا الحديثة، ولكن في تاريخانية هيغل تبقى المقارنة قائمة بين غرب يتمتع بفضائل العقل الإغريقي في مقابل جمود الشرق وانغلاقه باعتباره سمة لليهودية وللإسلام المتعصب ( بريان تيرنر 1081/15)2.

المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية
المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية

الإستشراق همّش تاريخ الإمبراطورية البيزنطيّـــة وتجاهلــــه لإعتباره أن التأثيرات الشرقية والعربية «أفسدتها» !

وخلال القرن التاسع عشر وبسبب النشاط الاستعماري المحموم لأوروبا تأثر الفكر الاستشراقي بالعرقية البيولوجية، وكان أبرز مروجيها المستشرق الفرنسي (آرنست رينان) حيث بلور في محاضرة له سنة 1883 تحت عنوان: “الإسلام والعلم” أطروحة تقول بـ “انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعاليمها إلا من هذه الديانة. وانغلاق عقل كل مؤمن صادق)، أما كيف لذلك المسلم البدوي المتعصب والغبي بحسب زعمه أن ينتج علماً وفكراً فلسفياً في العصور الوسطى؟ فإنه يجيبنا على هذا اللغز بقوله: “إن هذا المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدون باللغة العربية، هو في الحقيقة تراث إغريقي ساساني وقد يكون أكثر دقة أن نصفه إغريقياً احتفظ بهما المسيحيون المحليون والملاحدة الحرانيون تحت القشرة الإسلامية، وان ذلك كان لحظة تفوق مؤقتة للشرق انقلبت بعد ذلك إلى دونية متأصلة” ..”فالعربي البدوي هو أكثر الناس شاعرية ولكنه أقلهم ميلاً للتأمل والتصوف، وعندما كان الإسلام منحصراً بالعرق العربي طوال الفترة الممتدة من الخلفاء الأربع إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافية مستقلة عن الدين” . فمجيء “الدولة العباسية مثَّـل انبعاثاً جديداً لمُلك كِسرى، وكانت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسية المنبعثة من جديد”.
آراء رينان سالفة الذكر هذه مارست تأثيراً كبيراً داخل الفكر الاستشراقي وخارجه كما إنها ساهمت إلى حد كبير في إعادة صياغة فكر النخب المغلوبة لحوالي قرن من الزمان أو يزيد قليلاً، بل يمكننا القول إنها ما زالت تمارس تأثيرها حتى يومنا هذا.
مناظرة الأفغاني- رينان
جرت محاولة مهمة للرد على أفكار رينان السالفة الذكر، قام بها المفكر الإسلامي الإصلاحي (جمال الدين الأفغاني) فدحض ما تضمّنته تلك المحاضرة من مقولات عرقية دونية بحق العرب والإسلام، وتمّ نشر الردّ بالفرنسية في صحيفة “المناظرة” Le Debat بتاريخ 18/5/1883، وقام رينان بالتعقيب عليه لاحقاً في نفس الصحيفة في اليوم التالي، فتحولت بذلك إلى مناظرة بين الشرق والغرب، لكن نسيت في ما بعد كل الردود بإستثناء ردّ الأفغاني أو تمّ تناسيها وإغفالها قصداً. وكانت المفارقة الكبرى أن هذا الرد أثار عند نشره سخط المسلمين المحافظين، بينما حظي بإعجاب رينان والمثقفين الفرنسيين. وبدأ الحملة ضد الأفغاني الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) عندما انتقى عبارات من رد الأفغاني بشكل مبتور، ثم نقل عنه اغلب الدارسين هذه الصورة المشوهة للنص. وبقي النص الحقيقي للرد مجهولاً ومعتّماً عليه حتى تاريخه بسبب خطورته، والخطورة تكمن في أن الأفغاني برغم دفاعه عن الإسلام والعرب، إلا أنه سلم لأرنست رينان بصحة الكثير من انتقاداته الحادة تجاه الإسلام والمسلمين .
جاء رد الأفغاني على رينان مسلِّماً بالقضايا التالية (أقر بأن الإسلام الرسمي – أي كما مورس من الحكام في عصور متأخرة) حاول خنق العلم وعرقل تطوره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وردع العقول عن البحث في الحقائق العلمية) وأضاف الأفغاني القول: “لكن الديانة المسيحية لم تكن على علم براء مما شابه هذا. وإني لأدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية، والمؤمن عندهم مدعو للابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية. أدرك هذا تمام الإدراك، لكنني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية قائلاً يتحول بتقدم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. ولا ينكر احد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات” ثم يتوقف الأفغاني في ردّه متسائلاً (كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظل هذا المشعل منطفئاً والعرب غارقون في لجج الظلام؟”
“هنا تبدو الدولة الإسلامية مسؤولة، ومن الواضح أن الاستبداد أعانها إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين.”

أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق
أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق

منطق تبشيري
وجاء تعقيب رينان على الأفغاني ليقول مادحاً صاحبه الذي وافقه الرأي تقريباً في كل ما ذهب إليه (إن الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضد الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: “إن أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمة بعد اليابان، إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة محل خلاف بيننا. لا كل ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كل ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتاج الدين المسيحي ولا كل ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام، هذا هو المبدأ الذي اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس” ثم يختم رينان تعقيبه بالقول: “خلال رحلاتي في المشرق وجدت أن مصدر التعصب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوة للممارسات الدينية، وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من السلطة الدينية”.
بذلك المنطق التبشيري الذي يعطي للمستعمر الأوروبي الحق باستخدام القوة ضد الشعوب المغلوبة، وتغطية مصالحه الاستعمارية برسالة التمدين والمدنية، سوف يختم رينان رده على الأفغاني.

مفهوم الأمة والمصالح المشتركة
وفي محاضرة ثانية له بجامعة السوربون في 11 آذار 1882 تحدث رينان عن مفهوم الأمة باعتباره شيئاً جديداً على التاريخ نافياً أن يكون للعرق أو اللغة أو الدين أو الاشتراك بالمصالح المشتركة أوما تكون أجنبية أو إثنيه تسيطر على نحو استبدادي على الكتلة الاجتماعية، لذلك توجد هوة واسعة بين الحاكمين والمحكومين وقد اعتبرت تلك المجتمعات مفتقرة إلى الوحدة العضوية والتماسك المميزين للمجتمعات الغربية فهي على العكس خليط متنافر أو بشكل أكثر تأدباً (فسيفساء) من جماعات دينية وإثنية وعشائرية وقبلية ومهنية وعرقية تحكم نفسها إلى حد كبير وغير مترابطة وغالباً متعادية. تلك هي الصورة بحذافيرها التي استحضرها المستشرقان ( جيب وبوين) عن المجتمع العثماني في مراحله الأخيرة والذي يربط المجتمع ببعضه ويمنعه من الانهيار هو وجود الإسلام والمؤسسة الدينية واللذين يعملان كغراء اجتماعي يمنع المجتمع المسلم من التفسخ إلى أجزاء .
ويؤكد جيب وبوين في بحثهما المشترك (1950) فرضية المستشرق الألماني غرونباوم (1970) بأن تاريخ الإسلام هو تاريخ انحطاط، وإن الحضارة الإسلامية لها سمة أساسية هي الركود والاستبداد.
وفي أبحاث له حول (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) انطلق جيب من فرضية وجود “عقل عربي” أو “عقل مسلم” ثابت ومميز وكلاهما مشتقان من العقل السامي الأكثر بدائية حيث كتب يقول (وبالتالي فإن رفض أنماط العقلانية وأخلاق المنفعة التي لا تنفصل عنها لا تكمن جذورها في ما يسمى ظلامية اللاهوتيين المسلمين، وإنما في تذرّر وتفكك الخيال العربي ) .
على قسم مهم من فرضيات آرنست رينان وهاملتون جيب سوف يبني المفكر العربي( محمد عابد الجابري) مشروعه في نقد العقل العربي بالتسليم بوجود عقل عربي مشرقي له بنية تاريخية هرمسية منعته من إنتاج الفلسفة والتأمل العقلي ودفعت به إلى الغنوصية أو العرفان يقابله عقل مغربي برهاني ( بياني) هو فكر إغريقي الأصول، دخل في قطيعة مع الأول وقد عرفته بلاد المغرب على يد فيلسوف قرطبة ابن رشد شارحاً مؤلفات الفيلسوف أرسطوطاليس.
ثم جاء بعد جيب المستشرق (برنارد لويس) ليوظف كل الفرضيات المنحازة والنظرة العرقية الدونية لتاريخ الشعوب العربية في أبحاثه بدأها بسلسلة محاضرات سنة 1963 5 فبرأي لويس التناقض الأساسي بالشرق هو العداء والصراع المستمر بين الرعاة والمزارعين وهو عداء مستحكم قديم وأقدم تاريخ مسجل لهذا العداء بينهم، موجود في بعض مقاطع سفر التكوين بين (هابيل) الراعي و( قابيل ) المزارع أما في الشرق الأوسط على العكس الرعاة هم الذين سوف يقتلون المزارعين ويبنون حكمهم على أشلائهم (1965م/ص 5 ) وهو الذي سيدافع عن دولة (سايكس بيكو) ودورها التحديثي وهي التي سيحاربها الفكر الإسلامي باعتبارها وثناً أو صنماً يدعو إلى الإلحاد و العلمانية، لذلك يجب هدمه حين فرقت بين المسلم وأخيه المسلم، لذلك كانت (أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط)6.
وهي وجهة نظر سيتم اعتمادها من قبل الباحث (محمد جابر الأنصاري) في أبحاثه عن الدولة القُطْرية7مراهناً على دورها الايجابي والتحديثي في نقل المجتمعات العربية من طور البداوة إلى طور الحداثة، والتجزئة هنا ليس مردها لوجود الدولة القُطرية، بل بسبب وجود الفراغات الصحراوية غير المأهولة بالسكان والتي يناسبها نمط الاجتماع القبلي والعشائري أي طور الاجتماع في مرحلة ما قبل (الدولة/الأمة). والدولة القُطرية هنا سوف تستعيد نفس الدور التجميعي الذي لعبته الإمارة الإقطاعية في أوروبا قبل الانتقال لمرحلة (الدولة/ الأمة)، وبذلك نجد أنفسنا من خلال وجهة النظر التي يتبناها الباحث، أمام ضرورة التسليم بكونية المسار الأوروبي للتطور كنموذج حتمي ووحيد، يجب على كل تجارب الأمم الحديثة استعادته في المستقبل، هذا هو الوهم الاستشراقي الكبير الذي غذى شعور التفوق لدى الغربيين والذي تحول مع الوقت إلى المبرر الأخلاقي الضمني لفلسفة الاستعمار ولعملية اقتسام العالم بين الدول الكبرى الغربية، كما إنه لا يزال هو الدافع الأول للصراع الدولي المحموم حول هذه المنطقة ولمشاريع التفتيت التي نشطت بصورة غير مسبوقة للسيطرة عليها.

المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين
المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين

الجباعي عاب على الفكر القومي العربي خلطه بين العرق واللغة والدين ومفهوم الأمة وركز على العقد الاجتماعي والمصلحة المشتركة كـأســـــاس لقيام الكيانات الحديثة

الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية
الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية

 

سلامة علي عبيد

سلامة علي عبيد

المناضل الوطني والمفكر والشاعر والمؤرخ
رائد الشعر الحديث ومؤلف المعجم الصينــي

قاوم الفرنسيين وعهد الشيشكلي وأيّد الوحدة العربية
لكنه صُدم بالسياسة وفضّل التفرغ للأعمال الإبداعية

كانت ولادة سلامة عبيد في مدينة السّويداء عام 1921، في أسرة معروفيّة ذات تاريخ نضالي عريق، فجدّه حسين عبيد قاوم العثمانيين في جبل لبنان واضطر للنزوح مع أسرته إلى جبل حوران ليستقر ّ في السويداء وذلك في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، ومن ثمّ ليصير أوّل رئيس بلديّة للمدينة عام 1890؛ أمّا والده علي فقد كان من أركان الثورة السوريّة الكبرى عام 1925 ــ 1927 إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش ومن رفاقه في المنفى الصحراوي من أراضي المملكة العربيّة السعودية التي استضافت الثوّار السوريّين آنذاك وحتى عام 1937.

بيئة تحرر ونضال
كانت أسرة علي عبيد أسرة جهاد وتضحيات، فاثنان من أخوة سلامة كانا من الشّهداء، أخوه الأكبر نايف استشهد في معركة السويداء الثانية عام 1926، وأخوه رشيد اعتقله الفرنسيون عام 1930 وكان عائداً من مهمة سرّية من القدس، إذ كانت هناك علاقة وطيدة بين الثوّار السوريين والحركة الوطنيّة الفلسطينية التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني، وكان علي عبيد والد رشيد أحد أبرز عناصر التواصل بقادة الحركة الوطنية الفلسطينية. وعلى هذا كان اعتقال رشيد من قبل الفرنسيين وبالتواطؤ مع المخابرات البريطانية وسيلة مباشرة للضغط على الوالد الثائر خصوصاً، وعلى الثوّار السوريين عموماً.
سجن رشيد في درعا وبتأثير التعذيب ساءت صحته، وعندما تأكدوا من قرب وفاته أخرجوه من السجن مشياً على الأقدام من درعا الى السويداء ليتوفّى سريعاً في منزل الأسرة في السويداء بتاريخ 28/5/1930 بعد خروجه من السجن، وقيل إنّ الفرنسيين دسوا السمّ له؛ أمّا أخوه الأصغر من سلامة، كمال، وهو الضابط الطيّار في سلاح الجوّ السوريّ فقد كان من شهداء حرب تشرين عام 1973.

طفولة سلامة في المنفى الصحراوي
عاش الطفل سلامة ردحاً من طفولته في صحراء النبك في الأراضي السعوديّة مع الأسرة المنفيّة، وهناك تعرّف عن كثب على قادة الثورة الكبار، سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من الثوّار وهم رفاق أبيه، ومنهم معلّمه الأوّل الذي تعلّم منه القراءة، إلى جانب أطفال الثوّار في الصحراء، المجاهد الشيخ أبو زين الدّين صالح أبو عاصي (لبناني ثائر من معاصر الشوف)، وعن أولئك الرّعيل من الثوّار تعشّق سلامة حب الوطن وأحبّ الحرية والنّضال في الدفاع عنها.
تقول ابنته الأستاذة المثقّفة سلمى عبيد في مقابلة أجرتها معها “الضحى” ربيع 2017 في معرض حديثها على نشأة الوالد:
“كان لجدّتي شريفة منصور عبيد، والدة أبي الأثر الواضح في حياته، إذ كانت الوارثة الوحيدة لأحد كبار ملاّك الأراضي في جبل لبنان آنذاك، وبالرّغم من اعتيادها حياة الترف فقد رضيت حياة المنفى الصحراوي التي عاشها زوجها إلى جانب رفاقه المجاهدين، وتحمّلت مرارة الجوع والعطش والحرمان في حياة صحراويّة بالغة الشّظف والقسوة”.
> كيف سارت الحياة بالأسرة على أثر لجوء جدّكم إلى المنفى عام 1927، وكيف كانت حياة الطفل سلامة حينذاك؟
عاش والدي مع الأسرة في المنفى حتى عام 1930 وحينها أُرسِل به إلى لبنان للتعلّم في بيت اليتيم الدرزي، بمنحة خاصّة لأولاد المجاهدين الذين فقدوا ثرواتهم أيام الثورة. كان بمفرده بادئ الأمر وقد كتب عن تلك الفترة قصّته الرائعة “هديّة أم”، عندما لم تجد الوالدة التي كانت حينها في السويداء ما ترسله لابنها في لبنان هديّة أو نقوداً ولو ليرة واحدة، فقد أرسلت له مع المعلّم الشيخ هاني باز رضوان فرنكين. لم يكن معها غير ذلك (المبلغ!) من المال. بعد تلك الفترة القاسية على الطفل سلامة قالت أم نايف لزوجها وهي التي لم تتخلّ عنه في فترة الثورة والمنفى بأنها ستذهب إلى لبنان لتبقى مع أبنائها وتهتم بتعليمهم، أجابها الزوج:”أنا رجل معروف ولا أستطيع أن أترك بيتي بلا زوجة “، قالت السيّدة بحزم: “أنت تستطيع أن تجد زوجة غيري، ولكن أولادي لن يجدوا أمّاً سواي!”، وذهبت السيدة شريفة مع أبنائها جميعاً ليعيشوا في عاليه، سكنوا في قبو غير بعيد عن قصر والدها الذي كان قد بيع لتمويل الثّورة التي استهلكت أملاكاً كانت منتشرة بين بيصور وصوفر بيعت للثورة. اصطحبت جدّتي أبناءها إلى موطنها الأوّل في لبنان لتمكينهم من الدراسة وذلك بين عامي 1930 و1940، وفي نهاية تلك الفترة حصل والدي على الشهادة الثانوية ومن ثمّ عاد ليعمل في التّعليم الابتدائي في السويداء، وفي تلك الفترة، فترة الدراسة في الجامعة الوطنيّة وما تلاها تفتحت موهبته الشعرية. كانت أشعاره الأولى أناشيد تطفح بمشاعر الثورة على الاستعمار الفرنسيّ، ففي عام 1943 كتب مسرحية شعرية عنوانها “اليرموك” مستلهماً التاريخ العربي الإسلامي، وعرضت المسرحية فعلا في مدينة صلخد رغم معارضة الفرنسيّين لذلك، وهذا يدل على مدى تصميم شباب الجبل آنذاك الذين كانوا يلتفون حول عصبة العمل القومي التي كان الوالد من نشطائها البارزين (مؤسّسها اللبناني علي ناصر الدّين وقد انتشرت فروعها آنذاك في بلاد الشام) وكان يرأس تنظيمها في السويداء السياسي والأديب سعيد أبو الحسن، وتربطه علاقة وثيقة بالوالد، فكلاهما شاعر وسياسي نهضوي، وثائر على سلطة الاحتلال الفرنسي.
> ما المدارس التي درس فيها الوالد سلامة بعد بيت اليتيم؟
درس أبي في الجامعة الوطنية في عاليه، وكان من أساتذته الأستاذ هاني باز والأديب مارون عبّود الذي اكتشف مواهبه ورعاها وشجّعه على أن يكون كاتباً”.
> وماذا عن دراسته الجامعية؟
وصل والدي إلى بيروت نهاية عام 1946 وبداية 1947، يعني الفصل الثاني من السنة الجامعية، بمنحة قُدّمت له من الجامعة الأمريكية، في حينها كان معلماً وأباً وقد استفاد من نظام الساعات المعتمدة في الجامعة ومن دورات الصيف فكثف دراسته واستطاع ان ينهي دراسته بأقل من خمس سنوات إذ حصل على شهادة الماجستير بدرجة امتياز وقد أنهى دراسته في خريف 1951 ولمّا لفت تفوّقه نظر أساتذته ومنهم د. نقولا زيادة فقد حاولوا إقناعه البقاء في لبنان والتدريس في الجامعة الأمريكية ولكنه أصر على العودة إلى السويداء.
> ماذا عن حياة الوالد الأسريّة؟
تزوّج عام 1945من أمّون نعيم قائد بيه، ابنة خالته من عين عنوب، وتنتمي لعائلة لبنانيّة عريقة تعود بنسبها للأمراء اللمعيين، (وقد نوّه الرّحابنة بدور أمراء آل قائد بيه في مسرحيّتهم التاريخيّة “صيف 1840”. كان لتفاني تلك الأم الوالدة وتحمّلها أعباء ومشاكل الحياة اليومية لأسرتنا الدّور الكبير في تمكين والدي من التفرّغ للكتابة والعمل السياسي والنّشاط الفكري الذي مارسه لفترة من الزّمن قبل سفره إلى الصين. ، وقد أنجب الوالدان ستّة أبناء هم (أنا) سلمى 1946، وليلى 1949، وأكرم 1953، و ضحى 1957 وعامر 1959- 1994 ، وناصر 1963
> ما الوظائف التي شغلها الوالد بعد حصوله على الماجستير؟

منظر عام لمدينة السويداء
منظر عام لمدينة السويداء

> هل كان لدى المرحوم والدكم تخوّف ما على دولة الوحدة بسبب ممارسات سلبيّة في إدارة الإقليم الشمالي مثلاً؟
لم يسكت والدي على ما كان يراه خطأ في دولة الوحدة، كانت تلك الدولة حلم غالبية الشعب العربي في ذلك الزمن، ومع ذلك وبسبب صراحته في نقد مواطن الخلل في إدارة الدولة فقد كان قيد المراقبة الشديدة من عبد الحميد السرّاج وزبانيته الممثّلين بدائرة المباحث (أمن الدولة في ذلك الزّمن ) فهو كعضو مجلس أمّة قريب من السلطة المركزية في الإقليم الجنوبي، وهذا يجعله موضع حذر من السرّاج الممسك بمفاصل السلطة في الإقليم الشّمالي، والذي يكاد يكون الرئيس الفعلي لسورية آنذاك. أذكر يوماً أنّني كنت أمشي في حديقة بيتنا فشاهدت رجلاً يجلس القرفصاء خلف شباك مضافتنا يتنصّت إلى أحاديث والدي وزائريه، ظننته يقضي حاجة، وعندما أخبرت والدي ابتسم بمرارة وقال: “ بابا هذا موظف”، ولم يزد على ذلك. كان ذلك الرجل المريب يكاد يكون مقيماً خلف شباكنا. وقد قدم الوالد الكثير من الاعتراضات على الممارسات القمعية للمباحث آنذاك، وعلى تسريح ضباط الجيش ممن لم يرض عنهم السرّاج وغير ذلك كثير. وكنا نحن أسرته نشعر بأنّه مهدّد بالاعتقال في كل لحظة لولا التخّوف من ردود فعل المجتمع في حينه… من أغلاط الرئيس عبد الناصر اعتماده على السّراج ومن هم على شاكلته في التصرّف بإدارة الإقليم الشمالي. كان الوالد يتذمّر بشدة من عمليّات القمع وخنق الحرّيات واستيراد آلات تعذيب كانت جديدة على سورية حينها.

سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له
سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له

صدمة انهيار الوحدة المصرية السورية
لكنّه صُدم بانقلاب الانفصال الذي كان يحذّر من مسبّباته المنذرة بالخطر على دولة الوحدة. بعد الانفصال لم يتولّ والدي أيّة وظيفة حكوميّة، ومع أنّه شارك في التحضير والتأييد لثورة الثامن من آذار وعُرضت عليه مناصب وزارية أو دبلوماسية، إلا أنه آثر التركيز على التوعية الفكريّة والابتعاد عن السياسة، ثم وبعد سفره إلى الصين بعد عام 1972 عرض عليه أن يكون سفيراً لسورية في الصين فرفض العرض مكتفياً بالعمل الأكاديمي في جامعة بكين.
> كيف توصل الوالد إلى العمل في الصين؟
بعد تعرّف المسؤولين في السفارة الصينيّة عليه من خلال تعليمه لطلاّبهم وقد وثقوا به وبقدراته؛ اقترحوا عليه أن يشرف على إنشاء قسم للّغة العربيّة في جامعة بكّين، وعلى هذا فقد عمل بمساعدة بعض الأساتذة الصينيّين على تنفيذ تلك المهمّة، ولما لم يكن هناك من كتب مناسبة فقد قام بنفسه على إعداد الكتب المطلوبة في أصول تدريس اللغة العربيّة والأدب العربي واللغويات وأصول الترجمة، وتاريخ الديانات الإبراهيمية الذي أولاه القادة الصينيّون عنايتهم كمعنيين بالسياسة الدوليّة. وبذلك فقد وضع منهاجاً كاملاً للقسم معظمه بمجهوده الشّخصي،
وعندما لم يجد قاموساً صينيّاً عربيّاً تطوّع مجّاناً بتأليف قاموس صيني عربي إنكليزي مستنداً إلى معرفته العميقة باللغات الثلاث، فقد كان يتقنها بالإضافة إلى اللغة الفرنسيّة، ولم يكتفِ بذلك بل عمل على ترجمة مختارات من الأدب الصّيني إلى اللغة العربيّة.. ومن جانب آخر فقد بقي على علاقة طيبة بالسفارة السورية في الصين خاصّة أثناء وجود مواطنه، ابن بلده الدكتور جبر الأطرش سفيراً لسورية هناك. وكان الطلاب السوريون يعتبرونه أباً لهم، حيث كان يعمل على متابعة دراستهم وحلّ أيّة مشكلة تعترض أحدهم مع السفارة الصينيّة.

حياة تنقل دائم

جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربية
جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربي 1966 …
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه

قاموس سلامة عبيد
العربي الصيني الإنكليزي

من أضخم أعمال سلامة عبيد تأليفه القاموس العربي الصيني الإنكليزي الذي عمل عليه بدأب 10-14 ساعة يومياً لأكثر من عشر سنوات ليظهر إلى النور بعد ذلك بـ 2264 صفحة من القطع الكبير.
ساعده عبيد على ذلك فريق من الأساتذة الصينيّين، ولمّا كان الطبيب الصينيّ يحذره من أثر ذلك المجهود على صحّته المتعبة، كان يجيبه: “ هذا القاموس ينهيني أو أنهيه”. وهكذا كان فقد دفع سلامة عبيد فعلاً حياته ثمناً لذلك المجهود الجبّار، إذ توفّي في اليوم التالي لعودته إلى سورية من الصين.

رائداً للقصيدة العربيّة في الشعر الحديث
من المعروف أنّ والدك من روّاد القصيدة الحديثة والتفلّت من الوزن الشعري وهو شرح موقفه هذا في وصفه لحالة الشعر في بغداد أيام بني العباس بهذا البيت:
عـــــــــــــــرف الشعـــــــــــــــر زمـــــــــاناً طيّبًاً
مطـــــــلق النهضة يزري بــــــــــــــالقيود
فما قولكم؟
عام 1946 ولدت (أنا)، ابنته سلمى، ويومها بمناسبة ولادتي كتب الوالد قصيدته المعروفة “إلى ابنتي”، والتي مثّلت حينها أوّل قصيدة تنتمي إلى شعر التفعيلة، يقول فيها:
يا بْنَتي؟ فتّحْتِ عينيكِ على دنيا ضياءٍ وحَنانٍ
وأناشيدٍ حِسان، فتطلّعتِ كئيباً وبكيتِ
وهبوكِ الثّديَ ريّانَ شهيّاً فأبَيْتِ، فلماذا يا بْنَتي جئت حزينة؟
عالماً لاتعرِفينَه ؟؟.
لانيوبَ لدهر آذتكِ، ولا أعوان دهرك
وطيوفُ الهمّ لمّا تتململ فوق صدرك
بيتُنا جرّبْتُ أن يبدوَ في أحسنِ زينهْ، في بياضِ الياسمينه
وفؤادي كان جذلانَ لمرآكِ، طروبا، لا عَبوساً أو غَضوبا
فلماذا يابْنتي جئت حزينهْ؟ عالماً لاتعرفينَهْ ؟؟
كانت تلك القصيدة أسبق من قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة التي نظمت عام 1947، وكذلك مما كتبه بدر شاكر السياب في دواوينه من شعر ينتمي إلى شعر التفعيلة بعد عام 1948 وما بعدها.
قبل ذلك كانت قصيدته من شعر التفعيلة “من دمانا”، وقد نظمها على أثر قصف القائد الفرنسيّ أوليفا روجيه لمدينة دمشق والمجلس النيابي بالطيران والمدفعية، ومما قاله فيها:
من دمانا، أيّها السفّاحُ، من دمع اليتامى والأيامى
أترِعِ الكأس مُداما، وأدرها بين أشلاء الضّحايا
واستغاثات الثّكالى والسّبايا، وزئير المدفع الطّاغي وأنّات الشّظايا
أترع الكأس وناولها النّدامى، من دمانا أيّها السّفاحُ
من دمع اليتامى والأيامى
أمطرِ الشّام حديداً ولهيبا، واسْتَبِحْ فيها هلالاً وصليبا
واذبح المرضى ولاتخْشَ عذولاً، أو رقيبا

مجدد الشعر العربي
يرى الدكتور رضوان القضماني أن سلامة عبيد كان الرائد في الخروج من العمود الشعري في المشرق العربي بدءاً بقصيدته “يا بلادي” التي نظمها عام 1943 وكانت بمثابة “ثورة في التّجديد إذا ما قورنت بأشعار عصرها سواء في المضمون أو في الأسلوب” ثم قصيدته “إلى ابنتي”، التي نظمها عام 1946، هي مثبتة في ديوانه لهيب وطيب، بينما قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة تعود لعام 1947، وللأسف فما زالت المناهج المدرسيّة والجامعيّة تتجاهل حقيقة أنّ سلامة عبيد هو أوّل من أدخل التجديد إلى الشعر في المشرق العربي.
ولقد جمع الرجل في إبداعه بين الشعر والأدب والتاريخ، فهو مؤرخ صادق ومن أعماله المرجعيّة كتابه “الثّورة السّورية الكبرى، في ضوء وثائق لم تُنشَر” ويضمّ كتابه ذاك كمّاً كبيراً من الوثائق الغنيّة بالمعلومات التي عمل على جمعها وتدقيقها على مدى عشرين عاماً تناولت أحداث الثورة التي كان قد تعرّف على أركانها عياناً في المنفى، وفي مراحل حياته التالية بحكم كونه ابنا لعلي عبيد أحد أركانها البارزين، وقد طُبع الكتاب في بيروت عام 1971، ولا يمكن لباحث جادّ في شأن تلك الثورة وفي سيرة سلطان باشا الأطرش قائدها العام أن يتجاهل أهمّية ذلك الكتاب وقيمته المرجعية.

