الأحد, نيسان 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, نيسان 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نفائس من كتاب
«سر الأسرار ومظهر الأنوار»
للشيخ العارف عبد القادر الجيلاني (ر)

العارِف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه وعِلم العارف سر الله تعالى لا يعلمه غيره

صلاة الطريقة مؤبدة ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قـوى الباطن بالاشتغال على أسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية

في مقام الاستهلاك وفناء الفناء يبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه

صوم الطريقة أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً. أما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله تعالى

يعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني من أشهر أعلام التصوف الإسلامي ويعود نسبه ونسب أمه فاطمة (أم الخير) إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقال عنه ابن الوردي “إن نسبه الشريف من أبويه خالص لسلامته من الموالي وانتهاؤه إلى علي كرّم الله وجهه”.
جلس للوعظ في مدرسته بباب الأزج في بغداد في بداية521 هـ، واستطاع بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم، وقد كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشدّ تأثراً بوعظه، فاستطاع أن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، وقيل إنه تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطّاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة آلاف من اليهود والنصارى. وكان بسبب شخصيته الفذة وهيبته يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه، حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائمهم وطواقيهم تقليداً له وهم لا يشعرون.
للشيخ عبد القادر أكثر من 30 مؤلفاً من أشهرها: “تحفة المتقين وسبيل العارفين” و “حزب الرجاء والانتهاء”، و”جلاء الخاطر في الباطن والظاهر”، و”فتوح الغيب” و”رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله “، و”الفتح الرباني والفيض الرحماني” و”سر الأسرار في التصوف”، وهو كتاب مشهور عرض فيه لأسس السلوك العرفاني وأسراره وأبرز ما فيه إقامته للفرق في مفاهيم العبادة بين أهل الطريقة العاكفين على الزهد وقطع العلائق كلها وأعمال القلوب وبين عبادة أهل الظاهر. وقد اقتطفنا لهذا العدد من “الضحى” بعض الفصول من كتاب سر الأسرار، والتي تسلّط ضوءاً كاشفاً على تعليم عبد القادر الجيلاني الذي يعتبر أيضاً مؤسس ما يعرف في أوساط التصوف بالطريقة القادرية أو الجيلانية.

في بيان الطهارة
وهي على نوعين: طهارة الظاهر التي تحصل بماء الشريعة وطهارة الباطن وهي تحصل أيضاً بالتوبة والتلقين والتصفية وسلوك الطريقة. فإذا انتقض وضوء الشريعة بخروج نجس يجب تجديده بالماء كما قال عليه الصلاة والسلام “من جدد الوضوء جدد الله إليه إيمانه”، وكما قال عليه الصلاة والسلام “الوضوء على الوضوء نور على نور”. فإذا انتقض وضوء الباطن بالأفعال الذميمة والأخلاق الرديّة كالكبر والحقد والحسد والعجب والغيبة والكذب والخيانة – كمثل خيانة العينين والأذنين واليدين والرجلين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “العينان تزنيان” إلى آخره فتجديده (وضوء الباطن) بإخلاص التوبة عن هذه المفسدات وتجديد الإنابة بالندم والاستغفار والاشتغال بقمعها من الباطن وينبغي للعارف أن يحفظ توبته من هذه الآفات لتكون صلاته تامة كما قال الله تعالى {هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ} (ق:32). فوضوء الظاهر وصلاته مؤقتة ووضوء الباطن وصلاته مؤبدة في جميع عمره في كل يوم وليلة متصلة.
في بيان صلاة الشريعة والطريقة
أما صلاة الشريعة فقد عُلمت بقوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد منها أركان الجوارح الظاهرة بحركة الجسمانية من القيام والقراءة والركوع والسجود والقعود والصوت والألفاظ، ولذلك جاء الفضل الجمع يعني قال الله تعالى {حافظوا}.
وأما صلاة الطريقة فهي صلاة القلب، وهي مؤبدة، فقد عُلمت بهذه الآية {والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد من الصلاة الوسطى صلاة القلب لأن القلب خلق في وسط الجسد بين اليمين والشمال وبين العلوي والسفلي وبين السعادة والشقاوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والمراد من الإصبعين صفتا القهر واللطف، فبهذه الآية والحديث يعلم أن الأصل صلاة القلب، فإذا غفل عن صلاته، فسدت صلاته وصلاة الجوارح لقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة إلا بحضور القلب)، لأن المصلي يناجي ربه ومحل المناجاة القلب، فإذا غفل القلب بطلت صلاته وصلاة الجوارح لأن القلب أصل والباقي تابع له كما قال عليه الصلاة والسلام ( ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فأما صلاة الشريعة فمؤقتة في كل يوم وليلة خمس مرات والسُنّة أن يصلي هذه الصلاة في المسجد بالجماعة متوجهاً إلى الكعبة وتابعاً بالإمام بلا رياء ولا سمعة.
وأما صلاة الطريقة فهي مؤبدة في عمره ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قوى الباطن على الاشتغال بأسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية، والقلب والروح مشغولان بهذه الصلاة على الدوام، فالقلب لا ينام ولا يموت بل مشغول في النوم واليقظة بحياة القلب بلا صوت ولا قيام ولا قعود فهو يخاطب الله تعالى بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) متابعاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي في تفسير هذه الآية إن فيها إشارة إلى حال العارف وانتقاله من حالة الغيبة إلى الحضرة الأحدية سبحانه وتعالى، فاستحق بمثل هذا الخطاب ما قاله عليه أفضل الصلاة والسلام (الأنبياء والأولياء يصلون في قبورهم كما يصلون في بيوتهم)، أي أنهم مشغولون بالله تعالى ومناجاته بحياة قلوبهم. فإذا اجتمعت صلاة الشريعة والطريقة ظاهراً وباطناً فقد تمت الصلاة يعني تكون صلاته صلاة تامة وأجرها عظيم في القربة بالروحانية والدرجات بالجسمانية، فيكون هذا المصلي عابداً في الظاهر وعارفاً في الباطن، وإذا لم تحصل صلاة الطريقة بحياة القلب فهو ناقص وأجره يكون من الدرجات لا من القربات.

في بيان طهارة المعرفة في عالم التجريد
وهي على نوعين : طهارة لمعرفة الصفات وطهارة لمعرفة الذات .
فطهارة معرفة الصفات لا تحصل إلا بالتلقين وتصفية مرآة القلب بالأسماء من النقوش البشرية والحيوانية ثم يحصل له النظر بعين القلب لينظر بنور الصفات إلى عكس جمال الله تعالى في مرآة القلب، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام (المؤمن ينظر بنور الله)، كما قال (المؤمن مرآة المؤمن)، وقيل “العالِم يُنقش والعارف يُصقـل” فإذا تمت التصفية بملازمة الأسماء حصلت معرفة الصفات بمشاهدة في مرآة القلب.
وأما طهارة معرفة الذات في السر فلا تحصل إلا بملازمة أسماء التوحيد الثلاثة الأخيرة من الأسماء الإثني عشر في عين السر بنور التوحيد. فإذا تجلت أنوار الذات ذابت البشرية وفنيت بالكلية، فهذا مقام الاستهلاك وفناء الفناء، وهذا التجلي يمحو جميع الأنوار كما قال الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص:88) وقال تعالى {يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب}(الرعد:39) فيبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء} (الشورى:48) فبقي النور المطلق محضاً ولا يمكن الإخبار عما وراء ذلك لأنه عالم المحو فلا يبقى ثمة عقل يخبر عنه ولا موجود ثمة غير الله تعالى كما قال عليه السلام “لي مع الله وقت لا يسع فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل” فهذا عالم التجريد من غير الله تعالى كما قال تعالى ” تجرد تصل إليّ” والمراد من التجرد فناء الكل من صفات البشرية فيبقى في عالمه متصفاً بصفة الله تعالى كما قال عليه السلام “تخلقوا بأخلاق الله تعالى” أي اتصفوا بصفاته.

في بيان زكاة الشريعة والطريقة
فأما زكاة الشريعة أن يُعطى من كسب الدنيا إلى مصرفة مؤقتة معينة في كل سنة من نصاب معين، وأما زكاة الطريقة فهي أن يعطى من كسب الآخرة كله في سبيل الله إلى فقراء الدين والمساكين الأخروية.
والزكاة (زكاة الشريعة) سميت صدقة في القرآن كما قال الله تعالى {إنما الصدقات للفقراء}(التوبة:60) لأنها تصل في يد الله تعالى قبل أن تصل بيد الفقير والمراد منه قبول الله تعالى.
وزكاة الطريقة فهي مؤبدة وهي أن يعطى ثواب كسب الآخرة للعاصين لرضاء الله تعالى فيغفر الله لهم مثل ثواب الصلاة والصوم والزكاة والحج وثواب التسبيح والتهليل وثواب تلاوة القرآن والسخاوة وغير ذلك من الحسنات فلا يبقى لنفسه شيء من ثواب حسناته ويبقي نفسه مفلساً فالله تعالى يحب السخاوة والإفلاس كما قال عليه السلام “المفلس في أمان الله تعالى في الدارين”.
فالعبد وما في يده كان لمولاه فإذا كان يوم القيامة أعطاه الله تعالى بكل حسنة عشرة أمثالها كما قال الله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160)
وفي معنى الزكاة أيضاً تزكية القلب من صفات النفسانية كما قال الله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (البقرة:245) والمراد من القرض أن يعطى ما له من الحسنات في سبيل الله تعالى إحساناً إلى خلقه لوجهه الكريم وشفقة لا منة كما قال الله تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة:264) لا طالباً عوض الدنيا فهذا من قسم الإنفاق في سبيل الله كما قال جل وعلا {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران:92).

في بيان صوم الشريعة والطريقة
صوم الشريعة: أن يمسك عن المأكولات والمشروبات وعن الوقاع في النهار.
وأما صوم الطريقة فهو أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب والكبر والبخل وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً فكلها يبطل صوم الطريقة.
فصوم الشريعة مؤقت وصوم الطريقة مؤبد في جميع عمره. فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) فلذلك قيل “كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم”، أي يمسك أعضاءه عن المناهي وإيذاء الناس بالجوارح كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {إن الصوم لي وأنا أجزي به} وقال الله تعالى في الحديث القدسي {يصير للصائم فرحتان: فرحة عند الإفطار وفرحة عند رؤية جمالي}.
قال أهل الشريعة: المراد من الإفطار الأكل عند غروب الشمس ومن الرؤية رؤية الهلال يوم العيد، وقال أهل الطريقة الإفطار عند دخول الجنة بالأكل مما فيها من النعيم. والمراد بالرؤية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة بنظر السر معاينة.
وأما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عن محبة ما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {الإنسان سري وأنا سره}. والسر من نور الله تعالى فلا يميل إلى غير الله تعالى وليس له سواه محبوب ومرغوب ومطلوب في الدنيا وفي الآخرة. فإذا وقعت فيه محبة غير الله فسد صوم الحقيقة فله قضاء صومه وهو أن يرجع إلى الله تعالى ولقائه وجزاء هذا الصوم لقاء الله تعالى في الآخرة.

 

مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد - 1914
مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد – 1914

في بيان حج الشريعة والطريقة
الحج على نوعين: حج الشريعة وحج الطريقة
فحج الشريعة بحج بيت الله بشرائطه وأركانه، حتى يحصل ثواب الحج، إذا نقص شيء من شرائطه نقص ثواب الحج لأن الله تعالى أمرنا بإتمام الحج بقوله عز وجل {وأتموا الحج والعمرة لله} (البقة: 196).
فمن شرائطه الإحرام أولاً ثم دخول مكة ثم طواف القدوم ثم الوقوف بعرفة ثم المبيت بمزدلفة ثم ذبح الأضحية في منى ثم دخول الحرم ثم طواف الكعبة سبعة أشواط ثم شرب ماء زمزم ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ثم يحلل ما حرم الله تعالى عليه من الصيد ونحوه. فجزاء هذا الحج العتق من الجحيم والأمن من قهر الله كما قال تعالى {ومن دخله كان آمنا} (آل عمران :97) ، ثم طواف الصدور ثم الرجوع إلى وطنه.
وأما حج الطريقة فزاده وراحلته أولاً الميل إلى صاحب التلقين وأخذه منه، ثم ملازمة الذكر باللسان وملاحظة معناه حتى تحصل حياة القلب له ثم يشتغل بذكر الباطن حتى يصفيه بملازمة أسماء الصفات فتظهر كعبة السر بأنوار الصفات كما أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) بتطهير الكعبة أولاً بقوله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين} (البقرة: 125) إلى آخر الآية.
فكعبة الظاهر تطهيرها لأجل الطائفين من المخلوقات وكعبة الباطن تطهيرها لنظر الخالق مما سواه ثم الإحرام بنور الروح القدسي ثم دخول كعبة القلب ثم طواف القدوم بملازمة الاسم الثاني ثم الذهاب إلى عرفات القلب وهو موضع المناجاة فوقف فيها بملازمة الاسم الثالث والرابع، ثم ذهب إلى مزدلفة الفؤاد وجمع بين الاسم الخامس والسادس، ثم ذهب إلى منى السر وهي ما بين الحرمين فوقف بينهما ثم ذبح النفس المطمئنة بملازمة الاسم السابع لأنه اسم الفناء ورافع حجاب الكفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكفر والإيمان مقامان وراء العرش وهما حجابان بين العبد وبين الحقّ أحدهما أسود والآخر أبيض) ثم حلق رأس الروح من الصفات البشرية بملازمة الاسم الثامن ثم دخل حرم السر بملازمة الاسم التاسع ثم وصل رؤية العاكفين فيعتكف في بساط القربة والإنس بملازمة الاسم العاشر ثم رأى جمال الصمدية بلا كيف ولا تشبيه ثم طاف سبعة أشواط بملازمة الاسم الحادي عشر ومعه ستة أسماء من الفروعات ثم يشرب من يد القدرة شربا كما قال الله تعالى {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} (الإنسان: 21) بقدح الاسم الثاني عشر ثم يُرفع برقع الوجه الباقي المقدس من التشبيه فينظر بنوره إليه وها معنى قوله تعالى في الحديث القدسي {ما لا عين رأت} يعني لقاء الله تعالى {ولا أذن سمعت} يعني كلام الله تعالى بلا واسطة الصوت والحروف {ولا خطر على قلب بشر} يعني ذوق الرؤية والخطاب، ثم حلل ما حرم الله بتبديل السيئات إلى الحسنات بتكرار أسماء التوحيد كما قال الله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) ثم العتق من التصرفات النفسانية ثم الأمن من الخوف والحزن كما قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس:62) رزقنا الله وإياكم بفضله وجوده وكرمه ثم طاف الصدور بتكرار الأسماء كلها ثم الرجوع إلى وطنه الأصلي الذي في عالم القدسي في أحسن التقويم بملازمة الاسم الثاني عشر وهو متعلق بعالم اليقين وهذه التأويلات في دائرة اللسان والعقل وأما ما وراء ذلك فلا يمكن الإخبار عنه لأنه لا تدركه الأفهام والأذهان ولا تسع الخواطر في ذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله فإذا نطقوا بها لم ينكره إلا أهل الغِرّة) فالعارف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه فإن عِلم العارف سر الله تعالى ولا يعلمه غيره كما قال الله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء(البقرة : 255)} أي الأنبياء والأولياء {فإنه يعلم السر وأخفى} {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه:7-8).

اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا
اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا

رابعة العدوية

شاعرة العشق الإلهـي

عرفت رابعة العدوية خالقها، فتهذبت أخلاقها وسارت في منعرجات الرقي الروحي، فأعطتنا المثل الأعلى في التوحيد، طريق النفوس التقية النقية، والعقول المدركة للأسرار وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا ليكن مطلبك هو الله، ومقصدك هو الله، ولطفك هو الله وفكرك هو الله .
كان أبوها ينتظر غلاماً فجاءت بعد ثلاث بنات، فسماها رابعة، أي البنت الرابعة – حزن الوالد المسكين وكان يدعو الله تعالى بقلب منكسر أن يرزقه ما يسدّ رمق بناته الجائعات: رأى في نومه من يقول له “إقصد عيسى ابن زادات – أمير البصرة– واكتب رقعة تقول فيها “يازادات إنك تصلي في كل ليلة مئة ركعة، وفي كل ليلة جمعة أربعمائة، ولكنك في الجمعة الأخيرة، نسيت، فادفع أربعمائة دينار لصاحب هذه الرقعة».
ذهب أبو رابعة، كما أوحي إليه في حلمه، لملاقاة ابن زادات، وما إن التقاه حتى ألقى إليه بالرقعة. دهش ابن زادات لهذا الأمر وسأله: أنت؟ من أخبرك بالأمر؟ لم يكتم أبو رابعة الأمر، بل أخبره عن وليدته الرابعة ووحيه، فما كان من ابن زادات إلا أن حمل المال وقصد الصغيرة في بيتها وقد شعر أن لهذه المولودة كرامة عند الله.
كانت طفولتها قاسية جداً، وأبوها لا يملك المال ولا الطعام بل كانت ثروته فقط قارباً صغيراً ينقل المسافرين في نهر دجلة من مكان إلى آخر، مقابل بعض أرغفة يسدّ بها رمق بناته الصغيرات.
أما حياة رابعة الصبية فكانت بدورها مليئة بالمصاعب والمصائب. وكانت لذلك تجلس ليلاً نهاراً لمناجاة ربها والتأمل في أحوال دنياها فلا يزيدها ذلك إلا زهداً بهذه الفانية.
وبعد مسيرة الجوع والحرمان شاءت الإرادة أن تدخل رابعة امتحاناً أقسى يليق بمعدنها الصلب وإيمانها الذي لا يتزعزع. إذ مات أبوها ثم ماتت أمها بعد زمن قصير فأصبحت يتيمة الوالدين ولم يعد لها من هذه الدنيا الفانية مورد رزق سوى هذا القارب الذي تركه لها والدها المسكين، فكانت تعمل عليه لتأتي ببعض الطعام إلى أخواتها الصغيرات.
اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك.
ثم شاءت القدرة أن تقع اليتيمة أسيرة أحد اللصوص الذي باعها لأحد التجار، تعمل ليل نهار كخادمة وقبل بزوغ الفجر تجلس اليتيمة تناجي ربها، تصلي بصوت عالٍ ودموعها السخية تنهمر من عينيها وتقول: “سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تعانقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد له الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار، لأنك العلي القهار”. استيقظ الرجل في ليلة وسمع تلك المناجاة الباكية فرق قلبه وقال لها: “منذ الصباح أنت حرة يا بنيتي، تذهبين حيث تشائين. لكن العتق الذي أنعم الله به على رابعة وضعته على الفور هدية على أعتابه فحولت حرية النفس إلى أسر الزهد والعبادة إحقاقاً لحق الرب وتوحيده”.
جاء محمد بن سليمان الهاشمي، يغريها بالمال، لترضى به زوجاً فكتبت اليه تقول: “الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، ولو خولني الله أمثال ما خولك وأضعافه، ما سرني أن أشتغل عن ذكر الله طرفة عين”. سمعت رجلاً من الموحدين يهتف: إلهي إرضَ عني.
فقالت له: “لو رضيت بالله، لرضي الله عنك”. قال: وكيف أرضى بالله قالت: “يوم تفرح بالنعمة، كما تفرح بالنقمة، لأن كليهما من عنده”.
جاءها أمير البصرة، حاملاً لها مالاً كثيراً، فلما رأته دهشت وبكت، ورفعت رأسها الى الله وقالت له: “ربي يعلم، إنني أخجل أن اسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف آخذها ممن لا يملكها؟؟”، فرجع من حيث أتى.
سمعت صالح المر يقول: من أدمن على قرع الباب يفتح له قالت: لا تقل هذا، فمتى كان الباب مغلقاً في وجه مؤمن حتى يفتح له؟
هي القائلة: “اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك”.
قالت لبعض العابدين الذين زاروها: “لِمَ تعبدون الله؟”، قال أحدهم: “أعبده خوفاً من عذاب النار”، وقال آخر: ” أعبده حباً بالجنة”. قالت: “بل نعبده لذاته، ويكفينا نعمه التي لا تحصى، لنخر له ساجدين”.