شعره مرآة نفسه
نتلمّس مزايا الشاعر من خلال قصائد ديوانه “لهيب وطيب” وقد قدّم له أستاذه الأديب الكبير مارون عبّود بقوله: “الديوان عنوانه (لهيب وطيب) وهو كذلك، فلو لم يحترق سلامة عبيد في جحيم الآلام لما خرج من رأسه هذا الشعر الفصيح الذي لم تفسده رطانة وميوعة هذه الحقبة، قلنا إنّه تألُّم والألم معصرة القلوب والعقول، عفواً فلنقل إنبيق، لأن الطيب يُستَقْطَر استقطاراً على اللّهيب، وأيُّ لهيب أحرّ من لهيب النّبك في صحراء نجد التي عرفها سلامة طفلاً مشرّداً مع أبيه والعائلة بعدما وضعت الثورة السوريّة أوزارها؟”…

الموظف المسؤول والمثالي
بالإضافة إلى عمله مديراً للتربية في السويداء شغل سلامة عبيد مهمّة مدير بيت اليتيم وكان عضواً في اتّحاد الكتاب العرب وعضواً في جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ورئيس تحرير لمجلّتها، وقد عمل على تأسيس ومتابعة عدد من الأنشطة الثقافيّة والرياضية في المحافظة كالكشافة والمسرح المدرسي والمنتديات الثقافيّة والمكتبات المدرسيّة والمعارض.
وعمل على الاهتمام بالآثار والتعريف بها وطباعة أدلّة للتعريف بالمحافظة. كذلك شارك في كثير من المؤتمرات الأدبيّة والثقافية وألقى عشرات القصائد في مؤتمرات ومنتديات في سورية ولبنان والعراق ومصر والمغرب والإمارات كما شارك في مؤتمر الأدباء الآسيويين والإفريقيين في بكّين عام 1964
كما كان له دور كبير في إنشاء قسم اللغة العربية في بكّين وكتب عشرات الكتب التعليمية لتعليم الصينيّين اللغة العربية.

سلامة عبيد ولبنان
عاش سلامة عبيد تلميذاً وطالباً في لبنان بين عامي 1930 و1940، ووثّق عن تلك الفترة أحداثاً جمّة سجّلها في كتابه “ذكريات الطفولة”، وفيما بعد درس في الجامعة الأمريكية بين عامي 1947و1951، وفي شعره يتجلّى حنينه ألى لبنان وطن الأجداد إلى جانب ذكرياته في دمشق
في “ديوانه لهيب وطيب” قصيدة “تحية لبنان”، نظمها على أثر استقلال لبنان هذا بعض ما جاء فيها:
لبنــــــــــان والآلام تجــمعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ورؤىً معطّــــــــــــــــــــرة اللمــــــــى خضــــــــــــــــــــر
وصنـــــــــــائــــــــــــــــــــع بيــــــــــــــــــــض تعشّــــقـــــــــــها وهفـــــــــــــــــــا لمثل أريجــــــــــــــها الزّهـــــــــــــــر
ودم تعصبــــــــــــــت العــــــــــــصــــور لــــــــــــــه فبدت وحـــــــــــــــــــــــــول جبينــها فــجر
يــــــــــــــرضي العروبة مــــــــــا بذلت لها وتعــــــــــــــود بـــعــــــــــــــد الفـــجر تفتــــــــــــــــــــــــرّ
لــــــــــــــبنــــان جئــــــــــــــــت بنيك معتــذراً عنّــــــا وليـــــــــــــــــــــــــس لمثــــــــــــــلنـا عـــــــــــــــــذر
هــــــــــــــم للســـيــــــــــــــادة والحياة مشـــــــوا وسيــــــــــــــوفـــــهم رعّــــــــــــــافــــــــــــــــــــــةٌ حمـــرُ
هبّــــــــوا إلى اســــتقـــــــــــــلاله ومشــــــوا وعلـــــــــى أكبادهم مكلومة مرّوا

سلامة عبيد في شبابه
سلامة عبيد في شبابه

قصيدته في الشهيد عادل النكدي
وهو لاينسى الشهيد البطل عادل النكدي من بلدة عبيه في لبنان، الطالب الجامعي الذي كان يدرس في لوزان في سويسرا وهو على أبواب التخرّج من الجامعة، ترك الجامعة ليلتحق بالثورة السورية مجاهداً، واستشهد بطلاً بعد معارك خاضها في غوطة دمشق، وبمناسبة نقل رفاته في احتفال مهيب عام 1945 ألقى الشاعر هذه القصيدة ومنها:
لــــــــــــي مثـــــــــــــــــــــلُ ما لَكَ أعمــــــــــــــــــام وإخـــــوان في حــــومة الحــــقّ ما ذلّوا وما لانـوا
ضجّوا من القيد بعد القيد يحكــمه معربــــدٌ من خمــور السّــين1نشـــوان
فاستنصروا البيض والجــــــــرد العتاق فما هانت على جيشه الطاغي وما هانوا
أكـــــــــــــــــــــــــــــــــــرم بــــــــها ثـــــورةً دوّت مجـــــــلجلـــــــــــــــةً كمـــا يتفـــــجّر في الظلمـــــــاء بــــــــــــــــركان
فــــــــــي ذمّة الله مــــــــــــــــــن صانوا كـــــــــــــــــرامتــــنا إمّا استُفِـــــزّت ومن قربانـــــــــــــــها كانـــوا

قصيدته «المنارة الهاوية» في رثاء الأمير شكيب أرسلان
يقول فيها:
قضى من تحدّى الدهــر دهراً فما انثنى ولا هادنتــــه أو تراخت نوائبـــــه
سعــــــــــى طـــالبــــــــــاً حـــــــــــــقّ الحيـــــــاة لقومـــــــــه ومــوج المنايا دون مــــــــــا هو طالبــه
فكــــــان بــــــــوجـــه الطامعيـــــــــــــــــن غضنفــــراً هصوراً ثقيل الوقع مذ طرً شاربه
ينـــــــــــــــازلهــــــــــــــــم في أرضـــــهم بعــد أرضـــــه وحيــــــداً فما لانوا ولا لان جانبه
فما انفكّ حتى حصحص الحق وانبرت زلالا لأقـوام عطاش مشاربــــــه

رثاء الأمير عادل أرسلان
في قصيدته” أمل قضى” يرثي الأمير البطل فيقول منها:
هيهــــــــات لا قلمي يـــــكـــــــاد ولا فمـــــــــــــي يقوى علــى بث الأســى المتضرّمِ
سيــــــــــف العروبة لا العروبة وحدها تبــــــــــــــــــكي عليك ولا هـــلال محــرّمِ
أيُّ الأســـــــــود يطيـــق مـــــــــــــــــــــا جابهتـــــــــــــــــــــه تحت الغبار المـرّ في بـــــــــــــــــــــرك الــــدّمِ
أيُّ السيوف يظــــــــــــــلّ مثلك مرهفـــــــــــــــــــــــاً لــــــــــم ينــــــــــــــبُ فـــي أمــــــــــــــــرٍ ولـــــــــم يتثــلّـــــــــمِ
عرفَ الزعامــــــــــــــة عفّـــــــــــــــــــــةً ومــــــــــــــــــــــــــــــروءة لا وطـــأة مـــــــــــــــــــــــن صـــولةٍ وتــحَــــــــــــــكّمِ

وفاته
في اليوم التالي لعودته من الصين توفي الأديب والشاعر والمؤرخ والباحث سلامة عبيد، كان ذلك يوم 25 آذار 1984 واختتم هذا الرجل الفذّ بذلك حياة حافلة بالنضال الوطني والإسهام الفكري والثقافي والاجتماعي.

قصص الأمثال

قصص الأمثال

يضرب هذا المثل في الأمر الفاسد الذي يفرض نفسه بقوة السلطة.
والحكاية أنه في أيام الحكم العثماني كان الناس يعصرون الزيتون في معاصر تعود ملكيتها للمتصرف، وكان المتصرف يستوفي أجرة عصر الزيتون زيتاً ، وكانت لديه كيلتان: إحداهما تنقص أوقية، والأخرى تزيد أوقية عن الوزن الحقيقي، وكان يأمر البرّاك أن يكيل الزيت بالكيلة الصغرى، ويستوفي الأجر بالكيلة الكبرى .

فضج الناس، وظنوا أن اللعبة من البرّاك، فهو الذي يستوفي منهم الأجر مضاعفاً، فذهبوا إلى المتصرف يشكونه، فاستنكر المتصرف الأمر، وقال لهم :
ـ هذا ظلم، وأنا لا أرضى به، وغداً بإذن الله سنصلح الأمر.
في اليوم التالي ذهب الناس إلى المعصرة، فوجدوا برّاكاً جديداً فعلاً، لكن الكيلتين لا تزالان موجودتين، فضجوا ثانية، وتوجهوا إلى المتصرف يشكون الأمر . فقال المتصرف :
ـ ها قد بدلنا لكم البرّاك، ماذا تريدون أكثر من ذلك ؟! . فقالوا له :
ـ يا جناب المتصرف ! نحن لا نريد تغيير البرّاك، نريد تغيير الكيلة .
فرد المتصرف :
ـ ماذا ؟! . هذه الكيلة كيلة السلطنة، وكيلة السلطنة ما بتتغير .

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي ولا أنا مولاه

يضرب هذا المثل في حالات عديدة، فربما ضرب لربّ العمل الذي يحاول الاستهانة بالعمال الذين يعملون عنده لقاء أجر يومي، وربما يضرب للعامل الذي يحاول أن يتطاول فيفرض رأيه على رب العمل مستغلاً حاجة صاحب العمل لخبرته. ورغم أنه لا يوجد ما يوضح مصدر هذا المثل والمكان الذي قيل فيه أو ظروفه، فإنه توجد حكاية تفسر كيف أصبح هذا القول مثلاً بل إنه كان من البساطة والمنطقية بحيث ألهم أهل الحكم صياغة قاعدة أصبحت أحد مرتكزات التشريع أو القانون العرفي الذي ينظم العلاقة بين رب العمل والعمال.
والحادثة ذكرها سلام الراسي في كتابه يا جبل ما يهزك ريح .
وتقول الحكاية إنه في مطلع الانتداب الفرنسي على لبنان قام مستخدمو إحدى الشركات في بيروت بإضراب، فأقدمت الشركة على صرف بعضهم، ورفعت القضية إلى المحكمة المختلطة ( وهي محكمة فرنسية ـ لبنانية ) لأن بعض المستخدمين كانوا من الأجانب.
وبحث رئيس المحكمة ـ وهو فرنسي ـ عن تشريع لبناني يساعده على الحكم في القضية ومنح المصروفين تعويضات صرف من الخدمة، إلا أنه لم يجد ذلك. لذلك سأل هذا القاضي عن الأعراف المحلية المتبعة في لبنان في مثل هذه الحالة، فأشار المحامي الشيخ يوسف جرمانوس أحد كبار المحامين في ذلك الزمان إلى مثل شعبي يقول:
“ من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي، ولا أنا مولاه “
وقيل إن الأمر تناهى إلى حاكم لبنان الكبير يومئذٍ الكومندان “ ترابو “ الذي استأنس بالمثل المشار إليه لاعتماده، باعتباره عرفاً له قوة القانون، للحكم بموجبه في القضية المشار إليها، على أن توضع في ما بعد تشريعات حديثة للمثل للفصل في مثل هذه الحالة2.

من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود

هي عبارة تطلق للتعبير عن الأمل بإنفراج أزمة ما، فالأيام كفيلة بحل أعقد المشكلات .
وحكاية العبارة أن رجلاً حُكِم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، وحان تنفيذ الحكم، فسيق الرجل إلى حبل المشنقة، وكان ينتصب في المكان أكثر من عمود للشنق، ولما كانت تقضي العادة أن يسأل المحكوم عليه عن آخر رغبة له في حياته كي تقضى له، فقد سأل الآمر هذا المحكوم عن آخر رغبة له، فأبدى رغبته بأن يشنق على عمود آخر غير هذا العمود، فدهش الآمر وسأله : وما الفرق بين الموت على هذا العمود أو ذاك ؟! . فأجابه المحكوم قائلاً :
«من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود»
وكان للمحكوم ما أراد إذ أمر القائم على تنفيذ الحكم أن تلبى رغبة المحكوم، فينقل إلى العمود الذي يختاره.
وبينما كان الرجال يهمون بنقله إلى عموده الذي اختاره، ولم يبق إلاّ أن يعلقوا الحبل في رقبته، أقبل قوم من بعيد يركضون ويصرخون: أوقفوا الشنق … أوقفوا الشنق، وكان لا بد أن يتريث الرجال ريثما يصل الراكضون، إذ كان هؤلاء يحملون دليل براءة هذا المحكوم مما نسب إليه، فانفرجت أساريره وقال : ألم أقل لكم: من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود ؟! .
وفي رواية أخرى أن السلطة الحاكمة أصدرت أمراً بالعفو عن جميع المحكومين فشمل العفو صاحبنا وتمّ إبلاغ الجلاد بالعفو في آخر لحظة بينما كان يهمّ بتنفيذ الحكم.
وقد عثرنا على حكاية هذا المثل في الموسوعة الحورانية، ولم تختلف روايتها عما جاء في روايتنا 3.
وأياً كان الأمر، فإن حكاية هذه العبارة تلتقي مع حكاية قراد بن الأخدع مع الملك النعمان بن المنذر، الذي ذهب يوماً الى الصيد، فجنح به حصانه، ثم أدركه المطر فلجأ إلى بيت أحد الطائيين، فأكرمه، وأحسن وفادته دون أن يعلم أنه الملك النعمان، وحين همّ النعمان بالإنصراف قال للطائي : إذا عرضت لك حاجة فأنا مقضيها لك، فأنا النعمان بن المنذر، فردّ الطائي : أفعل إن شاء الله .
وكان أن تردّت حال الطائي فقالت له زوجته : لتذهب إلى صاحبك، علّه ينجز وعده، فما كان من الطائي إلا أن توجه إلى النعمان، ولسوء حظه فقد صادف وصوله يوم بؤس النعمان، إذ كان من شأن النعمان أن يقتل من يفد عليه في هذا اليوم، ولو كان من أعز أصحابه. فاغتم النعمان لمجيء الطائي في هذا اليوم، لكنه لم يرَ بداً من قتله، فقال له : أما وقد أتيت في هذا اليوم فإنك مقتول، ولكن سلّ ما بدا لك قبل الموت، فإن لك علي يداً، فقال الطائي أذهب إلى أهلي أدبر أمرهم ثم أعود إليك في مثل هذا اليوم من العام القادم، فقال النعمان : أقم عليك كفيلاً فنظر الطائي إلى شريك بن عمرو فأنشده :
يــــــــــــــــــــــــــــا شريـــــــــــــــــــــــــك يــــــــــــــــــــــــــــابــــــــــــــــن عمــــــــــــــــــــــــــــــــــــرو مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من المــــــــوت محــــــــــــــــــــــــاله
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــــــــــل عتيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقٍ يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من لا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا له
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا النعمــــــــــــــــــــــــــــــــان فـــــــــــــــــكّ اليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم ضيفـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى لــــــــــــــــــــــــــه
فأبى شريك بن عمرو أن يكفل الطائي، فنظر الطائي في وجوه الرجال، فرأى ضالته في قراد بن الأجدع الذي كفله، وأعطى النعمان الطائي مئة ناقة، وهو يأمل ألا يعود، فيقتل به قراد بن الأجدع .
ومرّ حول إلا يوم، فقال النعمان لقراد بن الأجدع : ما أراك إلا مقتولاً غداً، وكان اليوم الأخير من العام قد ولّى نصفه، فقال قراد بن الأجدع :
لئن يــــــــــــــك صــــــــــــــدرُ هـــــــــــــــــــــذا الـيوم ولّى فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإن غــــــــــــــداّ لنــــــــــــــــاظره قـــــــــــــــــــــريب
وأخذت زوجة قراد تبكي زوجها متيقنة بموته في اليوم التالي فقالت:
أيـــا عين بكّي لـــــــي قراد بن أجدعا رهـــــــــــــــــــــــين وفــــــــــاء لا رهيـــــــناً مودعـــــــا
ولما كان اليوم الثاني همّ النعمان بقراد يريد أن يمضي به، غير إن رجاله قالوا له : ليس لك أن تقتله قبل أن يمضي النهار. وفيما كان قراد بن الأجدع فوق النطع، ولم يبقَ إلا أن تنزل شفرة السيف على رقبته، إذ ظهر غبار من بعيد، فقالوا للنعمان : ليس لك أن تقتله قبل أن تتبين من خلف الغبار، وحين انكشف الغبار، انكشف عن الطائي الذي جاء مسرعاً فقال له النعمان: ما حمّلك على المجيء وقد نجوت ؟! فقال الطائي: الوفاء، فقال النعمان: والله لن أدع الاثنين أكرم مني فعفا عن الطائي وأحسن لقراد بن الأجدع .

أول فتوح الشر ذبح البصيلي

عبارة تطلق في معركة استجرت معارك عديدة، والعبارة شطر من بيت شعر من قصيدة للشيخ أبي علي قسام الحناوي، يستعرض فيها المعارك التي دارت بين أهل الجبل وجيوش إبراهيم باشا المصري. والبصيلي هو علي آغا البصيلي، أحد قادة إبراهيم باشا الذين توجهوا لإخضاع الجبل ما قبل منتصف القرن الثامن عشر، وقد نقل أخبار هذه المعركة الدكتور فندي أبو فخر4، كما نقلها آخرون5.
وتكاد تجمع المصادر المختلفة على أن حكومة إبراهيم باشا فرضت على الجبل الضرائب كما فرضت تجنيد عدد من شباب الجبل في جيش إبراهيم باشا ونزع سلاح السكان، الأمر الذي جعل يحيى الحمدان شيخ مشايخ الجبل ـ وقيل واكد الحمدان ـ أن يدعو إلى اجتماع عاجل لبحث القضية، وتقرر على أثره إرسال وفد إلى الشام برئاسة يحيى الحمدان أخ الشيخ واكد، للتفاوض مع شريف باشا والي دمشق. ولم تسفر المفاوضات عن اتفاق ، بل تطورت تطوراً خطيراً، عندما قام شريف باشا بصفع يحيى الحمدان على وجهه فعاد الوفد إلى الجبل، وبدأت الاستعدادات لمواجهة الاحتمالات كافة، واختلفت الآراء، وتغلب الرأي الذي قرر المواجهة، ورفض مطالب إبراهيم باشا، وعُقد تحالف مع البدو المقيمين في اللجاة.
وحين علم شريف باشا بهذه الاستعدادات وجه إلى الجبل حملة بقيادة علي آغا البصيلي، الذي توجه إلى قرية الثعلة، وهناك دارت معركة حاسمة، قتل فيها عدد كبير من جنود البصيلي، واختلفت الروايات في مصير البصيلي نفسه، إذ تقول بعض المصادر “لم ينج من الحملة إلا علي آغا البصيلي ونحو ثلاثين فارساً6 في حين ذكرت مصادر أخرى أن البصيلي نفسه قتل، ودليلهم على ذلك قصيدة الشيخ أبي علي قسام الحناوي التي يقول فيها :
أول فتــــــــــــــــوح الشـــــــــــــــــــر ذبــــــــــــــــح البصيلي كسبنا خمسمية حصان بفرد نهار7

بدنا عباي لصعب

أورد سلامة عبيد حكاية هذه العبارة التي تحث على إيجاد حل لمشكلة ما كيفما اتفق، وإن لم يكن حلاً جذرياً، وربما جاءت صيغة العبارة بحسب عبيد : “ طويلة … قصيرة … عباي لصعب “
وصعب هو صعب هنيدي من قرية مجدل الهنيدات 10 كم غربي السويداء، وقد اشتهر في هجومه الشجاع على قلعة عثمانية وتكسير بابها بالبلطة، وإخراج المساجين بالقوة.
ويقال إن شبلي الأطرش الشاعر المعروف، وأحد زعماء الجبل المعروفين قد خلع عباءته على صعب هنيدي، تكريماً له وتشجيعاً. ويبدو أن صعب كان قصيراً، فعلّق الحاضرون على ذلك بأن هذه العباءة فضفاضة ولا تناسبه، لكن شبلي الأطرش أصرّ على تكريمه مردداً هذه العبارة : “ طويلة .. قصيرة .. عباي لصعب “ فغدت مثلاً في الحث على المبادرة السريعة في معالجة ظرف وعدم التأجيل بحجة إمكان وجود حل أفضل 8.

بعده على اجتماع قنوات

مثل معروف في أنحاء الجبل كافة. ويضرب للرجل يأتي بخبر قديم، معتقداً أنه جديد، لم يسبقه إليه أحد، على حين تجاوزته الناس، إلى ما هو أحدث منه. وغالباً ما يستخدم هذا المثل للتنديد بالجمود وعدم التطور، آخذاً بذلك منحىً مختلفاً عن استخدامه السابق .
وقنوات بلدة في محافظة السويداء. خمسة كيلومترات شمالي المدينة، وهي المشهورة بآثارها الرومانية الجميلة .
وحكاية هذا المثل رواها لي زميلنا المرحوم يوسف الهجري عام 1988 وذلك عن أبيه، عن جده. والمرحوم يوسف الهجري من قرية قنوات. وتقول الحكاية إنه في أواخر الحكم التركي أوائل القرن العشرين كثرت الحملات العثمانية على الجبل لإخماد الانتفاضات التي أعلنها أهل الجبل احتجاجاً على المظالم التركية، وقد بلغت تلك الحملات أكثر من أربع متعاقبة، كان آخرها حملة سامي باشا الفاروقي بتاريخ 25 /9 / 1910 م9.
ضاق الجبل ذرعاً بهذه الحملات المتوالية من جهة، وبالضغوط التي كان يمارسها العثمانيون من جهة أخرى والتي كان آخرها فرض الجندية الإجبارية على شباب الجبل، وفرض ضريبة الطرق، وقد أسموها “ الدربية “ من الدرب، وذلك من أجل تسهيل الطرق أمام القوات العثمانية لإحكام قبضتها على الجبل، فما كان من أهل الجبل إلا أن تنادوا إلى اجتماع في بلدة قنوات، بلدة الزعيم الروحي، وشيخ عقل المسلمين الموحدين الدروز، فضيلة الشيخ أحمد الهجري.
وبعد أن تدارسوا أمر فرض الجندية الإجبارية، وفرض ضريبة الدربية، استنكروا ذلك، وأعلنوا رفضهم وتمرّدهم على أحكام العثمانيين، وخرجوا من الاجتماع بالقرار التالي : “لا جندية، ولا دربية “.
وحين وصل خبر الاجتماع إلى الوالي في دمشق، وأحسّ رائحة تمرد جديد، أراد أن يخنقه في المهد، فأمر بتجهيز حملة جديدة على الجبل وعلم أهالي الجبل بأمر الحملة، فتنادى عقلاؤهم إلى اجتماع جديد في السويداء لتدارس الوضع، بعد أن بلغوا حد الإنهاك جراء عدة حملات متوالية، وفي اجتماع السويداء كان الرأي أكثر اعتدالاً إذ أبدى العقلاء رأيهم بأنه ليس من مصلحة الجبل خوض مواجهة جديدة مع العثمانيين في هذا الظرف، ما دام الباب مفتوحاً للمفاوضات فلنذهب إلى دمشق، ولنجر مفاوضات مع الوالي، علّنا نصل إلى حل وسط .
وشكلوا وفداً منهم من أجل المفاوضة. وصادف أن التحق بالوفد رجل كان قد حضر اجتماع قنوات دون أن يعلم بمقررات مؤتمر السويداء، وفي ذهنه أن الوفد ذاهب لإملاء شروطه على الوالي في دمشق.
ودخل الوفد على الوالي، وسأل الوالي أعضاء الوفد عن حقيقة ما استقر عليه الرأي العام في الجبل، فوقف ذلك الرجل الذي التحق بالوفد دون أن يكون من أفراده، ودون أن يعلم ما يحمله الوفد من مقترحات جديدة، وقال:
سعادة الوالي! لا جندية ولا دربية .
وصعق الوالي، واستشاط غضباً ؛ إذ لم يكن يتوقع هذه الإجابة، إلا أن أحد عقلاء الوفد وقف مخاطباً الوالي بالقول :
ـ سعادة الوالي ! هذا الزلمي بعده على اجتماع قنوات .
فذهبت مثلاً في التندر بالجمود وعدم التطور.

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

استشهاد القديس يوحنا المعمدان

صدر أخيراً كتابٌ قيّم للمحامي الدكتور منيف حمدان بعنوان “تركيب الملفات وثورات الكبار”، يتضمن ملفات عن ما يسميه “عشر مظالم تاريخية” أهمها وأجلّها ملف النبي يحيى بن زكريا أو القديس يوحنا المعمدان، الذي سنركز عليه في هذه المراجعة.