مختارات من شعرها

أحبك حُبّين
عرفت الهوى منذ عرفـت هـواك وأغلـــقت قلبــــي عمـــن ســــواك
وكــنــت أناجيــك يـــا مــن تـــرى خفـــايــا القلــــوب ولســنــا نــراك
احبـك حبيـــن حــبّ الهـــــــــوى وحبــــاً لأنـــــك أهـــــل لـــــــــذاك
فأمــــــا الــذي هــو حـــبُّ الهوى فشغلـــي بذكـــرك عمــــن ســواك
وأمـــــــا الـــذي أنـــت أهـــل لـــــه كشفــــك للحجــب حتــــــى أراك
فــلا الحمــد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولكــــن لك الحمــــد فـي ذا وذاك
وأشتـاق شـوقــين شـوق النــــــوى وشـوق لقــرب الخلـــي مــن حماك
فأمـــا الـــذي هــو شــــوق النــوى فمســــرى الدمــــوع لطــــول نـــواك
أمــــــا اشتيـــاق لقـــــرب الحمــــى فنـــار حيــاة خبــت فـي ضيـــاك
ولست على الشجـو أشكو الهوى رضيـت بمـا شئـت لي في هـداك

أنت لي مؤنس
يــا سـروري ومنيــــتي وعمــــادي وأنيســــي وعُــــــدتي ومـــــــرادي
أنـــت روح الفــــؤاد أنــت رجائي أنــت لــي مؤنــس وشــوق كزادي
أنــت لـــولاك يــا حيــــاتي وأُنسي مــا تشـــتــتُ في فسيــح البـــــــلاد
كـم بــدت مِنــة وكـم لك عنـــدي مـــن عطـــــاءٍ ونـــعمـــةٍ وأيـــــادي
حُبـــــك الآن بُغيـــــتي ونعيـــــــمي وجــــــلاءُ لعيــــــن قلبـيَ الصـادي
ليـــس لي عندك ما حييت بـراحٍ أنــت منــــى مُمَــكنُ في الســـــواد
إن تكــــن راضيــــاً علــــيّ فإنــي يا مُنى القلــب قد بدا إسعــادي

راحتي في خلوتي
راحتــــي يــــا إخوتي في خلـــوتي وحبيبــــي دائمـــا فـي حَضــــرتي
لـم أجــــد لـــي عن هــواه عِوضـا وهـــــواه فـي البــــــرايا مِحنتـــــــي
حيثــــما كــنت أشاهِد حُســــنه فهــــو محــــــرابي إلـــيــــه قبلتــــــــي

 

شكوى
وارحمتـــا للعاشقــين! قلـــوبـــهـــم فـي تيـه ميــــدان المحــبة هائمــــــه
قامت قيامة عشقـهم فنفوسهـــــم أبــداً علـــى قـــدم التذلل قائمـــــه
إمــــا إلـى جنـــات وصــل دائمــــا أو نــــار صــدٍ للقلـــوب ملازمـــه

زادي قليل
قليـــــل مـــــــــا أراه مُبـــلّــغـــــــــــي أللــزاد أبــكي أم لطول مســـافــتي
أتحــــرقُني بالنـــار يـــا غاية المنــى فأيـــن رجائــــي فيك أين مخـــافتي

خمر العشق
كأســــــي وخمـــري والنديم ثلاثـة وأنــــا المشوقة في المحبــــة: رابعـــه
كــأس المســـــرة والنعيـــم يديـرهـا ساقي المدام على المدى متتابعه
فإذا نظــــرت فــــلا أُرى إلا لــــــه وإذا حضـرت فلا أُرى إلا مـــعـــه

إذا نطقت كنتَ حديثي
وتخــلَّلَتَ مســـلكَ الــــروحِ منــــي وبه سُمّــــي الخلـــيل خليــــــــلا
فإذا ما نطــــقتُ كنـــت حديثــي وإذا ما سكـــــتُ كنــت الغليـــلا

حبيبي
حبيـــــبٌ ليـــــس يعـــدله حبيـب ولا لســـــــواه فـي قلبــــي نصيـب
حبيبٌ غاب عن بصري وشخصي ولكــــــن في فــــؤادي مــــا يـغــيب

سلمان الفارسي

سيـــــرة

سلمان الفارسي

أمير الزهد والورع والحكمة

إنِ استطعت أن تأكل من التراب فكُل منه
ولا تكنــــنَّ أمــيراً على إثنين

سلمان الورع الزاهد نأى بنفسه عن الفتنة
وآثر حياة الزهد والخلوة في المدائن

أمر أبو الدرداء بالاعتدال في العبادة
فعلق الرسول(ص) بالقول: «صدق سلمان»

المهاجر إلى الله
تعتبر حياة الصحابي الجليل سلمان الفارسي لغزاً يحار المرء في فهم أبعاده وخفاياه، ليس فقط بسبب المسار الطويل والشاق الذي اتخذه في البحث المضني عن الحقيقة وليس أيضاً بسبب الظروف العجيبة التي جمعته بأعظم أنبياء البشر وجعلته من المقربين إليه، بل في حياة الزهد والبساطة التي احتفظ بها وجعلت منه مثلاً حياً على رسالة الإسلام ومدرسة في التواضع والورع نهلت منها الأجيال. وبالنظر لمكانته الرفيعة في العصر الأول للإسلام وحب الرسول له إلى حد إدخاله وهو الفارسي في صلب بيته، قال عنه الرسول (ص): سلمان من أهل البيت ( شهد له الرسول بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة)، وقالت عنه عائشة: كان لسلمان مجلس مع رسول الله (ص) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على الرسول (ص).
وفي حديث عن الرسول(ص): «اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم».

ترك أهله ودياره وهاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي غير مبالٍ بكل ما ناله من أهوال وصعوبات

حياة زهد وورع
عاش سلمان الفارسي بعد إسلامه حياة تقشف وزهد، وحتى عندما كان أميراً على المدائن، كان يعيش فيها حياة ينفق خلالها كل مخصصاته على الناس ويعمل بيديه في حياكة سعف النخيل أو دباغة الجلد من أجل كسب عيشه. بل أن المعروف أن سلمان الفارسي لم يكن له بيت يملكه بل كان يتفيأ ظل الأشجار وأنه رفض مراراً عرض بعض المحيطين به والمحبين أن يبنوا له منزلاً يقيه حر الصيف أو برد الشتاء، وهو سيمضي بقية حياته على هذا النحو البسيط حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
نبدأ بهذه المقدمة للتأكيد على أهمية التعرّف على سلمان الفارسي الرجل والصحابي والمنارة الروحية التي شع نورها في سماء الإسلام والبشرية، بل يمكننا القول إن من أشد أشكال الافتئات على هذا العملاق الروحي أن يحجب التلهي ببعض الروايات وصغائر الخلافات المغزى الكبير لمعراجه الروحي الفريد وحياته المليئة بالعبر والدروس لجميع أهل الأزمان.
ولهذا السبب، فإننا في هذه المقالة سنحاول وبالإستناد إلى المصادر التاريخية والروايات الحسنة الإسناد تقديم صور وأمثلة عن الحياة التي عاشها سلمان الفارسي (ر) وعن سيرته وخصاله، وهذا مع العلم أن حياة الزهد والابتعاد عن الأضواء التي عاشها هي في حد ذاتها أحد أهم الأسباب في الكم القليل من الأخبار والأقوال التي رويت عنه، كما أن الرجل عاش بالفعل حياة الفقراء، حتى أن إيفاده للعمل كأمير على المدائن لم يبدّل إطلاقاً في أسلوب عيشه المتقشف والبسيط.

من هو سلمان الفارسي
تتفق معظم الروايات على أن سلمان هو الاسم الذي أعطاه الرسول (ص) لهذا الصحابي الجليل بعد إسلامه في المدينة، وأن الاسم الذي ولد عليه هو روزبه أما مولده فكان في بلدة يقال لها «جي»، والبعض يقول كازرون في جنوب ما يُعرف اليوم بإيران. وتتفق أكثر الروايات على أن روزبه ولد في أسرة وجيهة إذ كان والده دهقان بلدته، أي شيخ المزارعين فيها، وكان قوياً وذا نفوذ وكان يكن لولده حباً شديداً جعله يهتم بتنشئته وفق التقاليد والمعتقدات التي كانت تدين بها الأسرة ومعظم بلاد فارس. وتشير الروايات إلى أن روزبه فتح عينيه فجأة على دين مختلف بعد مروره بكنيسة واستماعه إلى خطبة الكاهن، فتراءت له على الفور حقائق أسمى جعلته يقرر هجر معتقد الأسرة والتعرّف على النصرانية التي كانت قد انتشرت في عدد من بلدان المشرق العربي وفي جنوب إيران المحاذية لبلاد ما بين النهرين، بل أن هذه الحادثة، تؤكد أن سلمان الفارسي لم يكن مجوسياً، كما أن التطورات اللاحقة في حياته تؤكد أنه لم يتبنَّ النصرانية كدين بقدر ما اطمأن إلى أولئك المرشدين والرهبان الزهاد الذين عمل في خدمتهم طمعاً في الاستزادة من المعرفة والترقي في دروب السلوك والتحقق الروحي، وقد كان عطش سلمان للمعرفة من القوة بحيث لم يكن مبالياً في أي مكان أو صومعة يجلس وأي مرشد أو مسلّك يتبع، وفي جميع الحالات لم تكن مراحل ترقي سلمان الفارسي نتيجة اختيارات منه، إذ أن مساره المتعرج والذي استغرق سنوات طويلة بدا مساراً مرسوماً له بعناية تامة. فكانت كل محطة تقود إلى التالية من دون أن يقوم سلمان بأي مبادرة من عنده وهو ما يظهر قدراً كبيراً من التوكل ومن التسليم التام ليد العناية.
لكن من المؤكد أن اندفاع سلمان في مجرى الأقدار إلى حد هجر دياره ومنزله ووالديه وركوب مخاطر السفر والسياحة في الأرض كان مدفوعاً بقوة أكبر بكثير وبنداء في القلب يجعله يحث السير نحو الجزيرة العربية. كانت تلك القوة ولا شك قوة خفيّة جمعت الرسول العربي وسلمان الفارسي في المدينة المنورة.
كانت معجزة سلمان الفارسي أنه هاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي وليس بسبب دعوته إلى الإسلام من قبل النبي (ص) أو أصحابه من مهاجرين وأنصار. وعلى عكس الصحابة الذين هاجروا مع النبي (ص) أو التحقوا به في ما بعد في المدينة أو حتى الذين أسلموا على يديه من قبائل الجزيرة، فإن سلمان كان فارسياً أي غريباً عن بيئة الجزيرة وعصبياتها وروابطها القبلية وأنسابها، كما أنه كان يعيش في بلاد بعيدة عن مهد الدعوة، ومع ذلك فقد قرر ترك كل شيء خلفه وحث السير نحو ما كان يشعر به في قرارة نفسه أنه حدث عظيم اقترب أو أنه نداء يدعوه. ولم يكن مع سلمان (ر) في رحلته الطويلة من فارس إلى جزيرة العرب سوى زاد الطلب الحار والشوق وفي ما عدا ذلك لم يكن هذا المهاجر الكبير ليبالي بكل ما تعرض له في رحلة البحث القلق عن الحقيقة من مصاعب ومجاهدات وأهوال.
من أعجب المسائل التي رويت عن لقاء سلمان والرسول العربي (ص) الطريقة التي لجأ إليها هذا الغريب المهاجر إلى الله للتأكد من أنه فعلاً يقف وجهاً لوجه أمام النبي الذي كانت الناس في انتظاره لعقود طويلة، وقد ذكرت الروايات أن سلمان كان على دراية بأن النبي الذي هاجر إليه لديه دلائل واضحة على نبوته بما في ذلك خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه (ص). وبالطبع تظهر تلك الحادثة الجدية التامة التي تعامل بها سلمان مع مسألة النبوة، فهو وعلى الرغم من كل ما شهده من خضوع المهاجرين والأنصار للرسول محمد (ص) لم يجد حرجاً في التحقق وبأدب شديد من علامات النبوة وقد أراد سلمان أن يطمئن قلبه لنيله الغاية بعد كل المشاق والمخاطر التي لاقاها فعمد إلى البحث في دلائل النبوة ولم يتردد في اختبار صدقة التمر وتقديم الهدية للرسول العربي.
يجب القول، أخيراً، إن قصة هجرة سلمان من أقاصي فارس إلى الإسلام لا مثيل لها في تاريخ الرسالة ولا حتى في العهود اللاحقة، وهناك الكثير من الرمزية في هجرته الفريدة إلى الإسلام عبر تدرج يشبه تدرج أدوار التوحيد ونمو فكرته وإشراق حقيقته عبر العهود، بل إن حياة سلمان نفسها تتضمن الكثير من الحقائق الجوهرية للتوحيد، أما الذين آذوا المسلمين وتآمروا عليهم مع أحزاب الشرك في مكة وغيرها فقد آذوا سلمان أيضاً استرقاقاً وسوء معاملة، لكن التدبير الرباني قضى أخيراً بأن يسارع النبي (ص) والصحابة الكرام بعد قليل من دخول سلمان في الإسلام للعمل على عتقه بدفع مبلغ كبير من الذهب وتقديم نحو ثلاثمائة نخله للمالك اليهودي. وسيعيش سلمان (ر) بعد ذلك في الدائرة المقربة من الرسول (ص) حتى وفاته ثم يرسل أميراً على المدائن حيث عاش فيها فقيراً زاهداً حتى وفاته.

مكانته وعلمه
احتل سلمان الفارسي (ر) مكانة رفيعة بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولدى الرسول (ص) الذي كان أظهر له حباً خاصاً جعله يضمه إلى الدائرة الأقرب منه، وذلك عندما صرّح في يوم الخندق بقوله الشهير (سلمان منا آل البيت)، وروى أنس عن رسول الله (ص) قوله: «السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة».
ولم تكن المكانة التي احتلها سلمان الفارسي بين الصحابة الأوائل ناجمة عمّا عرف عن قصته العجيبة وخصاله وجهاده وزهده وتواضعه بل ناجمة أيضاً عمّا عرف عنه من حكمة وتفقه واسع في الدين وبصيرة وسداد رأي، وقد جعل ذلك منه مرشداً يُلجأ إليه لجلاء ما بطن من معاني الدين أو لطلب المعونة والنصح من أهل زمانه على اختلافهم، وأحد الأمثلة على المكانة التي كان يحتلها سلمان الفارسي (ر) بين الصحابة الأوائل رضي الله عنهم ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب (ر) عندما جاء سلمان الفارسي (ر) المدينة زائراً ، إذ صنع هذا الخليفة ما لا يعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبداً،إذ جمع أصحابه وقال لهم:
«هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان».!!وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
ومن الأدلة على مكانته الرفيعة تعظيم علي بن أبي طالب (ر) له إذ لقّبه بـلقمان الحكيم، وذلك عندما سئل عنه بعد موته فقال: «ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟ أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف».
ومن الأمثلة الكثيرة التي نقلت إلينا عن علم سلمان الفارسي (ر) وشجاعته في الحق ما وقع بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب (ر) في أحد الأيام، إذ جاء الخليفة عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوباً ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟! فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد الله؟! قال إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر، فقال لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان: الآن نسمع. إننا نجد سلمان الفارسي (ر) وقد اعترض بشجاعة على الخليفة عندما ظن أنه ميز نفسه عن أصحابه بارتدائه حلة من ثوبين بينما قسم لكل من الآخرين ثوباً واحداً. لكن الخليفة أوضح بأن الثوب الآخر يعود لولده عبد الله بن عمر الذي كان حاضراً في المجلس، وعندها رفع سلمان اعتراضه. ولم يكن الهدف من اعتراض سلمان الخليفة عمر نفسه بل كان خشيته الشديدة من أن تؤدي الثروات التي بدأت تتدفق على المسلمين نتيجة للفتوحات إلى انتشار فتنة الدنيا والتهالك عليها بين المسلمين مع ما يتبع ذلك من تسرب الوهن إلى الإيمان وانصراف الناس عن الدين إلى الدنيا واقتتالهم في سبيلها.
لكن كما أن سلمان كان شديد التمسك بمبادئ الفقر والانصراف عن فتنة الدنيا فإنه كان حكيماً في نظرته إلى العبادة وآدابها، كما تشير قصته مع أخيه في الإسلام أبو الدرداء إذ زاره يوماً فرأى زوجته أم الدرداء متبذِّلة (أي تاركة لزينتها ومهملة لنفسها) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة في الدنيا. فجاء سلمان إلى أبي الدرداء فصنع له طعاماً فقال ابو الدرداء لسلمان: كُل أنت فإني صائم. قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل أبو الدرداء. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال له سلمان نَم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له سلمان مجدداً: نَم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قُم الآن، فصليّا، فقال سلمان له: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقّ حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي (ص) وذكر ذلك له، فقال النبي (ص): «صدق سلمان». وتشير هذه الحادثة إلى أن سلمان الفارسي (ر) كان مدركاً لجوهر الدين ولحقيقة الإسلام كدين يسر، كما تشير إلى مكانته وهيبته حتى عند كبار الصحابة إذ نجد أبو الدرداء ينصاع لطلب سلمان منه في إتباع سبيل اليسر والاعتدال في العبادة ، وهو أمر شهد له الرسول (ص) بالقول المختصر البليغ: «صدق سلمان».
وجاء في الحلية أيضاً أن سلمان خاطب حذيفة (ر) بالقول: يا أخا بني عبس، إن العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانِه. وفي الحلية أيضاً أن سلمان صحب رجلاً من بني عبس وكانا يمران بمحاذاة دجلة: فشرب الرجل شربة، فقال له سلمان: عُد فاشرب، قال: قد رويت، قال: أترى شربتك هذه هل نقص النهر بسببها؟ كذلك العلم لا ينقص، فخذ من العلم ما ينفعك.
وفي كلتا الحادثتين نجد بوضوح تركيز سلمان الفارسي (ر)على طريق اليسر ونصحه الناس بأخذ ما يحتاجونه من العلم، أي ما ينفعهم في تصويب سلوكهم وعبادتهم وعدم المبالغة في إنفاق العمر على الانشغال بما لا طائلة تحته، وفي هذا الموقف إيحاء واضح بأن المهم هو تصويب السلوك ومراقبة النفس بهدف الارتقاء بها في دروب القربات وليس الاشتغال بظاهر العبادات في حد ذاتها.
وفي الحلية عن أبي ليلى الكندي قال: أقبل سلمان رضي الله عنه في ثلاثة عشر راكباً – أو اثني عشر راكباً- من أصحاب محمد (ص)، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدم يا أبا عبد الله، قال: إنا (أي الفرس) لا نؤمّكم ولا ننكح نساءكم، إن الله تعالى هدانا بكم. قال فتقدم رجل من القوم فصلى أربع ركعات، فلما سلّم قال سلمان: ما لنا وللمربعة ، إنما يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج، قال عبد الرزاق: يعني بذلك قَـصرَ الصّلاة في السفر. وهذا مثال آخر يوضح نهج سلمان الفارسي (ر) في النظر إلى العبادة بعين الحكمة والتواضع والبعد عن الرياء.
وفي الحلية عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما: أَن هلمَّ إلى الأرض المقدّسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تُقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جُعلت طبيباً (أي قاضياً)، فإن كنت تبرئ (أي تقضي بالحق) فنِعِمّا لك، وإن كنت متطبباً (أي تتعاطى القضاء دون معرفة جيدة) فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار. فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه، نظر إليهما وقال: متطبب والله، ارجعا إليّ أعيدا قصتكما. وتشير هذه القصة إلى حذر سلمان الفارسي (ر) الشديد من تبوؤ المناصب ولا سيما القضاء بسبب ورعه، وقد أخذ أبو الدرداء تحذير سلمان على محمل الجد فبات يتفكر كثيراً ويمحص الأمور قبل أن يقضي بين اثنين.

العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه

لم يكن له بيت فكان يستظل بالفيء حيثما دار وكان يعمل بدرهم ويعيش بدرهم ويتصدق بدرهم

الأمير الزاهد
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عطية بن عمر قوله: رأيت سلمان الفارسي رضي الله عنه أُكره على طعام يأكله فقال: حسبي، حسبي (أي يكفيني) فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. وفي الحلية عن الحسن قال: كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف درهم وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب في الناس بعباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه (أي أنفقه على الناس) ويأكل من سفيف يده. (أي مما تصنعه يداه من نسيج سعف النخل)
وذكر ابن سعد عن مالك بن أنس قوله أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت. فقال له رجل: ألا أبني لك بيتاً تستظل به من الحرّ وتسكن فيه من البرد؟ فقال له سلمان : نعم. فلما أدبر صاح به سلمان وسأله: كيف تبنيه؟ فقال: إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك، فقال سلمان: نعم
أخرج ابن سعد عن النعمان بن حُميد أنه قال: دخلت مع خالي على سلمان رضي الله عنه بالمدائن وهو يعمل الخوص (يحيك سعف النخل) فسمعته يقول: أشتري خوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت. وعنه أيضاً عن أبي عثمان النهدي أن سلمان الفارسي قال: إني لأُحب أن آكل من كدِّ يدي.

مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه
تعكس المواعظ المروية عن سلمان الفارسي (ر) بوضوح تام روح الإسلام الزهدي الأول الذي كان سلمان علماً من أعلامه مع صحابة كبار مثل أبي ذر الغفاري والمقداد. هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ومالهم وراحتهم في سبيل الله ونشر كلمة الحق والدفاع عنها كانوا يحتقرون الدنيا بل ويفرون منها كما تفر الطريدة من الضواري، وكان سلمان (ر) إمام الزهد والورع وكانت كل كلماته ومواعظه مفعمة بالحث على ترك الدنيا وعدم الوقوع في حبائلها.
وقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن سلمان الفارسي كان يقول: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمُسخِط ٌ ربّه أم مُرضيه. وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المَطـلع عند غَمَرات الموت، والوقوف بين يدي ربّ العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: إن الله إذا أراد بعبد شراً أو هَلَكة نزع منه الحياء فلم تره إلا مقيتاً مُمَقّتاً، (أي مبغوضاً). فإذ كان مقيتاً مُمَقّتاً نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظّـاً غليظاً، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة فلم تلقه إلا خائناً مُخوّنـاً، فإذا كان كذلك نزعت منه رِبقة الإسلام (أي عروته) عن عنقه فأصبح لعيناً مُلعّنـاً.

وقوله أيضاً: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي علم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال: لا تقربه، فإن أصبته أهلكك، ولا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما فُضِّل به غيره من العيش، فيمنعه الله إياه ويحجزه عنه حتى يتوفّاه فيُدخِله الجنة.
وعن جرير قال: قال سلمان: يا جرير، تواضع لله عز وجل فإنه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، قال: ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه بين إصبعيه، قال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.
وعن أبي البختري عن سلمان قال: مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد قال المقعد إني أرى تمرة ولا أستطيع أن أقوم إليها فاحملني فحمله فأكل وأطعمه.
وعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال أوصِني، قال: لا تتَكَلَّم، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: إنه ليغشاني مالاً أملكه، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك، قال: زدني، قال لا تلابس الناس، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم، قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأدِّ الأمانة.
وعن أبي عثمان عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء فدعا قالت الملائكة صوت معروف من آدمي ضعيف فيشفعون له، وإذا كان لا يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة صوت منكَر من آدمي ضعيف فلا يشفعون له.
وعن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده فقال له سلمان: إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفّارة لما مضى فيُستعتب فيما بقي، وإن الله عز وجل يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه.

لا تتكلم، وإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، ولا تغضب وإن غضبت فامسك لسانك ويدك، ولا تخالط الناس وإن خالطتهم فاصدق الحديث وأدّ الأمانة

صور من تواضعه(ر)
كان سلمان الخير اذا سئل عن اسمه قال: عبد الله، وعن نسبه قال: ابن الاسلام،عن فخره قال: سلمان منا. عن لباسه قال: التواضع،عن طعامه قال: الجوع، عن شرابه قال: الدموع،عن وسادته قال: السهر، وعن قصده قال: وجه الله عز وجلّ.
في الحلية عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له قُدامة، فقال لي: أحب أن ألقى سلمان الفارسي رضي الله عنه فأسلِّم عليه. فخرجنا إليه فوجدناه في المدائن وهو يومئذٍ على عشرين ألفاً، ووجدناه على سرير يسف الخوص، فسلمنا عليه، قلت: يا أبا عبد الله، هذا ابن أخت لي قدم عليّ من البادية فأحب أن يسلّم عليك. قال: وعليه السلام ورحمة الله. قلت: يزعم أنه يحبك، قال: أحبّه الله.
وأخرج ابن عساكر عن الحارث بن عميرة، قال: قدمت على سلمان رضي الله عنه في المدائن فوجدته في مدبغة يعرك إهاباً (أي جِلداً) بكَفّيه، فلما سلمت عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قلت: والله ما أراك تعرفني، قال: بلى، قد عرِفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجَنّدة فما تعارف منها في الله ائتلف وما كان في غير الله اختلف.
وفي الحلية عن أبي قلابة أن رجلاً دخل على سلمان رضي الله عنه وهو يعجن فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل وكرهنا أن نجمع عليه عملين – أو قال: صنعتين- ثم قال: فلان يقرئك السلام، قال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال فقال سلمان(ر) أما أنك لو لم تؤدِّها كانت أمانة لم تؤدِّها.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن بُريدة رضي الله عنه أن سلمان رضي الله عنه كان يعمل بيديه وإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً – أو سمكاً- ثم يدعو المُجذّمين (أي المصابين بمرض البرص) فيأكلون معه.

بكى عند الوفاة عندما انتبه إلى أنه يفارق الدنيا تاركاً خلفه من حطام الدنيا إناء ومطهرة.

ترغيبه في الصلاة والذكر
أخرج عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إن العبد إذا قام إلى الصلاة وُضِعت خطاياه على رأسه، فلا يفرغ من صلاته حتى تتفرق عنه كما تتفرق عذوق النخلة تساقط يميناً وشمالاً. وعن ابن زنجويهعنه قوله: إذا صلّى العبد اجتمعت خطاياه فوق رأسه، فإذا سجد تحاثِّت كما يتحاثّ ورق الشجر .
وعنده أيضاً عن طارق بن شهاب انه بات عند سلمان ينظر اجتهاده، فقام يصلّي من آخر الليل قال سلمان : حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفّارات لهذه الجراحات ما لم يصب المقتلة، فإذا أمسى الناس كانوا على ثلاث منازل: فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه. فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي حتى أصبح فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه ولا له، ورجل صلّى العشاء ونام فذلك لا له ولا عليه.
وعن حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: ما من مسلم يكون بفيء من الأرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذّن ويقيم إلا أمَّ جنودًا من الملائكة لا يرى طرْفهم أو قال طرفاهم.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: لو بات رجل يعطي البِيض القيان (أي يهب الإماء ويخرج الكثير من ماله ) وبات آخر يتلو كتاب الله عز وجل ويذكر الله تعالى فإن الذي يذكر الله أفضل.
وفي الحلية أن أهل المدائن سمعوا بأن سلمان رضي الله عنه في المسجد فأتوه حتى اجتمع عليه نحو من ألف، فدعاهم سلمان (ر) بالقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا فتح سورة يوسف يقرأها، فجعلوا يتصدعون (أي يتفرقون) ويذهبون حتى بقي في المسجد نحو من مئة فغضب وقال: الزخرف من القول أردتم! ثم قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم!!

كان ينفق ما يخصص له كأمير للمدائن على الناس وأبى أن يعيش إلا من عمله في حياكة سعف النخيل

وفاته رضي الله عنه
تقدم اللحظات الأخيرة من حياة سلمان الفارسي رضي الله عنه صورة بليغة عن زهده وتركه للدنيا وقد روي أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك، قال عهد عهده إلينا رسول الله إذ قال: ليكن بلاغ (أي متاع) أحدكم كزاد الراكب (أي أن سلمان الفارسي جزع عند الموت بأن يفارق الدنيا وحوله أكثر مما ينبغي من أغراضها) قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته سوى وعاء ومطهرة لا يساويان أكثر من عشرين درهماً، ووري جسده الطاهر الثرى في مدينة المدائن.

 

ليرات ذهب الشيخ أبو اسماعيل ..والملفوفة

“والإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك”
ابن عمر

ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل
ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل

كان الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين رجلاً صادق القول وثاقب الرأي، وكانت حياته جهاداً للنفس وإصلاحاً للمجتمع وعوناً لأهالي زمانه في أمورهم حتى غدا مرجعية ثقة وصلاح يقصدها الناس من مختلف الطوائف كما قال عنه الأديب سلام الراسي.
افتتح الشيخ أبو اسماعيل محلاً لتجارة المنسوجات في سوق حاصبيا في أواخر القرن التاسع عشر، فكان بعمله هذا من أوائل المتعاطين من الدروز بهذه المهنة وقد كانت هذه حتى ذلك التاريخ محصورة ببعض كبار التجار المسيحيين في البلدة. وبسبب ما تحلّى به من طيب الخلق وحسن المعاملة فقد ذاع صيت الشيخ واتسعت تجارته وثروته وغدا فوق ذلك مقصداً للجميع الذين كانوا يودعون الأموال لديه على سبيل الأمانة أو يقترضونها منه دون أي فوائد لسد حاجات أو أغراض معينة.
في أحد الأيام طرق باب الشيخ رجل قدم من إحدى قرى المنطقة، وبعد السلام والتحية، خاطبه قائلاً: ” لقد سمعت عن أعمال الخير التي تقوم بها، وأنا رجلٌ ضعيف الحال، كثير العيال، وأحتاج لأن أنشئ تجارة هي عبارة عن محل سمانة يؤمن أود أسرتي لكن يلزمني لذلك خمس ليرات ذهبية وأنا أعدكم بأنني سأعيدها لكم مع قسم من أرباحي إذا رغبتم”.
تفرّس الشيخ أبو اسماعيل في وجه الرجل مليّاً، ثم سأله إن كان يملك ما يقدمه كضمان للدين. وعلى ذلك أجاب السائل بأنه فقير الحال ولا يملك إلا الكوخ الذي يعيش فيه مع أسرته. وبعد تفكر برهة نهض الشيخ أبو اسماعيل إلى صندوق حديدي في زاوية الغرفة ففتحه وأخرج منه خمس ليرات ذهبية دفعها إلى الرجل طالباً منه أن يستخدمها في تأسيس عمله على أن يعيدها عندما تروج تجارته. وحرر الشيخ الدَّين في صك من نسختين وناوله الليرات الذهبية بعد أن لفّها بنسخة من الصك بينما احتفظ هو بنسخة الصك الثانية.
انكب الرجل على يد الشيخ يريد تقبيلها، لكن الشيخ استنهضه بعدما استغفر الله، ثم دعا له بالتوفيق والنجاح، وانصرف الرجل نحو بلدته شاكراً حامداً.
أسدل الليل ظلامه قرب مناجم الحمّر(*) المحاذية لنهر الحاصباني، والرجل في طريقه نحو بلدته، وقد كان السير ليلاً في تلك الأيام مجازفة حقيقية بسبب قطّاع الطرق ولصوص الليل الذين كانوا يتربصون بالمسافرين. لذلك فقد استبشر الرجل عندما لمح ضوءاً يشع من أحد البساتين المجاورة فاتجه إليه فإذا هو منزل لشيخ طاعن في السن من آل الحرفاني الذي سمح له بالمبيت عنده وقدم له العشاء وواجب الضيافة ثم ناوله غطاءً من الصوف، “وسلخ ” جلد خروف، وأبقاه في القسم الأرضي من العرزال الذي يصطاف به مع عائلته.
انقضى السواد الأعظم من الليل، والرجل يتقلب في فراشه لا يأتيه النوم خوفاً على المال الذي يحمله. وقد بلغ به الهاجس حداً جعله يقرر أن يخبئ ليراته الذهبية في إحدى ملفوفات البستان على أن يجمعها في الصباح لدى المغادرة. وبالفعل فقد تذرع الرجل بقضاء حاجة وجال في البستان حتى وجد ملفوفة ألقى بالليرات الذهبية داخل أوراقها وعاد نحو العرزال ملتحفاً غطاءهُ حتى الصباح.
لكن حدث أن الرجل استفاق ولم يستطع أن يتذكر في أي ملفوفة خبأ ليراته الذهبية. فبستان الملفوف كبير والملفوفات تتشابه كثيراً وقد شق عليه في الظلام أن يحدد فعلاً في أي منها وضع ثروته الصغيرة. حزن وتألم لما آل إليه مصير تلك الثروة التي فرح بها، واحتار في أمره، وعاب على نفسه أن يعلم مضيفه، بما فعل لأن في ذلك شيء من قلّة الثقة بمن استضافه وأكرمه. لذلك فقد قرر أن يكظم على نفسه وينام على جرحه، ثم شكر مضيفه وتابع طريقه نحو بلدته خالي الوفاض.
مضى يومان أو أكثر، عمد بعدها صاحب البستان إلى حقل الملفوف، فقطع منه حمل دابّة وأتى سوق حاصبيا، حيث باعه إلى التاجر أبو يوسف محمد الحلبي. في اليوم نفسه مرّ الشيخ أبو اسماعيل في سوق حاصبيا، وقد كان دكانه لا يبعد إلا قليلاً عن دكان بائع الخضار. استوقف الشيخ أبو اسماعيل منظر الملفوف المقطوف لتوّه، فطلب من البائع أن يزن له إحدى الملفوفات، ثم نقده ثمنها وأرسلها إلى منزله.
لكن ما أن فتحت زوجة الشيخ أبو اسماعيل الملفوفة قصد طبخها حتى ذهلت إذ وجدت خمس ليرات ذهبية ملفوفة بصك من الورق داخلها. احتارت في تفسير هذا الأمر المستغرب لكنها قررت أن تودع الليرات الذهبية خزانة البيت في انتظار عودة زوجها عند المساء.
أكل الشيخ أبو اسماعيل من طبخة الملفوف الشهية التي أعدّتها زوجته ثم شكرها على مهارتها مضيفاً القول: ” حقاً إن الملفوف لمن الأغذية اللذيذة والنافعة”.
هزّت الزوجة رأسها وأكملت قائلة : “وأكثر من ذلك، يجلب معه الذهب والدراهم. تفضّل ، هذا ما وجدته داخل تلك الملفوفة التي أرسلتها لي في الصباح “.
فتح الشيخ الصكّ، ثم قلّب الليرات بيده وأعاد قراءة الصك المرفق. ثم هزّ برأسه تعجباً واستغراباً، اتجه بنظره نحو زوجته وقال:” حقاً إن المال الحلال يعود لصاحبه. هل تعرفين يا أم اسماعيل لمن هذه الليرات؟ وهل تذكرين ذلك الرجل الذي كان عندنا من يومين؟”.
أجابت : “نعم، أذكر جيداً ذلك الرجل الذي كان بجانبك في “المقعد” (وكان يقصد به الصالون في تلك الأيام) لكنني لا أعلم ما الذي جرى بينكما آنذاك. عندها روى لها قصة الرجل واستدانته لليرات الذهبية لكنه بقي متعجباً جداً من هذه الحادثة الغريبة وهو يسأل نفسه: “كيف وصلت تلك الدراهم إلى داخل الملفوفة؟ .ومن أين اشترى تاجر الخضار تلك الملفوفة وغير ذلك من الأسئلة التي بقيت دون أجوبة.
مضى على تلك الحادثة نحو أسبوع من الزمن، وإذا بالرجل نفسه يطرق باب الشيخ مجدداً فيخاطبه قائلاً: ” حيّاك الله يا عم أبو اسماعيل وأبقاك وأمدّ بعمرك. ها قد تعودنا على فضلك الكريم وخيرك العميم. فهلاّ مننت علينا بخمس ليرات أخريات، وما لنا غير بابك نطرق”.
هزّ الشيخ رأسه متعجباً ثم أجاب بعد تفكير: ” وماذا فعلت بتلك الليرات التي أخذتها يا بني؟ وهل صرفتها على تجارتك جميعها؟”

قال :” نعم، صرفتها على تجارتي لكنني ما زلت في حاجة إلى مبلغ مماثل كي أكمل ما نحتاج إليه من بضاعة وحوائج”.
عرف الشيخ في سريرته إنه أمام رجل مخادع وحاول الحفاظ على هدوئه ثم قال له: “سأعطيك ما تريد، لكن شرط أن تجيبني بصدق عمّا أسألك”.
– ” تفضّل واسأل يا حضرة الشيخ”.
قال الشيخ: “هل تقسم بالله العظيم ماذا كان يدور في نفسك عندما قصدتني لاستدانة المال في المرة السابقة؟ قل ولا تخف إلاّ ذنبك، ولا ترجو إلاّ ربّك..”.
طأطأ الرجل رأسه خجلاً، ثم تمتم بعبارات غير مسموعة، بعدما شعر في قرارة نفسه أن الشيخ مطلع على شيء ما يتعلق بقصته.
وألح الشيخ مجدداً بالسؤال: ” أستحلفك مجدداً أن تقول الحقيقة ولا تخف إلاّ ربّك”.
قال الرجل عندها: “اغفر لي وسامحني يا شيخنا الكريم. فقد وسوس الشيطان في صدري حتى فكرت فعلاً بأنني إن حصلت على المال فإنني لم أكن لأرده أليك خلافاً لما وعدتك”.
أردف الشيخ : “وماذا كانت نيتك هذه المرّة وقد جئت تطلب المزيد من المال؟”.
ارتبك الرجل كثيراً واعتذر عن سوء فعله طالباً الصفح والعفو من الشيخ الذي أردف بالسؤال: “لكن أخبرني بما حدث معك في المرة السابقة، وأين وضعت ليراتك وكيف أضعتها واعلم يا بني أن الصدق طريق النجاة”.
صعق الرجل وقد أيقن عندها أن الشيخ أبو اسماعيل مطلع على قصة إضاعته للمال وأنه ربما تمكن من استرجاعه بطريقة ما فاحمّرت وجنتاه وتمنّى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه، لكنه قرر مع ذلك الإقرار بما حصل وروى للشيخ ما حدث معه عند صاحب البستان وكيف أضاع ليراته الذهبية التي كان قد اعتزم عدم ردها له. عندها أنبأه الشيخ بأن المال والصك عادا إليه مردداً القول المأثور “المال الحلال بيرجع لصاحبه ولو بعد حين”، مضيفاً “إنما الأعمال بالنيات. فأحسنوا سرائركم وأخلصوا نياتكم والله تعالى الرقيب العليم”.

رزق الله على زمن كانت الشعرة فيه صك رهن
أثناء الحرب العالمية الأولى، اجتاحت بلادنا موجات من الجراد الصحراوي أكلت الأخضر واليابس كما كانوا يقولون، فتفشّى الجوع في كل مكان، وعمّ الفقر معظم المناطق والبلدان، ولم ينجْ منه إلاّ من توفّرت لديه بعض الموارد المالية أو الاقتصادية، والتي ربما كان مصدرها بلاد الاغتراب، أو إرثاً من الآباء والأجداد. لذا عانى الفلاحون الأمرّين لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم، وقاسى الكثيرون منهم في سبيل ذلك.
شاع خبر في منطقة وادي التيم مفاده، أن رجلاً كريم النفس، ميسور الحالْ في بلدة حاصبيا، يُدعى أبو خليل إبراهيم رشيد حبيب. ذو أريحيّة فيّاضة، ونفس طيّبة، يمد يد العون إلى المحتاجين، ولا يرد طلب سائل مسكين. سريع البديهة، محدّث لبق، حاضر النكتة والخاطر، ومعظم أحكامه الاجتماعية كانت صائبة وتنم عن فراسة نافذة وحنكة.
علم بأمر هذا الرجل فلاّحٌ من بلدة عين عطا، فقير الحال لكن عزيز النفس، يملك ثوراً وحيداً للفلاحة، وهو ما لم يكن يكفي قبيل موسم الزرع وحراثة الكروم. لذا قرّر أن يقصد باب ذلك الرجل ويطلب منه مبلغاً من المال لشراء ثور آخر، وذلك بمثابة دين يردّه مع فائدته بعد جني المواسم.
حال قدومه دار الرجل المذكور، استقبله صاحبها استقبال المضيف لضيفه. وبعد قيامه بواجب الضيافة، سأله عن اسمه. أجابه الفلاح: “عبدك صالح عبد الحق، من بلدة عين عطا”.
” أنعم وأكرم يا بني، وما هو مطلبك؟”.
“مطلبي أيها العم الكريم، إنني بحاجة لمبلغ من المال، قصد شراء ثورٍ أربطه إلى جانب رفيق له عند الحراثة”.
هزّ الرجل برأسه، وقلب الأمر في سريرته وقرر امتحان السائل بطلب فيه شيء من التحدي والإحراج.
“أهلاً وسهلاً وعلى الرحب والسعة، أعطيك ما تريد شرط الإجابة لطلبي، خاصة يا بني أنني لم أعرفك من قبل، ولا أعرف من يمكنه أن يعرف عنك سواء كان قريباً أو بعيداً”.
” تفضل، ما هو طلبك يا حضرة الخواجة؟”.
“طلبي فقط شعرة من شاربيك، كرهنٍ بحيث أعيدها إليك عند الوفاء بالدين إذا رغبت”.
تفاجأ الفلاّح لهذا الطلب، واحمّرت وجنتاه، وارتبك، لكنه، بعد أن تمالك نفسه، قال: ” معاذ الله يا سيدي، فهذه إهانة لي ولأولادي أن أرهن شرفي وكرامتي. لكن، إذا رغبت بالعطاء، فما عليك إلاّ زيادة الفائدة كما تشاء، أو أي طلب غير هذا الطلب”.
رفض العم أبو خليل عرض الفلاح وكرّر الطلب ذاته، عندها حسم الفلاح أمره وهم بالخروج من منزل أبو خليل والإياب إلى بلدته.
استوقفه العم أبو خليل، ثم ربّت على كتفه بيده، وقال: ” نظرتي فيك يا بني تنبئني أنك صادق، وأمين، وأنّ للشّرف عندك مكانة وتقديساً، وأقسم لك، بأن الشعرة التي سآخذها منك، سأضعها في قلب الصك الذي سأكتبه عليك، ثم ألّفها وأودعهما خزائني لوقت إعادة المبلغ إذا أردت”.
ما العمل، وشبح الضيق المادي يلاحق الفلاح، ويهدد سعيه للرزق والعيش الكريم كما أن هذا الرجل الذي يعرض مساعدته يبدو كريماً ولا خوف من أن يعرض به، لذلك قرر أن يقبل الشرط المذكور على مضض بعدما أخذ منه عهداً بالمحافظة على الشعرة، رمز شرفه وكرامته. مدّ يده إلى شاربيه، ثم اقتلع شعرةً، وكان في ذلك كمن يقتلع قسماً من كيانه أو وجدانه، ثم سلّمها للرجل، واستلف المبلغ منه وعاد أدراجه من حيث أتى.
انتقل الخبر بالتواتر من فلاّح إلى آخر في منطقة وادي التيم، حتى علم به فلاّحٌ من قرية مجاورة فأسرع بالحضور إلى حاصبيا، ثم قصد بيت الرجل، طالباً منه ذات الطلب.
رحّب أبو خليل بضيفه الجديد، ثم سأله عن اسمه، فأجابه الفلاّح: ” ولدك متعب صعب”. تفرّس به جيّداً، ثم أعاد الطلب أو امتحان رهن شعرة من الشارب، كما طلب من الفلاّح السابق.
هنا، تهلّل وجه متعب فرحاً وأجاب بكل رضى وسرور: “خمس شعرات بدلاً من الواحدة يا عم أبو خليل، وإن يكن طلبك غالياً، فهو لما نعرفه عنك سهل ورخيص”.
هزّ أبو خليل رأسه، بعدما صدق حدسه. ثم رفع صوته بوجه ضيفه قائلاً: ” نظرتي فيك أنك لست من أهل الكرامة وأصحاب الوفاء، ويكفي أن اسمك متعب، وعائلتك صعب. وأكثر من ذلك، إن الذي يهون عليه شرفه وكرامته بهذه السهولة، يهون عليه أخذ أموال الناس، وعدم سدادها. فأبق شعر شاربيك في وجهك ونحن بدورنا، نبقي أموالنا لأصحاب الرجولة والشهامة.
انصرف صاحبنا حانقاً ومرتبكاً بعدما فشلت حيلته، وافتضح أمره. أما فلاحنا، صالح عبد الحق، فعندما حان وقت الوفاء للدين، أتى أبا خليل شاكراً، حامداً صنيعه ومعروفه. ثم نقده المال، واسترد أمانته بلهفة. وعندما همّ بالعودة استوقفه أبو خليل، قائلاً :” يا بني أطلب ما تريد، ووقت ما تريد، فإن لم تكف أمانتك وشرفك، فيكفي أن اسمك صالح، وعائلتك عبد الحق”.
وهكذا أصبحت قصة أبي خليل وصالح مضرباً للوفاء، وعنواناً للاستقامة وذاعت في عرض وادي التيم وطوله وحفظ الناس من يومها خبر تلك الأيام التي كانت فيها شعرة من شارب أهم ضمانة للوفاء بدين.

مختارات من رباعيات جلال الدين الرومي

مختـارات من ربــاعيـات

شاعــر الصوفيــة الأكبــر جــلال الــدين الـرومــي

هذه مختارات شعرية من رباعيات جلال الدين الرومي (المتضمنة في الجزء الثامن من مصنفه النفيس “ديوان كبير” ) وقد تمت ترجمتها من الفارسية إلى اللغة الفرنسية على يد أيڤا دوفيتري ميوروفيتش وجمشيد مرتزافي في العام 1987. وترجمت هنا من الفرنسية بصورة راعت إلى حدٍ كبير المعنى الأصلي. وكما نلاحظ، فإن الرباعيات تتميز بين مؤلفات الرومي ليس فقط في قالبها الشعري المتمثل بأبيات قصيرة تتضمن المعنى الروحي في صور موجزة وبليغة، بل تتميز أيضاً في تركيزها الخاص على العلاقة بين الشاعر ومطلوبه وهو الحق جل وعلا، كما أنه أيضاً- وفي معارج الاختبار- المعلم أو المرشد باعتباره دليلاً إلى الحق وإلى عالم الأسرار والانعتاق الروحي. إنه طريق المجاهدات الوعر والمليء بالإمتحانات والمزالق والندم والتوبة والشوق المضني. وفي هذا الطريق تعتبر الرابطة الخاصة بين المريد وبين مراده أمراً أساسياً، بل لب الموضوع في جميع الحالات لأن المرشد يصبح في نظر المريد هو الطريق والأمل ووعد الخلاص والفرح الأرفع فتصبح حياة المريد بالكلية متعلقة بتلك العلاقة كما لو أنها روحه ومرتكز وجوده. وفي هذه الحال، فإن المريد غالباً ما يخضع لإمتحانات القربة، كما يخضع لإمتحانات البعد حيث يتوقف غيث النعمة وتختفي الحضرة في لعبة القبض والبسط فيصيب المريد عندها ما يصيبه من آلام الفرقة والحنين والندم واستذكار المعاصي والغفلات.
في هذه الأبيات الجميلة يعرض جلال الدين الرومي لعدد من الأحوال والمشاعر التي تشرح ما يصيب المريد في مجاهداته، والتي تنسكب شعراً رقيقاً زاخراً بالعفوية والإخلاص والرمزية، وهي ميزات يكاد ينفرد بها شعره ومختلف الأعمال الشعرية التيٍ أصدرها في حياته.هذه مختارات شعرية من رباعيات جلال الدين الرومي (المتضمنة في الجزء الثامن من مصنفه النفيس “ديوان كبير” ) وقد تمت ترجمتها من الفارسية إلى اللغة الفرنسية على يد أيڤا دوفيتري ميوروفيتش وجمشيد مرتزافي في العام 1987. وترجمت هنا من الفرنسية بصورة راعت إلى حدٍ كبير المعنى الأصلي. وكما نلاحظ، فإن الرباعيات تتميز بين مؤلفات الرومي ليس فقط في قالبها الشعري المتمثل بأبيات قصيرة تتضمن المعنى الروحي في صور موجزة وبليغة، بل تتميز أيضاً في تركيزها الخاص على العلاقة بين الشاعر ومطلوبه وهو الحق جل وعلا، كما أنه أيضاً- وفي معارج الاختبار- المعلم أو المرشد باعتباره دليلاً إلى الحق وإلى عالم الأسرار والانعتاق الروحي. إنه طريق المجاهدات الوعر والمليء بالإمتحانات والمزالق والندم والتوبة والشوق المضني. وفي هذا الطريق تعتبر الرابطة الخاصة بين المريد وبين مراده أمراً أساسياً، بل لب الموضوع في جميع الحالات لأن المرشد يصبح في نظر المريد هو الطريق والأمل ووعد الخلاص والفرح الأرفع فتصبح حياة المريد بالكلية متعلقة بتلك العلاقة كما لو أنها روحه ومرتكز وجوده. وفي هذه الحال، فإن المريد غالباً ما يخضع لإمتحانات القربة، كما يخضع لإمتحانات البعد حيث يتوقف غيث النعمة وتختفي الحضرة في لعبة القبض والبسط فيصيب المريد عندها ما يصيبه من آلام الفرقة والحنين والندم واستذكار المعاصي والغفلات.
في هذه الأبيات الجميلة يعرض جلال الدين الرومي لعدد من الأحوال والمشاعر التي تشرح ما يصيب المريد في مجاهداته، والتي تنسكب شعراً رقيقاً زاخراً بالعفوية والإخلاص والرمزية، وهي ميزات يكاد ينفرد بها شعره ومختلف الأعمال الشعرية التيٍ أصدرها في حياته.

1.
في حال الفرقة بعيداً عن غبار أعتابك
ها نحن دوماً في بكاء وارتجاف
مثل الشمعة التي تذوب في دموعها
ومثل العود الذي نصنع من شكواه أغان حزينة
2.
لن أفقد الأمل إن خطر لك أن تنساني
أو أن تتخذ من بعدي خليلا آخر
سأحتفظ بحزني وبحنيني إليك ما حييت
هناك دوماً أمل كبير في غياب الأمل
3.
معشوقي لا يريد أن أتحدث عن الاتحاد
لقد حطم قلبي بقسوته
لكن ما أن انكسر القلب حتى وجدت نفسي على أعتابه
معشوقي يحب أن يجد قلب المحب كسيرا
4.
بفضل جمالك اختفى الشر من نفسي
لم يعد هناك ولو قترة من حزن أو تعب
فيض مجدك يملأ جنبات الكون
حتى يصبح الكل أميرا ولا يبقى أي درويش
5.
من أين جئت بالحزن؟ أليس السكّر رفيقك؟
أم أن السكّر أمامك لكنك لست مشتريا؟
أم أنك غافل عن كل هذا وتسأل نفسك؟
أم أنك تعلم لكنك لا تلقي بالا؟
6.
دفعت بقلبي إلى درب الأحزان
ومن أجلك أنت حللت قيود الفؤاد
واليوم حمل لي النسيم بعضا من عطرك
فأردت أن أشكره فأهديته هذا الفؤاد
7.
اليوم يوم سحاب ومطر
لا بد لذلك من اجتماع الأصدقاء
لأن الصديق يجلب السرور إلى الصديق
كما تفعل مرجة الزهور المتفتحة في الربيع
8.
وا أسفاه لكل هذا الطغيان في داخلي
يا نفس، أسمع آلاف الصيحات تأتي منك
لكن الرب يقول “انظر ما قدمت يداك”
بئس هذه الليلة ، إن أصل كل تعاسة هو في نفسي
9.
ذاك الذي لا يملك في هذا العالم نصف رغيف
ولا مأوى له إلا في كهف صغير
لا يسأل الناس شيئا ولا يسأله الناس عن شيء
قل له “هنيئا لك” لأنه أوتي حظا عظيما
10.
كل صنوف الخير والشر ظاهرها وباطنها
إنما يأتي بأمر الله قضاءه وقدره
كم بذَلت نفسي من الجهد، لتسمع هاتفا يقول
أن فوق عملك عملا آخر
11.
موسم السعد يوم يتحد المرء بالحبيب
عندما يموت الجسد تنبعث الحياة في مصباح القلب
لابتسامة البرق انهمرت دموع السحاب
وبدمع السحاب المنهمر ارتسمت البهجة على وجه البستان
12.
إن كنت بعيدا عن ظلال العاشقين
فإن الشمس ستصيبك فتقع مريضا
فأركض أمام العاشقين وخلفهم مثل الظل
لعلك تصبح في يوم قمرا أو شمسا متألقا بالنور
13.
لقد تأخرت بنا الخطى وسط هذا الخلق
ولم نجد من وفائهم لا عطرا ولا صباغا
فاحرص على أن تكون مخفيا عن أعين الخلق
كما الماء في الحديد أو كما النار في الحجر
14.
قلت لي: تعال إلى النعيم وهذا الربيع الضاحك
فهناك الأنوار والخمر والحور العين
لكن إن لم تكن أنت هناك فأي قيمة للمكان
وإن كنت هناك فما حاجتنا بكل تلك الأشياء
15.
في الربيع وقع الفراق بيني وبين من أحب
فأي معنى الآن لكل تلك البهجة وهذا العيد
كأن الحديقة بدل الخضرة امتلأت أرضها بالشوك
وكأن السحاب بدل الماء بات يمطر أحجارا
16.
في الاتحاد وجهه الجميل زهرتي الباسمة
في الفراق صورته هي معدن قلبي ويقيني
ها أنا وقلبي في نزاع دائم بسببه:
كل منا يقول هذا المحبوب محبوبي
17.
قلبي أصابه الحزن والسقم بسبب افتراقنا
وبسبب هذا الحزن عيني تسكبان دمعا من الدم
ألمي شديد مثل آلام النزع ومفارقة الروح للجسد
لكن كم كنت سأحزن لو لم يصيبني كل هذا الحزن
18.
أيها الصديق، أصبحنا بالصداقة قريبين منك
حيث تضع قدميك نكون نحن التراب
لكن كيف يجوز في طريق هذا الحب
أن نرى العالم بك ولا نراك
19.
أيها الباحث عن طريق للفرار منه
وفي اعتقادك أنك تسير نحو الهدف
إن الملِك هو الذي يجذبك إليه
ملِك ملوك الدراويش في مقدوره أن يجذب إليه الجبال

العاصفة الشمسية

العاصفة الشمسية المقبلة
ما العمل وماذا ينتظرنا؟

عاصفة شباط عطّلت الاتصالات الفضائية وأربكت الطيران
لكن العلماء يتوقعون ذروة أشد خطورة في العامين المقبلين

أي عاصفة شمسية عنيفة ستؤدي إلى كارثة إنسانية
بسبب تدميرها المحتمل لأنظمة الإتصالات والكهرباء

الأزمة قد تطول أشهراً وتتسبب بفوضى ومجاعات
والدول الفقيرة ستكون الأقل تأثراً بالكارثة المحتملة

نصيحة الخبراء: استعدوا للطوارئ بتكوين مخزون
من الغذاء والماء والأشياء الضرورية للحياة

أنوار العاصفة الشمسية تلفح شمال الأرض في آب 2010
أنوار العاصفة الشمسية تلفح شمال الأرض في آب 2010

هناك عاصفة شمسية تضرب الأرض كل 11 عاماً تقريباً لكن العاصفة المقبلة والمتوقعة في العامين 2012 و2013 قد تكون حسب علماء الفضاء الذين يتابعون الانفجارات الشمسية من العيار الثقيل، وقد تجلب إلى الحضارة التكنولوجية كارثة تفوق في حجمها وآثارها جميع الكوارث الطبيعية التي عرفناها حتى الآن.

ي عددها الصادر في 20 شباط 2011 نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية المشهورة برصانتها تحذيراً من علماء الفضاء بأن الأرض قد تصبح في وقت قريب عرضة لـ “إعصار شمسي” يهدّد الحضارة بكل معنى الكلمة ويكلّف العالم دماراً إقتصادياً لا تقل تكلفته عن 2000 مليار دولار. وقالت الصحيفة إن علماء “مناخ الفضاء” في كل من الولايات المتحدة والسويد وبريطانيا أصبحوا متفقين على أن عاصفة شمسية ناتجة عن انفجارات على سطح الشمس قد تضرب الكرة الأرضية بقوة غير مسبوقة ابتداءً من العام المقبل، وأن على كافة الدول والسلطات المعنية أن تبدأ التحضير لخطط طوارئ بهذا الشأن. وفي الإجتماع السنوي الذي عقده هؤلاء العلماء في مقر الجمعية الأميركية لتقدم العلوم في واشنطن استمع الحضور إلى تقارير مقلقة تتوقع أن تكون دورة الانفجارات الشمسية التي تحصل كل 10 أو 11 سنة من الأعنف هذه المرة بحيث يترتب عليها نتائج لا يمكن التنبؤ بحجمها وخطورتها على الإقتصاد العالمي، وربما على الحياة اليومية للناس.
ويقول رئيس فريق العلماء البريطانيين السر جون بدينغتون: “علينا أن نأخذ الموضوع بكل جدية لأن الشمس تستفيق الآن من فترة هدوء طويلة، ولأن قابلية الإقتصاد العالمي للعطب زادت كثيراً منذ آخر دورة للإنفجارات على سطح الشمس في العام 2000” . ويقول جون لوبتشنكو رئيس إدارة المحيطات والفضاء في الولايات المتحدة الأميركية: “علينا أن نتسلح بتوقعات دقيقة وبتحضيرات كافية للتطورات الشمسية المقبلة ولاسيما وأن التطور التكنولوجي والاعتماد الكبير للعالم على أنظمة التواصل الإلكترونية أصبحا أعلى بكثير مما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات” .

أنوار الشمال فوق غرينلاند في العام 2009
أنوار الشمال فوق غرينلاند في العام 2009

الغضب الأحمر
تبدأ العاصفة الشمسية بإنفجارات لغازات شديدة الحرارة تنطلق من الشمس بسرعة خمسة ملايين ميل في الساعة، وغالباً ما تضرب الجزيئات المشحونة بالكهرباء الغلاف الجوي للأرض بعد 20 إلى 30 ساعة من تلك الانفجارات ويحدث ذلك على الفور اضطراب شديد في الحقل الإلكترومغناطيسي الذي يحيط بالأرض. وكانت عاصفة شمسية أولية قد ضربت الأرض في منتصف شباط الماضي واعتبرها العلماء الأقوى منذ العام 2007 لكنها كانت بالمقياس التاريخي خفيفة نسبياً. مع ذلك فقد تسببت تلك العاصفة ببعض المشكلات لأنظمة الراديو وبعض الإضطراب في حركة الطيران المدني، إذ اضطرت شركات الطيران لتوجيه رحلاتها بعيداً عن مناطق القطبين الشمالي والجنوبي التي تستقطب أكبر قدر من النشاط الشمسي.
إلا أن العلماء يعتبرون العاصفة تلك مجرد مؤشر على العاصفة الشمسية العنيفة المنتظرة والتي يتوقع البعض أن تعطل أقمار الإتصالات الفضائية لساعات طويلة أو ربما تخرب مكوناتها وتخرجها بالتالي من الخدمة. أما على الأرض فإن التقلبات الحادة في الحقل المغناطيسي للأرض قد تتسبب بارتفاع مفاجئ في الحمل الكهربائي يؤدي بدوره إلى تعطيل الشبكات الكهربائية وغرق مئات الملايين من البشر في الظلمة وتعطل كل شيء يعمل بالكهرباء. وكانت عاصفة شمسية أدت في العام 1989 إلى حرق المحولات الكهربائية للشبكة في منطقة كويبيك في كندا وغرق ملايين الناس في الظلام.
ويقول العلماء إن دورة النشاط الشمسي لا تتبع نمطاً واحداً، وإن الدورة الحالية تأتي متأخرة وبعد فترة من الهدوء غير العادي على سطح الشمس مع توقع أن تصل دورة النشاط الشمسي إلى ذروتها في العام 2013.

صورة من الفضاء للطلام في شمال أميركا وكندا بعد أن ضربت المنطقة عاصفة شمسية في العام 1989
صورة من الفضاء للطلام في شمال أميركا وكندا بعد أن ضربت المنطقة عاصفة شمسية في العام 1989

وكانت إحدى أقوى العواصف الشمسية ضربت الأرض في العام 1859 حصلت في سياق دورة شمسية ضعيفة وأدت العاصفة يومها إلى ضرب كل شبكات التلغراف المنشأة حديثاً في العالم وحصول حرائق على امتداد تلك الشبكات على جانب الأطلسي، أي في أميركا الشمالية وأوروبا وقيل يومها إن الإنفجارات الشمسية جعلت نور الشمس يتضاعف في الأماكن التي حصل فيها الانفجار على سطح الشمس، كما أن موجات البلازما الشمسية التي رافقت تلك العاصفة القياسية أضاءت الأجواء القطبية في ما يُعرف بأنوار الشمال Northern lights بصورة غير مسبوقة بحيث شوهدت تلك الأنوار لأول مرة في مدينة روما وجزر هاواي في المحيط الباسيفيكي.
لكن على الرغم من قوتها، فإن العاصفة الشمسية التي ضربت الأرض حينذاك لم تحدث ضرراً كبيراً لأن العالم كان في أول عهده بالكهرباء والإتصالات السلكية واللاسلكية. أما اليوم فإن عاصفة قوية يمكنها أن تضرب البنية التحتية لأنظمة الاتصالات والمعلومات في العالم وشبكات توزيع الكهرباء وهو ما قد يتسبب بأضرار غير مسبوقة. ويشير المراقبون إلى أن الخطر الأكبر على البشرية اليوم لا يكمن فقط في القوة المتوقعة للعاصفة الشمسية بل في التحولات الهائلة التي طرأت على الحضارة الإنسانية وخصوصاً تركّز نحو نصف سكان الأرض في المدن واعتماد كل نواحي الحياة الآن على الكهرباء وعلى أنظمة الاتصال عبر الفضاء وشبكات المعلومات.
ويقول جون لوبتشنكو رئيس إدارة المحيطات والفضاء في الولايات المتحدة الأميركية: “ليس الأمر هو هل ستكون هناك عاصفة شمسية، بل الأمر هو متى وبأي قوة ستهب تلك العاصفة، والأكيد هو أن هناك أحداثاً مناخية قادمة ومن المهم أن نستبق ذلك بالتحضير الجيد، لأننا ومع اقترابنا من ذروة النشاط الشمسي، وبالإستناد إلى ما حصل في 14 شباط الماضي فإن علينا ليس فقط أن نتوقع أحداثاً شمسية معينة، بل علينا انتظار أحداث في غاية الشدة أيضاً.”
يذكر أن لوبتشنكو كان يشير إلى العاصفة الشمسية التي هبت على الأرض في ذلك اليوم وأدت إلى تعطيل الاتصالات في الجانب الغربي من المحيط الباسيفيكي، وفي بعض مناطق آسيا وإلى عرقلة حركة الطيران.
ويتخوف علماء المناخ من أن الانفجارات المقبلة على الشمس قد تتسبب بأضرار أخطر بكثير خصوصاً لكل أنواع المحولات والمكثفات Capacitators الحساسة في شبكات الكهرباء، وقد يؤدي ذلك في بعض التوقعات إلى انقطاع التيار الكهربائي ليس فقط لأيام، بل ربما لأسابيع وأشهر بل ربما – وفي توقع متشائم- لسنوات. وحسب عالمة تعمل في وكالة الفضاء الأوروبية فإن الأمور هذه المرة قد تكون مختلفة جداً.
وكان النشاط الشمسي وصل في العام 2009 إلى أدنى مستوياته وسجلت الشمس لأول مرة أدنى مستوى من الانفجارات منذ مئة سنة وأكثر. لكن هذه الظاهرة اعتبرها العديد من العلماء بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة.