وخير ما يبتدأ بذكره الإنجيل المقدس عن يوحنا المعمدان،إذ يقول: “ومن ذلك امتنان الرّب تعالى على أبوية الأكرمين وهم في حالة الكبر”، وكذلك شهادة السيد المسيح (ع) قائلاً: “إنه أعظم نبيٍّ وأنا أشهد أنه أعظم من مائة وثمانين نبياًّ، ومن جملة الأنبياء أصولاً مائة وتسعون نبياًّ”. وأن يوحنا المعمدان الوارد ذكره في الإنجيل المقدس هو ذاته يحيى بن زكريا الوارد ذكرهُ في القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: }يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا{ (مريم:7) وكذلك قول الرسول محمد (ص) : لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا، إذ وصفه القرآن فقال }وآتيناه الحكم صبيا {ولم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. وقد ورد اسم النبي يحيى عليه السلام في القرآن الكريم ستَّ مرات، وجاء ذكره في أربع سور قرآنية: آل عمران، الأنعام، مريم، الأنبياء. وجاء الحديث الرئيس عنه في سورة مريم عليها السلام.
حسب النصوص المسيحية فإن القديس يوحنا ولد وعاش في عهد الحاكم الروماني المستبّد هيرودوس لوالدين هما النبي زكريا وزوجته المؤمنة من بنات هارون أليصابات. وكانا عابدين تقيين ملتزمين بالشريعة، وقد طعنا في السن ولم يُرزقا بولدٍ إذ كانت الزوجة عاقراً، ومع هذا لم يفقد زكريا الأمل، وقد كان من عادته ككاهن أن يترك قريته الجبلية ويتوجه إلى القدس مرتين في السنة، وكان من مهامه أن ينثر البخور على الجمر المتوهج، ولما يبدأ البخور برائحته الزكيّة يتصاعد حاجباً ما حوله سأل زكريا ربّه “ربّ هبني من لدنك ذريّة طيّبة إنك سميع الدعاء”. وأجاب الله دعاءه وبعث إليه الملائكة مبشرين.وقال “لا تخف يا زكريا فإن صلاتك قد سُمعَتْ وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتدعوه يوحنا فيكون لك الفرح والسرور، ويكون إماماً عظيماً لا يشرب الخمر والمُسكر ويمتلىء من الروح القدس ويسير أمام المسيح بروح إيليا النبي وقوته”. ولما سأل زكريا الملاك المتكلم معه أجابه: “أنا جبرائيل الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشّرك بهذا فلتكن منذ الآن صامتاً لا تستطيع الكلام إلى يوم تكون هذه البشارة لأنك لم تؤمن بكلماتي وهي تتم بأوانها”. ولما جاء الوقت لأليصابات أن تلد ولدت ابناً فأسمته يوحنا.
بعد وفاة والديه أدرك الطفل يوحنا أنه معدّ لرسالة عظيمة، فعاهد نفسه على الصبر، لهذا اعتزل الحياة في المدن والقرى وتوجّه إلى البريّة هائماً على وجهه، وقطع عهداً على نفسه أنه لن يقتات إلاّ بأكل الجراد والعسل البريّ، وكان قميصه مصنوعاً من وبر الجمال… ولما بلغ الثلاثين من العمر ترك البرية وعاد إلى القرى المحيطة بالأردن منادياً بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا حيث أثّرت كلماته الروحيّة بسامعيه، فتذكروا كلمات الأنبياء السابقين أشعيا وأرميا وحزقيال، فتقاطرت الجموع إليه من كلّ مكان، من القدس ومحيط البحيرة وبريّة جلعاد حيث يسكن بنو اسماعيل، وراحوا يسألونه فيجيب: “ أثمروا ثماراً تليق بالتوبة، من له قميص فليعط من ليس له، ولا تطالبوا أيّها العشّارون بأكثر مما أردتم به، ولا تظلموا يا أيها الجنود أحداً، ولا تعتمدوا علي وكفاكم أجركم.. أنا أعمّدكم بالماء ويأتي بعدي من هو أقوى منّي.. ذاك الذي لا أستحق أن أحلّ سير حذائه.. هو يعمّدكم بالروح القدس وهو الذي قلتُ عنه يأتي بعدي رجلٌ صار قدّامي لأنه كان قبلي”… بسرعة البرق انتشرت أخبار يوحنا المعمدان، ولما طرقت هذه الأخبار مسامع هيرودوس أطلق جواسيسه في كل مكان لينقلوا ما يتحدث عنه، ودامت تلك المراقبة عدة شهور فأدرك هيرودس أن المعمدان رجلٌ صادقٌ وأمين وطاهر. ويوماً أرسل إليه أحد أتباعه لإلقاء إحدى عظاته في القصر الملكي فلبّى الدعوة واستمع إليه الملك بكل سرور.
غير إنه في زياراته المتكررة للقصر الملكي تكلم القديس يوحنا بأمور عامة ثم ألمح إلى بعض الأخطاء من قبل المشرفين على الإدارة فلاقى ذلك استحساناً لدى السامعين، وسرّ به الملك سروراً عظيماً كون القديس لم يأت على ذكر خطيئته الكبرى بزواجه المحرّم من هيروديا زوجة شقيقه وهو حي رغم أنه كان متزوجاً من بنت الملك عبيدة النبطي ملك العرب في دمشق وجوارها، ولهذا بعد أن علمت الأميرة العربية بهذا العمل المشين ثارت لكرامتها وهجرت القصر الملكي وعادت إلى ذويها في دمشق.
لكن القديس اغتنم فرصة دعوته إلى حفل في قصر هيرودوس ليوجه النقد لسلوك الملك وزوجته مكرراً نبوءته بمجيء قريب لملكوت السموات ووجوب الإنتقال من حياة الغفلة والخطيئة إلى حياة التوبة والفضيلة، ثم قال موجهاً حديثه نحو الأمبراطور: “أما أنت يا هيرودوس فقد أتيت من الأعمال التي لا تأتلف مع هيبتك كملك، ومع أمانتك كزوج ومع دمك كأخ وطعن زوجتك العربية بكرامتها وجميع هذه الأعمال لا تحلّ لك وستدفع مقابلاً لها ثمناً يوماً ما” …
غضب الملك لعظة يوحنا المعمدان كما غضبت زوجته هيروديا فأمر باعتقال القديس وأمر بإرساله إلى قلعة ماكيرا أو البرج الأسود على ضفاف البحر الميت، وهو لم يزل قائماً حتى يومنا الحاضر، وفي هذا السجن الذي لا يدخل إليه النور ولا الهواء النقي، ألقي يوحنا المعمدان بعد أن أوثقوا يديه بالأصفاد وكبّلوا رجليه بالسلاسل انتقاماً منه ومن مواعظه.
ويوماً، وبناء على رغبة زوجته هيروديا، أقام الملك هيرودوس حفلاً عامراً في قلعة ماكيرا ليكون على مقربة من سجن ذلك القديس الذي نغّص عليهما حياتهما، وربما لغاية في نفس زوجته، في تلك الليلة طلبت هيروديا من ابنتها صالومي الرقص بصورة أثارت السرور في قلب هيرودوس فأشار إليها أن تقترب منه، ثم قال: “سلي ما تريدين وأنا أعطيك ما تسألين وأقسم لك بذلك”.
تظاهرت صالومي بالتمنع والخجل، ثم خرجت إلى أمها وسألتها بماذا تجيبه، فقالت أمها على الفور: رأس يوحنا المعمدان. عادت الصبية إلى الملك وقالت له: أريد أن تقدّم لي رأس يوحنا المعمدان على طبق.
تردّد هيرودوس بادئ الأمر، لكنه ونزولاً عند رغبة هيروديا أمر أحد السّيافين بالذهاب إلى السجن وقطع رأس يوحنا المعمدان والعودة به على طبق قدم إلى صالومي التي قدمته بدورها إلى أمها هيروديا. وأدرك هيرودوس على الفور عظم فعله وغدا يرى يوحنا المعمدان ماثلاً أمامه في الليل والنهار يوبخه على إقدامه على فعلته. ثم انتشر الخبر ووصل إلى مسامع ملك دمشق الحارث الرابع، الذي جرّد حملة عسكرية كبيرة ضد صهره هيرودس في العام 27 للميلاد ونازله في عقر داره وانتصر عليه انتصاراً ساحقاً في معركة (جلعاد) وانتقم لشقيقته وأعاد إليها الفرح والحبور، وكذلك انشرح صدر تلامذة يوحنا المعمدان على أعظم انتقام ضد الظالمين في التاريخ أمثال الملك هيرودوس وزوجته هيروديا.
أمّا مكان دفن رأسه، فتروي بعض الكتب التاريخية أنه عند تحويل كنيسة دمشق ما أصبح اليوم الجامع الأموي في دمشق عثر العمال في أساس البناء على مغارة، فأخبروا الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي جاء أثناء الليل يحمل الشموع، فنزل فإذا هي قبو في أسفل الكنيسة وإذا بداخلها صندوق حديدي، فلما فُتِح سقط منه رأس مكتوب عليه: “هذا رأس يحيا بن زكريا”، فردّه الوليد إلى مكانه وقال: اجعلوا عليه عمداً مسفّطاً، وهو العمود المسفّط الشرقي الرابع من ركن القبة في الجامع الأموي والذي يعتبر من أشهر المزارات الدينية والإسلامية.

لله في خلقه شؤون، والناس أجناس لكن أكثر ما نلاحظ توزع أكثرهم بين من هم على سلامة السجية وطيبة القلب وحب الخير ومدّ يد العون للمحتاج وبين من يفتقدون الفطرة السليمة ويحملون سوء النية والظن بالآخرين وربما سقطوا في اتهام الآخرين بما ليس فيهم افتراء وحمقاً. بينما تسهم الفئة الأولى في نشر أجواء الخير بين الناس وتخفف عنهم همومهم وتنشر الإيجابية في المجتمع فإن الثانية هي مصدر دائم للنكد وتعكير الأجواء فهم مثل جنود إبليس لا عمل لهم إلا إفساد المسرّات ونشر الفتنة والتفريق بين أهل المودة والخلّان.
هنا قصة عن رجلين أحدهم هبّ إلى مساعدة جاره وقدم له خدمة جليلة وعظيمة إذ ساعده على إعادة ما فقده من أموال ومصاغ ومقتنيات وليرات ذهبية، ومع ذلك فإنه لم يلقَ من جاره المذكور أي تقدير أو شكر أو امتنان، بل على العكس من ذلك قوبل بسوء الأخلاق وخشونة التصرف وقلة الأدب.
فما هي تفاصيل القصة؟
أثناء حرب قوات حكومة فيشي الفرنسية والتي أقامها الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت موالية له، حصلت معارك ومواجهات عنيفة في قرى الجنوب والعديد من مناطق جبل لبنان بين تلك القوات وبين جيوش الحلفاء التي كانت بدأت في مطلع الأربعينات من القرن الماضي تميل الكفة إلى صفها. وحصلت في منطقتي مرجعيون وحاصبيّا بصورة خاصة معارك بين جيش حكومة فيشي التي كانت تحكمنا، وقوات فرنسا الحرة وبريطانيا التي تمكنت من طرد قوات فيشي من تلك المنطقة في حزيران 1941.
وسط هذا الاقتتال انسحبت الأجهزة الأمنية من المنطقة وفرغت المخافر من عناصرها فغرب حبل الأمن في داخل بلدة حاصبيا ومنطقتها وانتشر القلق على السلامة الشخصية أو على المال بين الناس. لكن فراغ الأجهزة الحكومية وسلطة الأمن ملأتهما على الفور مبادرات المشايخ الأجلاء والوجهاء والعقلاء في منطقة حاصبيا والذين كانوا على يقظة وتماسك في ما بينهم للحفاظ على الأمن والأمان. فبقيت الحياة الإجتماعية على طبيعتها واستمراريتها وحصد الناس غلالهم في جو آمن وامتلأت الكواير بالحبوب حتى إن كبير المشايخ في حينه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين حين سُئل عن رأيه في تغيّر الأوضاع أجاب: “الراعي صالح، أما المغادرون فلا نأسف لرحيلهم وأما القادمون فلا نسّر لقدومهم”.
ومع هذا فإن بعض ضعفاء النفوس وضيقي التفكير لم يجدوا في كل هذا التدبير وتضامن العقلاء سبباً كافياً للطمأنينة ولم تفلح تطمينات الناس والمعارف في تهدئة خواطرهم وهم المصابون بمرض الحرص الشديد على الدنيا والمقتنيات وحرصهم يجعلهم في حالة رعب دائم على مالهم ولا علاج له.
هذا ما غشى على عقل السيد أبو نصري أسعد الدبغي، من أبناء حاصبيا المقيمين فيها، إذ كان رغم أجواء الهدوء والإلفة يتقلب على نار المخاوف، وقد بدأ يرى في كل إنسان أو جار أو عابر سبيل ربما تهديداً لماله ولرغد حاله. ولما لم يعد في قادراً على تهدئة روعه، جمع كل ما يملك من مئات الليرات الذهبية والمصاغ والمجوهرات العائدة لزوجته وبناته المتزوجات وجميع الصكوك والحجج وكل المقتنيات الثمينة فوضعها كلها في مرطبان كبير الحجم من الزجاج ثم أودع المرطبان داخل صفيحة من التنك وأحكم إغلاقها.
وعندما أسدل الليل عتمته فوق بلدته ومنزله خرج إلى الحديقة، وبعد أن أجال الطرف يميناً وشمالاً استقرّ رأيه على أن يحفر تحت أحدى شجيرات الحديقة حفرة عميقة قدر الإمكان، ثم قام بدفن الصندوق الحديدي فيها ولم ينس بالطبع أن يضع قطعة من الخشب فوق تراب الحفرة كعلامة يهتدي لاحقاً من خلالها على مكان الصندوق. لكن، من حكمة الخالق الذي يكره الحرص والظنون أن مرّ على الطريق العام المحاذية لحديقته في تلك اللحظة ثلاثة رجال عرف منهم السيد شاهين حمزة، وقد ألقى الرجال التحية على أبو نصري ثم سألوه قائلين: “يا عم أبو نصري، شو عمتعمل أول الليل في الحديقة؟” ولم يكن تساور المارة الثلاثة أي شكوك إنما أرادوا ملاطفة الرجل الذي كان في منزله وداخل حديقته فربما خرج لحاجة أو للبحث عن شيء من أغراضه.
لكن أبو نصري المسكون بالهواجس صدم بمرور هؤلاء الرجال فاشتعل فكره بعشرات الأفكار والافتراضات، وكل إنسان ينكب على عمل في السرّ وفي عتمة الليل يميل بطبيعة الأمور للخوف ولتفسير أي أمر ولو كان عادياً تفسيراً يقوم على الشك والظنون واحتمال الفضيحة. والله تعالى يقول في قرآنه الكريم }إن الله لا يصلح عمل المفسدين{ (يونس:81)
هكذا أصبح الحال عند العم أبو نصري، وغدا على ثقة تامة بأن هؤلاء الشباب اطلعوا على ما كان يفعله في الحديقة، وأنهم سيتآمرون للاستيلاء على كنزه، لذلك وبعد أن دخل بيته وجلس على أريكته لم يهدأ له بال، وكانت الأفكار تأخذه وتعيده وهو مشوش الفكر حتى لم يعد قادراً على الاحتمال أو السكون في مكانه، فانطلق مسرعاً نحو الحديقة والمكان الذي دفن به مقتنياته، لكنه وبسبب اضطراب فكره وحالة الذعر التي كانت مسيطرة عليه أضاع الاتجاهات واسودت الدنيا أمامه فلم يعثر على العلامة التي وضعها للاستدلال على كنزه الدفين، وقد أضلّه الله ليجعل منه عبرة ومثلاً.
بحث أبو نصري بصورة هستيرية عن المكان ودار على نفسه وفتش في أكثر من اتجاه لكنه لم يعثر على العلامة وأضاع الدليل على كنزه، فعاد في حالة من الخوف الممتزج بالحنق والغضب على كل مخلوق..لا يحمل لفشله في العثور على كنزه إلا الظنون مطلقاً التّهم جزافاً بحق من مرّ قربه قائلاً ومردداً أنهم قد أخذوا أمواله وتحويجة عمره، ثم أخذ يجوب أرض الغرفة ذهاباً وإياباً ويضرب كفاً بكف وبلغت به حال الضياع والغضب أن توجه إلى زوجته المسكينة متهماً إياها بأنها هي التي دبرت المكيدة موجهاً لها التهديد واللغة العنيفة..
المرأة المسكينة أصيبت بالخوف والحيرة، فهي لا تعلم ما يمكنها أن تفعله أمام ثور هائج، لذا سكتت خوفاً من إقدامه على عمل طائش، ثم انسلّت إلى خارج الغرفة وقفزت فوق الحائط الذي يفصل بين منزلها وبين منزل جارهم الشاب أبو سليمان إسماعيل أبو غيدا، متوسِّلة وراجية منه أن يأتي معها ويبحث عن الأموال التي استودعها زوجها في أرض الحديقة لعله يجدها ويهدىء من هيجان وثورة زوجها.
أبو سليمان اسماعيل هبّ مسرعاً ثم ذهب مع خالته أم نصري، كما كان يناديها، وأخذ يتنقل في الحديقة من مكان إلى مكان، ومن زاوية إلى أخرى إلى أن صادف مروره تحت شجرة الليمون، وإذا بدعسة قدمه تهتز تحتها خشبة، فعمل فوراً على نبشها وإذا به يهتدي إلى الصندوق وفي وسطه مرطبان الزجاج، فحمله وعاد مسرعاً إلى منزل جاره وأم نصري تنظر إليه بامتنان واعتزاز.
ذهب الجار بالكنز ليبشر جاره وطرق الباب:
“إفتح يا عم أبو نصري إفتح فهذا قطرميز الزجاج كما وضعته يداك، إفتح “ كان يردد ذلك بكل تهذيب واحترام ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.
فأبو نصري المسكون بالرعب والظنون اعتبر أن كلام جاره من قبيل تهدئة الخاطر فرفض تصديقه كما رفض فتح الباب له واستمر في الصياح من الداخل مكيلاً اللعن والسباب للجميع فالمرطبان “مع الزعران” ثم لعن الأيام والحياة والزمان والمكان. لهذا وبعد أن يئس أبو سليمان من هذا التصرف الغبي والسيىء ناوله إلى خالته أم نصري وقفل عائداً إلى منزله وكأن شيئاً ما كان.
الزوجة أم نصري هالها هذا التصرف المشين من قبل زوجها أكثر من فقدان مصاغها، لهذا تجرأت ثم فتحت الباب وأدخلت المرطبان وقالت لزوجها الغارق في الهيجان: خذه وتفقده وكفى سوء تصرّف وغضب وقد كان أقل واجب عليك أن تستقبل جارك وتشكره بل وليس إهداؤه شيئاً من محتويات هذا الصندو.. ومع كل ذلك لم يهدأ أبو نصري لكنه مدّ يده وأخذ المرطبان ثم تفقدّه فوجده كما كان، لكنه بقي على تجهمه ولم يتلفظ بأي عبارات تحمد الله أو تشكر جاره على المعروف الذي أسداه إليه، فهو انزوى في مقعده عاقد الجبين وزوجته حائرة في ذاتها آسفة لعشرة السوء هذه التي ابتلاها الله بها وهي صابرة محتسبة.
العبرة من هذه المأثرة يلخصها قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَمـاً عَلَيْـهِ وَيَـنْـدَم

قصص الأمثال

قصص الأمثال

الموت ولا المنع بوجه طقيعان

وهو مثل يضرب للنفور من الخضوع للخسيس ولو كان دون ذلك الموت، ويقابله من الفصيح:” المنيَّة ولا الدنيَّة” . والمنع: الأسر . والمنع بوجه فلان: أي الدخول في ذمته ليحفظ له حياته. طقيعان : لقب يقصد به السخرية والتقليل من الشأن.

والحكاية أنه في إحدى الغزوات التي كانت تتم في المنطقة أيام الدولة العثمانية إذ السلطة غائبة والحكم للأقوى، أغارت مجموعة من فرسان الجبل على بعض القبائل البدوية، وغنموا مواشيهم، فساقوها أمامهم ومشوا لكن رجال القبيلة البدوية سرعان ما جمعوا شتاتهم، ولموا شعثهم، وهيأوا أنفسهم، وانطلقوا في هجوم معاكس استطاعوا به أن يتغلبوا على فرسان الجبل، ويستردوا مواشيهم، وأن يطاردوا الفرسان الذين بوغتوا بالهجوم المعاكس. وكان أن لاحق أحد فرسان البدو فارساً من فرسان الجبل بقصد منعه (أي أسره) واستمرت المطاردة إلى أن وصلا إلى مشارف واد سحيق، ولم يبق أمام الفارس المطارد إلا سبيلان: الاستسلام، أو الاندفاع إلى الوادي بفرسه حيث الموت المحتم، وأدرك الفارس البدوي مأزق خصمه، فاندفع يناديه :
– امنع يا ولد امنع . أي استسلم.
وكانت العادة إذا حدث أمر كهذا أن يطلب المغلوب على أمره الأمان، والدخول في ذمة خصمه . وكان يسأل عن اسم خصمه قبل أن يعلن استسلامه، كي يتأكد من أن هذا الخصم أهل للوفاء بالوعد. وعلى ذلك فقد سأل الفارس الجبلي خصمه البدوي، بعد أن ضاقت به سبل النجاة:
– يا ولد ! بوجه من امنع؟ .
فردّ عليه البدوي ساخراً ومستخفاً بالفارس الجبلي، إذ استطاع أن يأسره أخس الناس :
امنع بوجه طقيعان وعليك الله .
فلما سمع الفارس الجبلي ذلك أدرك مقدار الإهانة التي يوجهها إليه البدوي، فالتفت إليه قائلاً:
– خسيت ! الموت ولا المنع بوجه طقيعان .
ثم وجه فرسه باتجاه الوادي واندفع مسلماً نفسه للموت .

وانخلي له يا هلالة

مثل يضرب في تجاهل الهموم وتناسيها، وقد روى لي أحد الأصدقاء أن المثل كما يسمعه منذ خمسين عاماً يضرب عند استهجانهم لخبر غريب بعيد عن التصديق، غير إنني وقعت على حكاية هذا المثل في كتاب صور فكاهية من الأشعار الحموية لمؤلفه أحمد عكيدي .
وقد وردت قصة هذا المثل حين كان المؤلف يتحدث عن صحافة حماة الفكاهية التي سميت بأسماء تعطي معنى مضحكاً وساخراً ومنها صحيفة “ انخلي يا هلالة “ لصاحبها عبد الرحمن المصري وقد صدر العدد الأول منها يوم الأربعاء 20 تموز عام 1910 ولم تعمّر طويلاً .
والحكاية كما نقلها المؤلف أن أحد الأشخاص سرق في أيام القحط والجفاف والحرب كيساً من الطحين، وكان يعيل أسرة كبيرة، فوقع عليه الاتهام، وطلب إلى المحكمة . فمثل أمام القاضي، فأنكر ما فعله، فطلب منه القاضي أن يحلف اليمين، فسرّ وقال في قلبه : لقد جاء الفرج. فهذه من أبسط الأمور لديه. فأقسم وحلف كاذباً، فبُرِّئ . فعاد إلى البيت مسروراً، فخاطب زوجته وتسمى “هلالة “ وقال: “ إنخلي يا هلالة “، أي إنها قد فرجت. فصار مثلاً شعبياً يضرب لمن يستخف بالأمور، ولا يكترث بأهميتها وعواقبها2.
على أنني وقعت على حكاية هذا المثل في مصدر آخر برواية: “ وانخلي يا أم عامر “ وقد ذكره أحمد تيمور باشا في معجم الأمثال العامية، وقال :
“ أي قد وضح الأمر، ولم يبق سبيل إلى الكتمان وإخفاء الدقيق الذي سرقته فانخلي يا زوجتي وأعجني” .
ويضيف تيمور : “ وفي مثل آخر : “ قالوا لحرامي الدقيق: احلف، قال يا مره انخلي “ أي لا داعي للحلفان ثم توسعوا في معناه، فصاروا يضربونه لمن نال حظاً وتوفيقاً في أموره، داعياً إلى التبسط والتوسع في المعيشة . ويروى “ والله وانخلي3 “ .
وبذلك يتجه المثل إلى التعبير عن الغبطة بالنجاح والتوفيق .

الولد ولد ولو حكم بلد

يضرب هذا المثل في الولد الذي نتوسم فيه النباهة ، فنوكل له ما ليس من شأنه الاهتمام به، فلا يلبث أن يعود إلى طبيعته الطفلية .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي، أن والي مصر محمد علي باشا خرج يوماً يتنزه مع بعض حاشيته، فمروا بأولاد يلعبون بالكلل، وكان بينهم ولد يلبس طربوشاً جديداً، فتناوله محمد علي عن رأسه وقال له: “بكم تبيع هذا الطربوش ؟” فقال: “ طربوشي كان سعره عشرين مصرية قبل أن تمسه يدكم الكريمة، أما الآن فقد أصبح في يدكم أغلى من أن يباع بثمن”!
أعجب محمد علي بنباهة الولد، وقال لمن معه : “ هذا الولد ربما صار حاكماً عظيماً” ثم قال له: “ إذا أعطيتك ثمن الطربوش ألف مصرية فماذا تعمل بها؟ “ قال: “أشتري كللاً وألعب مع رفاقي”.
فضحك محمد علي باشا وقال: “الولد ولد ولو حكم البلد “ وجرى كلامه مثلاً تتناقله الألسن1 .
حقيقة الأمر أن محمد علي أخطأ في حكمه على الولد لأنه تصرف على سجيته وبما يلائم عمره وحاجته إلى اللهو والرفاق، ولو أجاب الولد بخلاف ما ذكر كأن يذكر أشياء لا قبل له بها لحقّ عندها القول أنه ليس عاقلاً.

يا مدبر العربان دبر حمارك

يضرب هذا المثل للرجل الذي يحاول تقديم النصح أو المساعدة للآخرين، وهو أحوج الناس لهذه النصيحة أو المساعدة .
وقد عالج المثل الشعبي هذه المسألة في أكثر من مثل ؛ كقولهم “ عجقة وبتطلع ببيت جيرانها كواير” .
وحكاية هذا المثل رواها سلامة عبيد فقال : “ أصل هذا المثل أن بدوياً ذهب يشكو إلى أحد قضاة البدو مظلمة، فأخذ يسأل عن بيت ذلك القاضي، وفي أثناء بحثه صادف شيخاً بدوياً يركب حماراً هزيلاً مقرحاً، فسأله عن بيت القاضي . فقال الشيخ : أنا القاضي. فاستغرب البدوي أن يهتم ذلك القاضي بشؤون العربان، ولا يهتم بحماره، فيتركه هزيلاً مقرحاً “ وقال في نفسه : “ يا مدبر العربان دبر حمارك4“.

ارجع لكارك لوّلي فاروعتك والمشحرة5

وهو مثل يضرب للرجل الذي يعزّ بعد ذلّ، ثم يذلّ ثانية . أو للرجل الذي يرتكب حماقة تفقده ما وصل إليه من شأن رفيع، فيعود إلى ما كان عليه من صغر شأن . والمثل فيه رائحة الشماتة .
يعود تاريخ الحكاية إلى أواخر العهد العثماني نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وقد كان العثمانيون يستخدمون سلاح التفرقة، وبث الخلافات بين أبناء الوطن الواحد كي يحافظوا على مناخ الاضطراب وعدم الاستقرار الكفيل باستمرار سلطتهم، وإحكام قبضتهم على البلاد.
وكان من أساليبهم إشعال نار الضغينة بين سكان الجبل والسهل الحوراني ، حيث جرت سلسلة من المواجهات بين الطرفين، كان وراءها سلطة الوالي بدمشق . وإحدى حلقات تلك السلسلة بدأت من “ الشيخ مسكين حينما اجتمع أهل السهل الحوراني يريدون الإغارة على الجبل لإدراك ثأر سابق، فطالب المجتمعون زعيمهم “ابن مذيب” أن يخرج العطفة وهم كفيلون بحمايتها فاشترط ابن مذيب على رجاله أن يوافوه بمئة شاب يختارهم بنفسه لحماية العطفة وهكذا كان . وتوجّه المهاجمون من السهل الحوراني إلى الجبل، عبر قرية خربة غزالة فلاقاهم فرسان الجبل بقيادة الشيخ أبي علي قسام الحناوي .
ومما كان يهزجه فرسان العطفة قبل المعركة، وهم في طريقهم إلى الجبل أنشودة حماسية تقول :
يا دريزي وِش لك بالحرب فاعت عليك المدبـرة
ارجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع لكـــــــــــارك لــــــــــــــــولـــــــــي فاروعتـــــــــــــــك والمشحرة
والأهزوجة تخاطب الفارس الجبلي محبطة من عزيمته مذكرة إياه أنه لا قبل له بالحرب ومواجهة الرجال المهاجمين، الذين هم مثل الدبابير التي خرجت من “المدبرة” باتجاه هدفها . وفي البيت الثاني تذكر الأهزوجة مقاتل الجبل بأن الحرب ليست كاره “صنعته” بل صنعته قطع الحطب بالفاروعة لصنع الفحم، فعليه أن يرجع إلى صنعته الأولى، وإلى فاروعته ومشحرته.
وتنتهي الموقعة بهزيمة المهاجمين من السهل الحوراني، وأسر العطفة، واقتيادها إلى سهوة البلاطة، حيث نزلت ضيفة مكرمة على حرم الشيخ إبي علي قسام الحناوي . وتهرع أمها من الشيخ مسكين داخلة على الشيخ إبي علي قسام، طالبة ابنتها تحت أي شرط يريده، أو التعرف على قبرها إن هي قتلت . وتندهش الأم حين ترى ابنتها بكامل زينتها، ضيفة معززة حيث يعيدها الشيخ أبو علي قسام بحماية ثلة من فرسان الجبل، لتصل إلى “ الشيخ مسكين “ معززة مكرمة .
ورغم هذه النهاية المخيِّبة للهجوم الحوراني فإن البيت الثاني من أهزوجة فرسان السهل التي قالوها في مقاتلي جبل الدروز وهي “إرجع لكارك لولى فاروعتك والمشحرة “ تحوَّلت إلى مثل يضرب في الشماتة أو الاحتقار واستصغار الشأن6 .

عرس فهيدي

مثل يضرب في الأمر إذا طالت ذيوله وتفرع، وعجز الناس عن حسمه بالسرعة المطلوبة فتسبب ذلك في فتن واقتتال لا طائل تحته. وفهيدي امرأة من درعا عرض لقصتها الدكتور فندي أبو فخر في كتابه “ تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840ـ 1918” وقد جاء في الرواية أن بدوياً من الجوف قام باختطاف فهيدي من درعا، واحتمى ببيت الشيخ ياسين الحريري شيخ قرية بصر الحرير بقصد تزويجه إياها، وهي عادة متبعة لدى بدو المنطقة، لكن الشيخ ياسين قام بطرد البدوي، وهمّ بإعادة فهيدي إلى أهلها، وتزويجها من شخص آخر غير عريسها الذي خطفها .
فالتجأ البدوي بعد طرده من بصر الحرير، إلى قرية الدويرة القريبة والمتاخمة للسهل الحوراني، واستجار بشيخها حمود نصر، (وفي رواية أخرى سليمان نصر) لاسترجاع عروسه . وبادر الشيخ حمود نصر لمؤازرة مستجيره بالإغارة على قرية بصر الحرير . وكانت الحروب سجالاً بين الطرفين، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من الجانبين، الأمر الذي سمح بتدخل الدولة العثمانية بحجة الفصل بين المتنازعين، وهي التي كانت تتحين مثل هذه الفرص وتغذيها .
ويورد الدكتور أبو فخر في المصدر نفسه ما قاله شبلي الأطرش في هذه المناوشات:
أول فتـــــــــــــــــــــــــوح الشرّ جازة فهــــــيـــــدي جرى عقبها عركات يابو الهمايم
جرى يوم قراصة الذي تخبرونه يــــــــــــــــــــــــــا ما فقدنا كل قرم مخاصــــــــم7
ولا يتابع الدكتور أبو فخر قصة فهيدي في المصدر المذكور. غير إنه نقل لي شفهياً لدى سؤالي له عن مصير فهيدي ونهاية الحكاية: إن الشيخ ياسين الحريري وضع خطة لخداع البدوي وجرّه إلى بصر الحرير بقصد قتله، وتقوم هذه الخطة على إرسال من يبلغ البدوي أن عروسه تنتظره على بركة بصر الحرير ساعة كذا ليلاً، وهناك ينتظر البدوي موته على يد مجموعة من المسلحين . وبذلك لا يضطر ياسين الحريري لفتح خلاف مع سكان الجبل، غير إن الخطة فشلت حينما رافق البدوي مجموعة من فرسان الجبل، وهناك دارت معركة، تلتها عدة معارك . وكان فرسان الجبل يرددون أثناء هذه الغارات مخاطبين أهل السهل الحوراني:
مــــــــــــــــــــــــــــــا دام فهيــــــــــــــــــــدي عنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفّــــــــــــــــــــَانكم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريح8
أما عن مصير فهيدي فقد كان مصيرها القتل على يد أهلها وذويها9. والله أعلم .
هذا، وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته واكتفى بالقول: فهيدة امرأة خطفت فطالت المعارك بسببها، وخاطب شاعر المخطوف منهم قوم الخاطفين بقوله :
مــــــــــــــــــــــــــــــا طــــــــــــــــــــول فهيـــــــــــــــــــــــدة عنــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــكم مــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــريــــــــــــــــــــح
وأورد مثلاً آخر مشابهاً لهذا المثل في مغزاه : “عرس بالي ما له تالي10”
من جهة أخرى، بيّنت الكاتبة الألمانية بريجيت شيبلر في كتابها “انتفاضات جبل الدروز” النوايا العثمانية المبيتة لإحكام قبضة الدولة على الجبل من خلال استغلال هذه الحادثة واتخاذها ذريعة للتدخل وفرض سلطانها . ونقلت شيبلر أن الوالي العثماني مدحت باشا لم يكن مستعداً لقبول خروج الجبل عن سلطة العثمانيين، وقد صرّح علناً أن حالة نصف الاستقلال في جبل الدروز يستحيل أن تصنع “حكومة تنظيماتية مستقرة”، وطلب من الباب العالي السماح له بإخضاع هذه النواحي. ووجهت القوات العائدة من الحرب الروسية العثمانية سنة 1879 مباشرة إلى حوران، ولم يبق للسلطة العثمانية إلا الذريعة للتدخل، ولم يطل انتظارهم فالقضية موجودة .
هذا وتسرد السيدة شيبلر الحادثة على النحو التالي:
“ كان لدى بدو الجبل فتاة عزباء، ذات جمال مشهور، عزم بدو الجوف على اختطافها، ففرّ خطيبها معها إلى بصرى (كذا في المصدر، والصحيح بصر الحرير) عند الشيخ ياسين الحريري الذي بدوره أعجب بها، وطرد عريسها . وتبعاً للعادات ذهب العريس ودخل عند سليمان نصار (كذا في الأصل والصحيح سليمان نصر) في الدويري . لم يرغب سليمان في حرب بصر فأرسل ليلاً رجلين من الدروز ومعهما بدويان إلى بصر كي يسألا العروسة إذا كانت ترغب في الهرب، فقتل الدرزيان، وهكذا اندلعت الحرب لثأرهما11.
وتضيف شيبلر في نهاية الخبر: “خدم القتال بين بصر والدويري نوايا مدحت باشا المبيتة، واتخذ من هذه الحالات ذريعة للتدخل، وأبلغ العثمانيون الشيخ الروحي الحناوي الذي كان يسعى في التوسط شروط السلطة العثمانية12. “
ويبيّن الدكتور فندي أبو فخر مدى الروابط المتينة بين السهل الحوراني والجبل بالرغم من المشاحنات التي كان يصطنعها العثمانيون، فيورد ما نصه : “من النادر أن تجد قرية في لواء حوران لم تعبّر عن تضامنها مع الجبل، حتى شيوخ بعض القرى، التي شهدت مشاحنات ونزاعات بينها وبين قرى الجبل، فالشيخ ياسين الحريري ـ شيخ بصر الحرير ـ الذي تشاجر مع الشيخ حمود نصر، وبعض ساكني قرى الجبل، بسبب ما يعرف بـ “عرس فهيدة” خبأ أموال الشيخ يحيى الأطرش، ومفروشات داره، وأموال أهالي قرية عرى في بيته، كما أخفى سكان قرية خربا أموال أهالي قرية المجيمر والعفينة والقريا في بلدهم”13.

عرس-فهيدي
عرس-فهيدي

 

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

الدكتور محمد السماك في كلام بليغ
عن وحدة الإيمان الإسلامي المسيحي

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما
الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا

(أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي)
في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل.
يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق.
وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.”
وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”.

عهد النبي للنصارى
توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م.
حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه:
“هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي:
“تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف:
1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين.

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا (أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي) في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل. يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق. وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.” وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”. عهد النبي للنصارى توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م. حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه: “هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف: 1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين. 2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين. 3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”. ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42) يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.
الأستاذ محمد السمّاك

2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين.
3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”.
ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42)
يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.

من مآثر وعبر المُصلح الإجتماعي
عارف النكدي

عارف النكدي علمٌ من أعلام العروبة والتوحيد، ومنارة مشعّة وركن تليد.. وحصنٌ حصين للمعذبين واليتامى والمشردين لا يُماثله نديد.
حقاً إنه كان المُصلح الإجتماعي الكبير، وأحد العاملين لتأمين سلامة المجتمع ورُقيّه في هذه البيئة المعذبة من الشرق، في وقتٍ كان الفقر والعوز والتشرد سيد المواقف بين أبناء وطبقات المجتمع. وقد لمع اسمه هذا الرجل الكبير في عمله الوظيفي، فكان كالسيف القاطع بوجه الإنحلال والإنهيار كالرشوة وسوء المعاملة والإستعلاء واستغلال المواقع من قبل المفسدين.
من هنا كانت له تلك المكانة الرفيعة في نفوس أبناء طائفته وعارفيه ومقدّري فضله وعلمه، والمطّلعين عن كثب على أعماله الخيرية وفي طليعتها بيت اليتيم الدرزي، وكم كان لهذا العمل من أفضال على اليتامى والمشردين، وكم هم كُثر عند الطبقة الفقيرة من المجتمع الشرقي، وكم كان لهذا الميتم من رفع شأن طلّابه ونزلائه، والذين يفوق عددهم الألف نزيل كل عام، حيث توصل البعض منهم إلى أعلى المراتب والمواقع الإجتماعية والسياسية والعسكرية وسواء ذلك، ليصحّ به القول المأثور “الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله وأَحَبُّهم إليه أنفعُهم لعِيالِه”.
تقلّد النكدي العديد من المناصب والمواقع، إذ عمل قاضياً ثم محافظاً ثم مديراً عاماً لوزارة العدل السورية العام 1944، ثم رئيساً لمجلس الشورى السوري العام 1946، ثم مديراً عاماً للشرطة في تموز 1946 وبقي في موقعه هذا حتى تقاعده من الوظيفة العامّة ليعيّن بعدها بالوكالة محافظاً لجبل الدروز بالإضافة إلى تولّيه الأوقاف الدرزية منذ العام 1930. ومما قام به من خدمة مميزة إنشاءه فروعاً للمدرسة الداودية (عبيه) في 43 قرية درزية من قرى جبل لبنان ووادي التيم..
غير إن ما نحن في صدده هو مآثره ومواقفه أثناء حياته الوظيفية والإجتماعية والتربوية، ومنها أنه أثناء خدمته كمفتش عدليّ في وزارة العدل السورية إبان الإنتداب الفرنسي، يقصده يوماً “المسيو سيرو” أول مستشار فرنسي لوزارة العدل السورية، وقصده تأنيب أحد المفتشين لتقريره الشديد اللهجة ضد المستشار الفرنسي ذاته وعلى مرأى من السيد النكدي، لكن النكدي استهجن تصرف المستشار الفرنسي وتحركت حميته دفاعاً عن كرامة زميله المفتش فتوجّه إلى سيرو يخاطبه بحدّة قائلاً: “إنك لا تخيفنا لا أنت ولا دولتك، وإنني لن أتردّد عن طردك من هذا المكتب إن لم تتراجع عن تهديدك”.

عارف بك النكديّ
عارف بك النكديّ

وعندها أدرك المستشار الفرنسي خطأه وأن النّكدي جادّ في تهديده تراجع بانتظام ثم صافحه معتذراً.
ويوماً عمل النكدي على تسريح أحد القضاة، فحضر المستشار الفرنسي إليه وقال: “إنني لا أوافقكم على تسريحه، لأن السلطات الفرنسية راضية عنه تماماً. أجاب النكدي: كيف لا أسرّحه وهو يختلف مع الحاجب عنده في ما إذا كانت الهدية التي قُدّمت له أم للحاجب، وفي النهاية تمّ تسريحه عنوة عن المستشار.
في العام 1942 تقدم وزير العدل السوري بمشروع قانون يتضمن تسريح أربعين قاضياً من بينهم قاضٍ له نفوذ بين زعماء الأحياء في دمشق، وذلك بعد استشارة عارف النكدي ومباركته لهذه الخطوة. رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد شكري القوتلي استدعى السيد عارف النكدي ثم طلب منه أن يستثني هذا القاضي من قائمة المسرّحين لما له من حظوة وأنه يعده بأنه سيوقع هذا القانون فور وصوله إليه. وبعد أخذ وردّ بين الرئيس والسيد النكدي، أجابه الأخير: لقد وجدتُ لكم الطريقة لإنقاذ الموقف يا فخامة الرئيس، ثم تناول ورقة وقلماً وكتب استقالته وقدمها للسيد الرئيس قائلاً: في هذه الحالة يمكنكم الإحتفاظ بهذا التاجر..! لكن في النهاية تنبّه الرئيس القوتلي إلى صعوبة ما يطلبه فوقّع قائمة التسريحات ومن بينهم القاضي المشار إليه.
صديقه وابن موطنه لبنان، الرئيس فارس بك الخوري، وكان يومها رئيساً للمجلس النيابي السوري، اجتمع وإيّاه في أحد المنازل ثم فاتحه القول: يا صديقي عارف بك، إنني لا أوافقكم الأمر على ما تقومون به من تسريحات بين القضاة وسواهم من الموظفين، والواقع أنه لا يمكنني النوم إزاء ذلك. تبسّم عارف النكدي وأجابه : “أيضاً لا أقدر أن أنام إذا لم أسرّح مرتشياً أو فاسداً وخيرٌ لي ولك أن لا تنام أنت من أن لا أنام أنا”.
أحد رجالات التربية المرموقين في لبنان حدثني قائلاً : كنت العام 1956 في الصف الثالث التكميلي في المدرسة الداودية في عبيه، وقد حلّ عيد تأسيس الجامعة العربية في 22 آذار 1945 من كل عام، وكانت تلتزم بعطلة هذا العيد جميع المدارس الرسمية والخاصة في لبنان، غير إن إدارة المدرسة الداودية لم تلتزم بذلك، بل كان الدوام عادياً مما حملنا نحن الطلاب على الإحتجاج والإمتناع عن الدخول إلى غرف التدريس، فما كان من الإدارة إلا أن دعت المغفور له عارف النكدي كونه يتولى الأوقاف والرئيس الأعلى للمدرسة كي يساهم في حلّ هذه المشكلة بين الطلاب والإدارة.
أتى عارف بك ثم استدعى من كل صفّ تلميذاً، وكنت شخصياً ممثلاً لصفي، وعند الإجتماع معه قال: “أشكر غيرتكم من أجل العروبة والجامعة العربية، ولكن يا أبنائي الأعزاء لعلمكم أن هذه الجامعة عملت على إنشائها بريطانيا لتكون وسيلة للتفريق بين العرب والحؤول دون وحدتهم، ولو كان الواقع غير ذلك لكنتُ أوّل الدّاعين إلى الإحتفال بالعيد”. ثم خرجنا من لقائه ونحن مقتنعون وغير مقتنعين لكننا نزولاً عند رغبته (وهيبته) عدنا إلى صفوفنا لمتابعة الدراسة.
في العام 1969، وبعد مرور عامين على نكسة حرب حزيران 1967، أقام أساتذة مؤسسة بيت اليتيم الدرزي في عبيه، بالإشتراك مع طلاب وطالبات المدرسة، احتفالاً بالمناسبة استنكاراً للهزيمة وتنديداً بالعدو الإسرائيلي، وخلال الإجتماع وصل المُصلح الإجتماعي ورئيس المؤسسة عارف النكدي وجلس مع الحضور. وبعد أن ألقى بعض المعلمين والطلاب خطابات ملؤها الحماسة والحث على الدفاع والإستماتة في سبيل القضية العربية.. طُلب إلى السيد عارف بك أن يلقي كلمته، فصعد إلى المنصة ثم ارتجل الكلمة التالية: “أخواني وأبنائي الأعزاء، لو سُئلتُ عن إقامة هذه الحفلة قبل أن دُعيتُ لما وافقت على إقامتها، فالخطيبة الأولى وصفت إسرائيل بالدولة المسخ، فإن كانت دولة مسخاً فعلت بنا ما فعلت، فماذا كانت ستفعل لو لم تكن كذلك؟؟ لستم أنتم وحدكم من يُؤخذ عليكم هذا، فالحكومات العربية دأبت على إسماعنا مثل هذه الخطب الطنّانة أما أنتم فعليكم أن تكونوا مجتهدين أولاً بدروسكم وبأخلاقكم، لا يجوز أن نُكابر ونعمي أنظارنا عن الحقيقة رغم مرارتها، بل يجب علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتغيير واقعنا، وأعظم رجل إذا أراد أن يحكم أمّته يجب أن يكون خادمها وصادقها وأمينها. الرسول محمد بن عبدالله (ص) كان إذا عظّموه يقول: “أنا لستُ سوى ابن إمرأة كانت تأكل القديد”.. وإلا فإننا سنبقى مثل ذلك الأعرابي الذي جاء إليه اللصوص وسلبوه إبله فعاد إلى أبيه وقال: لقد ذهبت إبلي، فسأله أبوه: وماذا فعلت؟ قال: “لحقتهم بالشتائم” وأضاف النكدي مثل الخليفة عثمان بن عفان (ر) الذي وقف ليخطب فلم يطاوعه لسانه، فوقف وقال: “أنتم أحوج إلى إمام فعّال منكم إلى إمام قوّال، وبالفعل فقد تمّت أعظم الفتوحات العربية في زمن عثمان بن عفان (ر). ثم قال العرب يا أعزائي وصلوا إلى الأندلس ثم وصلوا هددوا أوروبا، لكن دبّ بينهم الخلاف فأضاعوا ذلك الفردوس. وإلى اللقاء في مرة قادمة في حفلة تكرّم فيها اليد وليس اللسان”.
في جلساته المتكررّة كان دائماً يردد ويقول: الشباب والعلماء مدعوون إلى العودة للماضي الغني جداً بالقيم والمآثر والبطولات للإستعانة بكنوزه في بناء الحاضر والمستقبل، وأن يفتحوا خزائن أجدادنا وما قدموا وما ضحوا في سبيل عزة العرب وكرامتهم، وليس ذلك بالمستحيل لأن باسقات النخيل عميقات الجذور، وما البحرُ إلا مجمّع للسواقي والأنهار، وما الزمان إلا الأيام والأسابيع والشهور والأعوام..
أتى لزيارته قبيل وفاته بيوم واحد الأستاذ زهير مارديني فدار بينهما حوار عن الحياة والموت نقله الأستاذ مارديني بهذه الكلمات:
سأل عارف النكدي جليسه قائلاً:
ماذا بعد الموت؟
أجاب الأستاذ مارديني: العدم
النكدي: هذا مستحيل.. فالعدم لا يؤدي إلى الوجود.
المارديني: ماذا قبل الوجود إذا؟
النكدي: وجود ينتهي إلى وجود
المارديني: ماذا بعد الحياة؟
النكدي: حياة
المارديني: ألا تؤمن بأن الحياة تفنى؟
النكدي: الحياة كالشمس، تغيب لتشرق..
المارديني: ألا يُساورك الخوف من الموت؟
النكدي: الموت ليس مشكلة، الحياة هي المشكلة.
بعد هذا الحوار ترك عارف النكدي بيروت وانتقل إلى بلدته عبيه، ثم قام بتفقد مؤسسته الشامخة، بيت اليتيم الدرزي، وبعد هذا أخذ يطوف على أقاربه وأصدقائه في البلدة ثم أوى إلى منزله وقال لزوجته: أشعر ببعض التعب، لقد تجوّلت اليوم كثيراً، ثم تمدّد على الفراش بعد أن أحسّ بألم طفيف في رأسه، فطلب إلى زوجته أن تهيىء له كأساً من الشراب الساخن، فذهبت الزوجة لتعدّ له ما طلب ثم عادت إليه بالكأس الساخن لتجده غافياً، وكانت تلك الإغفاءة الأخيرة.

التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي

مسؤولون وأكاديميون وخبراء يقيَّمون وسائل التواصل الاجتماعي

كيف تصدّ طوفانا؟

مؤتمر البلمند شخّص المخاطر لكن غابت الحلول

زين الدين: شبه مستحيل محاولة الرقابة عليها
رامي الريس: الأنباء أصبحت رقمية منذ 2012

كيف يمكن احتواء تسونامي الإنترنت وتفرعاتها في وسائل التواصل الاجتماعي والمقصود بها حسابات الفيسبوك وتويتر وإنستغرام والواتس أب وغيرها ومن التطبيقات التي جعلت التواصل بين الناس بالكلمة والصوت والصورة ممكنا في أي وقت من الأوقات وبتكلفة زهيدة؟ سهولة الاتصال والتواصل الرقمي قهرت الأسوار وكافة أشكال الرقابة وخلقت حرية تامة للمستخدمين للتعامل بالمعلومات والصور والفيديو وارتبطت هذه الثورة بشيوع الأجهزة المحمولة التي تصبح لصيقة بالمستخدم يحملها أين يشاء ويستخدمها كيف يشاء خارج أي رقابة. وهذه الحرية التي أتاحها التقدم التكنولوجي بدأت تعيد تشكيل القيم والعقول والعادات وتنخر في الثقافات بل وفي التقليد الاجتماعي وهي تلقي بثقلها بصورة خاصة على الأسر التي بدأت تعاني من مشكلات اجتماعية وسلوكية لأنها لم تعد هي السلطة الحقيقية في تنشئة الأولاد.
لكن الكلام عن الخوف الأسري صحيح بالمعنى النسبي فقط، لأن أرباب الأسر أنفسهم نساء ورجالا، أمهات وآباء وأولياء أمور دخلوا بدورهم في الدوّامة أيضا وباتوا من المستخدمين النشطين لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وكثيرا ما يشتري الأهل الهواتف الذكية لأطفالهم الذين لم يبلغوا سن الخامسة أو يقدمونها لهم كهدية في عيد ميلادهم (!) وهؤلاء الأطفال يتربون في البيت على استخدام مختلف التطبيقات بإشراف من أهلهم . فالمشكلة إذن ليست في إدمان الأحداث والمراهقين على وسائل التواصل الاجتماعي بل في وجود الأهل داخل الدائرة نفسها وقبولهم بهذه الوسائل، ليس باعتبارها تهديداً، بل باعتبارها تمكيناً ومكونا أساسيا من مكونات الحياة المعاصرة. وهذا الاندماج بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين حياة الأسرة هو الآن المشكلة الحقيقية.
في جميع الحالات فإن التحدي الذي أبرزته وسائل التواصل الاجتماعي كبير، وهو حتماً أكبر من قدرة الأهل أو المدرسة أو حتى الدولة على توفير الضبط المناسب. وربما بسبب الشعور العام بالعجز وبخطورة الظاهرة حظي المؤتمر الذي نظمته جامعة البلمند في سوق الغرب بالتعاون مع منتدى الفكر التقدمي بإقبال كثيف من أكاديميين وإعلاميين وسياسيين ورؤساء بلديات وقادة حزبيين وجمهور ووسائل إعلام.
المؤتمر الذي انعقد في قاعة الشيخ توفيق عسّاف في حرم الجامعة تصدى في جلسة أولى لموضوع “التأثيرات الاجتماعية لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي” وهذا الموضوع المهم كان

 

جانب-من-الحضور
جانب-من-الحضور

يحتاج إلى تركيز أوسع ومشاركة خبراء ونفسيين وأهالي ويتطلب بالتأكيد أكثر من جلسة، لكن المنظمين فضلوا تنويع البحث وأدرجوا موضوعاً ثان منفصلاً هو “مستقبل الإعلام في ظل حرية التواصل الاجتماعي”.
الموضوع الأول بدا تحديّا كبيرا للمتحدثين الذين كان معظمهم ملما بصورة عامة بالمحاذير والمخاطر ، لكن دون إحاطة كافية بأساليب المواجهة القانونية والتقنية لاحتوائها. وربما كان المجتمعون (المخضرمون في معظمهم) في حاجة إلى خبير في تقنيات وآليات عمل الإنترنت يكون أيضا مطلعاً على الحلول التي أخذت بها دول عديدة لجهة ضبط التداولات عبر الشبكة، كما كان من المفيد إشراك ممثل عن الشباب المنخرطين بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي لينقل للمشاركين بعض ما يحصل في كواليس هذا العالم الرقمي ويقدم ربما من وحي التجربة اليومية بعض النصائح والاقتراحات.
بسبب غياب المُكوِّنين التقني والشبابي (مع تمثيل طاغ للإعلام) استُغرِق البحث في التركيز على المخاطر، وهذا الجانب عبر عنه الدكتور هشام زين الدين رئيس منبر الفكر التقدمي الذي أقر بأننا “نقف عاجزين أمام التطور المتسارع الذي يأتينا في كل يوم بجديد ونحن لمّا نهضم قديمه بعد”. مشيرا إلى أن تقنيات التواصل الاجتماعي هي جزء من نتائج عولمة شاملة لسنا جزءاً منها بل تم إقحامنا فيها، كذلك الأمر بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي التي “فرضت علينا كقدر” بل أصبحت الشريك مع البيت والمدرسة والجامعة في عملية تربية الأجيال”.
وزير الإعلام ملحم رياشي الذي ألقى كلمته الأستاذ أنطوان عيد اهتم بإعلان موقف مبدئي في دعم الوزارة لحرية التعبير “وهي الرئة التي يتنفس منها لبنان” و”الميزة الأساسية للإعلام اللبناني” ولا خلاف بالطبع في ذلك لكن حرية الأعلام لم تكن هي الموضوع بل المشكلات الاجتماعية والأخلاقية التي يسببها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. ولا خلاف أيضا حول تأكيد الوزير على ضرورة “المزاوجة بين الحرية والآداب العامة”. لكن كيف يتم ذلك؟ وما هي الإجراءات والقوانين التي تمتلكها الدولة للتعامل مع الإنترنت وشبكات التواصل؟
الدكتور هشام زين الدين تبنى في هذا المجال وجهة نظر واقعية تقول بأنه لا جدوى من محاولات فرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي لأن تحديد المعايير وضوابط الرقابة مهمة صعبة وتكاد تكون مستحيلة، وهو ما يعني أن الخيار الأفضل هو تركيز الجهود على التوعية والإرشاد من خلال التربية والإعلام.

تشخيص إعلامي
الإعلامي بسام أبو زيد أشار إلى أن وسائل التواصل أصبحت في حد ذاتها مصدرا لكثير من الأخبار، لكنه حذَّر من سوء استخدامها في نشر الأخبار الكاذبة والشائعات. كما حذرت الإعلامية ريما كركي من دور سلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأسر وفي مجال نشر الشائعات. واعتبر الإعلامي وليد الداهوك إن الإفراط في استخدام تلك الوسائط أدى إلى تفكك الأسر وتشويه العلاقات وتدني التركيز الدراسي وتفشي أمراض نفسية واجتماعية.
الإعلاميان رامي الريِّس وجورج صليبي وخبير التواصل الاجتماعي في جامعة البلمند ركزوا في الجلسة الثانية على تقييم التأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي على صناعة الإعلام، هذا التأثير الذي يجعل سياسيا مثل رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط يتحول إلى مصدر أول للأخبار والمواقف عبر استخدامه لخدمة “تويتر” الأمر الذي قلل حاجته لإجراء مقابلات مع وسائل الإعلام. بينما أكد الإعلامي رامي الريّس على أن انتقال الصحف والمجلات المطبوعة إلى الصحافة الرقمية “مسألة وقت” مذكرا بأن جريدة “الأنباء” التي يرأس تحريرها تبنت موقفا رائداً عندما أوقفت النسخة الورقية في العام 2012. ونوّه بالفعاليّة التي أظهرتها وسائل التواصل الاجتماعي في إسماع صوت الشباب المختلف والدور الذي لعبته في الحراك السياسي لعدد من المجتمعات العربية مثل تونس ومصر.