كيف تهاجم العاصفة الشمسية جو الأرض
كيف تهاجم العاصفة الشمسية جو الأرض

ويراقب العالم البقع الشمسية منذ أيام العالم غاليليو الذي لاحظ وجودها لأول مرة في مطلع القرن السابع عشر. ومنذ العام 1745 أحصى العالم 28 دورة شمسية كل منها يمتد في المتوسط لمدة 11 عاماً. وتبين للعلماء من دراسة سجلات العاصفة الشمسية التي هبت في العام 1859 أن تلك العاصفة الضخمة سبقتها أيضاً فترة غير عادية من الخمول في النشاط الشمسي. وقد انكب العلماء منذ سنوات على دراسة سجلات تلك العاصفة الشمسية على أمل أن يجدوا فيها ما يدلهم على ما يمكن أن يحدث في العام 2013 أو قبله. وقد استنتج العلماء وبناءً على تلك المقارنات أن الاحتمال قوي جداً بأن يتبع الخمول الشمسي الذي سجل في الدورة الحالية ذروة شمسية قياسية وهذه الذروة قد تحمل معها عاصفة شمسية غير مسبوقة في قوتها وفي تأثيرها المدمر على البنية الأساسية للحضارة البشرية.
ويأتي الخطر المحتمل من العاصفة المقبلة من أمرين:
قوة الانفجارات الشمسية وبالتالي ضخامة العاصفة التي قد تطلقها من على سطح الشمس باتجاه الأرض.
زاوية الاصطدام بين الموجة الشمسية والغلاف الجوي للكرة الأرضية، إذ غالباً ما يحدث الاصطدام بصورة غير مباشرة بحيث تتمكن نسبة معينة فقط من موجة الأشعة البلازمية من اختراق الغلاف الإلكترومغناطيسي الذي يحمي الكرة الأرضية. أما في العاصفة البالغة القوة التي يتوقعها العلماء، فإن العاصفة الشمسية تتجه بصورة مباشرة إلى الأرض وتتمكّن من اجتياح غلافها الجوي وإيصال أشعتها البلازمية إلى سطح الأرض وإيقاع التخريب بالقاعدة التكنولوجية للمدنية في ثوانٍ أو دقائق معدودة.
إن العاصفة عادةً تستغرق بين ثلاثة وأربعة أيام للوصول إلى الأرض، أما العاصفة من طراز تلك التي ضربت الأرض في العام 1859 فقد استغرق وصولها أقل من 17 ساعة، وهذا يعني أن أهل الأرض لن يكون لديهم الوقت الكبير لكي يستكملوا احتياطهم وأن العاصفة قد تضرب من دون سابق إنذار.

سيناريو الكارثة
على الرغم من التحذيرات التي صدرت عن وكالة الفضاء الأميركية والأكاديمية الوطنية للعلوم، وكذلك تلك التي صدرت عن اجتماعات علماء المناخ والعديد من الخبراء، فإن هناك في نظر البعض سعياً واضحاً من قبل المسؤولين السياسيين لعدم إثارة المخاوف بل تجاهل الموضوع على اعتبار أنه لا أحد يعلم مدى القوة التي قد تتسم بها العاصفة الشمسية المقبلة، فإن كانت العاصفة معتدلة فإنها قد تتسبب ببعض الأضرار التي يمكن التعامل معها، وإن كانت كما يتخوف البعض عنيفة فإن من الصعب على الحكومات أن تفعل شيئاً في جميع الأحوال وأن كل ما سيمكنها فعله هو الانتظار لانجلاء العاصفة وإحصاء الأضرار ومعالجة ذيول الكارثة. وفي هذه الحال فإن الحكومات والسياسيين يعتقدون أنهم لا يمتلكون وسائل كافية للاحتياط إزاء عاصفة شمسية قوية قد تهب فجأة ولذلك فإنه من الأفضل لذلك عدم إشاعة الذعر منذ الآن والأمل بأن لا يحصل الأسوأ الذي يتوقعه البعض.
لكن ما هو هذا “الأسوأ” الذي يمكن أن يحصل؟
يتفق العلماء الآن على أنه في حال اندفاع عاصفة شمسية بصورة مباشرة إلى سطح الأرض فإن هذه العاصفة يمكن أن تشل الحركة في العالم على أكثر من صعيد كالتالي:
إن العاصفة قد تؤدي فوراً إلى تعطيل الهواتف المحمولة والسيارات والشاحنات والطائرات والسفن ناهيك عن التلفزيون والراديو وبالطبع كل أجهزة التسلية فضلاً عن التجهيزات الطبية المعقدة.
نظراً لإحتمال تعطل الطاقة الكهربائية وأنظمة الاتصالات لمدة قد تطول، فإن العالم سيكون عندها من دون مصارف تعمل ولا بورصات وسيجعل ذلك بطاقات الدفع وسحب النقود بلا أي فائدة. وعلى العكس من ذلك، فإن الثروة الحقيقية تكون في ما قد يحمله الناس من أوراق نقدية أو عملات ذهبية أو فضية.
في ظل هذا السيناريو الكارثي وخصوصاً توقّف المواصلات والاتصالات، فإن الناس ستصاب بحالة من النقص في كل شيء وسيتم نهب المحلات والمخازن التجارية على الأرجح بحجة البقاء وسينفذ الوقود من المحطات في وقت قصير. في الوقت نفسه فإن تعطل الاتصالات الهاتفية الفضائية سيجعل من الصعب جداً على قوى الشرطة نجدة الناس ومعالجة الفوضى.
في أيام قليلة فإن نظام ضخ المياه إلى المنازل وكذلك أنظمة الصرف الصحي ستتوقف، وفي حال اعتمادك على مضخة كهربائية لسحب المياه فإنك ستفقد إمكان الحصول على ماء وقد يستمر هذا الوضع لأسابيع أو لأشهر وقد يحل العطش أو قد تحصل مجاعات حقيقية حتى في أكثر الدول تقدماً، وفي هذه الحال فإن النتيجة المرجحة لتلك المجاعة ولتوقف شرايين الحياة خصوصاً في المدن ستكون موت مئات الملايين بل ربما أكثر. وعلى العكس من ذلك، فإن الدول الفقيرة القليلة الاعتماد على التكنولوجيا ستكون الأقل تأثراً.
وبالمعنى نفسه، فإن أي عاصفة شمسية عنيفة تضرب الأرض قد توجه ضربة قاصمة على الأرجح للتكنولوجيا الحديثة وللحضارة كما نعرفها وقد تعود ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا ومن يبقى من سكانها قروناً إلى الوراء.
بالطبع لا يعكس هذا التوقع في نظر علماء المناخ سوى أسوأ الاحتمالات وهو احتمال يتمنى الجميع أن لا يحصل. لكن حقيقة الأمر أن الترابط التكنولوجي والاعتماد التام تقريباً في حياتنا اليومية بل في الأمن العالمي على الأجهزة الحديثة والحساسة لعاصفة الشمسية هو أكبر مصدر لقلق العلماء الآن، لأنها ستكون المرة الأولى التي تضرب فيها عاصفة شمسية عنيفة العالم بعد أن أصبح هذا مرتهناً في كل شيء بتلك الأجهزة والتكنولوجيات الدقيقة والسريعة العطب، والتي قد تكون لذلك الضحية الأولى لإندفاعة العاصفة الشمسية نحو الأرض.
أخيراً، فإنه إذا كان العالم المتقدم تكنولوجياً سيدفع الثمن الأكبر لأي عاصفة شمسية عنيفة فإن العالم الثالث وفقراء الأرض سيكونون في وضع أفضل بكثير لأنهم غير معتمدين في حياتهم إلا على الوسائل التي ورثوها من أجدادهم. أما نحن في هذه المنطقة فقد أصبحنا مع الأسف حلقة في سلسلة حضارة الاستهلاك والاعتماد على التكنولوجيا. لذلك يجب أن نحذر وأن نعود إلى حديث الرسول (ص) الذي نصح فيه أمته أن “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”.
بالطبع، فإن أضعف الإيمان في هذه الحال هو الاستعداد بتأمين مخزون كافٍ لأشهر عدة من الطعام والشراب والأساسيات. وعلينا في أي حال أن نرقب مع العالم ما ستفصح عنه الأيام ومجريات ما قد يدور على شمسنا في السنتين المقبلتين، وأن نستغفر في غضون لذنوبنا سائلين الله العفو واللطف.

ثلاث قصائد لـ يوسف أمري

ثــلاث قصائـد لـ يونــس أمــري
شاعــر الحـب والوحـدة الإنسانيــة باللـــه

بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتـــذللاً
تعـــال وانظـــر إلى مـــا نالـــني مـــن أثـــر العشـــق

يحتل الشاعر الصوفي يونس أمري بين الشعوب الناطقة بالتركية مكاناً يكاد يكون مشابهاً للموقع الذي يحتله حافظ الشيرازي. فهذا الدرويش الذي عاش زاهداً كل حياته، كان مفعماً أيضاً بالحب الروحي الذي أنفق حياته في التعبير عنه بأعذب الأشعار. عاش في الأناضول التركية في القرن الثالث عشر الميلادي وذاع صيته وأصبح لشعره الرقيق واختباره الروحي وتمجيده للوحدة الإنسانية والحب تأثير كبير على الثقافة التركية، بل والعالمية إلى يومنا هذا.

وبسبب شهرته وأثره في الأدب التركي والعالمي تحول يونس أمري إلى موضوع لندوات ومؤتمرات عالمية تبحث في شعره وفلسفته ولغته الشعرية، وأدخلته منظمة اليونيسكو ضمن قائمة أعظم الشخصيات الثقافية في العالم، بل وأعلنت العام 1991 «السنة العالمية لـ يونس أمري» وتمت ترجمة أعماله إلى لغات عدة حول العالم.
على الرغم من الشهرة التي يحظى بها اليوم، فإن حياة يونس أمري يحيط بها الغموض، وكل ما يُعرف عنه أنه كان درويشاًَ سائحاً في الأرض قبل أن ينضم إلى مجموعة من الدراويش وجد بينهم المرشد الكامل الذي يرقيه في مراتب المعرفة. ويقال إن أمري أمضى عقوداً طويلة في خدمة الدراويش عبر قطع الحطب وجبله إلى الزاوية على سبيل العبودية لله. وبسبب حياته البسيطة حتى وفاته فإن الكثير من وقائع حياته وتجربته بقيت غير معروفة، وحلت محلها بعد ذلك مجموعة كبيرة من القصص والأساطير التي رفعت الشاعر إلى مرتبة القداسة وحاكت القصص الكثيرة والغريبة أحياناً التي استهدفت إظهار مكانته الجليلة لدى أهل الأناضول التركية وما نسب إليه من عجائب وكرامات. هناك قصة عن لقاء أمري بشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي وانبهاره الشديد، لكن ليس معروفاً إن كان أمري اتبع طريقة ذلك الشاعر، وإن كان مؤكداً أنه اتخذ له شيخاً ومرشداً.
وصف نفسه يوماً بهذه الأبيات:
أنا يونس أمري درويش الأحزان
أثخنتني الجراح من الرأس وحتى الأقدام
بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتذللاً
تعال وانظر إلى ما نالني من أثر العشق
يتّسم شعر أمري بفلسفة تشدد على وحدة البشر والحب الإنساني وتشكو من التفرقة والتأثير السلبي للتعصب، بل إنه يفرق في شعره غالباً بين دين الحب والوحدة الإنسانية في الله وبين أولئك الذين يحكمون على الآخرين ويفرقون بين الناس باسم اختلاف العقائد، لأنهم لا يفهمون حقيقة الإيمان ويتعلقون بظاهره فحسب.
في ما يلي ثلاث قصائد لـ يونس أمري منقولة عن الترجمة الانكليزية للنص التركي:

إبحث عنه في داخلك

إن عزمت على أن تمسح
كل هذا الصدأ عن القلوب
فقم بنشر هذه الكلمات
فهي بحق مختصر الحياة

«من لا يرى
شعوب الأرض كلها كخلق واحد
هو عاص لله حتى ولو رأى فيه
بعض أهل الورع قديساً»

أصغي أيضاً, فإن لي رأياً
في ما يسمونه الشرائع والقانون
الشرائع سفينة
والحقيقة هي البحر

مهما كانت ألواح السفينة
سميكة ومتلاصقة
فإنها لا بدّ ستتحطم وتتبعثر
إن هاج البحر وماج

جنوني هو عشق الحبيب
وحدهم المحبون يدركون مغزى كلامي
الإثنينية يجب أن لا تكون
الله وأنا العبد يجب أن لا نعيش متفرقين

الله يتخلل هذا العالم الكبير
لكن حقيقته سر مخفي على الجميع
إن أردت البحث عنه فأنظر في داخلك
فأنت لست كياناً منفصلاً عنه

لست بناظر لدين أحد من الناس
كما لو كان خصماً لاعتقادي
والحب الحق لا بدّ أن يسود
عندما تتحد العقائد كلها في الحقيقة الكاملة

الناس أطلقت عليّ اسم «الصوفي»
لكن لي مع ذلك عدوّ: الحقد
ليس في قلبي كدر أو كره لأحد
لأن هذا الوجود في نظري واحد

عندما يختبر الإنسان
الحب الحق
لا بدّ سيترك التعصب
للعقائد وروابط الأوطان

وأنتم لا تنفكون عن التذكير بالعقائد
وتدعون الناس إلى ما تسمونه النعيم
وماذا في النعيم. بضعة حوريات؟
أقول الحق: ليس هذا مرادي

رباه
لم كل هذا القدر من الكلام
وما الحكمة من كل هذا الجدل
حول حفنة من تراب؟

كلمــــة واحــــدة

في إمكان كلمة واحدة أن تضيء
وجه رجل يعرف معنى الكلمات
الكلمة التي تنضج في عالم الصمت
تختزن قوة كبيرة على الفعل

الحرب يمكن وقفها بكلمة
وهناك كلمات تداوي الجراح
وكلمات يمكنها أن تبدل السم
إلى عسل مصفى

دع الكلام ينضج في داخلك
ولا تدع مجالاً للخواطر المرتجلة
هلم وافهم ذلك الكلام
الذي يحول المال والثروات إلى تراب

اعلم متى يمكنك النطق
ومتى يتعين عليك الصمت
كلمة واحدة تقلب سعير جهنم
إلى جنات ثمانية

اتبع طريق القوم ولا يغرنك
كل ما تعلمته في السابق وكن يقظاً
فكِّر قبل أن تنطق
فلسان الحمق قد يدمغ روحك بالسواد

يونس! قل الآن شيئاً أخيراً
عن قوة الكلمات:
فقط كلمة «أنا»
تقطعني عن الله

الإنسان الحقيقي

لن تكون إنساناً حقيقياً على الطريق
إن لم تكن بسيطاً متواضعاً
وإن نظرت باستعلاء إلى أي مخلوق
فسيتم دفعك إلى أسفل الدرجات

إن ارتفعت نفسك فإنك سترفع بعيداً عن هذا الطريق
لا فائدة من كتم ما أنت فيه
لأن ما في جوفك يظهر لا محالة في سيمائك

حتى ذلك العابد ذو اللحية البيضاء
ذلك الذي يُظهر الحكمة في محيّاه
لو تجرأ فكسر قلب إنسان
ما الفائدة من حَجِّه إلى مكة؟
إن كان عديم الرحمة
فما الغاية من وجوده؟

قلبي هو عرش المحبوب
والمحبوب هو مقصود قلبي
كل من يكسر قلباً لإنسان
فلن يجد طريقاً إلى الله
لا في هذا العالم
ولا في غيره

الذين يعرفون لا يتكلمون إلا نادراً
لكن الضواري منهمكة دوماً بسيل من الكلام
كلمة واحدة تكفي من في قلبه العلم الحق

إن بحثت عن المعنى في الكتب المقدسة فهو ذا:
كل ما كان نافعاً لك تقاسمه مع غيرك

كل من يأتي إلى هذه الدنيا يهاجر منها
وكل من شرب خمر الحب يفهم قولي

يونس! لا تنظر باحتقار إلى هذا العالم

أبق ناظريك مسمرتين على وجه الحبيب
لأنك عندها لن ترى الصراط
في يوم الحساب العظيم

السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني

آخـر حماة الخلافة وأرض فلسطين

قال عنه الأفغاني: “ لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم”
ووضعه المؤرخون في مصاف السلاطين العظام للمرحلة الذهبية

صارع ببسالة دول الغرب التي تكالبت لتناهب دولة المسلمين
وكاد ينجح لولا الانقلاب الطوراني الماسوني للعام 1909

هرتزل الصهيوني حاول رشوته لفتح باب الهجرة إلى فلسطين
فرفض بإباء ورَدَّ بتشديد القيود على إقامة السيَّاح اليهود

سئل جمال الدين الأفغاني مرة عن رأيه في السلطان عبد الحميد الثاني وكان يجالسه كثيراً فقال:”إن السلطان عبد الحميد لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم: ذكاء ودهاء وسياسة”، هذه كانت صورة الرجل في عيني المفكِّر الإسلامي النهضوي، لكن في نظر الدول الغربية التي كانت تعدّ لاقتسام الإمبراطورية العثمانية الضعيفة؛ فقد كان السلطان عبد الحميد خصماً عنيداً حاول أن يبدّل الضعف الذي كان قد ألمّ بالسلطنة إلى قوة مستعادة عبر مجموعة كبيرة من المبادرات التي وظّف فيها جهده ووقته ودهاءه السياسي وصبره وغطت كافة المجالات. لكن مما يؤسف له ومما سبب الحزن لهذا السلطان المجاهد هو أن قسماً من مواطني الدولة من عرب ومن أقليات سارع في الانضمام إلى الجهود التي رمت لتقويض الدولة وكان له نصيب كبير في تعميم الحرب الإعلامية والنفسية التي شنت على الخلافة وعلى السلطنة من قبل وسائل الإعلام الغربية، حتى نشأ أدب متكامل شعبي وتاريخ موضوع يقوم كله على تسفيه وتشويه تلك الفترة المهمة من جهاد العرب والمسلمين ضد الحملة الشرسة لتحطيم آخر الخلافات الإسلامية وتمزيق أوصالها.
فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء-السلاطين للدولة العلية؟ وما هو الدور المهم الذي لعبه إبان حكمه الطويل نسبياً (-1876 1908)؟ وما هي أبرز العوامل التي أدت إلى انهيار الخلافة وفتح الطريق أمام الغزو اليهودي لفلسطين؟