شمس العرب تسطع على الغرب

قراءة في كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكِه1

شمسُ العرب تسطعُ على الغَرب

مساهمــة العــرب الكبيــرة في انطلاقـة الحضــارة الأوروبيــــة

لم يبدأ خروج الغرب من الظلمات وازدهاره ونهضتــه
إلاّ بعـد احتكاكــه بالعــرب سياسيــاً وعلميــّاً وتجاريــّاً

بينمـــا كـــان العالـــم العـــربي يتّجـــه نحـــو ذروة عصـــره الذهبــــــي
كانـــت أوروبا منشغلة بعودة وشيكة للمسيح للإقتصاص من البشـر

“هكذا وجب أن يظهر الحقّ ويعلو، كما نجح في هذا مُحمّد الذي أخضع العالم كلّه بكلمة التوحيد»
(الشاعر الألماني غوته)

يعتبر كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه أحد أعظم الشهادات المنصفة التي جاءت من مؤلف أوروبي ليس فقط في عظمة الحضارة العربية الإسلامية فهذا الأمر يكاد يجمع عليه أكثر المؤرخين المنصفين بل في أثر هذه الحضارة العظيمة في نهوض وتقدم الحضارة الأوروبية، وكانت هونكه بذلك أول شخصية علمية أوروبية تسلط الضوء على أمر يميل الأوربيون إلى تجاهله والتغطية عليه وهو ما تعتبره هونكه الدَّيْن الذي يترتب عليهم للعرب والمسلمين في الكثير من مجالات العلوم والثقافة. يذكر أن الإسم الأصلي لكتاب هونكه هو “شمس الله تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا2 وهو يتناول بالإضافة إلى تأثير الحضارة العربية-الإسلامية وعلمائها واختراعاتهم على الحضارة الغربية تأثّر اللغات الأوروبية باللغة العربية وحضارة الأندلس.
وزيغريد هونكه مستشرقة ألمانية أحبّت العرب، وهي زوجة المستشرق الألمانيّ صديق العرب والمطّلع على آدابهم وآثارهم ومآثرهم الدكتور شولتزا، وقد عاشت مع زوجها سنتين في مرّاكُش وقامت بعدد من الزيارات للبلدان العربيّة دارسة فاحصة، وهي ردت في مقدمة كتابها قرارها إعداد مؤلفها إلى ما لحظته من تجاهل تام في الأوساط الغربية للإسهام الكبير العربي والإسلامي في الحضارة العالمية، وهو ما جعل قليلون خارج العالم العربي يعرفون فعلاً عن تلك الحضارة وأهميتها للتراث الإنساني. وقد جمعت الكاتبة مادة الكتاب على مدى سنوات طويلة أمضتها في رحلات متوالية إلى مختلف أنحاء العالم العربي حيث بنت شبكة واسعة من الصداقات وحققت بنفسها العديد من مواد كتابها، وهي أرادت لكتابها أن يكون بالفعل “سجلاً لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة”.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في العام 1964، وأعيد طبعه مراراً منذ ذلك الحين وصدرت طبعة ثامنة منه في العام 1986، وقد راج الكتاب بشكل متميّز بين الناطقين بالعربية فطُبع مراراً وتكراراً، وتحول إلى أهم مرجع جامع يعرِّف العرب بتاريخهم بأكثر ما يعرفونه هم، ويضع بين يديهم الحِجّة البالغة في أكثر ما يختصّ بماضيهم الزاهر وأسبقيتهم في الكثير من المجالات التي عادت أوروبا وبفضل جدها وتقدمها الاقتصادي والعلمي فسبقتنا فيها جميعاً.
فما الذي جاءت به زيغريد هونكه وأثار ذلك الاهتمام الكبير وشعور الاعتزاز في الأوساط العربية لكنه مع الأسف لم يلق الاهتمام نفسه من الأوساط الغربية السياسية والأكاديمية على السواء؟

1. – منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثامنة 1986، نقله عن الألمانيّة فاروق بيضون و كمال دسوقي راجعه ووضع حواشيه: مارون عيسى الخوري

2. – بالألمانية Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe)

قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية
قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية

تقول المؤلفة في مقدمة كتابها:”أردت أن أكرّم العبقريّة العربيّة وأن أقدّم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصّب ديني أعمى أو جهل أحمق”.
تعرض هونكِه أولاً مئات المفردات والمصطلحات التي أخذها الأوروبيون عن العرب وتدل على مدى النفوذ الثقافي والعلمي العربي في أوروبا في العصور الوسيطة وهي تخلص إلى القول: ”إن في لغتنا كلمات عربية عديدة وإننا لندين ــ والتاريخ شاهد على ذلك ــ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زيّنت حياتنا بزخرفة محبّبة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوماً من الأيام قاتماً كالحاً باهتاً”.

العصور الوسطى إنفتاح عربي وانكفاء أوروبي
على أثر اندفاع الفتوحات العربية الإسلامية الأولى تقول هونكِه:” حين انطلقت من جنوب الجزيرة العربيّة جحافل العرب الرّحل، تحدوها قوّة عارمة، ويعمّها تنظيم مدهش بثها الرّسول محمّد (ص) في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط على شواطئ الأطلسي وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، فتُخرج ذاك العالم القديم من بوتقته الثقافية السابقة، فإن الغرب كان قد أحاط نفسه إحاطة مُحكمة بستار حديديّ لمئات من السّنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأمّا في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربيّة الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرةً إيّاه على أن يعزل نفسه”.

تسامح الرّشيد يقابله جحود أوروبي
أغلقت أوروبا على نفسها منافذ النّور والهواء أمام عينيها (ص25)، ولكنّ الحجّاج المسيحيين كانوا يتمكّنون من الحج إلى كنيسة القيامة من دون إزعاج أو خطر، ففي ذلك الوقت قدّم الخليفة هارون الرشيد مفاتيح المدينة المقدّسة وشرف الهيمنة عليها إلى القيصر شارل الكبير على يد بطريرك القدس الذي كان يتواجد في منصبه رغم الهيمنة الإسلاميّة، من دون أن يناله حيف أو مكروه ومع هذا، فإنّ الأوروبيين لم يحجموا عن إلصاق تهم انتهاك حُرمة المدينة المقدّسة نفسها من جانب “الكفّار” قصد إلقاء الذعر في نفوس المؤمنين والمسافرين لمنعهم من السّفر. ولعل مثل هذا الحقد الأوروبي كان في أساس تجريد الحملات الصليبية على الشرق.
أمّا الخليفة الفاطميّ المستنصر وصديق المسيحيّين فقد أمر بإخلاء قسم كامل من مدينة القدس للحجّاج والتجار الأوروبيّين.
وكان التجّار البنادقة يحملون لأوروبا القطن السّوري والتوابل والكافور والبخور والنيلة من مراكز التجارة المصرية (ص 35) وتمتع الغربيّون بأفضل التوابل والعطور وأردية المُخْمَل والحريرالناعمة، وعلى هذا فإن أساس كلّ رخاء في بلاد الغرب قد نبت في سلال التوابل العربيّة.
تقول هونكِه، (ص37) “إنّ مدينة البندقية لم تكن لتحقق ما حققته لولا تبادل التجارة مع العرب فلولا قرفتها وكراوياؤها وقرمزها ونيلتها لم يكن في وسعها بتةً أن تمثّل دور المسيطر وأن تظهر في مظهر أكبر قوة اقتصادية في الغرب”.

في مدرسة العرب
تؤكّد الباحثة أنّه بفضل العرب عرف الغربيون الورق الذي “وصل إليهم من الأندلس العربية” ففي عام 751 نقل العرب جماعة من أسرى الحرب الصّينيين إلى سمرقند، وكان بعضهم بارعاً في صناعة الورق، وهكذا انتقلت هذه الصناعة إلى بغداد، زمن الخليفة المنصور (754 ــ 775م) الذي اعتمد الورق ومنع استعمال ورق البردى المجلوب من مصر، أمّا في ظل ولده الرشيد فقد

ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-
ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-

ثبتت مكانة هذا الاختراع الجديد، الأمر الذي حدا بوزيره يحيى بن الفضل البرمكي (794)م أن يبني أولى مصانع الورق في بغداد.
أجل، لقد فتح ورق العرب هذا عصراً جديداً، لم يعد العلم فيه وقفاً على طبقة معيّنة من الناس بل غدا متاحاً للجميع ودعوة لكل العقول لأن تعمل وتفكر.
تنقل هونكه عن أبو بكر الطرطوشي رسول ملك الأندلس العربي إلى بلاد الفرنجة أنه صادفته أشياء اقشعرّ منها بدنه وهو المسلم الذي فُرض عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يومياً يقول: “ولكنّك لن ترى أبداً أكثر منهم قذارة ! إنّهم لا ينظفون أنفسهم ولا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد وأمّا ثيابهم فإنّهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها حتى تصبح خِرَقاً بالية مُهلهلة”… فيما كانت بغداد آنذاك “تزدحم في القرن العاشر بآلاف الحمامات مع المُولَجين من مدلِّكين ومزيّنين(حلاّقون) كانوا في الزبائن للإعتناء بأجسامهم وبراحتها أسبوعياً أو يومياً، وبفضل العرب عاد الاعتناء بالصحّة إلى بلاد الغرب عن طريق الصّليبيين والمسافرين القادمين من إسبانيا وصقلّية على الرغم من ضغط السلطة الشديد وتزمّت الكنيسة. وهكذا خُرق الحصار الذي فرضته المسيحية ضد الإسلام وأصبح سكان أوروبا عن طريق الإقتناع تلامذة الحضارة العربية.

البابا يحسب بالعربيّة
تتناول الكاتبة أثر العرب في علم الحساب، إذ لم يقتصر الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، فقد تخطّى تلك المرحلة إلى المعقّد من مشاكل الرياضيات وما زالت القاعدة الحسابية (Hlgorithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها، أمّا الألمان فقد جعلوا من الخوارزمي “شيئاً” يسهل عليهم نطقه، فأسموه(Algorizmus) ونظموا الأشعار باللاتينية تعليقاً على نظريّاته.
وتذكر هونكِه أنّ البابا سلفستروس الثاني، قبل اختياره لمنصب البابوية، زار الأندلس نحو عام 970م، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبا ليحلم أن يسمع بها، وكان أهم ما تعلّمه نظام الأرقام والأعداد العربية، وكان عالماً بالرياضيات ومعلّماً لها.

العرب وعلم الفلك
تقول المؤلفة: “لم يأخذ العرب العلوم التي ورثوها عن طريق الاقتباس كما إنهم لم يأخذوا الآلات العلمية ومواد العلم القريب من دون مناقشة أو تحقيق، فمنذ البدء أدهشوا العالم بالانفتاح الموضوعي والشجاعة العلمية التي استقبلوا بها نتائج السالفين وآراءهم ليشبعوها بحثاً ونقداً وتفنيداً.. ولقد شهد الفرنسي سديوّ Sedillot بقوله “لقد توصّل فلكيو بغداد في نهاية القرن العاشرإلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما يدور فيها من كواكب بالعين المجرّدة من دون اللجوء إلى عدسات مكبّرة أو منظار. ومن بين العرب الذين وصلت آثارهم إلى مواطن العلم الغربي العالم الفرغاني الذي قام بقياس طول خط الأرض المستقيم، وكان أول من أدرك أن مدار الشمس والكواكب على مرّ الزمن يجري في اتّجاه خلفيّ، وكان يُسمىّ في القرون الوسطى Al- Fraghanus “ ومن المشتغلين بعلم الفلك ثابت بن قرّة الذي قام بقياس علوّ الشمس ومدة السّنة الشمسيّة ومن أولئك البتّاني 877 ــ 918م الذي قام بقياسات جنوح الشمس بشكل أدق، وكان كثابت بن قرّة من أتباع الصابئة، وقام بإكمال النتائج التي توصل إليها بقياساته الدقيقة لمُدد السنوات الاستوائية والقطبية المختلفة بعد أن قام بقياس دوران الأرض حول الشمس بطريقتين مختلفتين. أما الحسن بن الهيثم 965 ــ 1039م فكان أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثراً وتأثيراً، وهو صاحب نظريّة انعكاس الضوء، والأهم اكتشافه القائل: إنّ كل الأجسام السماوية بما فيها النجوم الثابتة لها أشعّة خاصة ترسلها ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من الشمس. وقد أعلن ابن الهيثم خطأ قول إقليدس وبطليموس أنّ العين المجردة ترسل أشعة إلى الأجسام التي تريد رؤيتها فقال “ليست هناك أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها”.
وابن الهيثم هو صاحب فكرة إقامة سدّ على نهر النيل موضع السد العالي، وقد استقدمه الخليفة الحاكم من البصرة لتنفيذ هذه الفكرة لكنه بعد درس أولي أدرك استحالة تنفيذ تلك الفكرة بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية اللازمة لتنفيذ ذلك المشروع في ذلك العصر. أمّا العالم الأندلسي البطروجي فقد نقد نظريّة بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري وبالتالي مهّد السبيل للعالم كوبرنيكوس.

النسخة الألمانية الأصلية لكتاب هونكه وهي بعنوان شمس الله تسطع على الغرب
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة

 

“كان الأوروبيون لا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد، فيما كانت بغداد تعج بآلاف الحمامات العامّــــة والمسلمون يتطـــــهَّرون خمس مرات في اليوم”

أسبقية العرب في رصد الفلك
تشير هونكِه إلى أنّ الوسائل التي وضعها العرب في متناول الأوروبيين كانت أكثر أهمية في مجال رصدهم للسماء وحل أحاجيها، لقد كان العرب أساتذة خلاقين في علم الرياضيات على خلاف الرومان الذين لم يأتوا في هذا الميدان إلا بنتائج ضعيفة قليلة. كان الخليفة المأمون 786 ــ 833 قد ابتنى مرصدين على جبل قاسيون وفي الشماسية ببغداد، وفي عهده ومن بعده أنشئت عدة مراصد في البلاد الإسلامية، وأنشأ الفاطميون مرصداً على جبل المقطم عرف بإسم المرصد الحاكميّ وبنى نصير الدين الطوسي مرصد مراغة بأمر من هولاكو، وهو المرصد الأهم مما سبق ومنها مرصد الشاطر بالشام والدّيْنَوَري في أصبهان والبيروني وأولوغ بك بسمرقند والبتّاني بالشام وغيرها كثير في مصر والأندلس وأصبهان.
ومن العلماء العرب الرواد الطبيب الفذ والفيلسوف المشهور الشيخ الرئيس إبن سينا 980 ــ 137م، وأما الفارابي 780ــ 950م الملقب بالمعلّم الثاني بعد أرسطو” فقد كان فيلسوفاً فذّاً ذائع الصيت بالإضافة إلى كونه موسيقياً بارعاً .
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدّاً قريباً من الكمال وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلّثات الدائريّة وبصريّاتهم الدقيقة كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبا عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية من ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.

“ابن الهيثم بيَّن خطأ قول إقليدس وبطليموس بأنّ العين ترى بواسطة أشعة ترسلها إلى الأشياء مؤكِّداً أن الأشيـاء هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصـــــرها”

عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري - رثص
عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري – رثص

الأيدي الشافية
في مجال علم الطبّ تخلص الباحثة إلى القول: “لذلك استقبلت كتب ابن سينا والرازي وابن رشد بالثقة نفسها التي استقبلت بها كتب أبوقراط وجالينوس ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول امرؤ ما ممارسة الطبّ من دون الاستناد إليها اتّهم بالإضرار بالمصلحة العامّة.
كان طب الفرنجة مزيجاً من الممارسات البدائية والخرافات بينما كانت المشافي العربية في قرطبة وبغداد والقاهرة قبل ألف عام تشبه إلى حد بعيد ما كنا نراه في القرن العشرين. ويروى أن السلطان المنصور قلاوون بنى المستشفى المنصوري في القاهرة وعند إتمام بنائه قال: إنني قد وهبت هذا المستشفى إلى أندادي وأتباعي وخصصته للحكام والخدم، للجنود والأمراء، للكبار والصغار والأحرار والعبيد، للرجال والنساء على السواء.

أثر العرب في الطب الغربي
تذكر هونكِه أنّه “من المحاضر والتقارير في مستشفيات بغداد الكبيرة وغيرها خلال الربع الأول من القرن العاشر خرجت إلى الوجود موسوعة طبية ضخمة استعملها الأطباء الأوروبيون خلال مئات السنين ككتاب للتعليم استعان بها صاحبها في تصريف أموره الخاصة وتعليم تلاميذه وكان واضع تلك الموسوعة الهائلة رجل ذاعت شهرته في الآفاق حتى لقّب بأعظم طبيب في القرون الوسطى و” بأحد أطبّاء العصور كلّها” إنّه الرازي..!

أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً !!
قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم لا تحتوي إلاّ على مؤلّف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير، كان ملك المسيحية لويس الحادي عشر قد دفع ثمنه غالياً من الذهب والفضة وكان هذا الأثر الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد، وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدّة تزيد على الأربعمائة عام بعد ذلك التاريخ من دون أن يزاحمه مزاحم أو تؤثّر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب في صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبار الذي خطّته يد عربي قدير.
وقد اعترف الباريسيون بفضله فأقاموا له نصباً في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جرمان حتى إذا ما تجمع فيه اليوم طلاب الطب وقعت أبصارهم عليها ورجعوا بذاكرتهم إلى الوراء يسترجعون تاريخه. إنه الرازي أو Rhases كما سمّته بلاد الغرب، و أمّا اسمه الحقيقي فهو أبو بكر محمد بن زكريّا.
ومن هنا فلا عجب أن يشهد مؤرخ الطب نويبرجر Neuberger بـ “أن العرب هم الذين أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقصه التسلسل .. صنّف العرب كتباً مختصرة جامعة عظيمة التماسك صبّوا فيها كل المواد الدراسية الخاصة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة وصاغوا في لغتهم الحيّة التي لم تمت فيها كلمة تعابير علمية مثالية”، لهذا كله، فضّلهم الغربيون أول الأمر على غيرهم فأصبح العرب أساتذتهم الذين أخذوا عنهم العلوم الطبّية أكثر مما أخذوه من كتب اليونان المبعثرة الغامضة، فكان العرب أعظم معلّمي الغرب خلال سبعمائة سنة!!
وفي نحو أواخر القرن الثاني عشر تدفق سيل الترجمة تدفّقاً متواصلاً لم يكن بوسع أحد أن يوقفه، وانطلق من إسبانيا وصقلية ومن شمالي إيطاليا. فمن مدينة بادوا جاءت ترجمة كتاب الكلّيات لابن رشد وكتاب التيسير لابن زُهَر الأندلسيّ الذي عُرِف باللاتينيّة بـ Avenzoar مرّتين على التوالي.
ومن صقلّية جاءت ترجمة أضخم كتاب للرازي”الحاوي” والمسمّى باللاتينية Continens Rhases عام 1279 وقد أمضى اليهودي ابن سليم المتعلم في سالرنو بصقلّية نصف حياته في ترجمته؛ وظلّت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية على أشدّها حتى القرن السادس عشر وأضيفت أشياء جديدة لم تكن معروفة، وأعيدت ترجمة كتب أخرى مرة ثانية ككتابي “القانون” و”زاد المسافرين” لابن الجزار وكتب أخرى للرازي ولابن رشد. وبهذا انطلقت حركة فكريّة جبارة لم يقدر أي من العلماء في القرون التي تلت إلاّ أن يتأثّر بها.
وفي ذلك الوقت، كان كل تفكير خلاق يقف عاجزاً أمام طريقة التفكير الجامدة للكنيسة والتي كان على الأجيال الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … كان رجال العلم الأوروبيون يتبعون رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ماعدا جماعة سالرنو ــ صقلّية ــ وجماعة نابولي وذلك على عكس الأطبّاء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في الحياة غير مقيّدين إلا بقيود الحقيقة والعلم. أمّا ابن سينا والرازي خاصة فقد امتدت شهرتهما حتى القرن السابع عشر وأصبحت نعوتهما Annma Avicenne أو Avicennista Insinis (روح ابن سينا) ألقاباً يفتخر بها كل طبيب غربي.
وتشير هونكه إلى أن فنّ الجراحة يدين بتقدّمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن “الحقيرة” الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهن الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، وكان مؤلف ابن سينا أكثر كتاب طبي درسه طلاب المعرفة في تاريخ العالم، أما شروحه والتعليقات عليه فقد كان لا يحصيها عدد.
وفي القرن التاسع الميلادي لمع نجم في سماء الحضارة العربية وسجّل لها أكبر الأثر في سجلّ الفتوحات العلمية في عصر طار فيه صيت الرازي، ألا وهو جابر بن حيّان الذي كانت له شخصية سياسية على قدر كبير من التأثير، إذ كان أحد القادة الروحيين للإسماعيلية وكتب مؤلّفات دعاوية في قالب فلسفي علمي بشكل يلفت الأنظار الأمر الذي اضطرّ أحد أعداء العرب أن يعترف بعظمته فقال: “ لقد كان عالماً عظيماً بالرغم من أنّه كان عربيّاً”.(ص 325 )
وبرع العرب كل البراعة بكل ما قدّموه من أنواع الضّمادات والمساحيق واللزوق وغيرها وقد كان اهتمامهم منصبّاً على معالجة الخراجات والدّمامل وإنضاجها ثم شقّها ومداواة كثير من الأمراض الجلدية والجروح، كما إنهم سعَوْا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها باستعمال الخمرة المعقّمة التي يوازي تأثيرها تأثير البنسلين وغيره من المواد المضادة للميكروبات(ص328)

“كتاب الحاوي في الطب لأبو بكر الرازي بقي المرجع لتعليم الطبّ في أوروبا لمدة 400 عـام”

أول من أنشأ الصيدليات
كان العرب أوّل من افتتح الصيدليات العامة في ظل حكم الخليفة المنصور العباسي نحو 780م، وكان في كل مدينة مفتّش خاص يفتش تحضير الأدوية ويراقبها برفقة شرطة الصحة إلى جانب فحص المواد الغذائية.. في حين كانت الكنيسة في أوروبا ترفض مثل هذه الإجراءات وتعتبرها تعدّياً على مصالحها.
وفي عام 999 نشر أبو القاسم الزهراوي ـ (توفّي 1013) مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة، وشرح البيروني، “ارسطوطاليس العرب” ، للفكر العلمي دوران الأرض حول الشمس واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والاسطوانية المخروطية.
وبينما كان العالم العربي يتّجه نحو ذروة عصره الذهبي وقف الغرب مذهولاً وقد تولاّه الفزع يترقّب نهاية العالم عمّا قريب ويعظ القيصر الشاب أوتو الثالث وهو ابن العشرين ربيعاً الناس فيقول: “ والآن سيأتي المسيح ويحضّر الناس ليقتص من هذا العالم”.. وبينما أوتو الثالث يتشدّق بهذه الكلمات الجوفاء كان ابن سينا وهو حينذاك فتى في العشرين من عمره وقد بدأ يملأ الدنيا بأنباء فتوحاته العلمية الباهرة.
لقد أتى سادة الحضارة الجدد من قلب الصحراء الجدباء ليتبوّأوا فجأة مركز الزعامة بين حضارات العالم بلا منازع مدة ثمانية قرون وبهذا ازدهرت حضارتهم أكثر من حضارة الإغريق أنفسهم .
في ذلك الزمن كانت أوروبا تعلن أنّ الطريق الوحيد لتطهير الروح هو طريقها والضلال هو البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدّس، لقد كان عالماً أدار ظهره للعلم، “فالإسكندريّة كنز المعرفة الإغريقية والتي أصبحت مركزاً للمسيحية إلى جانب روما حُرِقت فيها نفائس ثمينة لا تعوّض من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم والثقافة الإغريقية حرقتها وأبادتها جموع من المسيحيين المتعصبين”، أمّا ما اتّهم به عمرو بن العاص فاتح الإسكندرية عام 642م “فهو مجرّد اختلاق لا أساس له من الصحّة.. فهو قد ضُرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، إذ حَرّم النّهب والسّلب على جنوده، وعمل ما كان غريباً عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء : لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرّية ممارسة شعائرهم الدينيّة المتوارثة “.

امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية
امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية

“العرب أدخلوا النور على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقص التسلسل، وهم صنّفوا كتباً جامعة عظيمة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة صاغوها بلغتهم”

تسامح العرب
تقرّ هونكِه بتسامح العرب }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ (البقرة: 256)، هذا ما أمر به القرآن الكريم وبناء على ذلك، فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام فالمسيحيون والزرادشتيّة واليهود لاقَوْا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصّب الديني وأفظعها، وقد سُمِح لهم جميعاً من دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم من دون أن يمسّوهم بأدنى أذى.
طلب العلم عبادة
في ص 368 وتحت عنوان طلب العلم عبادة تقول هونكه:” لقد أوصى مُحمّد (ص) كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم وجعل من ذلك واجباً دينيّاً فهو الذي يقول للمؤمنين “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” ويرشد أتباعه دائماً إلى هذا فيخبرهم بأنّ ثواب العلّم كثواب الصيام وأن ثواب تعليمه كثواب الصلاة”.

في السياسة، والعلم سفير للسلام تقول هونكه: لقد أحاط العرب الكتب بقلوبهم حتى المؤلّفات الفنيّة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة .. وهكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله أنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة وكانت الحركة الثقافية قد بدأت مبكرة أيام الأمويين على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد الذي بدأ بدعوة المتعلّمين من الإغريق والعرب من الإسكندرية، وعهد إليهم  بترجمة أعمال يونانيّة ومصريّة إلى اللغة العربيّة.
وفي العصر العباسي ازدهرت حركة الترجمة على يد السريان أبناء موسى بن شاكر الثلاثة الذين خصصوا ربع أملاكهم الضخمة للترجمة وجمع الكتب فضربوا بذلك المثل لغيرهم أمثال الطبيب قسطا بن لوقا البعلبكي، وكذلك حنين بن أسحق الذي قال عنه يحيى بن ماسويه رئيس المترجمين في عصري الرشيد والمأمون: “إنّ الذي فعله لا يستطيع عقل بشري أن يصوغه تلك الصياغة الرائعة، إنّه والله الإلهام من الروح القديم”. وبأعمالهم تلك “حمى المترجمون العرب آثار القدماء العلمية من الضّياع والزوال”.