لقد كتبت المجلدات عن الشخصية الغنية والمثيرة للسلطان عبد الحميد الثاني واتفق العديد ممن كتبوا عنه أنه عُرف بالصمت ودوام التفكُّر والعمل الشاق والبُعد عن اللهو ومداومة الصلاة والأذكار والاحترام الشديد للعلماء والأولياء الصالحين من مشايخ السلوك، كما عُرف بالبساطة الشديدة وكان رائداً في إصلاح الإدارات وقمع الفساد وعمارة الجوامع وتطوير التعليم، كما كان الداعية الأول لوحدة المسلمين تحت علم الخلافة والخصم الأكبر لأطماع اليهود في فلسطين، ويعود له الفضل الكبير في الإدارة المالية الرصينة والمحافظة على أموال الدولة حتى أنه تمكّن في عهده من الوفاء بالقسم الأكبر من ديونها، وساعده ذلك في مقاومة ضغوط الدول الأوروبية التي استخدمت مديونية السلطنة لإضعافها عبر إصدار ما سمي بلغة الصلف الغربي “الإذعانات” Capitulations ثم “التنظيمات” التي استهدفت تشجيع الأقليات التي عاشت بأمان وازدهار طيلة عقود في ظل التسامح المستمر للدولة للتمرُّد عليها.
في ظل تلك الإنجازات المهمة والصمود غير المتوقَّع للسلطان لجأت الدول الأوروبية إلى أسلوبين متكاملين: فهي من جهة قامت بتنظيم حملات إعلامية وديبلوماسية استهدفت تشويه سمعة السلطنة والسلطان نفسه، كما سعت من جهة ثانية إلى زعزعة الدولة العثمانية من الداخل وذلك عبر تشجيع العناصر المتأثرة بالغرب والعلمانية على تسريع جهودها للتخلص من السلطنة والخلافة وتحريض الأقليات المختلفة على التمرد والثورة. وكان الهدف من تلك السياسات إضعاف السلطنة وشل قدرتها على المقاومة وفي الوقت نفسه توفير الذرائع السياسية و”الأخلاقية”، لما اعتبره بعض المؤرخين حربا صليبية متجددة وتهيئة الرأي العام الدولي للتسريع في تمزيق أوصال السلطنة وفي الوقت نفسه إطلاق العنان للهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وكان قدّر السلطان عبد الحميد الثاني أن يكون الشاهد الحي على آخر أيام السلطنة العثمانية التي حكمت قسماً كبيراً من العالم القديم أكثر من ستة قرون متواصلة، كما أنه سيشهد في ما بعد وقبل وفاته في العام 1918 النهاية الفعلية للخلافة الإسلامية التي التي استمرت بلا انقطاع كمؤسسة منذ الخلفاء الراشدين كما كان هذا السلطان العثماني العزيز وقوي الشكيمة الشاهد المتألم على بدايات الاستيطان اليهودي لفلسطين بدعم وتشجيع من الدول الأوروبية ولا سيما بريطانيا.
أمام هذه الهجمة الشرسة حاول السلطان عبد الحميد الثاني بكل ما أوتي من وسائل، تحقيق مجموعة من الأهداف التي بدت شبه مستحيلة ويتطلب العمل عليها بالفعل إرادة فولاذية وحنكة ودهاء وظروفاً مؤاتية، لكن المؤرخين المنصفين شهدوا للسلطان بأنه وعلى الرغم من المخاطر واختلال موازين القوى لصالح الدول الغربية، نجح في استعادة بعض المبادرة وفي وقف التدهور وتحقيق مجموعة من الإنجازات الكبرى وأنه كان بالفعل سلطاناً عثمانياً يمكن مقارنته بالسلاطين العظماء للمرحلة الذهبية للسلطنة، وإن كانت الظروف التي عاش فيها لم تساعد على إبراز الصفات العلية التي تمتع بها وطبعت عهده.
وربما كان أبلغ دليل على النجاح غير المتوقع الذي حققه السلطان عبد الحميد الثاني في تأخير المسار الانحداري للسلطنة هو شعور المفاجأة ثم الاستياء الكبير والسخط الذي أظهرته القوى الاستعمارية في أوروبا طيلة العهد الطويل للسلطان عبد الحميد الثاني والذي لم يتوقع أحد أن يؤدي اعتلاؤه العرش إلى تغيير اللعبة وتجمع مقاومة حقيقية لمخططات الاستعمار الأوروبي. وفوجئت أوروبا بشكل خاص بالعزيمة التي أظهرها السلطان الشاب ثم بكفاءته وتصميمه على الدفاع عن السلطنة وولاياتها وعن دار الإسلام ومكانة المسلمين بصورة أعم. وردَّت الدول الأوروبية بتنظيم أكبر حملة للتشهير الشخصي وتشويه الحقائق في تاريخ المنطقة، حتى بات السلطان الشخصية المفضلة لرسامي الكاريكاتور في الصحف الأوروبية، ولاسيما الفرنسية منها، وجرى استغلال أحداث مثل المذابح بين البلغار المسلمين والمسيحيين لتصوير عبد الحميد بصورة الديكتاتور الأحمق والسفاح المتعطِّش للدماء وأطلق عليه لقب”السلطان الأحمر”أي المخضب بدماء الأبرياء خصوصاً المسيحيين من أبناء السلطنة وكان الهدف الأبعد لتلك الحملات ليس التشهير بالسلطان فحسب، بل الحط من قدر العثمانيين والمسلمين وبدت موجة التعبئة تلك مشابهة لتلك الصور التي تم الترويج المحموم لها في الممالك الأوروبية قبل الحملات الصليبية حول المسلمين “البرابرة” الذين يقتلون المسيحيين، كما أن هذا النوع من الحملات سينفذ لاحقا من قبل الإعلام الصهيوني نفسه وعلى نطاق عالمي لاستدرار العطف وتبرير الزحف اليهودي على فلسطين.
ومما يؤسف له أن هذه الموجة كانت من القوة والتنظيم بحيث طاولت بتأثيرها العديد من رعايا السلطنة ومثقفيها، وخصوصاً أنصار الدعوات القومية والاستقلالية وبعض أقطاب الأقليات المسيحية والمؤرخين وقد كان هؤلاء جميعاً بحاجة الى تبرير دعوات الانفصال عن الدولة الإسلامية وتأييد عمليات التفتيت وفرز الكيانات الجديدة التي وقعت على الفور تحت سيطرة الاستعمار الغربي. وبسبب قوة تلك الحملات، فقد انتشر الكثير من تلك الأحكام الظالمة ورسخ في أذهان العامة كما لو أنها كانت حقائق، بل إن الكثير من آثار تلك الحملة تسلل إلى الأدب وإلى برامج التعليم والصحافة وتمت تربية أجيال متعاقبة من العرب على كره العثمانيين واعتبار الغرب صديقاً مخلصاً أعطى فرصة التحرر والتقدّم لشعوب المنطقة.

هاجس الدفاع عن الخلافة

اهتم عبد الحميد اهتماماً بالغاً بأن يرد للخلافة هيبتها التي كانت لها في صدر الإسلام. وكان سلاطين الدولة العثمانية قد حملوا في القرنين الأخيرين اللقب المزدوج، وهو “الخليفة-السلطان”، وقد أبقى لهم هذا الأمر الولاية الدينية على سكان الولايات العثمانية جميعها حتى تلك التي انسلخت عن الدولة انسلاخاً سافراً ورسمياً أو انسلاخاً مستتراً ومقنعاً باسم الاحتلال المؤقت. واستهدف عبد الحميد الثاني من إحياء الخلافة وإعادة مكانتها، ليس فقط تعزيز الأساس الإسلامي للخلافة وتأكيد الهوية المشرقية للأتراك ولشعوب الدولة، بل أراد أن يتخذ منها قوة دافعة توصله إلى وقف التمدد الغربي في أراضي الإسلام والسلطنة. لذلك حرص على أن يقرن اسمه بالألقاب الدينية التي يقرن بها اسم الخليفة مثل أمير المؤمنين، وخادم الحرمين الشريفين، وغير ذلك. كما أنه فضل أن يكون لاسم “دار الخلافة” الصدارة على الاسمين الآخرين للعاصمة مثل اسطنبول أو الأستانة. وقد نص الدستور الذي أصدره في العام 1876 في مادته الثالثة على تأكيد قيام “الخلافة الإسلامية الجليلة” في بيت آل عثمان.

من أقوال جمال الدين الأفغاني
في السلطان عبد الحميد

رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو مُعدّ لكلِّ هوّة تطرأ على الملك، مخرجاً وسلماً، وأعظم ما أدهشني، ما أعدَّه من خفي الوسائل وأمضى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلاَّ بخراب يعمّ الممالك الأوروبية بأسرها .
ويقول: “أما ما رأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العِدَّة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحُسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني إلى مدِّ يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالماً علم اليقين، أنَّ الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء إضعافها وتجزئتها، وفي الأخير ازدرادها واحدة بعد أخرى، إلاَّ بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم”.

كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من--القتل
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من–القتل

إحياء الخلافة وحماية لغة القرآن

فور اعتلائه العرش أمر عبد الحميد الثاني بقمع كل مظاهر الفجور في الحريم السلطاني قمعاً شديداً، وأحاط شخصه بعلماء الدين وأنشأ معهداً لتدريب الوعاظ وكان يبعث بهم فور تخرّجهم من هذا المعهد إلى أدنى وأقصى بلاد الإسلام لينشروا الأنباء الحسنة عن الخليفة ويشيدوا بورعه ويبشِّروا بحركة الجامعة الإسلامية وإعادة أمجاد الدولة كما كان حالها في صدر الإسلام، كما أعان الصحف لتقوم بدورها في نشر الدعاية له كخليفة وأنشأ المجلات والدوريات، كما كان يوجّه الدعوات إلى زعماء المسلمين وكبار رجال الفكر الإسلامي لزيارة اسطنبول ويستضيفهم رغبة في توثيق الصلات معهم وتعزيز حضوره في العالم الإسلامي.
وبإشراف منه خصصت مبالغ وفيرة جداً لإصلاح المساجد داخل الدولة وخارجها تمكيناً لها من أداء رسالتها، وزيدت مرتبات ومعاشات علماء الدين وموظفي المساجد وأقيمت معاهد ومدارس إسلامية، وأصدر أوامره بزيادة الاهتمام بالأعياد الإسلامية وشتى المناسبات الدينية عند حلولها على مدى العام. وأدخلت المواد الدينية الإسلامية واللغة العربية على مناهج الدراسة في المدارس المدنية للتشجيع على استخدام اللغة العربية في المجالات الثقافية والإدارية. وهذا على الرغم من أن كوجوك محمد سعيد باشا الصدر الأعظم حاول أن يثنيه عن رغبته في جعل اللغة العربية في مركز مساو للغة التركية كلغة رسمية للدولة. وبتوجيه من السلطات منعت الحكومة إطلاق الترجمة الأوروبية للأسماء العربية والتركية على أسماء الشوارع والمباني العامة.

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

كافح باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فانتقم اليهود بأن جعلوا يهودياً يرافق ضبَّاط الانقلاب ويسلِّمه بنفسه قرار العزل

ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني
ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني

 

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

تجربة قصيرة في البرلمانية

ومعروف أن الإصلاحيين بقيادة مدحت باشا كانوا قد اشترطوا لنقل الخلافة إلى عبد الحميد الثاني أن يقوم فور تسلُّمه للملك بإصدار دستور للبلاد يجعل السلطان مقيداً ببرلمان منتخب وبالوزارة. يومها قبل عبد الحميد ذلك الشرط، لكنه على الأرجح لم يكن مقتنعاً بهذا التركيز على الدستور وإدخال البرلمان في وقت كانت القوات الروسية تعسكر على مشارف اسطنبول وكانت معنويات البلاد متدنية جدياً ليس فقط بسبب الهزائم وخسارة معظم الولايات البلقانية، بل أيضاً بفعل الوضع المالي المتردي للدولة، لكن السلطان المحنك قبل بإجراءات الانتخابات التي أنجبت برلماناً سادته المشاحنات والخطب الرنانة، وكما كان متوقعاً فإن بعض النواب بدأوا يتطاولون على السلطان وأركان الدولة والجيش، الأمر الذي اعتبره عبد الحميد الثاني تهديداً لمعنويات الجيش والشعب في فترة حرجة جداً من حياة السلطنة. وانتهى الأمر بتعليق الحياة البرلمانية (وليس الدستور).
ويشير المؤرخون المنصفون إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني لم يكن مستبداً أو معادياً لأفكار الإصلاح، وأنه على العكس نت ذلك كان مقتنعاً بضرورة تحديث النظام والإدارة، لكنه استنتج وفي ضوء ما شاهده من اختبار التجربة البرلمانية أنها فشلت في معالجة التحديات الداهمة التي تواجه السلطنة وأنها على الأقل سابقة لأوانها. وكان السلطان مقتنعاً بقدرته على أن يدفع بنفسه عجلة الإصلاح وأن يدافع في الوقت نفسه عن وجود السلطنة وهيبتها وملكها من دون الحاجة للتعامل مع العوائق الدستورية والنزاعات والانقسامات التي تثيرها أي حياة برلمانية. وفعلياً فقد شهدت الدولة العثمانية على يد عبد الحميد الثاني، وفي ظل صيغة الحُكم الملكي المستنير أو صيغة السلطان – الخليفة، دفعات كبيرة من الإصلاحات لم تشهد لها مثيلاً في أي وقت. وشملت تلك الإصلاحات النهوض بالزراعة وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة خصوصاً مع الولايات المجاورة، وإصلاح القضاء والخدمة المدنية وتأهيل الإداريين والتعليم التقني أو المهني والتعليم العسكري وإنشاء جامعة اسطنبول، والاهتمام بالرعاية الصحية للمواطنين، وتطوير أنظمة المواصلات الحديدية والبرية وتطوير شبكة الاتصالات البرقية والبريدية والبحرية، وإرسال البعثات التعليمية والتدريبية إلى شتى الدول الأوروبية، واستقدام البعثات العسكرية من أوروبا وتعزيز الجيش والأسطول. أضف إلى تلك الإنجازات، تمكّن السلطان عبد الحميد، ونتيجة الإدارة الرشيدة لمالية الدولة، من خفض مديونية الدولة العثمانية إلى حدود مقبولة جداً ولم تعد تشكل عبئاً على كاهل الخزانة. وهذا الإنجاز في حدّ ذاته ساعد الدولة على التحرر من الكثير من الضغوط السياسة عليها، وعزَّز موقع السلطان التفاوضي والديبلوماسي تجاه الدول الغربية.

الخلافة والغزو الغربي

في كل تلك الإصلاحات والإنجازات كان السلطان يتصرَّف كخليفة بالمعنى الإسلامي، وهو وإن لم يصرّح بذلك بوضوح، كان مؤمناً إيماناً حقيقياً بصيغة الخلافة ونظام الشورى. وأظهرت الأيام أن السلطان كان منسجماً مع نفسه وقناعاته عندما التزم جانب الشرع وصيغة الخلافة التي حافظ عليه المسلمون منذ عهد الخلفاء الراشدين، ورفض استبدالها بالصيغة البرلمانية الغريبة عن المجتمع الإسلامي، والغريبة أيضاً عن تركيبة الدولة العثمانية التي كانت رابطة عريضة لأمم وشعوب، بل وأديان، وليست بلداً متجانساً على شكل الدول الأوروبية المسيحية آنذاك.
وكان السلطان بصورة خاصة يشعر بالأسى إزاء ما رآه من انجراف قطاعات من المجتمع العثماني لتقليد الدول الأوروبية والخلط بين الاكتساب المفيد، مثل اكتساب العلوم والتقنيات، وبين التقليد الأجوف الذي روّج له بعض المنبهرين بالغرب، والذي بدأ يطاول تبديل نظام الحياة كله، اللباس والعمارة والأثاث والسلوك، بل وصل الأمر ببعض أنصار الغرب العثمانيين إلى المطالبة بحلق اللحى، بل جعل بعضهم من هذا المطلب معادلاً للإصلاح الدستوري. وسنرى في ما بعد أن مخاوف السلطان عبد الحميد كانت في محلها، لأن هذه النزعات الإصلاحية المتطرفة انتهت فعلاً إلى إنكار التاريخ الإسلامي العريق للدولة العثمانية، خصوصاً خلال حكم أتاتورك، والذي ضمّ خلاصة الفكرة الإصلاحية القائمة على اختيار النموذج الغربي والتخلي عن الإسلام والإرث الإسلامي للسلطنة، ثم قطع الصلة في ما بعد باللغة العربية، بل باللغة العثمانية الكلاسيكية التي كانت زاخرة بالمفردات العربية والإسلامية. وعلى العكس من ذلك كان إيمان السلطان عبد الحميد بالخلافة والرسالة التاريخية لبني عثمان الدافع الأول في محاولته لتعزيز الوحدة بين شعوب الدولة من خلال إطلاق الجامعة الإسلامية والانفتاح على الإصلاحيين الإسلاميين من أمثال: نامق كمال وجمال الدين الأفغاني اللذان سعيا لتطوير الدولة العثمانية من ضمن الحفاظ على الخلافة وعلى حقيقتها الإسلامية. وكان هؤلاء النهضويون الإسلاميون قادرين على تحديد أسباب الضعف الحقيقية للدولة الإسلامية، لكن مع التمييز في الوقت نفسه بين الإصلاحات التي تقوي السلطنة والخلافة، وهي إصلاحات من الداخل وبين الإصلاحات المصممة لإضعافها وهدمها.

تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية
تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية

مقاومة طلائع الغزو اليهودي

ارتبط تحرُّك الجماعات اليهودية باتجاه فلسطين في آواخر القرن التاسع عشر الميلادي ارتباطاً وثيقاً بحالة الضعف التي كانت قد ألمَّت بالدولة الإسلامية الجامعة، التي تمثلت في السلطنة العثمانية وشروع الدول الأوروبية في العمل على تفتيتها والانقضاض عليها. وكان تشجيع الأقليات الدينية المسيحية في الغالب ثم تحريك الأقليات القومية العربية والأرمينية والصربية وبعهدها القومية التركية (الطورانية) وغيرها، أحد الأسلحة الفعّالة التي استخدمتها الدول الأوروبية في تفتيت الإمبراطورية تسهيلاً لتمزيقها وتقاسم امتداداتها الجغرافية التي غطت على الأقل ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.
لم يغب هذا التطور التاريخي عن انتباه الجماعات اليهودية في أوروبا، التي رأت فيه فرصتها السانحة للبدء في تنفيذ حلم راود هذه الجماعات على مدى الزمن، والمتمثل بحلم العودة إلى فلسطين. وقد وضع اليهود أنفسهم في مصاف الأقليات الباقية التي تطالب بحصتها من تركة الدولة العثمانية، وبينما كانت الأقليات الباقية الدينية أو القومية تطالب بالاستقلال السياسي عن السلطنة، فإن اليهود الذين كانوا موزَّعين في القارات وفي بلدان السلطنة رسموا لأنفسهم مطلباً مختلفاً يعكس خصوصيتهم ويلبي أحلامهم، إذ وجهوا اهتمامهم لأن تكون الأسلاب التي يحصلون عليها من تمزيق السلطنة عبارة عن فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وذلك تمهيداً بالطبع لما حلموا بأن يمثل انبعاث الدولة اليهودية مجدداً ووضع حدّ لمرحلة التيه الطويل الذي تعرضوا له منذ الخروج الأخير على يد بابل. وبالطبع ساعدت عوامل إضافية على تحفيز اليهود، وخصوصاً الروس، للهجرة إلى فلسطين مثل الاضطهاد الذي اشتد عليهم في روسيا بعد اتهامهم بالاشتراك في تدبير مؤامرة اغتيال اسكندر الثاني، قيصر روسيا في العام 1881. وقد توجه اليهود الروس إلى فلسطين لأنهم لم يجدوا في أوروبا ملاذاً آمناً بسبب الاضطهاد الذي كان يقع عليهم هناك، وأيضاً بسبب ما كان معروفاً عن بلاد السلطنة من تسامح يتيح لكافة الأقليات القومية والدينية العيش فيها بسلام وتآخٍ.
من جهتها رأت الدول الأوروبية في تشجيع الهجرة إلى فلسطين نوعاً من التملُّق لأثرياء اليهود الذين كانوا يمدِّون خزائنها بالمال ويمارسون نفوذاً متزايداً في الحياة العامة وإسهاماً في تفتيت السلطنة؛ كما وجدت فيه حلاً غير مباشر للتخفيف من ضغط الأقليات اليهودية في بلدانها. ولعبت الإمبراطورية البريطانية في هذا المجال دوراً خطيراً بسبب مبدأ الاستعماري الشهير غلادستون الذي كان يضمر حقداً على السلطنة، وعلى الوجود الإسلامي في أوروبا وغيره من الساسة الانكليز، مثل رئيس الوزراء اليهودي دزرائيلي، ثم اللورد بلفور صاحب الوعد الشهير بتأسيس كيان قومي ليهود العالم في فلسطين العربية.
إن أحد أبرز الأمثلة على شخصية السلطان عبد الحميد ورؤيته السياسية الواضحة لدور السلطنة ومسؤولياتها، هو مقاومته الحازمة لمشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وللتدخلات الأوروبية التي كانت بدأت تضغط لدعم التسلل اليهودي. وعلى الرغم من أن عبد الحميد الثاني كان مدركاً للموقف شبه اليائس للسلطنة، وهو الذي كان يشهد يومياً على التقطيع التدريجي لأوصالها وتناهب ممتلكاتها، فإن ذلك لم يوهنه أو يفت في عضده، إذ استمرت مقاومته لليهود طيلة فترة حكمه الطويل، فأخذت أشكالاً مختلفة وضع فيها عبد الحميد الثاني كل هيبته الشخصية ودهائه، وما كان قد تبقَّى من نفوذ السلطنة ووزنها وقدرتها على المناورة الديبلوماسية لصد التسلل اليهودي إلى فلسطين. ولم يكن موقف هذا السلطان الفذ من هجرة اليهود من منطلق ديني فحسب، بل كان منسجماً مع رؤية متكاملة لرسالة السلطنة ومسؤوليات الخلافة في حماية أرض الإسلام والدفاع عن مقدساته تجاه ما بدا له بمثابة نسخة جديدة من الحروب الصليبية التي تستهدف السيطرة على الشرق وإذلال شعوبه. ومعروف أن السلطان تلقى عروضاً سخية جداً من اليهود وزعمائهم للتضحية بفلسطين العربية، سواء برشوته شخصياً أو بالمساعدة على تسديد كافة ديون السلطنة، لكنه رفضها بإباء واحتقار لأصحابها، بينما كان بعض قادة العرب يرون في ضعف الدولة وتزايد وطأة المؤامرات الأوروبية عليها فرصة للانقلاب عليها بالتعاون مع هؤلاء الأوروبيين طمعاً في ما زيّن في أعينهم على أنه استقلال وعروش، ليتحوَّل بعد ذلك إلى انتداب واحتلال ووصاية ما زالت تبعاتها ماثلة إلى اليوم، وإن تبدَّل الأوصياء حسب المكان والزمان.
لقد كافح السلطان عبد الحميد باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فأصدر فرمانات عدة حدد فيها إقامة الزوَّار اليهود إلى فلسطين وحرّم بيع الأراضي إلى اليهود حتى ولو كانوا عثمانيين، ثم حوّل فلسطين من ولاية إلى متصرفية ليجعلها تابعة مباشرة للسلطان بحيث يمكنه مراقبة ما يجري فيها يومياً، كما منع السلطان إنشاء جامعة عبرية في القدس. لكن على الرغم من كل هذه الجهود كان تسلل اليهود إلى فلسطين يقوى يوماً بعد يوم، وتكثفت الحركة بصورة خاصة تحت قيادة ليون بنسكر الروسي الذي وضع عملياً أسس الاستيطان اليهودي وفكرة الدولة اليهودية بدعم أوروبي قبل أن يتلقف هذه الفكرة السياسي اليهودي تيودور هرتزل ليحوّلها في “مؤتمر بازل 1897” إلى حركة ليهود العالم باتجاه فلسطين.