شعب يذهب إلى المدرسة
لو أردنا دليلاً على مدى الهوّة العميقة التي كانت تفصل الشرق عن الغرب لكفانا أن نعرف أنّ نسبة 95% على الأقل من سكان الغرب في القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر كانوا لا يستطيعون القراءة والكتابة، وبينما كان شارل الأكبر يجهد نفسه في شيخوخته لتعلّم القراءة والكتابة وبينما أمراء

الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية
الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية

الغرب %

حول نظرية الأصل الخزري لليهود

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

التوسّع الصهيوني إستند دوماً إلى الضعف العربي
أكثر من استناده إلى حقوق تاريخية مزعومة

لم تبرز نظرية تحدُّر اليهود الأوروبيين من الشعب الخزري الآسيوي إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن هذه النظرية التي لم يتبناها إلا عدد محدود جداً من الكتّاب وأحد علماء الجينات اليهود تحوّلت إلى أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل والتعليقات داخل الوسط اليهودي وخارجه أيضاً واستقطبت النظرية بصورة خاصة إهتماماً واسع النطاق في العالم العربي حيث تحمّس لها كثيرون باعتبارها توفّر حجة بالغة في الجدل حول شرعية الكيان الصهيوني ودولة إسرائيل. وبالنظر إلى الحيز الذي احتلته في نصف القرن الماضي ثم تبني عدد كبير من المفكرين والمؤرخين العرب لها فإننا وجدنا من المفيد تخصيص هذا المقال لتمحيص هذه النظرية ومحاولة تحليل الحسابات والدوافع التي شجّعت على صياغتها وانتشارها.
رغم وجود بعض الآراء المتفرقة في الموضوع مثل أفكار بنجامين فريدمان في خمسينيات القرن الماضي فإن الفضل في الترويج لفكرة أن اليهود الأوروبيين ليسوا من أصل يهودي سامي يعود للكاتب اليهودي الهنغاري الأصل آرثر كوستلر ولكتابه الذي أصدره في العام 1976 ونال شهرة واسعة وهو بعنوان “السبط الثالث عشر”.
حسب كوستلر، فإن اليهود الغربيين (الأشكناز) لا ينتمون عرقياً إلى شعب إسرائيل التاريخي المذكور في الكتب المقدسة، بل هم متحدِّرون من شعب ذي أصول آسيوية تركية الذي كان يعيش في ما عرف بإمبراطورية الخزر التي قامت بين البحر الأسود وبحر قزوين والتي تبنّى شعبها اليهودية في القرن الثامن الميلادي، ثم نزح بعد ذلك، وبعد انهيار مملكة الخزر، إلى أوروبا الشرقية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر وخصوصاً إلى أوكرانيا وبولونيا وبيلاروسيا وليتوانيا وهنغاريا وألمانيا، وبناء عليه، اعتبر كوستلر ثم كتّاب آخرون يساريون مثل شلومو ساندز بأن الغالبية العظمى من يهود أوروبا يعودون في جذورهم إلى شعب الخزر وليسوا بالتالي ساميين.
هذه النظرية التي تعتبر “ثورية” فعلاً إن في مؤداها أو في نتائجها السياسية ضعيفة من الأصل وقد أسقطتها لاحقاً مختلف الدراسات الجادة التي قامت بها مجموعات من علماء وباحثين استخدمت أحدث تقنيات علوم الجينات البشرية (وسنأتي على ذكر بعض تلك الدراسات بعد قليل)، فآرثر كوستلر الذي كان له الدور الأهم في الترويج لهذه النظرية، رغم كونه مفكراً لامعاً، لم يكن مؤرخاً ولا عالماً طبيعياً وهو بنى نظريته على مصادر ثانوية وعلى إنتقائية إستخدم فيها ما يلائم النتائج التي يريد أن يتوصل إليها، وقد سُفِّهت نظريته على نطاق واسع لكنها مع ذلك حققت شهرة كبيرة بسبب طابعها المثير للجدل وترجمة كتبه إلى عدد كبير من اللغات بما فيها اللغة العربية، وانتشرت مقولات كوستلر

“من مفارقات نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز الإقرار ضمناً بحق يهود الشتات بإستيــــــطان فلسطين”

في الصحف والإعلام العربي، وأفاض الكتّاب والمعلقون في استقراء النتائج السياسية التي تترتب على تلك النظرية وأبرزها دحض الإدعاء بأن اليهود الأوروبيين هم من مكونات الشتات اليهودي وهو ما يهدم “شرعية” الهجرة إلى فلسطين أو شرعية إدعاء اليهود حق العودة إلى فلسطين. وقد تبنّى هذا الموقف بصورة خاصة عالم ومؤرخ عربي كبير هو عبد الوهاب المسيري الذي أصدر في العام 2008 كتاباً بعنوان “ من هم اليهود، وما هي اليهودية”؟ يعتبر من أهم الكتب التي يجب قراءتها لفهم المسألة اليهودية والعوامل التي ساهمت في إطلاق الفكرة الصهيونية ومشروع الإستعمار الغربي لفلسطين. وفي كتابه يعتبر المسيري أن نشوء إسرائيل تمّ نتيجة توافق من أوروبا المسيحية على “تصدير المشكلة اليهودية إلى الشرق بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره إلى فلسطين ليس محاولة للتخلص منه وإنما هو عودة إلى أرض الميعاد إلى آخر هذه الترهات، وبالفعل قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية لتستوعب هذا الفائض ولتكون قلعة أمامية تدافع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة العربية”.
إن المسيري محق بالتأكيد في اعتبار إسرائيل واليهود الذين تبنوا التفكير الصهيوني مجرد “جماعة وظيفية” لخدمة مصالح الدول الغربية في تقسيم العالم العربي والسيطرة على هذه المنطقة التي أصبحت بلا مرجعية بعد انهيار السلطنة العثمانية، لكنه وهو المعروف بدقته التاريخية لم يستطع مع ذلك مقاومة إغراء العائد السياسي الجاهز لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين فمال بالتالي إلى تبنّي النظرية. ولأن دراسة إران الحايك، وهو عالم جينات إسرائيلي مثيرة للجدل1 لم تكن قد نشرت بعد، فإن ذلك يعني أن المرجع الأهم الذي قد يكون المسيري استند إليه هو كتاب آرثر كوستلر “السبط الثالث عشر.
لكن قبل الدخول في عرض النظريات والأبحاث الكثيرة التي تتناول الأصول الأثنية لليهود الأوروبيين من المفيد أن نعرض هنا إلى أن كوستلر نفسه إعترف في وقت لاحق لصدور كتابه أنه أراد منه خدمة هدف سياسي هو إلغاء الذرائع العرقية التي بنيت عليها معاداة السامية (أي معاداة اليهود) في أوروبا، فهو أخبر صديقه عالم البيولوجيا الفرنسي بيير دوبريه ريتزن بأنه “على يقين بأنه إن أمكنه أن يثبت أن غالبية يهود أوروبا (الأشكناز) هم متحدِّرون من شعب الخزر البائد وليس من بني إسرائيل التاريخيين فإن ذلك سيزيل الأساس العرقي الأهم لمعاداة السامية وبالتالي المشاعر المعادية لليهود في أوروبا”.

أجندة كوستلر السياسية
إن الواقعة السابقة توضح بأن كوستلر الذي لم يكن مجهزاً للكتابة في موضوع معقّد مثل الأصول العرقية لليهود الأوروبيين كان يتحرك بهدف سياسي هو رفع الضغط العنصري عن اليهود الأشكناز من خلال تبرئتهم من وزر أساسي هو تهمة صلب المسيح واضطهاد المسيحية وهو إرث جعل اليهود تاريخياً في موقع العدو للشعوب المسيحية..
كان كوستلر قد بدأ حياته شيوعياً ستالينياً ثم انقلب على الشيوعية وعمل مع الأجهزة الغربية2 وتحول إلى أحد أبرز مناهضي الشيوعية مع شيوعي سابق كسب شهرة أوسع هو جورج أورويل الذي صوّر بشاعة الدكتاتورية الستالينية في كتابه الشهير “مزرعة الحيوانات”، كما أصدر أشهر كتبه عن هيمنة الدولة على الفرد في كتابه الشهير الآخر “1984” ، وقد فوجئ كوستلر بأن نظريته التي أراد أن تخفف الضغط عن اليهود الغربيين تلقفتها على الفور الأوساط التي تعادي الدولة الصهيونية بإعتبارها تزيل أي شرعية عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أثارت هذه المضاعفات غضب الأوساط اليهودية التي اتهمت كوستلر بالتفكير المغامر والأخرق الذي أضرّ بالقضية اليهودية أكثر مما نفعها لذلك، سارع كوستلر للدفاع عن نظريته بالقول إنه لم يقصد بها نفي حق إسرائيل بالوجود معتبراً أن هذا الحق وبالتالي شرعية إسرائيل- لا يستندان إلى مبررات دينية أو عرقية بل إلى قرارات الأمم المتحدة وبالتالي فإن الجدل حول أصل اليهود لا يجب أن يكون له أثر على حق اليهود في الانضمام إلى المجتمع الإسرائيلي.
لكن، وفي جميع الأحوال، فإن احتفال الكتّاب العرب بنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين كان فيه استعجال لأن النظرية نفسها تنطوي على مزالق بل على فخ محكم لم يتنبه إليه المتحمسون لها وهذه المزالق تكمن في ما يلي:
1. إن نظرية الأصل الخزري ضعيفة جداً من الناحية العلمية وإن كانت مناسبة في نظر البعض من الناحية السياسية، وسنبيّن بعد قليل أن أكثر الدراسات الجادة كذبتها، فهي لذلك ليست أرضاً صلبة يمكن الوقوف عليها في مناهضة الصهيونية ومشروعها في إسرائيل..
2. إن بناء الحق الفلسطيني ليس على أن إسرائيل في حدّ ذاتها مشروع باطل وغاصب للحق بل على حجة فرعية هي أن اليهود الذين يهاجرون إليها من الدول الأوروبية لا يحق لهم ذلك لأنهم ليسوا من يهود الشتات، يعني الإقرار ضمناً بأن من حق يهود الشتات أي أولئك الذين ينتمون فعلاً إلى الشعب اليهودي الأصلي أن يطالبوا بحق العودة، وهذا من أغرب المفارقات.
3. إن أكثر من نصف السكان في إسرائيل اليوم هم من المزراحين Mizrachim أي الذين كانوا في فلسطين العربية أو هاجروا إليها بصورة خاصة من الدول الإسلامية والعربية التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية خصوصاً بعد حربي 1948 و1967. فما هو في نظر أصحاب نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين حكم هؤلاء اليهود (وهم بصورة أكيدة ينتمون إلى الشعب اليهودي الأصلي)؟ هل لأنهم كذلك يعني أن من حقهم الهجرة إلى إسرائيل؟
إن الواقع الديمغرافي للسكان في إسرائيل اليوم يشير بوضوح إلى أن الاستثمار في نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز (الذين يمثلون اليوم أقل قليلاً من نصف سكان إسرائيل) لا فائدة منه لأنه حتى ولو افترضنا جدلاً أن قسماً كبيراً من هؤلاء لا يعودون بأصولهم إلى اليهود الساميين فإن ذلك لن يتناول إلا نسبة معينة من سكان إسرائيل اليوم، وسنكون قد وضعنا أنفسنا في مأزق كبير بحيث قبلنا بصورة غير مباشرة بشرعية إسرائيل ككيان، لكن مع الدخول في جدل بيزنطي حول من يحق له ومن لا يحق له الهجرة إليها واغتصاب حقوق سكانها الأصليين!

حقيقة اليهود الخزر
إن أسطورة الأصل الخزري لليهود الغربيين تقوم على مغالطة أساسية هي الخلط بين اعتناق خاقان (ملك) الخزر والنخبة المحيطة به لليهودية في القرن التاسع الميلادي لأسباب سياسية وبين الإدعاء بأن شعب الخزر جميعه إعتنق اليهودية وهو ادعاء تظهر كل البراهين التاريخية أنه باطل، لأن هذا الشعب الآسيوي كان في غالبيته الكبرى من المسلمين والمسيحيين وبعض الوثنيين، وقد كان الخزر جزءاً من الإمبراطورية التركية الغربية في آسيا الوسطى في حوالي منتصف القرن السادس الميلادي قبل أن تعتنق الشعوب التركية الإسلام.
ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن الخزر حصلوا على درجة كبيرة من الاستقلالية في ظل الحكم العربي الإسلامي، وأقاموا دولة خاصة بهم وأن ملك الخزر (الخاقان) إعتنق الديانة اليهودية في القرن الثامن للميلاد وتبعه بعض حاشيته لسبب سياسي هو وقوع الخزر بين فكي صراع شرس بين الدولة الإسلامية العبّاسية في ظل الخليفة هارون الرشيد وبين الدولة المسيحية البيزنطية، فأراد الخاقان أن ينأى بمملكته عن الصراع ووجد في تبني الدين اليهودي الذي كان معترفاً به كدين كتابي حلاً يبرر له الوقوف على الحياد بين الإمبراطوريتين النصرانية والإسلامية، لكن تهوّد الخاقان وحاشيته لم يتجاوز نطاق الطبقة السياسية إلى الشعب الخزري الذي كانت تنتشر وسطه الديانتان الإسلاميّة والمسيحية إلى جانب بعض المعتقدات الوثنية، ولم يكن في وسع الخاقان –أو مصلحته- أن يجبر المجموعات الدينية المختلفة

آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا
آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا

في المملكة على تبني اليهودية بالقوة لأنه كان سيستفز بذلك العباسيين والبيزنطيين معاً. ويذكر الاصطخري3 أن دولة الخزر كانت تديرها “طبقة حاكمة” من اليهود، وأما شعوبها فأغلبهم من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، وأن المساجد كانت تنتشر في أرجاء المملكة إلى جانب الكنائس المسيحية والمعابد، كما إن المحكمة العليا كانت مشكلة من أعضاء من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، ورغم تعاظم الدولة الإسلامية وانتشار الدين الحنيف فقد هادنت الدولة الإسلامية مملكة الخزر وقامت علاقات قوية تجارية وثقافية بين الطرفين لكن قامت بعد ذلك حروب انتهت بزوال مملكة الخزر واستيلاء العرب المسلمين على معظم أقاليمها وتحول الخزر نتيجة لذلك إلى شعوب تعيش في ظل الدولة الإسلامية الواسعة المترامية الأطراف وعلى سبيل المثال، فإن أحد أبرز علماء المسلمين وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب تفسير الطبري هو من طبرستان في مملكة الخزر.
إن الوقائع السابقة الواردة في روايات المؤرخين العرب خصوصاً تظهر أن شعب الخزر بقي رغم تهوّد الخاقان وحاشيته في أكثريته الساحقة من غير اليهود، وأن هذه الأكثرية كانت قد تحوّلت إلى الإسلام في القرن الثاني عشر. وقد لا ينفي ذلك هجرة فئة من يهود الخزر إلى أوروبا الشرقية أو الغربية، لكنه يظهر أن تلك الهجرات كانت محدودة وربما نتج عنها اختلاط بين اليهود الخزر وبين اليهود الذين كانوا قد قدِموا من الشرق الأوسط إلى أوروبا منذ أيام الرومان، لكن هذا التمازج كان محدوداً كما بيّنت لاحقاً الدراسات الجينية التي أثبتت أن العنصر الخزري لم يظهر إلا بنسبة ضئيلة في التكوين الجيني لليهود الأوروبيين، بينما

مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال
مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال

“خاقان الخزر وحاشيته تهوّدوا في القرن التاسع سعياً للحياد في الصراع بين بيزنطة والدولة الإسلامية لكن أكثرية الشعب بقيت على الديانتين الإسلامية والمسيحية”

تبين بوضوح أنهم يحملون بأكثريتهم البصمات الجينية لليهود الساميين المنتمين إلى بلدان الشرق الأوسط.
وسنسرد في ما يلي مقتطفات من أبحاث جينية تمت في العقدين الأخيرين في ما يتعلق بالأصول الأثنية لليهود الأوروبيين والتي تثبت جميعها عدم صحة فرضية الأصل الخزري.

1. في العام 1999 صدر بحث علمي بعنوان “يهود وشعوب الشرق الأوسط غير اليهودية يشتركون في مجموعة واحدة من الكروموزوم Y البياللي” لهامر وآل4 نشر في محاضر الجمعية الأميركية للعلوم وجاء فيه: “على الرغم من إقامتهم لمدة طويلة في بلدان مختلفة وبعزلة بين مجموعة وأخرى، فإن معظم السكان اليهود لم يظهروا اختلافاً كبيراً في ما بينهم على مستوى الخصائص الجينية”، وأضاف التقرير العلمي

الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهودي
الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهوديعن نتائج البحث القول:”إن معظم الجماعات اليهودية بقيت في عزلة نسبية عن محيطها غير اليهودي خلال الشتات وما بعده” و”إن اليهود الغربيين (الأشكناز) يشتركون في أصولهم مع الجماعات اليهودية الشرق أوسطية بدرجة أكبر من اشتراكهم في تلك الخصائص مع الجماعات غير اليهودية القاطنة في أوروبا الشرقية وألمانيا”.

2. أظهرت دراسة نشرت في العام 2006 بعنوان “التركيبة الثانوية للشعب الأوروبي : خصائص الأقوام الجنوبية والشمالية” أن اليهود الأشكناز (الأوروبيون) والسفارديم (الشرقيون) أظهروا أنهم يشتركون في ما لا يقل عن 85% من خصائص الجماعة الجنوبية وهو ما ينسجم مع القول بوجود أصل متوسطي مشترك للجماعتين.

البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز
البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز

3. في نيسان سنة 2008 بعنوان “ إحصاء الأسلاف: الخصائص الجينية المشتركة للشتات اليهودي” خرج الباحثون بنتيجة أن 40% من اليهود الأشكناز يتحدّرون من أربع جدّات نساء جميعهن من أصل شرق أوسطي.
4. في كانون الثاني 2009 صدرت دراسة حول أسلاف الشعب اليهودي في المجتمع الأوروبي الأميركي وانتهت إلى القول “إن الأفراد اليهود الذين أظهروا انتماءهم الكامل إلى سلالة يهودية شكلوا مجموعة مختلفة تماماً عن أولئك الذين لا ينتسبون إلى أصول يهودية” وأظهر البحث “أن اليهود الأشكناز والسفارديم أظهروا إنتماءهم إلى مجموعة أثنية واحدة” وهذا الافتراض سيكون مستحيلاً في حال الأخذ بنظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز.
5. في شهر كانون الأول 2009 خرجت دراسة حول الأصول المشتركة بين يهود الشرق الأوسط واليهود الغربيين5 بالاستنتاج التالي: “ إن المجموعات الأثنية اليهودية تظهر مستوى عالياً من التماثل الجيني في ما بينها، وهذه النتيجة تدعم القول بأن الجماعات اليهودية تشترك في أصول شرق أوسطية وأنهم حققوا خلال تاريخهم درجات مختلفة من الإمتزاج مع الأعراق غير اليهودية ذات الأصول الأوروبية”.
6. في دراسة صدرت في كانون الأول 2009 بعنوان “ التركيب الجيني للشعب اليهودي” انتهى الباحثون إلى القول: “إن العينات التي تمّ درسها من أوساط مختلفة من يهود الشتات أظهرت أن معظمها يعود بأصوله إلى بلدان المشرق”.
7. في حزيران 2010 أظهرت دراسة بعنوان6: “أبناء أبراهام في عصر الجينوم: “إن معظم جماعات الدياسبورا اليهودية ذات أصول شرق أوسطية” وقد جاء في الدراسة أن الأبحاث التي جرت على 7 مجموعات يهودية من إيران والعراق وسوريا وإيطاليا وتركيا واليونان واليهود الأشكناز (الأوروبيون) أظهرت وجود خصائص لكل من تلك المجموعات تعود إلى أصول شرق أوسطية لكن مع وجود درجات متفاوتة من التمازج مع العنصرين الأوروبي والشمال أفريقي” وتضمّنت الدراسة رفضاً صريحاً لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين بالقول:”إن القرابة الجينية بين المجموعات المدروسة لا تتوافق مع النظريات التي تقول بأن اليهود الأشكناز متحدِّرون مباشرة من الخزر السلاف الذين اعتنقوا اليهودية”.
وهناك في الحقيقة مصادر عديدة وأبحاث لا يتسع المجال لذكرها في هذا المجال تظهر كلها أن لليهود الأشكناز جذوراً مشتركة مع يهود بلدان المشرق الذين عاشوا طويلاً في أنحاء الدولة الإسلامية واندمجوا بمجتمعاتها، كما إن الدراسات اللغوية (الألسنية) تظهر أن كلمات عديدة تنتشر بين اليهود الأشكناز والسفارديم على السواء وأن المفردات الخزرية تكاد تكون مفقودة من لغة اليديش (العبرانية-الألمانية) واللهجات العبرية الأوروبية الأخرى كتلك التي سادت بين يهود إسبانيا وشمال أفريقيا.
صك براءة لأوروبا؟
إن هناك حلقة مهمّة مفقودة في الجدل الذي أثارته نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين وهي حلقة تبيّن ربما لماذا سعى الإعلام الأوروبي للترويج إلى تلك النظرية، ولماذا حصل ذلك التبني للكاتب آرثر كوستلر إلى حدّ تحوله إلى نجم في المجتمع البريطاني؟ هذه الحلقة تتعلق بأن الأكثرية الكبرى من يهود أوروبا الشرقية لم يأتوا من بلاد الخزر بل من دول أوروبا الغربية التي قامت بتهجير الجماعات اليهودية على مراحل، الأمر الذي دفع بهم للتوجه إلى مجتمعات أوروبا الشرقية التي استقبلتهم للإستفادة من خبراتهم ومهاراتهم التجارية والحرفية. ومعروف أن أكثر اليهود الأوروبيين هم ساميون ينحدرون من أصول شرق أوسطية وكان معظمهم قد هاجروا على مراحل مختلفة من بلدان الشرق الأدنى ثم إبان الحكم الروماني خلال القرون الأولى للميلاد.
إن نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين فضلاً عن أنها في اعتقاد أصحابها تخدم أغراض اليهود في جعلهم من أصول غير سامية وتنفي بالتالي صلتهم باليهود الساميين الذين يتهمهم المسيحيون بصلب المسيح، فإنها تخدم المجتمعات الأوروبية من خلال التغطية على فصل مظلم في تاريخ تلك المجتمعات يتعلق بإضطهاد اليهود ودفعهم بالتالي الى الهجرة باتجاه أوروبا الشرقية التي أصبحت لهذا السبب (وليس لقدوم مزعوم ليهود الخزر) تضم النسبة الكبرى من اليهود الأشكناز والتي شكلت لاحقاً (مع روسيا) المصدر الأكبر للهجرات اليهودية إلى فلسطين.

خلاصة
إن الحماسة التي أثارتها داخل العالم العربي نظرية ضعيفة وتدحضها البراهين العلمية حول أصل خزري لليهود الأشكناز تمثل نموذجاً عن نمط في مواجهة التحديات الوجودية يتَّصف بالتسرّع والسهولة وإهمال واجب التمحيص والتدقيق في الوقائع قبل إصدار الأحكام، كما إنه انسياق وراء الأماني والآمال الخادعة في حرب وجود شرسة لم نستطع منذ البدء أن نكون في مستوى المسؤوليات التي تفرضها. إن التوسع الصهيوني في فلسطين والمنطقة يستند بالدرجة الأولى، ومنذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، إلى ضعف العرب وتمزق صفوفهم وتخلّف حكوماتهم ولم تكن دعوى الحقوق التاريخية المزعومة فيها إلا حجة القوي الغاصب في وجه المغصوب الضعيف. وها نحن نمضي في إضاعة بلداننا التي تغتصب أو تنتهك تحت أنظارنا دونما حاجة للغاصبين حتى لتقديم حجة أو لتبرير أفعالهم بـ “حقوق تاريخية” أو ما شابه من الأعذار.

تاريخ الموحدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلَّفاتهم القديمة

تاريــــــخ الموحِّــــدين الــــدروز والموارنـــــة

السجل الأرسلاني – قواعد الآداب حفظ الأنســـــاب – تاريــخ بيـــروت تاريخ ابن سباط- زجليات ابن القلاعي

لا بُدّ من الإشارة أولاً إلى أن ما سيرد ذكرهُ ليس تاريخاً للموحِّدين (الدروز) والموارنة، نكتبهُ في ضوءِ المصادر والمراجع القديمة والحديثة، ونتطرّق فيه بالتالي إلى تاريخ سائر الطوائف التي سكنت معهم أو جاورتهم في المناطق اللبنانية، وإنما هو خلاصةُ قراءةٍ متأنّية ومعمّقة لما جاء في خمسةِ مصادر تاريخية دوّنها أبناؤهم في القرون الوسطى، مع ذكر بعض الإيضاحات والتصويبات والشروحات، من أجل وضع ما جاء في هذه المصادر في السياق التاريخي العام.
الموحِّدون (الدّروز) في لبنان
بعد أن انتشرت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية كلها، إنطلق العرب المسلمون في الفتوحات لنشر الإسلام خارجها، فتمَّ لهم – وفي فترة قصيرة- انتزاع بلاد الشام ومصر من الروم البيزنطيين، وانتزاع العراق من الفرس، كما توسَّعوا خارج هذه الأقطار، وقد فتح القائد أبو عبيدة بن الجرّاح البقاع، وفتح يزيد بن أبي سفيان، بمعاونة أخيه معاوية، مدن الساحل اللبناني، لكن الجيوش العربية لم تتوغّل في المناطق الجبليّة اللبنانية، في البداية. ومن أجل ملء الفراغ السكاني الذي أحدثه جلاء الروم البيزنطيين وجلاء بعض السكان معهم، ومن أجل حماية سواحل بلاد الشام ومدنها من غارات الروم البيزنطيين الذين ظلوا يحاولون العودة إليها، أعاد العرب إعمار هذه المدن، وشحنوا السواحل بالمرابطين والمثاغرين.
وفي سنة 758م استقدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المناذرة اللخميين للمرابطة في جبل بيروت المعروف أيضاً بـ”جبل الغرب” من أجل الدفاع عن بيروت وساحلها، من هجمات الروم البيزنطيين، ومن أجل حمايةِ الطرق البرية المؤدية إليهما من اعتداءات من سمّاهم المؤرّخ طنوس الشدياق:”المردة المتحصّنون في الجبال العالية”، ومنذ ذلك الحين أصبح المناذرة اللخميون: الأرسلانيون، والتنوخيون، وبنو فوارس، وآل عبد الله – وهم بعض أجداد الموحِّدين الدروز- النواة التي استقطبت جموع النازحين الدروز إلى جبل لبنان من مناطق حلب ووادي التيم وفلسطين، وأبرزهم النازحون الذين جاؤوا إلى لبنان في سنة 820م، بحسب ما يذكر أحد المصادر التي سنتحدّث عنها.

إن أصول الموحِّدين الدروز من عرب اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ومن عرب نجد والحجاز في شمال الجزيرة، أي أن أصولهم عربية يمنية وقيسية كانوا على مذهب السُّنّة، وتشيَّع بعضهم عند سيطرة الدولة الفاطمية على بلاد الشام وغدَوا منذ النصف الأول للقرن الحادي عشر الميلادي على معتقد “التوحيد” أو “مسلك التوحيد” الذي هو أحد المذاهب الإسلامية، والذي اشتق اسمهم الحقيقي منه (الموحِّدون)، فيما اسم “الدروز” تسمية خاطئة لكنهم اشتهروا وعُرفوا بها عبر التاريخ.
توطّن الموحِّدون (الدروز)، من لبنان، جنوب كسروان ومناطق المتن والجرد والغرب والشوف ووادي التيم، وأسَّسوا في هذه المناطق إمارات امتدَّ نفوذها إلى غيرها من المناطق اللبنانية، وإلى خارج لبنان أحياناً كما في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، وأكّدوا عروبة لبنان وإسلامه، ولم يتخذوا من مواقعهم فيه ملاجئ حصينة يحتمون بها فقط، بل أيضاً خطوط دفاع عن ساحل الشام وداخلها ضد غزوات الروم والفرنجة، مما جعلهم سيوفاً مشهرة للعروبة والإسلام.
شكَّل الموحِّدون الدروز مع جيرانهم الموارنة النازلين في جبل لبنان الشمالي، ثم المُساكنين لهم في مناطقهم منذ القرن السابع عشر، ثنائيّة صبغت بسماتها تاريخ لبنان الوسيط وتاريخه الحديث، وأسَّست لكيانه الذي عُرف من سنة 1861 وحتى سنة 1920 بـ”لبنان الصغير”، وعُرف بعد ذلك بـ”لبنان الكبير”.

الموارنة في جبل لبنان
الموارنة في المعتقد الديني هم أتباع القدّيس مارون الذي عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، وتوفي سنة 410م، ويُقال إنه دُفن في براد في جبل نابو سابقاً الذي هو جبل سمعان في سورية اليوم. والموارنة من المسيحيّين القائلين بالطبيعتَين والمشيئتين للسيد المسيح، لذا بدَوا مختلفين عن اليعاقبة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، وعلى نزاع معهم، واضطرُّوا جرّاء اضطهاد هؤلاء لهم للنزوح سنة 669م من وادي العاصي، حيث يقيمون، إلى جبل لبنان الشمالي، ولحق بهم أخوان لهم في سنة 685 جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم.
تزامن قدوم الموارنة إلى جبل لبنان مع قدوم الجراجمة إليه، وهؤلاء نُسبوا إلى جرجومة في جبل اللكام، وقد سخَّرهم الروم البيزنطيون وأرسلوهم لإشغال الدولة العربية في بلاد الشام بعد جلائهم عنها، لذا سمّاهم بعض المؤرّخين المسلمين “خيل الروم”. وممن سخّرهم الروم أيضاً لإشغال الدولة العربية: المردائيون الذين عُرفوا باسم “المردة”. وقد بقيت أقلّيّة من الجراجمة والمردة متوطّنة في جبل لبنان بعد صلح الإمبراطور البيزنطي يوستنيان مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واختلطت مع الموارنة، ومن هنا كان منشأ إشكاليّة الموارنة والمردة والجراجمة التي عالجها المؤرِّخون الذين تكلَّموا عن أصل الموارنة واختلفوا فيه.
إن أوّل من ذكر المردة –وبإسم المردائيتاي- هو المؤرِّخ البيزنطي تيوفانس المتوفَّى سنة818م، وهم من أصل فارسي. وأول من أطلق على الموارنة اسم “المردة” هو البطريرك إسطفان الدويهي (1630-1704) الذي قال إن الموارنة لقِّبوا بالمردة لأنهم تمرَّدوا على الإمبراطور البيزنطي يوستنيان. وبما أن المجال لا يتّسع هنا لذكر سائر المؤرِّخين وأقوالهم عن أصل الموارنة وعلاقتهم بالمردة والجراجمة، سنكتفي بذكر أسماء معظمهم مع مؤلَّفاتهم، وهم إضافة إلى البطريرك إسطفان الدويهي ومؤلَّفَيْه: “تاريخ الأزمنة” و”تاريخ الطائفة المارونيّة”، المطران يوسف الدبس في “الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، والأب بطرس ضو في “تاريخ الموارنة”، والخوري ميخائيل غبرئيل الشبابي في “موسوعة تاريخ الموارنة”، وميشال شيحا في “لبنان في شخصيّته وحضوره”، وبولس نجيم (جوبلان) في “القضيّة اللبنانيّة”، وكمال سليمان الصليبي في “بيت بمنازل كثيرة”، وعادل إسماعيل في مؤلَّفَيْه: “المردائيّون (المردة) من هم وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة، و”انقلاب على الماضي”. وقد أوضح المؤرِّخ عادل إسماعيل أن المردة والموارنة والجراجمة شعوب مختلفة لغةً وعِرقاً ومذهباً، وأنّ الموارنة ساميّون من أصل عربي أو آرامي أو سرياني1.
كان الموارنة مع الدروز من أبرز مالئي الفراغ السكاني الذي حصل بعد الفتح العربي في لبنان عموماً، وفي جبل لبنان خصوصاً. وبما أن الموارنة لجأوا إلى جبل لبنان تجنُّباً لاضطهاد مخالفيهم في المعتقد الديني (اليعاقبة)، ولاضطهاد الروم البيزنطيّين لهم في فترة معيّنة، نشأت عندهم وتعزَّزت مع الزمن مقولة “لبنان الملجأ” التي يأخذ بها العديد من المؤرِّخين، ذلك لأنهم حمَوا أنفسهم من الاعتداء، وحمَوا معتقدهم من الأفكار الهرطقيّة اليعقوبيّة.
أقام الموارنة في مناطق بشرّي والبترون وجبيل، وجعل بطريركهم مار يوحنّا مقرّه في كفرحي، وكان عليهم حكّام منهم، لقبهم “المقدّمون”، وتوسَّعوا في السكن جنوباً حتى بلغوا نهر الجعماني (نهر بيروت) وهو الحد الجنوبي لكسروان سابقاً، وأصبحوا متجاورين مع أجداد الموحِّدين (الدروز) ثم مساكنين لهم، وشكّلوا معهم الثنائيّة التي وردت الإشارة إليها.

مؤلَّفات الدروز والموارنة القديمة
تكلّم الكثيرون عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة في معرض حديثهم عن التاريخ العامّ، أو تاريخ بلاد الشام عموماً، وتاريخ لبنان وسورية خصوصاً، كما أصدروا عشرات الكتب تحت عناوينهم، أو العناوين الخاصة بكل منهما.
وبناءً على ذلك، وعلى أن الحديث عن هذا التاريخ الطويل زمنيّاً،

دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد
دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد

والغنيّ بمواضيعه، لا تتَّسع له مقالة أو مقالتان، سنقصر الحديث فقط على مرحلة زمنيّة منه هي التاريخ الوسيط، وسنحصر تناوله في ضوء مؤلَّفات الدروز والموارنة التي تعود إلى العصور الوسطى.
وصلتنا من المؤلَّفات القديمة خمسة مصادر تاريخيّة من العصور الوسطى، هي السِّجل الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، وزجليّات ابن القلاعي. وهذه المصادر تضيء على تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة منذ توطّنهم في جبل لبنان بعد الفتح العربي لبلاد الشام، وتسدُّ النقص الحاصل في الكتابة عن تاريخ هذا الجبل، ذلك أن المؤرِّخين العرب والمسلمين لم يتناولوه وسواه من المناطق الجبليّة إلاّ بالقليل من الإشارات، وركّزوا في كتاباتهم على الحواضر، كما إنهم لم يتناولوا جميع الأحداث التي جرت بين أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، وهي المرحلة الزمنيَّة التي شهدت انتقال بلاد الشام من المماليك إلى العثمانيِّين.
جاء معظم ما في المؤلَّفات الأربعة الأولى عن جبل لبنان الجنوبي، وعن مكوِّنه الرئيس الموحِّدين (الدروز) الذين أعطوه اسمهم لتكاثرهم فيه ولشهرتهم “جبل الدروز”، لكن هذه المؤلَّفات ركَّزت على بلاد “الغرب” وعلى الإمارات المنذريّة اللَّخميَّة التي قامت فيها، ولم تذكر سائر البلدان المأهولة بالدروز إلاَّ بإشارات قليلة، حتى إنها لم تتكلم عن الأمراء المعنيِّين، إلاّ بإشارات في تاريخ ابن سباط، وهم الذين كانوا مقدّمين في الشوف، ثم أسَّسوا أقوى الإمارات الدرزية. وجاء المؤلَّف الخامس عن جبل لبنان الشمالي، وعن مكوِّنه الرئيس (الموارنة)، فارتسمت به وبالمؤلَّفات الأربعة الأخرى صورة متكاملة لتاريخ هاتين الجماعتَين.
وبما أن المؤلّفات الأربعة الأولى مدوّنة من الموّحدين الدروز، كان هذا مما يخفِّف عنهم الملامة بسبب القول الشائع عنهم إنهم يصنعون التاريخ ويدَعُون لغيرهم كتابته. فإذا كان في هذا القول شرف صنع الحدث، وتطابقٌ مع قول بسمارك: “إن المهم صنع التاريخ لا الكتابة عنه”، فإن فيه خطأ إهمال الكتابة عنه، وترْك ذلك إمّا للضياع، وإمّا لكتابة الآخرين المشوبة أحياناً بالنّقص والأدلجة والتغرّض، كما إنه تجدر الإشارة هنا إلى أن قِدم المؤلَّفات المذكورة يدلُّ على أن الدروز كانوا أسبق من غيرهم في جبل لبنان إلى كتابة التاريخ إضافة إلى صنعهم لبعض أحداثه.
وفي ما يلي سنتكلَّم عن المؤلَّفات التاريخيّة الخمسة -وبإيجاز-وبحسب تسلسلها الزمني بادئين بالسِّجلّ الأرسلاني، محاولين ما أمكن التعريف بالمؤلِّفين وبالمخطوطات ونسخها، وذلك من قبيل إيفاء الموضوع حقَّه.

السِّجلّ الأرسلاني الإثباتات
لا يقترن السِّجلّ الأرسلاني بإسم مؤلِّف ما، لأنه مجموعة إثباتات، أو سجلاّت، أو مضبطات شرعيّة، بلغت 21 إثباتاً حتى اليوم، طلبها أمراء أرسلانيُّون بغية الحفاظ على النسب وتسلسله، ومعرفة تواريخ الولادات والوفيات، أوّلها موقَّع عند قاضي معرَّة النعمان في 2 شعبان سنة 141هـ= 8 كانون الأوّل سنة 758م، وآخرها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بيروت بتاريخ 15 شعبان سنة 1419هـ= 4 كانون الأوّل سنة 1998م، بتصديق رئيس هذا المجلس سماحة آية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وبين هذين الإثباتَين مجموعة من الإثباتات موقَّعة من قضاة الشرع في بيروت ودمشق وصيدا وطرابلس وقاضي جبل لبنان، منها 15 إثباتاً بين سنة 758 وسنة 1519م، مما يدلُّ على أن معظمها يتناول تاريخ ثمانية قرون تعود إلى العصور الوسطى، وهي المرحلة الزمنيَّة التي تعنينا، لأن سائر المؤلَّفات التي سنتكلَّم عنها موضوعة قبل سنة 1519.
نُقلت هذه الإثباتات في سنة 595هـ= سنة 1198م، من الخط الكوفي القديم إلى الخط المتعارف عليه، وجُعلت في سجلٍّ واحد جرى تجديده في سنة 1095هـ= سنة 1682م، وانتهى حديثاً سجلاً واحداً طوله بضعة أمتار.
أول من أخذ عن السِّجلّ الأرسلاني هو المؤرِّخ حيدر الشِّهابي المتوفَّى سنة 1835، وذلك في تاريخه المعروف أيضاً بإسم “الغرر الحسان في أخبار أبناء الزّمان”، ثم المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق المتوفَّى سنة 1861، وذلك في تاريخه المسمَّى “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، كما أخذ عنه مؤرِّخون عديدون غيرهما، وبعد ذلك أورد الأمير شكيب أرسلان معظم نصوصه في تعليقاته على ما ورد في ديوان أخيه الأمير نسيب “روض الشقيق في الجزل الرقيق” الصادر في سنة 1935. وقد حقَّق الدكتوران محمد خليل الباشا ورياض حسين غنَّام السِّجلّ الأرسلاني، وصدر بكامل إثباتاته في سنة 1999.
وفي ما يتعلَّق بالمؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق، فقد كتب فصلاً عنوانه “في نسبة الأمراء الأرسلانيِّين”، سمَّى في آخره السّجلّ بإسم “النسبة”، وقال إنها منقولة عن نسب قديم موجود بيد الأمراء الأرسلانيِّين، موروث عن الآباء والأجداد، مثبت عند القضاة والحكّام عصراً فعصراً2. وكتب فصلاً ثانياً عنوانه “في أخبار الأمراء الأرسلانيِّين” وسمّى في آخره السّجلّ “النسبة” أيضاً، وأعاد ما قاله عنها، مضيفاً تواريخ الإثباتات وأسماء القضاة الذين أثبتوها3.
تعرَّض السِّجلّ الأرسلاني للنّقد على أساس أن بعض إثباتاته تضمَّنت ألفاظاً لم تكن متداولة في زمنها، مثل “المرحوم” و”المردة” و”الفرنج” و”أرسلان”، كما تضمّنت أسماء وتواريخ للأحداث في غير مكانها، ومنها ما هو غير موجود في المصادر الإسلامية، وبلغ النقد عند من اعتمدوا على ذلك حدَّ القول إن السّجلّ من صنع الأمراء الأرسلانيين لأهداف سياسيّة هي إظهار أنفسهم متميِّزين عن الأمراء البحتريِّين التّنوخيّين، وتقديم الإمارة الأرسلانية على الإمارة البحتريّة التنوخيّة، في إطار التنافس على التاريخ الدرزي، وعلى تاريخ بيروت و”الغرب”.
ولسنا هنا في صدد مناقشة السّجلّ، ولا في صدد ذكر مناقشات الآخرين له، بعد أن قمنا بذلك في كتابنا “التّنوخيّون والمناذرة اللخميّون والمعنيُّون. الفصول الغامضة من تاريخهم والإشكاليّات”، وإنما لا بدَّ من القول إن السِّجلّ الأرسلاني ليس مصطنعاً، ولا يعود فقط إلى تاريخ حديث، وإنما هو معطيات تاريخيَّة قديمة وصحيحة أسقط عليها الناسخون الألفاظ غير المتداولة في زمن الإثباتات، وسقط منها، من دون قصد، أسماء بعض الأمراء الأرسلانيِّين فخلا السّجلّ المحقَّق منهم. وشأن السّجلّ في ذلك شأن سائر المصادر التي تعرَّضت نُسَخها المتعدِّدة للزيادة والنقصان جرَّاء النقل المتكرِّر.
صحيح أن هناك ما يدعو إلى نقد السجلّ الأرسلاني، وتكوين الملاحظات على نصوصه بالصيغة التي وصلت إلينا، ولكن الصحيح أيضاً هو أنه مصدر تاريخي قديم يشتمل على معلومات يؤخذ بها، ويُركن إليها، وتؤكِّد مصداقيّته، ومنها ما هو متوافق مع التاريخ العامّ أو مذكور فيه، ومنها ما فيه الدليل على أنه لم يوضع بهدف تحقيق المصلحة السِّياسيّة، بل من أجل ذكر الوقائع إذ ليست هناك من مصلحة في الأساس عند واضعيهِ سوى تدوين الولادات والوفيات وذكر الأعمال الحاصلة، وليس عندهم بالتالي ما يدعو إلى ذكر أشخاص ومواضيع لا صلة لهم ولها بالأرسلانيِّين – إذا كان القصد بحسب ما اتَّهمهم الناقدون- إبراز أهميتهم، وتأكيد أسبقيتهم على الأمراء البحتريِّين التّنوخيِّين.
وإذا كان المجال هنا لا يتَّسع إلاَّ لما ذكرناه عن السِّجلّ، فإنه من المفيد مناقشة الاسم الذي نسب إليه الأرسلانيُّون.

بين الاسم “أرسلان” والاسم “رسلان”
عُرف الأرسلانيُّون بإسم جدِّهم أرسلان بن مالك بن بركات، الوارد اسمه هكذا في جميع إثباتات السّجلّ الأرسلاني، إلاّ أنهم حملوا أيضاً اسم بني أبو الجيش، وحمل بعض أمرائهم الاسم “رسلان”، وذكروا في بعض النصوص بإسم “بيت رسلان” ومن ذلك ما يلي:
1. ورود اسم “رسلان” كجدٍّ أعلى للأمراء الأرسلانيِّين في كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وورود ذكره في الكتاب نفسه كأسرة بالصيغة التالية: “بيت الأمير رسلان”4.
2. ورود أسماء أربعة أمراء فيها الاسم “رسلان” في تاريخ صالح بن يحيى، هم: شجاع الدين رسلان بن مسعود، وجوبان بن رسلان، وعلي بن رسلان بن مسعود، وعماد الدين موسى بن حسان بن رسلان5.
3. وجود الاسم “رسلان” في الكتابة المدوّنة على مدخل السراي الأرسلانيّة المشادة في عين عنوب سنة 1117هـ= سنة 1705م.
الاسم “أرسلان”، وحاليّاً أصلان، هو في الأصل اسم فارسي معناه: الأسد، أخذه السّلاجقة الأتراك عن الفرس، وحمله القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله المعروف بالبساسيري، الذي انقلب على الخليفة العبَّاسي القائم، وقُتل سنة 451هـ= سنة 1059م، وحمله ملك الدولة السّلجوقيّة الشهير ألب أرسلان ومعنى اسمه: المحارب الأسد، وهو الذي هزم إمبراطور الروم البيزنطيِّين هزيمة ساحقة في ملازكرد وأسرَهُ، وكان ذلك في سنة 463هـ= سنة 1071م، الأمر الذي أدَّى إلى وصول نفوذ الأتراك السّلاجقة إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام.
والاسم “رسلان” هو إمّا تصحيف للاسم “أرسلان” بحذف حرف الألف منه، وإمَّا أنه اسم عربي من فعل “رسل” بحسب ما جاء في معجم “لسان العرب” لابن منظور، ومعجم “تاج العروس” للزبيدي، فهو إذاً على وزن الأسماء العربية التالية: عدنان وقحطان وغسَّان ويقظان ونعمان وغيرها من الأسماء، وقد ورد عند ابن ماكولا المتوفَّى سنة 486هـ= سنة 1093م، اسم لجَدّ أحد رجال الحديث، المتوفَّى في القرن الرابع الهجري، وهو أحمد بن صالح بن رسلان الفيُّومي، مما يعني أن رسلان من أبناء القرن الثالث الهجري.
حمل الاسمَ “رسلان” أشخاصٌ كثيرون غير الأمراء الأرسلانيِّين، وحملتْهُ أُسر عديدة، منها أُسَر في بعلبك عُرفت به منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وهنا تبدو صعوبة معرفة ما إذا كانت أسماء هؤلاء الأشخاص وتلك الأُسَر أسماء عربيّة في الأصل أم هي تصحيف للإسم الفارسي (التُّركي السّلجوقي لاحقاً): أرسلان. وبالنسبة إلى الأمراء الأرسلانيِّين يقول أمير البيان شكيب أرسلان في تعليقه على ديوان أخيه الأمير نسيب: “روض الشقيق في الجزل الرقيق” ما يلي: “رسلان وأرسلان واحد وإنما رفعوا الألف للتخفيف وله نظائر”6، وهذا الكلام يعني أن الأصل هو الاسم “أرسلان” وأنه صُحِّف في بعض الأقوال والكتابات فغدا “رسلان”.
وبناء على قول الأمير شكيب أرسلان نرى أن الأمير الذي نُسب إليه الأرسلانيُّون حَمل الاسم “أرسلان” وحده، أو حَمل هذا الاسم، كلقبٍ يعني الأسد، بعد اسم سقط من السِّجلّ لاحقاً عند

الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب
الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب

نسخه، وذلك كما حمل الأمير مسعود بن عون لقب”قحطان”، وحفيده الأمير المنذر لقب “التنوخي”، وكما حمل قبلهما الملك المنذري اللخمي امرؤ القيس لقب “المحرّق”، والملك النعمان الأوّل لقب “الأعور”، والملك المنذر بن النعمان لقب “المغرور”، وفي كلتا الحالتين فإن الإسم لم يأتِ اقتباساً عن الأتراك السلاجقة وإنما عن الفرس الذين أخذه السلاجقة عنهم.
إن الاسم “أرسلان” في رأينا معروف عند المناذرة اللخميِّين قبل قرون من ظهور القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله (البساسيري)، والملك السّلجوقي ألب أرسلان، وذلك جرَّاء احتكاكهم بالفرس الذين سادوا في العراق وتبعت لهم المملكة التي أنشأها المناذرة في الحيرة بالعراق ودامت 364 سنة، وانتهت بآخر الملوك المناذرة الملك المنذر بن النعمان (المغرور) الذي أسلم عند ظهور الإسلام، وقد شكَّلت هذه المملكة خط دفاع عن مملكة الفرس كما شكَّل الغساسنة خط دفاع عن الروم البيزنطيِّين أعداء الفرس، وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يتأثَّر المناذرة بالفرس في نواحٍ عديدة منها أخذ الاسم أرسلان عنهم.

نسب الأرسلانيِّين وسائر المناذرة
ركَّز العرب على معرفة أنسابهم، وحثُّوا على تعليم النسب وتعريف كل امرئ نسبه الذي يعود إليه لإيجاد الصلة بين الأجيال المتعاقبة، ولكي لا يكون هناك خطأ في التنسيب، فكانوا يحفظون أنسابهم كحفظ أرواحهم ما لم تحفظه أمَّة من الأمم. وكان الرسول (ص) يحضُّ على تعليم النسب، ونظراً الى أهميته والاهتمام به دوَّن النَّسَّابون الكثير من الكتب عنه بدءاً بأقدمهم ابن الكلبي المتوفَّى سنة 204هـ= 819م، ودوَّن الموحِّدون الدروز بعض أنسابهم في أربعة مؤلَّفات، هي السِّجلّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، كما دوَّنوا مع هذه الأنساب بعض تاريخهم وحوادثهم وهم يفتخرون في دخولهم التاريخ بما صنعوا، ويفتخرون بأنسابهم المتوارثة، وأنسابهم الحاصلة بالأعمال والصنائع.
يرد في الإثبات الأول من السِّجلّ الأرسلاني، أن الأمير المنذر وأخاه الأمير أرسلان حضَرَا في سنة 758م إلى قاضي المعرَّة ليكتب لهما وفاة آبائهما في رق (سجلّ) “ليحفظاه عندهما من حوادث الزمان وتحفُّظًا من السَّهو والنسيان لأنهما عزما على الرحيل إلى جبال بيروت”. إن الأمير أرسلان الذي ينتسب إليه الأرسلانيُّون هو –بحسب ما جاء في هذا الإثبات- ابن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون ابن الملك المنذر (المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس) الذي يتَّصل عبر أجداده وأجداد أجداده بيعرب بن قحطان جد العرب العاربة7.
إذاً إن الأرسلانيِّين هم من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين الذين حكم منهم 17 ملكاً في الحيرة، وهذا النسب الرفيع الذي كان لهم بلقب “الملوك” استمرّ بعد ذلك، ولا يزال مستمراً حتى اليوم، بلقب “الأمراء”.
وبناءً على ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وتقاطعه مع ما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، هناك ثلاثة فروع أخرى من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين توطَّنت مع الأرسلانيِّين في جبلَ بيروت بعد انتقالهم إليه من جهات المعرَّة، أوّلها بنو فوارس وهم من نسل فوارس بن عبد الملك، وعبد الملك هو أخو الأمير أرسلان، وثانيها آل عبد الله وهم من نسل عبد الله بن النعمان، والنعمان هو الأخ الثاني للأمير أرسلان، وثالثها التّنوخيّون الذين سنتكلّم عنهم عند الحديث عن تاريخ بيروت، والذين يلتقون مع آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس عند الجَدّ الأعلى الملك النعمان (أبو قابوس).

الإمارة الأرسلانيّة في “الغرب”
أخذ المؤرِّخون – إلاّ قلّة منهم- بمقولة “حلف تنوخ” في الحديث عن المناذرة اللّخميِّين، أو عن أحد فروعهم المتأمِّرة في لبنان، فنسبوهم خطأً إلى التنوخيِّين بمعنى أنهم من حلف تنوخ الذي نشأ في البحرين أو من قبيلة تنوخ، فيما الحقيقة أنهم من سلالة الملوك المناذرة اللّخميِّين، كما أوضحنا في كتابنا:”التنوخيون والمناذرة اللخميون والمعنيون” وأن الشرف المتأتِّي لهم من هذه النسبة هو أكبر من شرف الانتماء إلى قبيلة تنوخ أو إلى حلف تنوخ. وجانَبَ بعض المؤرِّخين الحقيقة أيضاً حين جعلوا المعنيِّين تنوخيِّين منتمين إلى الحلف المذكور، ذلك أنهم ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، وهم قيسيُّون فيما المناذرة اللخميّون يمنيُّون. وبناءً على كل ما ورد صار الأرسلانيُّون في نظر هؤلاء المؤرِّخين تنوخيِّين، وضاع تاريخهم القديم، أو كاد يضيع في تاريخ التنوخيّين الذين سنتحدث عنهم والذين تأسّست إمارتهم في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، كما غابت الإمارة الأرسلانيّة التي تأسّست قبل هذا التاريخ.
اعتماداً على السِّجلّ الأرسلاني هناك إمارة أرسلانيّة منذريّة نشأت في بلاد “الغرب” بعد توطُّن المناذرة اللخميِّين فيها، وقبل قيام الإمارة البحتريّة التنوخيّة بقرون، عُرف أميرها بعدة تسميات، هي: أمير الغرب، وأمير الجبل أي جبل بيروت أو جبل الغرب، وأمير جبل الغرب وبيروت، وأمير صيدا وبيروت والغرب، وأمير بيروت وجبل لبنان، وقد وردت هذه التسميات في السّجل اعتماداً على عهدات أولي الأمر للأرسلانيّين بتسلّم الإمريّة على “الغرب” وعلى مدينتَي بيروت وصيدا8.

طلال ارسلان
طلال ارسلان

وبهذا، يصبح الأرسلانيون القادة الأوائل والأقدمين لأجداد الموحِّدين الدروز في لبنان، إلاّ أن قيادتهم هذه لم تكن إلغائيَّة لنفوذ أمراء أبناء عمومتهم من المناذرة (آل عبد الله وآل تنوخ وبنو فوارس) الذين كان في كل أسرة من أُسَرهم أمير مقّدم على سائر أمرائها، كالأمير الأرسلاني الأول المقَّدم على سائر أمراء أسرته، والذي له الإمرية الكبرى، ولم ينحصر نفوذ الأمير الأرسلاني في “الغرب” ومدينتَي بيروت وصيدا، بل إنه تعدَّى هذه المناطق إلى غيرها، إذ وُلّي الأمير النعمان بن عامر على صفد، والأمير رشد الدولة أبو الفوارس زنكي على اللجون وبعلبك وصفد وغيرها، والأمير تميم بن المنذر بن النعمان على طرابلس، والأمير هارون بن حمزة على صور9.
من وجوه تسلُّم الأمراء الأرسلانيين عهداتهم تسلّم الأمير ناصر بن منصور الأرسلاني العهدة على “بيروت وجبل لبنان” في سنة 383هـ= سنة 993م، من منجوتكبن الذي يذكر أحياناً بنجوتكبن، وكان والياً على الشام من قبل الخليفة الفاطمي العزيز بالله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ورود لفظة “جبل لبنان” في هذه العهدة، هي مما يدلّ على أن هذه التسمية كانت تُطلق قديماً على جبل لبنان، ومما يدحض مقولة إن الموارنة نقلوها معهم بعد انتقالهم من جبل لبنان الشمالي إلى مناطق الدروز المسمَّاة “جبل الدروز”، والواقعة في جبل لبنان الجنوبي.

إمارة بني فوارس في “الغرب”
كانت الإمرية الكبرى، أو إمارة “الغرب” هي للأمير الأوّل والأكبر شأناً من بين الأمراء المناذرة اللخميّين، أنه كان المقدّم بين المقدّمين، وكما غُيِّبَت الإمارة الأرسلانيّة من التاريخ بالرغم من استمرارها من المنتصف الثاني للقرن الثامن إلى المنتصف الأوّل للقرن الثاني عشر الميلادي، هكذا غُيِّبت: إمارة بني فوارس على “الغرب”، وإمارة أخرى عليه هي إمارة آل عبد الله، وما كانت هذه الإمارات الثلاث عُرفت لولا السِّجلّ الأرسلاني.
جاء في السِّجلّ الأرسلاني أن أهل “الغرب” انقسموا، بعد موت الأمير مطوع الأرسلاني، إلى فريقين: “الواحد يطلب إمارة عماد الدّين موسى ابن الأمير مطوع، والآخر يطلب إمارة الأمير أبو الفوارس معضاد من بني فوارس، وهو ابن الأمير همَّام ابن الأمير صالح ابن الأمير هاشم الفوارسي، ثم ولّي الأمير موسى، وبعد سنة نزل عنها للأمير أبي الفوارس”10.
تسلَّم الأمير أبو الفوارس إمارة “الغرب” من سنة 1020 إلى سنة 1040م. وتشير أدبيَّات الموحِّدين (الدروز)، التي تعود إلى تلك الفترة، إلى بعض جهاتها، وهي فلجّين والبيرة وعين صوفر والمروج وعين عار11، وإذ انتهت إمارة بني فوارس على “الغرب” مع الأمير معضاد استمرَّ وجود بني فوارس كأُسرة ثم كأُسَر تفرّعت منها وحملت أسماء مختلفة، منها آل الخضر وآل المغربي في كفرسلوان، ومنها آل أبو اللمع الذين تحوَّلوا تباعاً من الدرزيّة إلى النّصرانيّة بعد موقعة عين داره سنة 1711. أمَّا السِّجلّ الأرسلاني، فهو يذكر عدا الأمير أبي الفوارس ثلاث أميرات وأميرين من بني فوارس.

إمارة آل عبد الله في “الغرب”
كما أدَّى انقسام الأمراء الأرسلانيِّين في سنتي 1019و1020م إلى تسلُّم الأمير أبي الفوارس معضاد إمارة “الغرب”، هكذا كان اندثارهم على يد الفرنجة سبباً في تسلُّم آل عبد الله هذه الإمارة بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني الذي يرد فيه أن الأرسلانيِّين نكَّل بهم الفرنجة عند احتلالهم مدينة بيروت سنة 1110م ومهاجمتهم “الغرب”، وقد ذهب ضحية ذلك 21 أميراً أرسلانيّاً إضافة إلى غيرهم من أمراء سائر الأُسَر المنذريّة، وغيرهم من أهل “الغرب”.
لم يبقَ من الأمراء الأرسلانيِّين سوى أمير صغير اسمه بحتر، غير مؤهَّل لتسلُّم الإمارة، فتسلَّمَها الأمير مجد الدولة من آل عبد الله الذين هم أبناء عمِّ الأرسلانيِّين، وبقي متسلِّماً لها حتى مقتله سنة 1137م في إحدى المواقع مع الفرنجة. لم يذكر السِّجلّ الأرسلاني بعد هذا الأمير سوى ستّ أميرات من آل عبد الله مع الإشارة إلى أن منهم أسرة آل علم الدين التي تأمَّرَت مراراً على “الغرب” والشوف في عهد المعنيِّين، ومنهم أسرة آل تقيّ الدين.

ترجمة الأمراء الأرسلانيِّين
تَرجم السِّجلّ الأرسلاني لجميع الأمراء الأرسلانيِّين البالغ عددهم، من تاريخ الإثبات الأوّل في سنة 758م حتى الإثبات الأخير في سنة 1998، 356 أميراً، منهم أمراء لم تُعرف عنهم إلاَّ أسماؤهم وصلتهم بسائر الأمراء الأرسلانيِّين، ومنهم من بلغوا شأناً كبيراً، وقاموا بدور بارز في التاريخ كان القديم منه ضاع وضاعت أسماء القائمين به لو لم يحفظه السجلّ الأرسلاني.
وذكر السِّجلّ الأرسلاني أن الأمراء الأرسلانيِّين كانوا يتنافسون أحياناً على الإمارة، ويتصارعون على النُّفوذ، ويكيد بعضهم لبعض ويتآمر عليه، وقد تقاتلوا في سنة 838م في خلدة، وفي سنة 1002م في مرتغون الواقعة إلى الشمال من خلدة، كما إنهم تقاسموا الأراضي، وانقسموا بشأن الولاء للقوى المتصارعة في بلاد الشام، كالصراع بين الفاطميِّين والعبّاسيِّين واضطرار الأمير المنذر بن النعمان الذي تسلَّم الإمارة سنة 936م إلى مبايعة الخليفة الفاطمي12، وتأييد الأمير درويش بن عمرو للقائد العبَّاسي هفتكين وتأييد الأمير المنذر المذكور، في المقابل، لابن الشيخ وابن موهوب والي دمشق من قبل الفاطميِّين. وكان انتصار قوة على أخرى يؤدِّي إلى تسلُّم الأمير الذي يواليها إمارة “الغرب”، كمايذكر السّجلّ أيضاً تضرُّر الأرسلانيِّين من غزو التركمان (أمراء كسروان) للغرب.
وذكر السجلّ الأرسلاني إقبال الأمراء الأرسلانيِّين على التعلُّم والتفقُّه، مما يدلّ على أنهم منذ القدم كانوا أرباب العلم كما هم أرباب السيف، وقد كانت لهم مساهمة في إعمار “الغرب”، من وجوهها بناء قرية الشويفات على مجموعة تلال، واسمها عربي هو جمع شويفة أي تلّة مشرفة، وقد غدت اليوم مدينة، ومن أبرز ما يُذكرون به هو مشاركتهم في الجهاد الإسلامي.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
ينفرد السِّجلّ الأرسلاني عن المصادر الإسلامية بذكر مشاركة أجداد الأرسلانيِّين في الفتوحات الإسلاميّة، فهو يذكر أن الأمير عون ابن الملك المنذر (المغرور) حضر مع المسلمين فتح بصرى، وشارك في وقعة أجنادين وتوفِّي بعد أيام قلائل بسبب جرحه فيها، وأن ابنه مسعود تابع مسيرته فحضر فتح دمشق، وكان أوّل من دخلها، ثم حضر وقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، وكان معه من لخم 1500 فارس. وحضر مع أخيه عمرو فتح بيت المقدس، ثم شارك في فتح حلب وقلعتها، وكان ممن شاركوا في فتح أنطاكية، كما إن الأمير عمرو، وابن عمه الأمير همّام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر (المغرور)، شاركا في فتح قيساريه وفي فتح مصر.
تابع الأرسلانيُّون هذا الدور الجهادي بعد قدومهم إلى لبنان، وقد كان قدومهم أصلاً إلى جبل بيروت أو جبل “الغرب” للقيام بهذا الدور، إذ استقدمهم الخليفة العبّاسي إلى جبل مدينة بيروت للدفاع عن هذه المدينة وعن ساحلها ضد اعتداءات الروم البيزنطيِّين.
من وجوه جهاد الأرسلانيِّين ضد الروم البيزنطيِّين تحصين الأمير النعمان بن عامر لسور مدينة بيروت وقلعتها، وانتصاره على الروم حين نزل جندهم في رأس بيروت. ومن وجوه جهادهم ضد الفرنجة تصدِّيهم لحملات هؤلاء عند نهر الكلب، وفي مدينتَي بيروت وصيدا، وفي منطقة “الغرب”، وتكبّدهم الخسائر البشريَّة الكبيرة في ذلك، مما أدَّى إلى اندثارهم كما وردت الإشارة إلى ذلك.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرسلانيِّين كانوا قادة أجداد الموحِّدين (الدروز) في هذه المحطَّات الجهاديّة، وكان معهم أبناء عمومتهم من المناذرة اللّخميِّين، ومن يتبعهم ويتبع هؤلاء من الأهالي، وأن جهاد الأرسلانيّيِن حديثاً هو استمرار لجهادهم قديماً، ويأتي في طليعة المجاهدين منهم حديثاً الأمير شكيب أرسلان، الملقَّب بـ”داعية العروبة والإسلام” لجهاده من أجل القضايا العربية والإسلاميّة، وأخوه الأمير عادل (أمير السيف والقلم) المناضل من أجل القوميَّة العربيَّة، كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الجهاد الذي بدأ بقيادة الأرسلانيِّين واستمرَّ فصولاً معهم، استمرَّ أيضاً فصولاً بقيادة سواهم من أعيان الموحِّدين (الدروز).

قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت
قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت

الصراع مع المردة
يذكر السِّجلّ الأرسلاني قتال الأرسلانيِّين لمن يسمّيهم “المردة” و”أهل العاصية”، وهو لا يتكلَّم عن قتال الأميرَين المنذر وأخيه أرسلان، وقتال الأمير مسعود بن أرسلان، لهم، فيما يذكر المؤرِّخ طنّوس الشِّدياق ذلك، إمَّا نقلاً لمعلومات سجلٍّ لا ترد في نصّ السِّجلّ المحقَّق، وإمَّا اعتماداً على مصدر غيره، فهو يذكر موقعة جرت بين الأمير أرسلان والمردة عند نهر الموت بالقرب من سن الفيل حيث يقيم الأمير، وموقعة جرت بين هذا الأمير وأخيه الأمير المنذر وبين المردة في انطلياس، ويذكر انتصار الأرسلانيِّين فيهما.
لكن السِّجلّ الأرسلاني يذكر في الإثبات الثالث المؤرَّخ في 4 شعبان سنة 252هـ (سنة 866م) أن الأمير هاني ابن الأمير أرسلان حارب في سنة 845م “المردة وأهل العاصية لعنهم الله حروباً عظيمة حتى كاد أن يدمِّرهم” فلّقب بالغضنفر، وبلغ خبره الأمير خاقان التركي والخليفة العباسي المتوكِّل على الله، كما يذكر السِّجلّ الأرسلاني في الإثبات الرابع المؤرَّخ في 10 شوال سنة 269هـ (سنة882م) أنه كان في سنة 262هـ (سنة 875/876م) “بين الأمير النعمان والمردة الحروب العظيمة التي أهلكهم فيها وبلغ خبرها أمير المؤمنين المعتمد على الله، رحمه الله، فكتب له كتاباً بخطّه يقرّره على إمارته هو وذرّيته”.
استطاع الأرسلانيُّون إبعاد خطر المردة عن طريق بيروت دمشق، وذلك بزحزحتهم نحو الشمال إلى أنطلياس ثم إلى نهر الكلب، إلا أن شوكة هؤلاء لم تنكسر بل ظلُّوا يشكِّلون خطراً على الأرسلانيِّين، وكانوا رجال حرب وأحياناً هم المهاجمون والمبادرون إلى القتال كما جرى عند مهاجمتهم للأرسلانيِّين وخوض موقعة نهر الموت معهم، وكما جرى بعد ذلك عند هجومهم مع الفرنجة على “الغرب”، وهذا الهجوم لا يذكره السِّجلّ الأرسلاني فيما يذكره الشّدياق إمَّا نقلاً لمعلومات لم ترد في السِّجلّ المحقق، وإمَّا اعتماداً على معلومات وردت في غيره من المصادر.

كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” مجهول، إمَّا لأنه لم يشأ ذكر اسمه، أو أن اسمه دُوِّن في الأصل لكن الذين نسخوا مخطوطه لم يذكروه.
وإذا كان اسم هذا المؤلِّف مجهولاً، فإن أصله ومنطقته وصفته أمور نستشفّها من عبارات كتابه، وهي أنه من “الغرب”، ومن الموالين لأمرائه البحتريِّين التنوخيِّين، وهو من الموحّدين (الدروز) بناءً على أدلة كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تكلَّم عن جدود أُسَر الموحِّدين (الدروز)، وعاش بينهم، وسمّى بعض المناطق المسكونة بغيرهم، أي بالسُّنَّة والشِّيعة.
2. أورد عبارات من أدبيات الموحِّدين (الدروز)، ومنها قوله عن حصول بعض الأمور قبل ما سمَّاه “الكشف”، وحصول بعضها الآخر بعد “الكشف”13.
3. أظهر حبّه للأمراء البحتريين وموالاته لهم وقربه منهم بذكر مواضيع وردت عند صالح بن يحيى البحتري التنوخي، وبقوله إن “أمراء عبيه”، وهم الأمراء البحتريُّون، يبغضون بني أبو الجيش الأرسلانيِّين “وهم وإيَّاهم على السيف”، وبوصفه بني أبو الجيش بأنهم ثقال الطبع.

نِسَخ مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
يعود تدوين مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب” – بالصِّيغة التي وصلت إلينا- إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديداً إلى ما بعد سنة 1389م بقليل، لأن فيه إشارة إلى قريتَي البيرتَين اللَّتَين خربتا في هذه السنة، وهما البيرة التحتا والبيرة الفوقا الواقعتان بين بلدتَي بيصور وكيفون، يضاف إلى ذلك ذكر سنة 785هـ= سنة 1383م في المخطوط.
عُرف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” بإسم آخر هو “النسبة” ذلك لأنه متعلِّق بالنسب، ولأن مدوِّنه سمّاه “النسبة” فقال: “ نقلتُ هذه النسبة المباركة عن نسبة نُقلت في شهر رجب سنة 505هـ. [وهذا التاريخ يوافق يناير سنة 1112م]، مثبتة عند قضاة الشرع في دمشق وحلب” بدءاً بسنة 710هـ (سنة 1310م) وانتهاء بسنة 785هـ (سنة 1383م)
إن أول من أشار إلى كتاب “قواعد الآداب …” هو القنصل الفرنسي في لبنان هنري غيز الذي نشر ذلك بين سنتَي 1843و1847، ثم الأمير شكيب أرسلان، وكان منه خمس نُسَخ أو نسب، هي النسخة الموجودة في مكتبة بلدية روان الفرنسية، ونسخة عند المؤرِّخ عيسى إسكندر المعلوف، ونسخة عند المؤرِّخ سليم أبو إسماعيل، ونسخة مجزوءة ملحقة بتاريخ الأمير فخر الدين الذي وضعه الشيخ الخالدي الصفدي، وقد ألحقها محقّقا هذا التاريخ به، وهما الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد إفرام البستاني، وهي خمس صفحات مخطوطة وثلاث صفحات مطبوعة، والنسخة الخامسة هي بإسم “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”.
اطَّلع بعض الباحثين على نسخة مدينة روان الفرنسيَّة، ونقل المستشرق جان سوافاجيه – وهو أستاذ التاريخ الإسلامي في كوليج دي فرانس- نسخة عنها وأهداها إلى حسن قبلان المحامي العامّ في محكمة التمييز اللبنانيّة، وقد حقَّق الدكتور الياس القطّار نسخة مدينة روان في سنة 1986 وهي النسخة التي سنتكلّم عنها، والتي وصلتنا مكتوبة بلغة عصر الانحطاط، فيها الكثير من الجمل الغامضة والركيكة، وفيها العديد من الأخطاء، لكننا قبل أن نتكلَّم عنها، نرى من المفيد التكلُّم عن النسخة الخامسة، أي “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”14.
إن النسخة المذكورة منقولة عن نسبة كُتبت سنة 940هـ (سنة 1533م)، منقولة بدورها عن نسبة كُتبت سنة 890هـ (سنة 1485م)، وقد أضاف ناسخ النسبة المسماة “كتاب العجائب…” إلى النسبة الأصليَّة قصة سيلار نايب كرك الشوبك، التي جرت في سنة 710هـ (سنة 1310م)، وأخبار فيضان نهرَي الصفا والباروك في سنة 963هـ (سنة 1556م)، وأضاف إليها أيضاً ذمَّ بني أبو الرجال الذين يكرههم لأسباب شخصيَّة، فيما هم ممدوحون في المخطوط الأصل، ومحمودون عبر العصور، ومنهم شيوخ دين ثقات بينهم الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) الشيخ عزّ الدين أبو الرجال، ومنهم الصدر الأجلّ الشيخ سليمان، ورجل اسمه غازي هو أحد أبدال الحراسة على ثغر بيروت في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الميلادي، وهذا مما يدلّ على أن مخطوط “قواعد الآداب” تعرَّض للتهديم والزيادة والنقص والتعديل على يد بعض ناسخيه، وقد حقَّق المحامي سليمان تقيّ الدين بالاشتراك مع الأستاذ نائل أبو شقرا، النسبة المسمّاة “كتاب العجائب..” بعنوان “الأُسَر في جبل الشوف من خلال مخطوط قديم، وصدر هذا الكتاب في سنة 1999.

أنساب العشائر وصفاتها
وُضِع كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” من أجل معرفة أنساب الطوائف (العشائر) وتحديد صفاتها، لحفظ ذلك والعمل بقواعده، وورد فيه أن بعض هذه الأنساب مثبت عند قضاة الشرع في دمشق وحلب، وهو في هاتين الناحيتَين يلتقي مع السِّجلّ الأرسلاني الذي وُضع من أجل الحفاظ على النسب، وعدم ضياعه مع الزمن وتقلّبات الحوادث، كما يتقاطع معه، ومع ما ورد عند صالح بن يحيى عن تاريخ أسرته البحتريّة التنوخيّة في القول التالي: “فأول النسب الشريف الطاهر العالي الأمير نعمان الجميهري اللَّخمي بن لخم ابن أبيت اللعن ابن قابوس ابن ماء السماء ابن المنذر ابن النعمان الأكبر…الذي هو أكبر الملوك وأكبر البيوت وأكبر أهل الزمان من الجاهليّة إلى الآن”15. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سلسلة هذا النسب وصولاً إلى آدم عليه السلام تختلف في “قواعد الآداب…” بعض الشيء عما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وفي تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وفي المصادر الإسلاميّة.
إن عدد الطوائف (العشائر) المذكورة في كتاب “قواعد الآداب..” هو في الأصل 12 طائفة عربيّة يمنيّة، ثم بلغت في جبل لبنان مع فروعها ومع من انضم إليها من العشائر 111 عشيرة. أمّا العشائر الاثنتا عشرة فهي تعود إلى ثلاثة أمراء، وتسعة أسياد، مما يعني أن لقب “السّيِّد” دخل في أدبيّات الموحِّدين (الدروز)، وهو يعطَى لأعيان القوم من روحيِّين وزمنيِّين، وقد أُعطِي لأكبر وأقدم وأشهر أولياء الموحِّدين وعلمائهم ورؤسائهم الروحيِّين، الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (ق)، والأمراء هم الأمير شهاب، والأمير مسعود بن رسلان بن مالك، والأمير فوارس، والسادة هم السيد عزايم، والسيد عبد الله، والسيد عطير، والسيد حصن، والسيد هلال، والسيد كاسب، والسيد شجاع، والسيد نمر، والسيد شرارة.
إن هذا النسب الرفيع لأجداد الموحِّدين (الدروز) هو – مع المفهوم التاريخي لعقيدة التوحيد التي اعتنقوها- محل فخرهم واعتزازهم، وهذا حمل أحد رؤسائهم الروحيِّين، الشيخ أبا علي قسّام الحنَّاوي من جبل العرب، على القول التالي:
أفضل نسب في الأرض تلقى نسبنا متـــــجنّــــــــــــــــــــبين العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار والمعيــــــــــار
إن صفات الطوائف (العشائر) بحسب ما جاء في “كتاب قواعد الآداب..” هي التالية:
• بنو فوارس: شجعان وأصحاب غيرة وكرماء وأوفياء وفصحاء، لا يفوقهم أحد في ذلك، ولا يتزوَّجون إلاَّ من بعضهم، وهم يُعرفون بالنعمانيّة نسبةً إلى معرّة النعمان.
• آل عبد الله (العبادلة): علماء وصادقون وحلماء.
• بنو أبو الرجال: خيَّالة ورجال، ولا أخيل ولا أرجل منهم.
• بنو أبو الجيش (آل أرسلان) وبنو حرب: ثقال الطباع.
• بنو الشويزاني وبنو فضل وبنو الشاعر وبنو نمرو وبنو روق: شعراء وحلفاء وجمَّاعون للمال.
• بنو الحصن وعمّار وأبو النصر وأبو الفتوح: علماء وحلماء وصادقون وأدباء.
• بنو ملهم وبنو عجل: أخَّاذون بالثأر.
ومن سائر الطوائف (العشائر) التي لا شأن لها كالطوائف المذكورة، يسمِّي مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب..” بني صيدان وبني طرطور وبني قبع، ويصفهم بأنهم “جلب” أي جيء بهم بعد العشائر الأولى الرئيسة.

قواعد الآداب حفظ الأنساب 2
قواعد الآداب حفظ الأنساب

برز المواضيع
يتضمّن كتاب “قواعد الآداب…” مواضيع كثيرة بالرغم من قلة عدد صفحاته وخلوِّه من العناوين. ومن المواضيع ما يلتقي فيها مع السِّجلّ الأرسلاني ومع تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، ومنها ما ينفرد به كالحديث عن أسرة بني الشويزاني، ومنها ما هو خاطئ كالقول إن عمارة حصن الأكراد هي من شغل أجداد الأمراء بيت معن الذين يتحدَّرون “من سلالة بني أيوب سلاطين بغداد وثغورها وحلب وثغورها والشام وثغورها ومصر وثغورها”. وبما أن المجال لا يتّسع لذكر جميع مواضيع الكتاب نكتفي بذكر أبرزها.
• أسباب قدوم العشائر إلى لبنان: يرد في “كتاب قواعد الآداب…” قدوم اثنتي عشرة طائفة، أي عشيرة، من اليمن إلى العراق، ثم انتقالها منه إلى معرَّة حلب بسبب قتل الملك كسرى للنعمان، وبما أن حكم الملك كسرى للفرس بدأ في سنة531م، فإن نزوح هذه الأُسَر هو بعد هذا التاريخ وهذه الأُسَر عادت وانتقلت من معرَّة حلب، أي معرَّة النعمان، إلى “بلد بيروت” بسبب اعتداء مشدّ المغل على إحدى نسائها، مما دفع بأحد أبنائها (نبا) إلى قتله والخروج من جهات حلب مع بعض النساء والأولاد إلى كسروان ولحق بهم أقاربه. وكان خروج هذه الطوائف من المعرَّة بتاريخ شهر المحرّم سنة خمس ومايتي سنة” وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران820م.
• توطُّن العشائر: ورد في كتاب “قواعد الآداب…”أن نبا كان أوّل القادمين من معرَّة النعمان إلى جبل لبنان، ثم قدمت إليه سائر الطوائف (العشائر) عبر المغيثة، أي ضهر البيدر، ومنها من نزل أوّلاً في حصن أبي الجيش في وادي التيم. وقد توطَّنت العشائر الاثنتا عشرة مناطق المتن والجرد والغرب والشوف، وتقاسمت بعض قراها. وورد في الكتاب أيضاً اسم المكان الذي نزلت فيه كل عشيرة من العشائر القادمة أوّلاً، ومن العشائر التي تفرّعت منها أو لحقت بها، فبلغ مجموع هذه الأمكنة 140 قرية، أكثريتها الساحقة في جبل لبنان الجنوبي، ولا يزال منها 121 قرية عامرة حتى اليوم، فيما هناك 19 قرية دارسة، وهذا مع توطُّن العشائر التي قدمت إلى لبنان في سنة 758م، ساهم في إعماره، وملء الفراغ السّكَّاني الذي حصل فيه بعد الفتح العربي له وجلاء الرومالبيزنطيين عنه، كما ساهم في نشر الدين الإسلامي فيه، واللغة العربية التي حلّت مكان اللغة السّريانية، مع بقاء آثار الأخيرة ظاهرة في العديد من أسماء المكان القديمة.
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” الذي هو من الموِّحدين (الدروز) لا يكتفي بذكر القرى التي يقيمون فيها، بل يذكر المقيمين بينهم، أو بالقرب منهم، من أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فيقول إن السُّنَّة موجودون في قرى سبلين والوردانيَّة والجيّة وشحيم ومزبود وعانوت والناعمة وبطلّون وبحمدون ومجدل معوش، وإن الشِّيعة (المتاولة) موجودون في البرج القريبة من بيروت، وفي إقليم الخرُّوب وجبل عامل، لكنه لا يذكر شيئاً عن النصارى، لأنهم كانوا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مقيمين في جبل لبنان الشمالي.
ذِكْر الملك العادل نور الدين محمود زنكي: يرد في كتاب “قواعد الآداب..” أن أحوال المسلمين والبلاد تغيَّرت في عهد الملك العادل الذي قهر الفرنجة وكان “أعدل الرعية وفتح بعض البلاد وعمّر القرايا”، والذي نادى في الناس “من أراد السكن بالحماية والرعاية والعزّ والعدل والقوة عليه بكنيسة حمام [الكنيسة في وادي التيم] فانبث الخبر في البلاد” ورحل بعض المتوطِّنين في جبل لبنان إلى الكنيسة16.
والملاحظ أن مدوِّن كتاب “قواعد الآداب..” يُطلِق على الملك العادل نور الدين لقب “سيدي”، ويترحَّم عليه بقول: “قدّس الله روحه”، وهذه عبارات معتمدة عند رجال الدين من الموحِّدين (الدروز) يعطونها للرجل التقيّ الصالح، وقد كان الملك العادل ديِّناً وصالحاً، جاء عنه في تاريخ ابن سباط، الذي سنتكلَّم عنه لاحقاً، ما يلي:

كفرمتى وعبيه وقرى الغرب
كفرمتى وعبيه وقرى الغرب

“كان نور الدين لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلاَّ من ملك اشتراه من خالص ماله ومن عمل السكاكر [الأقفال] للأبواب… وكان يستفتي الفقهاء في ما يحلُّ ويحرم، ولم يلبس حريراً ولا ذهباً ولا فضة، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان يحدُّ شاربَها”.
• غَدْر الفرنجة بأبناء الأمير كرامة بن بحتر التنوخي: إن قصّة غدر صاحب بيروت الفرنجي اندرونيكوس كومنينوس بثلاثة من أبناء الأمير كرامة بن بحتر واردة عند المؤرِّخ صالح بن يحيى في تاريخ بيروت، وهذه من المعلومات المتقاطعة بين مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” وبين صالح بن يحيى البحتري التنوخي الذي كتب بعده، مما يدلّ على أن هذا المؤلّف كان على صلة بالبحتريين، ويعرف تاريخهم كما وردت الإشارة إلى ذلك. ومفاد قصة الغدر هذه أن صاحب بيروت الفرنجي دعا أبناء كرامة إلى عرس ابنه في بيروت، فنزلوا من حصن سرحمور، وحين أصبحوا داخل بيروت ووسط الفرنجة غُدر بهم وقتلوا، وعندما فتح السلطان صلاح الدين بيروت، وكان معه الأخ الأصغر الرابع للمغدورين، أمر السلطان بالإحسان عليه وأقرَّه على أملاك أبيه وأقاربه.
• أسرة بني الشويزاني: المتداول عن تاريخ هذه الأسرة في لبنان، قبل تحقيق كتاب “قواعد الآداب…” ونشره، معلومات قليلة، منها أنها أصل أربع أُسَر درزيّة، هي: آل عبد الملك، وآل أبو هرموش، وآل حماده، وآل أبو حمزة ومنها إهمالها الحراسة في ثغر الدامور سنة 1302م مما تسبّب في قتل أمير بحتري تنوخي وبعض المرابطين معه، ومنها اسم منطقة في الشوف هو الشوف السويجاني، واسم حصن هيلنستي فيه هو قصر السويجاني. ولفظة “السويجاني” هي تصحيف للفظة “الشويزاني”17.
إلاَّ أن كتاب “قواعد الآداب..” أضاء على أسرة بني الشويزاني، حين تحدَّث عنها في 4 صفحات كاملة، وأشار إليها في 3 صفحات، من أصل الكتاب المطبوع الذي تبلغ صفحاته 24 صفحة ونصف. فلقد ذكر فروع هذه الأسرة، وأماكن نزولها. كما توسَّع في الحديث عن حادثة جرت بينها – حين كانت في تيروش إلى الشمال الشرقي من عين داره- وبين الدرغام (مقدّم سبعل القريبة من بحمدون) والبقاعيّين، وتحدَّث عن انتصارها على البقاعيِّين، وعن تسمية بني نمر وبني روق للقائد المنتصر (فهد الشويزاني) بالمقدام (المقدّم) والعقيب18.

ثقافة و آداب

قصص الأمثال

قصص الأمثال يضرب هذا المثل في الأمر الفاسد الذي يفرض نفسه بقوة السلطة. والحكاية أنه في أيام الحكم العثماني كان الناس يعصرون …

مآثـــر وعبـــر استشهاد القديس يوحنا المعمدان صدر أخيراً كتابٌ قيّم للمحامي الدكتور منيف حمدان بعنوان “تركيب الملفات وثورات الكبار”، يتضمن ملفات عن …

قصص الأمثال الموت ولا المنع بوجه طقيعان وهو مثل يضرب للنفور من الخضوع للخسيس ولو كان دون ذلك الموت، ويقابله من الفصيح:” …

مآثـــر وعبـــر الدكتور محمد السماك في كلام بليغ عن وحدة الإيمان الإسلامي المسيحي نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما الـــــــدين للدّيان …

مسؤولون وأكاديميون وخبراء يقيَّمون وسائل التواصل الاجتماعي كيف تصدّ طوفانا؟ مؤتمر البلمند شخّص المخاطر لكن غابت الحلول زين الدين: شبه مستحيل محاولة …

قراءة في كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكِه1 شمسُ العرب تسطعُ على الغَرب مساهمــة العــرب الكبيــرة في انطلاقـة الحضــارة الأوروبيــــة لم يبدأ خروج …

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل الخــــزري لليهــــود الغربييــــن حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل الخــــزري لليهــــود الغربييــــن التوسّع الصهيوني إستند دوماً إلى الضعف العربي أكثر من استناده …

في ضوء مؤلَّفاتهم القديمة تاريــــــخ الموحِّــــدين الــــدروز والموارنـــــة السجل الأرسلاني – قواعد الآداب حفظ الأنســـــاب – تاريــخ بيـــروت تاريخ ابن سباط- زجليات …

قراءة في كتاب الدكتور الشيخ سامي أبي المنى الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان رؤية الموحِّدين الــدّروز1 مرجع لفهم قضية مركزية في العلاقة …

مقابلة مع المفكر الفرنسي الراحل تزفيتان تودوروف «العيش خلف جدار يشوهك من الداخل» الجدار الإسرائيلي إغتصب أراضي إضافية تعود إلى الفلسطينيين وسياسة …

لبنان يدخل ببطء عصر الطاقة الشمسية والعقبة الأساسية غياب الرؤية الحكومية لبنان ملتزم بخفض غازات الانحباس الحراري بنسبة 30% ورفع الطاقة من …

مستقبــل قـطاع الطاقة في لبنان الطاقة المتجدّدة باتت الخيار الاستراتيجي لدول العالم لكننا ما زلنا نحاول تمديد صلاحية التخلف والفساد لبنان ملزم …