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

    كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية
كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود
السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

جواب السلطان وانتقام اليهود

معروف أن تيودور هرتزل سعى لمقابلة السلطان عبد الحميد مرتين وأنه عرض عليه في إحداهما رشوة شخصية، إضافة إلى مساعدة اليهود له على الوفاء بكافة ديون السلطنة، مقابل السماح لهم بإنشاء كيان يهودي في فلسطين. وقد سجل هرتزل نفسه في مذكراته هذا الجواب التاريخي الذي بعثه السلطان عبر مساعد هرتزل على النحو التالي:
“انصحوا هرتزل بألا يبذل أي مساع إضافية في هذا الشأن، إذ إنني لا أستطيع التخلي عن شبر واحد من الأرض فهي ليست ملكاً شخصياً لي بل ملك لشعبي، ولقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في جسدي لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرَت من إمبراطوريتي. وهذا أمر لن يكون. إنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن أحياء”.
هذا الرد الحاسم من السلطان عبد الحميد يقدِّم أبلغ الأدلة على أمر أساسي طالما تجاهله بعض المؤرخين العرب، وهو أن التآمر الغربي على الدولة العثمانية لم يكن فقط بقصد وضع اليد على أرض الخلافة الواسعة وتناهبها، بل كان أحد أهدافه تمهيد السبيل لقيام إسرائيل. وبالفعل فإنَّ رد السلطان كان أشبه بالنبوءة، لأنه كان يشعر فعلاً بتكاثف المؤامرات عليه ويعلم بحدسه أن هذه القوى العالمية الهائلة ستنال يوماً من الإمبراطورية، وأن ذلك سيكون بمثابة المقدمة للغزو اليهودي لفلسطين. وقد نالت تلك القوى أخيراً منه عبر انقلاب جماعة الاتحاد والترقي واليهود والماسونية الدولية عليه في العام 1908 ثمَّ عزله في العام التالي. وهي حادثة مؤلمة بصورة خاصة لأن اليهود تعمَّدوا أن يكون بين أعضاء الوفد الذي أبلغه قرار العزل اليهودي قره صو الذي كان حضر مفاوضات هرتزل مع السلطان وعروضه له، كما سمع رفض السلطان القاطع لتلك العروض. وكأن قره صو ومن خلفه أرادوا أن يشمتوا بسلطان المسلمين ليقولوا له لقد رفضت عروضنا وها نحن نسلِّمك قرار العزل لنريك من هو الأقوى. وكان التأثير الماسوني في الانقلاب العسكري واضحاً في الشعارات التي تبنَّاها أبطاله وهي «الحرية، الإخاء والمساواة»، وهي شعارات الحركة الماسونية.
يذكر أن السلطان عبد الحميد تعرّض قبل ذلك، ونتيجة لجهاده، لمؤامرتين يهوديتين: الأولى، سعت إلى خلعه بعد سنتين من توليه العرش؛ وتمت الثانية، والأكثر جرأة بزعامة رئيس المحفل الماسوني سكالييري لكنها فشلت؛ كما دبَّر اليهود مؤامرة لاغتياله أثناء خروجه من صلاة الجمعة عن طريق سيارة وضعت فيها متفجرة، لكن السلطان نجا من الحادث.
يروي المؤرِّخ التركي أورخان محمد علي هذا المشهد المؤلم لخلع السلطان عبد الحميد على النحو التالي: «دخل الوفد مع الميرالاي غالب بك على السلطان الذي استقبلهم واقفاً، وبادره أسعد باشا قائلاً له: لقد أتينا من قبل مجلس المبعوثان، وهناك فتوى شرعية شريفة، إنَّ الأمة قد عزلتك، ولكن حياتك في آمان. فاعترض السلطان على كلمة «العزل»، وفضَّل استعمال كلمة «الحل». ثم تلا قوله تعالى من سورة يس : }ذلك تقدير العزيز العليم{. ثم التفت إلى الوفد مشيراً إلى «قره صو» اليهودي قائلاً: «ألم تجدوا شخصاً آخر غير هذا اليهودي لكي تبلِّغوا خليفة المسلمين قرار الحل؟».

الأرض

أشكـــــــــو إليـــــــكِ ولا أُصغـــــــــي لشكــــــــــــــــــــــــــــواكِ فتغمـــــريــــــن بلطــــــــــــــــفٍ قلبـــــــــــــــــيَ الشاكـــــــــــــــي
تُعطـــــينَ وجهــــــــــَكِ عــن حــــــــبٍّ وعــــــــــــن كَــــــــــــرَمٍ وتشبعـــيـــــــــنَ المـــــــــــــلا مِـــــــــــن خيــــرِك الزاكــــــــــــــي
يـــــا أمَّنـــــــــا الأرضَ، لـــــــــــو تبديــــــــــــــنَ غاضبـــــــــــــةً فالصيــــــــفُ يُشــــــــرقُ حتمــــــــــــاً مــــــــــن نوايَـــــــــــــــاكِ
يــــــا أُمَّنــــــــــــــــا الأرضَ، مـــــــــــا أحـــــــــلاكِ باسمــــــــــةً يـــــــــــجري الجمـــــــــالُ ربيعـــــــــاً مـــــن مُحيـــــــــــــــّــــــاكِ
يــــــا أُمَّنــــــا الأرضَ، مـــــــــــا أغنـــــــــــاك فاضلـــــــــــــــــةً تستــــــــولديـــــــن الغـــنـــــى مـــن طُهــــــــــــرِ أحشــــــــــــــاكِ
ظَفِـــــــــــرتِ بالنـــــــــور مــــــــن شمــــــــسٍ ومـــــن قمـــــــــر ومِـــــن نجــــــومٍ ترامــــــــــــت نحـــــــــــو مرمـــــــــــــــــــــــــــاكِ
وزادَكِ الليــــــــلُ سحــــــــراً، إذ غفـــــــــــــــــوتِ ولــــــــــــــم تستــــــــــــرحْ فــــــــــــي دورةِ الأيّــــــــــــــــــــامِ عينــــــــــــــاكِ
أنــــــــتِ الجمــــــــــــالُ وأنــــــــــــتِ الخيـــــــــرُ أجمعُــــــــــــــهُ والحـــــــــــــــقٌّ والعـــــــــدلُ بعـــــــــضٌ مـــــــــن سجايــــــــاكِ
*****
يـــــــا أرضُ، يـــــا مخـــــــــــزَنَ الأســــــــرارِ، يـــــــا وطنـــــــــاً أعيـــــــشُ فيـــــــــــــــه علــــــــــــى وردٍ وأشـــــــــــــــــــــــواكِ
هنـــــــــــــاكَ سهـــــــــــلٌ وهـــــــــــــــذا ساحــــــلٌ، وهنـــــــــا وادٍ يُســـــــــــــابقُ سفحــــــــــــاً فـــــــــــــوق مجــــــــــــــــــــراكِ
هنـــــــــــاك نبــــــــــعٌ مشـــــــــى نهـــــــــراً، جــــــرى نغمــــــــاً يُحيــــــــــــي التُــــــــــــرابَ ويَــــــــــــروي مـــــــــــــاؤُه فَـــــــاكِ
هنـــــــــــا السهــــــــــــولُ اخضــــــراراً طاب موسِمُهَـــــــــــــــا هُنــــــــــــا الهِضَـــــــــابُ، وصــــــوتُ الريــــــحِ نـــــــــــــــاداكِ
هنــــــــــــا الزهــــــــــــورُ عطــــــــــــوراً والنـــــــدى أمـــــــــــلاً وكـــــــــــــلُّ نبتــــــــــــــــةِ طيـــــــــبٍ فـــــــــي زوايـــــــــــــــــاكِ
هنــــــــــــا الثمـــــــــــــارُ، هنـــــــا الأشجــــــــــــارُ باسقـــــــةً هنــــــــــــا الطيـــــــــــــــورُ صـــــــدىً مــــــن روحِ نجـــــــــواكِ
وذاك بحــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ وآفـــــــــــــــاقٌ ومتّســـــــــــــــــــــــعٌ مــــــن الفضــــــــــــــــاءِ، وجَــــــــــــذبٌ دون أســــــــــــــــلاكِ
النحــــــــــــلُ يجــــــــــــني ويبنـــــــــــــي الشــــــــــــهدَ مملكــــــةً واللهُ مملكـــــــــــــــــــــةَ الإنســـــــــــــــــــــــانِ ســـــــــــــــــــــــوّاكِ
ومثلُـــــــــــــه أنـــــــــــــــــــــتِ، للأكـــــــــــــوانِ مــــــركزُهــــــــا وكـــــــــــــلُّ مــــــــــــا فـــي البــــــــــــَرَايَـا طــــــــوعُ يُمنـــَــــــاكِ
فـــي كـــــــــــــلِّ نبـــــــــــضٍ ولـــــــــــونٍ حكمـــــــــــةٌ لَمَعَــــت مـــــــــن خالــــــــــــقِ الكــــــــــــونِ تَــــــروِي سِــــــرَّ معنـــــاكِ
*****
هويّتــــــــــــي أنـــــــــتِ، عنوانــــــــــي، كيــــــــــــــانُ أبــــــــــي ولــــــــــــونُ وجهــــــــــــي انعكــــــاسٌ مـــــــن مرايـــــــــــــــاكِ
حبّــــــي، سلامــــــي، انتمائــــــي، منــــــــــكِ مُنطلَقـــــــــــي حتـــــــــى أعـــــــــــــودَ إلى أحضـــــــــــانِ مـــــــــــــــــــــــأواكِ
وُلــــــدتُ مــــــن نعمـــــــــــــةِ الرَّحمــــــــــــــــَـنِ، تغمــــــــــــرُني مــــــن تُربَــــــــــــةِ المهــــــــــــدِ حتّــــــــــــَى اللحـــــــدِ كفــّــاكِ
وفـــــــــي رحابــــــــــــكِ أحيـــــــــــــا العُمْــــــرَ مُرتجيــــــــــــــاً وأستمــــــدُّ وُجُـــــــــــــــــــودِي مــــــــــــن عطايــــــــــــــــــــاكِ
وحّــــــــــــدتُ ربــــــــّي، وبالتوحيــــــــدِ قَــــــد مُزجـــــــــت روحـــــــي بروحـــــــــــكِ، مــــــــــــــــا وحّـــــــــدتُ لـــــولاكِ
وقـــــــــــادني فـــــــــي طريــــــــــق المجــــــــــدِ معتَقـــــــــــدي، لـــــــولاه مــــــــــــا صُنـــــــــــتُ مجــــــــــــداً فــــي ثنايـــــــــاكِ
فأنـــــــــــــــتِ لا شـــــــــيءَ مـــن دونــــي، ولســتُ أنـــــــــــا شيئـــــــــــــاً إذا لــــــــــــم تصـــــــــــــنْ عيـــــــنيَّ جفنــــــــــاكِ
*****
زُرعـــــــــــتُ فـــــــــــي تُربَــــــــــــة الأجـــــــــدادِ مؤتَمنــــــــــاً على الثّغــــــــــــور، بثغـــــــــــــــــرٍ ضاحــــــــــــكٍ باكـــــــــــي
هَزئـــــــــــتُ بالـــــريــــــح إنْ هبـــــــــــّت علـــــــى جبلــــــــي ولــــــــــــم تهــــــــــــزَّ الريـــــــــــــاحُ الهـــــــــــــوجُ مبنــــــــــــــاكِ
شـــــــــــدّت جــــــذوري كيــــــانَ العُــــــربِ فـــي بلـــــدي، ومـــــــــــــن تنـــــــــــــوخٍ ومــــــــــــن لَخــــــــــــْمٍ زرعنــــــــــــاكِ
كالسّنديـــــــــــان جذوعــــــــــاً، ليــــــــــس يكســــــرُهـــــــــا غـــــــــــازٍ مـــــــــــن الجـــــــــــــنِّ أو بــــــــــــــــاغٍ تحـــــــــــدَّاكِ
كــــــــــالأرز فــــــــــوق ذرى البــــــــــــاروك منتصِبــــــــــــــــــاً يحكــــــــــــــــي بفخـــــــــــرٍ وإيمــــــــــــــــــانٍ حكايـــــــــــــــــاكِ
كالكـــــــــرم، كالتــــــــــين والزيتـــــــــــــــون، ذا بلـــــــــــــــــــــدٌ حـــــــــــرٌّ أمـــــــــــينٌ، وفـــــــــــي الأديـــــــــــــــــان ذكــــــــراكِ
يــــــــــــــــــــا أرضُ، لا تحـــــــــزني إن داولَـــــــــــــــــــتْ دُوَلٌ، فـــــــــي القلــــــــب تَبقـــــــــــِينَ مهمـــــــا الدهـــــــرُ أدمــــاكِ
إنّــــــــــــــــــا سقينــــــــــــــــــاكِ فــــي التاريـــــخ مـن دمِنـــــــــا وإن عطشـــــــــــــــــــــتِ لأمجـــــــــــــــــــادٍ سقينــــــــــــــــــاكِ
*****
يـــــــــــا أرضُ، إن فُقـــــــــــدتْ منّــــــــــــــا مُروءتُنـــــــــــــــــــا إيّـــــــــــــــــــــــــاكِ أن تَفقــــــــــدي الآمــــــــــالَ، إيّــــــــــــــــــاكِ
فلعنــــــــةُ الديـــــــــــنِ، بعـــــــــــد المـــــــوتِ، تلحقُنـــــــــــــــا، مـــــــــن كــــــــــــــلِّ حبَّـــــــــة تُــــــــرْبٍ، إن غدرنـــــــــــــــــاكِ
ورحمـــــــــــــــــةُ الله للأحفـــــــــــــــــــــــــادِ واصلـــــــــــــــــــــةٌ إن تبـــــــــقِ دومــــــــــاً كمـــــــــا يومـــــــــــــاً ورثنـــــــــــــــــاكِ
يـــــــــــا أرضُ، أنـــــــــــتِ كتــــــــــــابٌ منـــــــــــزَلٌ، قــــــــدرٌ ونحـــــــــن فيـــــــــكِ حـــــــــروفٌ، قـــــــــد كتبنـــــــــــــــــــاكِ
وديعــــــــــــــــــــةُ الله والإســــــــــــــلامِ نحــــــــــــــنُ هنـــــــــــا، مـــــــــن سَالِـــــــــــــفِ الدّهـــــــــــــرِ والأيـــــــــــــامِ جئنــــــاكِ
وأنـــــــــــتِ فينـــــــــــا، مـــــــــــن الأجــــــــــــدادِ، مُودعــــَــةٌ أمانــــــــــــــــــــةً، برمـــــــــوش العــــــــــــــــــينِ نرعـــــــــــــــــــاكِ
إن بِعــــــــتُ أرضــــــــي، إذاً قــــــد بعـــــــتُ مُعتَقـــــــدي، عـــــــــــــارٌ علينـــــــــــــا إذا، يـــــــــــــا أرضُ، بعنــــــــــــــــاكِ
وإن عشقتُــــــــــــكِ، ذا عِــــــــــــــــــــــزٌّ وذا شَــــــــــــــــرَفٌ، وأطهــــــــــــــرُ العشــــــــــــــقِ، حقّــــــــــــــاً، إن حمينــــــــــاكِ
*****
كــــــم عَالــــــــمٍ غــــــــاص فــــي الأعمـــــــاق مُكتشِفـــــــاً! كــــــــــــــم عابــــــــــدٍ عاشـــــــــقٍ قـــــــــد راح يهـــــــواكِ!
كــــــم عامــــــــلٍ صـــــــــــبَّ مــــن أوتــــــــــــاره عرَقــــــــــاً! كــــــــــم زارعٍ فــــــــــــــي الحقــــــــــول السُّمـــــــــرِ غنـــــّاكِ!
كــــــم ثائـــــــــرٍ شـــــــــقَّ صخــــــراً منـــــكِ! كـــــم بطـــــلٍ قــــــــــــــد عـــــــــاش مُستشهــــداً واختــــار لُقيَـــــــــــــاكِ!
لـــــــــــو خيّرونـــــــــــي وحـــــــــــدُّ السيـــــــــف فــي عُنُقـي َبِعــــــــــــــتُ روحــــــــــــــي فـــــــــدىً واختــــرتُ مثــــــــواكِ
ولـــــــــــو بَنـــــــــَوا لــــــــي قصــــــــــــورَ العـــــــزّ من ذَهــــَبٍ بنيــــــــــــــتُ بيتــــــــــــــي سلامـــــــــــــاً فــــي حنايــــــــــــاكِ
*****
يــــــــا أرضُ، مهمـــــــا تغــــــــاوى الشعـــــرُ فـــــــي غَـــــــزَلٍ لا يبلــــــــــــــغُ الوصــــــــــــــفُ بعضــــــــــــــــــاً مـــن مزايــــاكِ
إن كـــــــنـــــــــتُ بالأمِّ قـــــــــــــد شبَّهتــــُــــــــكِ شَغَفـــــــــــاً يظـــــــــــــــلُّ أغنــــــــــــــى مــــن التشبيـــــــــــــــه مغـــــــــــزَاكِ
إن ضمَّــــني صدرُهــــــــا حَيّـــــــــــــــــاً وأنعَشَنــــــــــــــــــــي فلـــــــــــــــن يُطيــــــــــقَ رُفـــــــــــــــاتَ الجســـــــــــــــــمِ إلاّكِ.

العرس القروي

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.

إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

العرس في راشيا وحاصبيا

العرس في راشيا وحاصبيا

حسرة على اندثار العرس القروي وأفراحه

وخروج المجوز والدبكة ومشاركة الناس

يتذكَّر المواطنون في منطقتي راشيا وحاصبيا أعراساً مضت بكثير من الحسرة. كانت المنطقة حتى عقدين ربما من الزمن ما زالت مصانة من منتجات المدنية المعاصرة وغزو الاستهلاك وقيم المباهاة. وكان الناس يتابعون إرث الأجداد في مناسبات الفرح، ويعيشون سعادة حقيقية في العرس القروي، الذي كان فعلاً مناسبة جامعة وفرصة للتعبير عن مشاعر المحبة والتآخي، وتأكيد قيم الرجولة التي يقوم عليها كيان الطائفة عبر الأجيال.
ماذا حدث إذاً حتى تبدَّلت الأوضاع؟ كيف قَبِلَ الناس خروج الدبكة والمجوز والعزيمة وتحدِّي رفع «العمدة”، وأخلوا بدلاً من ذلك بدعاً ومبتكرات، ليس فقط لا علاقة لها بالتراث، بل هي أيضاً مرهقة لأهل المناسبة، وباتت تُشكِّل عبئاً يدفع البعض لتأخير الزواج بانتظار أن يتدبَّر التكلفة فيجرؤ على دخول الميدان.

يتذكَّر الأستاذ نعمان الساحلي، مدير ثانوية الكفير الرسمية، كيف كان العرس مناسبة جامعة فعلاً يشارك فيها حتى رجال الدين الذين كان لهم القسط الأول في إجراء عقد الزواج، لكنهم كانوا أيضاً يتقدَّمون أهل العريس وأصدقاءه في المسيرة نحو منزل والد العروس، لتسير خلفهم مجموعة من الشباب بالحداء والأهازيج والتصفيق يرافقهم العريس والأهل والأصحاب.
كان أصدقاء العريس يأخذونه إلى مكان يُعرف بـ “جرن العريس”،حيث يشذِّب شعره ويستحمّ ليرتدي سروالاً جديداً، وغالباً ما يكون هذا السروال قد لبسه من قبل عرسان سابقون في البلدة، وكانت هذه الاستعدادات تتم على وقع الأهازيج والردّات السائدة آنذاك وتُعرف بـ “الترويدة”:
طلَّت الخيل وطلَّينا بأولها وإن أدبرت الخيل مكسّرها الرجاجيمة
وبعد الإنتهاء من ارتداء العريس لثيابه الجديدة، يقول أحد الشبان ردَّة حداء ما زالت تتردَّد حتى اليوم تقال لشقيق العريس:

فــــــــــــلان كــــــــــرّب عالفــــــــــرس عريسنــــــــــا جهــــــــــازو خلــــــــــص
يـــــا نجــــــوم بــــــي أعلــــــى سمــــا عـــــــــــــالأرض تعملــــــــــو حــــــــــرس
قبل استلام يد العروس كانت عائلتها تأتي بـ “العَمدة”، وهي عبارة عن جرن حجري لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً وتضعه أمام العريس وتطلب منه أن يرفعه، وذلك لإثبات جدارته بالحصول على عروسهم، وتالياً أهليته للتقرُّب منهم والانتساب إليهم بالمصاهرة. وكانت هذه إحدى اللحظات الأكثر دراماتيكية وإثارة في حفل الزفاف، لأنَّ العريس يصبح في داخل حلقة واسعة من الشباب والكبار الذين يترقَّبون قيامه برفع الجرن. فإن قام بذلك علّت الأهازيج وهلَّل الجميع، وخصوصاً وفد عائلة العريس الذين يعتزون بالإنجاز الذي “بيض وجههم”، وعندها يتم تسليم العروس للعريس بكل طيبة خاطر. لكن كان العريس في بعض الحالات يفشل في رفع “العمدة”، وكان ذلك يعتبر نكسة لا بدّ من مواجهتها بسرعة. وكان ذلك يتم عبر التدخُّل الفوري لأحد المقرَّبين منه لإنقاذه من الموقف. وغالباً ما كان العريس غير الواثق من قدرته على التحدِّي يصطحب معه مجموعة من الشبان المعروفين بقوة البأس والذين يكون على أحدهم القيام بهذه المهمة إذا دعت الحاجة، لكن على الشاب أن يكون من عائلة العريس وليس أي شخص آخر. لأن المهم هو المعنى الرمزي لهذا الاختبار لدى أهل العروس، وهو أن العائلة التي تُصاهرنا عندها “رجال” يمكن أن يهبُّوا إلى نصرتها عند الحاجة.

وهل حدث أن تراجع أهل العريس عن تسليم العروس في حال فشل العريس في رفع الجرن؟
نعم، يجيب الأستاذ الساحلي. مضيفاً: “حدث ذلك لكن في حالات قليلة عندما كان أهل العروس يمثلون أسرة عريقة أو ذات عنفوان وبأس، ولم يكونوا لذلك ليقبلوا أن يكون صهرهم العتيد أقل منهم شأناً في ميدان المروءة والفروسية، لأن “الصهر سند الظهر”، كما يقال. كما أن مجتمع الموحِّدين كان يقوم على مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشرف والعِفَّة والبنية الجسدية على اعتبار أن الأسر كانت تتخيَّر في أنسابها القَوي والعفيف، لأنها كانت ترى في ذلك ضمانة الحصول على ذرية قوية وصالحة تنتفع بها الجماعة في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
بعد وصول العروس إلى منزل العريس كان يأخذ بيدها ويبارك له الحضور. وعندها يدعو أهل العريس جميع الحضور إلى تناول الطعام، وغالباً ما كانت أرض الدار هي المائدة، فكان الخوان يوضع على الأرض ويجلس الناس متربعين أو على ركبهم لتناول طعام الفرح، وبعدها تبدأ التهاني ويعقد الشباب حلقات الدبكة ويتبارى بعضهم في غناء المعنّى والعتابا والميجانا. وهذه المشاركة غالباً ما كانت تغذِّي المواهب عند الناس في قول الشعر والمحافظة على تلك العادات. وكان العرس يستمرُّ أسبوعاً كاملاً يبدأ بـ “التعليلة” ليلة الجمعة ويستمر على امتداد الأسبوع، بحيث تشهد كل ليلة حلقات الدبكة والغناء والحداء والفرح على وقع المنجيرة والمجوز، وهي آلة طربية من القصب غالباً ما كانت ترتبط بالرعاة الذين كانوا يسلون أنفسهم بالعزف عليها وسط الطبيعة الخلاَّبة”.

كيف ينظر الأستاذ الساحلي إلى أعراس اليوم؟
يقول متنهداً: “شتّان ما بين الأمس واليوم! لقد زال الكثير من معالم العرس كما كنا نعرفه، وذلك بعد أن بدأ الناس يسيرون في ركب القيم المستوردة وحضارة المادة والتباهي، ويتخلون في سبيل تلك القشور عن العادات الشرقية والعربية، سواء في الشكل أم في المضمون. وقد تحوَّل العرس اليوم إلى حدث باهت لا روح فيه، وحلّت الموسيقى الصاخبة محل حنين المنجيرة وحلقات الرقص العفوي، وحلًت المطاعم بدل الولائم أو العزائم، وحلّ اللبس الغريب وغير المحتشم محل اللباس الراقي للأزمنة السابقة، وأخذت فِرَق الزفة وحركاتها البهلوانية محلَّ حلقات الدبكة الشعبية، وبات الفرح اليوم عبارة عن مهرجان يجلس فيه الناس على الكراسي بلا أية مشاركة أو دور حقيقي في المناسبة.

محمود فارس غزالي، الذي يقترب من عامه الـ 90، يعتبر أن أعراسنا أصبحت مناسبة جوفاء تهيمن عليها المزايدات والمظاهر الفارغة وتُلقي أعباءً كثيرة على كاهل العريس، الذي غالباً ما يرزح بسببها تحت وطأة الدين لإرضاء الناس.
يذكر غزالي كيف كان “جهاز العروس” في الماضي بسيطاً يوضع كله في صندوق يُعرف بـ “صندوق العروس” أو” الصندوق المطعّم”، وقد كان دولاب الثياب (الخزانة) في تلك الأيام غير معروف. وكانت العَمدة (أي تحدي رفع الجرن) هي التي تقرر معدن الرجال وأهليتهم لنيل العروس، بينما أصبح الشخص يأخذ عروسه هذه الأيام لا شروط إلاَّ

شرط أن يكون لديه المال”.
يضيف غزالي أن جميع أبناء القرية كانوا يشاركون بعضهم بدافع المحبة، ولم يكن في المنازل البسيطة سوى إنتاج المنقول ( الزبيب والجوز واللوز والتين) وكانت الهدية هذا النحو، أي من حاضر البيت، فكان أصحاب المواشي المقتدرين مثلاً يقدِّمون للعريس أحد رؤوس الماشية ليصار إلى ذبحها وطهيها لتقدم إلى المعازيم؛ كما كانت الحلوة أو “التحلاية” بعد الغداء من إنتاج البيت (رز بحليب)، أما اليوم فقد أصبحت الهدية من وحي العصر شاملة بذلك الأدوات الكهربائية وصولاً إلى ضيافة البوظة.
من التقاليد المهمة والجميلة التي اندثرت “ليلة النقوط”، النقوط حين كان يصار إلى جمع المال للعريس من قِبَل الحاضرين كلٌّ حسب قدرته مع حفظ سجل بتلك التبرُّعات التي تصبح بمثابة “دين” على العريس عليه أن يوفيه إلى من يتزوَّج بعده من الحاضرين أو من أبنائهم. ومن التقاليد التي ذهبت أيضاً “الشوبشة”، حيث يقوم الأهل والأصدقاء بتقديم المال أو الذهب إلى العروس. أما اليوم، فقد أصبح سيد الموقف رقم حساب العريس في المصرف”.

السيد صالح نوفل، رئيس بلدية الكفير، يضيف القول بأن “نكهة الأعراس” اختلفت كثيراً. فالطبلة والمنجيرة والمجوز تلاشت لحساب آلات موسيقية مستوردة، أو موسيقى معلبة وصاخبة أو مبتذلة، و”هو ما يجعل بلدة الكفير تحنُّ إلى الماضي الذي يكاد يصبح صورة
شاحبة في الذاكرة”.

يقول: “إن المشاركة في العرس أصبحت اليوم رمزية ومن قبيل “المسايرة” أو الواجب، وقد تقلَّص عدد المحتفين، كما تحوّل الحفل إلى حفل لا يلائم مجتمعنا، حتى أننا نكاد نفقد تراثنا الشعبي الذي عاش معنا لمئات السنين”. وأخطر ما حصل في رأس رئيس بلدية الكفير هو الارتفاع الكبير في تكلفة العرس، حيث نرى متوسطي الحال يتماثلون بالميسورين والأغنياء فيلجأون إلى بيع بعض الممتلكات الثابتة لتغطية تكلفة العرس. وهذا الواقع قد يستدعي إقامة أعراس جماعية تساعد على خفض التكلفة.

وختم بمطالبة السلطة الدينية لو تستطيع أن تكبح هذا الإفراط لما لقراراتها من رضى وقبول.

الأستاذ عامر عامر، من الخلوات حاصبيا، يستهجن “دخول الموسيقى الأجنبية إلى حياة الريف”، كما يلاحظ شيوع الاختلاط والكثير من البدع التي جعلت هناك انقساماً في المجتمع أزاء العرس بعد أن كانت المشاركة عمومية، بما في ذلك رجال الدين الذين كانوا يشاركون في حلقة الدبكة”. يضيف القول: “إن المزايدات أدخلت الناس في مرحلة الإفراط، إذ كانت مأدبة الغداء في السابق تقام من حواضر بيت الفلاح وكذلك “الضيافة”، حيث كانت مأدبة الطعام تمدّ أمام الناس على الأرض والكل يشارك. أما اليوم فإنَّ الميسورين الذين يزايدون في تقديم الضيافة والطعام، والكثيرون منهم يهدفون إلى إبراز ثرائهم وكسب الجاه، لكن هذا الأمر ينعكس سلباً على ذوي الدخل المحدود الذين يسعون إلى التماثل بهم”.

السيد حسن مدَّاح الذي ينظّم الشعر ويلقيه بدافع المحبة في المناسبات، وخصوصاً الأفراح، يقول عن أعراس اليوم: “رزق الله على أيام زمان” عندما كان أبناء منطقتنا فلاحين بمعظمهم والإمكانات المادية متواضعة، لأن تلك الأيام كانت تسودها المحبة والإلفة والنخوة. أما اليوم فإنهم يحاولون دفن ذاكرتنا وإخراجنا من ذواتنا وهويتنا”. مضيفاً: “في الماضي كان فرح العريس هو أيضاً فرح الناس، أما الآن فأصبحنا نأتي بمن يفرح عن الناس حيث تقوم فرق الزفَّة بتمثيل ما يفترض أن يقوم به أهل العريس وأصدقاؤه”. وأكد أنه يريد لحفل زفاف ابنه أن يكون على وقع التراث وبمشاركة ومباركة رجال الدين، وأن يسير الناس لجلب العروس على وقع الحدا والحوربة، بعيداً عن هذه البهرجة المزيَّفة والمصطنعة التي تبعدنا عن أصالتنا وتراثنا، لافتاً إلى أن إحدى أهم نتائج تدهور العرس الدرزي الأصيل، هو أننا خسرنا مشاركة المشايخ ومباركتهم للمناسبة، وقد باتوا يتجنَّبون حضور تلك المناسبات لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث، خصوصاً زوال الحياء ومشاهد الفوضى بين النساء والرجال سواء في حلقات الدبكة أو الرقص، ناهيك عن المُسكرات التي لا يتوانى البعض عن تقديمها في المناسبة.
وختم بهذه الأبيات من الشعر:
الأفــــــراح نحن كلنـــــــــا نريدهــــــــا منمشي مثل ما قال عنها سيدها
بدنــــا المشايـــخ بالفـــرح يتدخَّلـــــوا حتــى عوايدنـــا القديمة نعيدهـــا

مجتمع الموحدين.

يوسف إمري

ثــلاث قصائـد لـ يونــس إمــري

شاعــر الحـب والوحـدة الإنسانيــة باللـــه

بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتـــذللاً
تعـــال وانظـــر إلى مـــا نالـــني مـــن أثـــر العشـــق

يحتل الشاعر الصوفي يونس إمري بين الشعوب الناطقة بالتركية مكاناً يكاد يكون مشابهاً للموقع الذي يحتله حافظ الشيرازي. فهذا الدرويش الذي عاش زاهداً كل حياته، كان مفعماً أيضاً بالحب الروحي الذي أنفق حياته في التعبير عنه بأعذب الأشعار. عاش في الأناضول التركية في القرن الثالث عشر الميلادي وذاع صيته وأصبح لشعره الرقيق واختباره الروحي وتمجيده للوحدة الإنسانية والحب تأثير كبير على الثقافة التركية، بل والعالمية إلى يومنا هذا.

وبسبب شهرته وأثره في الأدب التركي والعالمي تحول يونس إمري إلى موضوع لندوات ومؤتمرات عالمية تبحث في شعره وفلسفته ولغته الشعرية، وأدخلته منظمة اليونيسكو ضمن قائمة أعظم الشخصيات الثقافية في العالم، بل وأعلنت العام 1991 «السنة العالمية لـ يونس إمري» وتمت ترجمة أعماله إلى لغات عدة حول العالم.

على الرغم من الشهرة التي يحظى بها اليوم، فإن حياة يونس إمري يحيط بها الغموض، وكل ما يُعرف عنه أنه كان درويشاًَ سائحاً في الأرض قبل أن ينضم إلى  مجموعة من الدراويش وجد بينهم المرشد الكامل الذي يرقيه في مراتب المعرفة. ويقال إن إمري أمضى عقوداً طويلة في خدمة الدراويش عبر قطع الحطب وجبله إلى الزاوية على سبيل العبودية لله. وبسبب حياته البسيطة حتى وفاته فإن الكثير من وقائع حياته وتجربته بقيت غير معروفة، وحلت محلها بعد ذلك مجموعة كبيرة من القصص والأساطير التي رفعت الشاعر إلى مرتبة القداسة وحاكت القصص الكثيرة والغريبة أحياناً التي استهدفت إظهار مكانته الجليلة لدى أهل الأناضول التركية وما نسب إليه من عجائب وكرامات. هناك قصة عن لقاء إمري بشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي وانبهاره الشديد، لكن ليس معروفاً إن كان إمري اتبع طريقة ذلك الشاعر، وإن كان مؤكداً أنه اتخذ له شيخاً ومرشداً.

وصف نفسه يوماً بهذه الأبيات:
أنا يونس إمري درويش الأحزان
أثخنتني الجراح من الرأس وحتى الأقدام
بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتذللاً
تعال وانظر إلى ما نالني من أثر العشق
يتّسم شعر إمري بفلسفة تشدد على وحدة البشر والحب الإنساني وتشكو من التفرقة والتأثير السلبي للتعصب، بل إنه يفرق في شعره غالباً بين دين الحب والوحدة الإنسانية في الله وبين أولئك الذين يحكمون على الآخرين ويفرقون بين الناس باسم اختلاف العقائد، لأنهم لا يفهمون حقيقة الإيمان ويتعلقون بظاهره فحسب.
في ما يلي ثلاث قصائد لـ يونس إمري منقولة عن الترجمة الانكليزية للنص التركي:

إبحث عنه في داخلك

إن عزمت على أن تمسح
كل هذا الصدأ عن القلوب
فقم بنشر هذه الكلمات
فهي بحق مختصر الحياة

«من لا يرى
شعوب الأرض كلها كخلق واحد
هو عاص لله حتى ولو رأى فيه
بعض أهل الورع قديساً»

أصغي أيضاً, فإن لي رأياً
في ما يسمونه الشرائع والقانون
الشرائع سفينة
والحقيقة هي البحر

مهما كانت ألواح السفينة
سميكة ومتلاصقة
فإنها لا بدّ ستتحطم وتتبعثر
إن هاج البحر وماج

جنوني هو عشق الحبيب
وحدهم المحبون يدركون مغزى كلامي
الإثنينية يجب أن لا تكون
الله وأنا العبد يجب أن لا نعيش متفرقين

الله يتخلل هذا العالم الكبير
لكن حقيقته سر مخفي على الجميع
إن أردت البحث عنه فأنظر في داخلك
فأنت لست كياناً منفصلاً عنه

لست بناظر لدين أحد من الناس
كما لو كان خصماً لاعتقادي
والحب الحق لا بدّ أن يسود
عندما تتحد العقائد كلها في الحقيقة الكاملة

الناس أطلقت عليّ اسم «الصوفي»
لكن لي مع ذلك عدوّ: الحقد
ليس في قلبي كدر أو كره لأحد
لأن هذا الوجود في نظري واحد

عندما يختبر الإنسان

الحب الحق
لا بدّ سيترك التعصب
للعقائد وروابط الأوطان

وأنتم لا تنفكون عن التذكير بالعقائد
وتدعون الناس إلى ما تسمونه النعيم
وماذا في النعيم. بضعة حوريات؟
أقول الحق: ليس هذا مرادي

رباه
لم كل هذا القدر من الكلام
وما الحكمة من كل هذا الجدل
حول حفنة من تراب؟

كلمــــة واحــــدة

في إمكان كلمة واحدة أن تضيء
وجه رجل يعرف معنى الكلمات
الكلمة التي تنضج في عالم الصمت
تختزن قوة كبيرة على الفعل

الحرب يمكن وقفها بكلمة
وهناك كلمات تداوي الجراح
وكلمات يمكنها أن تبدل السم
إلى عسل مصفى

دع الكلام ينضج في داخلك
ولا تدع مجالاً للخواطر المرتجلة
هلم وافهم ذلك الكلام
الذي يحول المال والثروات إلى تراب

اعلم متى يمكنك النطق
ومتى يتعين عليك الصمت
كلمة واحدة تقلب سعير جهنم
إلى جنات ثمانية

اتبع طريق القوم ولا يغرنك
كل ما تعلمته في السابق وكن يقظاً
فكِّر قبل أن تنطق
فلسان الحمق قد يدمغ روحك بالسواد

يونس! قل الآن شيئاً أخيراً
عن قوة الكلمات:
فقط كلمة «أنا»
تقطعني عن الله

الإنسان الحقيقي

لن تكون إنساناً حقيقياً على الطريق
إن لم تكن بسيطاً متواضعاً
وإن نظرت باستعلاء إلى أي مخلوق
فسيتم دفعك إلى أسفل الدرجات

إن ارتفعت نفسك فإنك سترفع بعيداً عن هذا الطريق
لا فائدة من كتم ما أنت فيه
لأن ما في جوفك يظهر لا محالة في سيمائك

حتى ذلك العابد ذو اللحية البيضاء
ذلك الذي يُظهر الحكمة في محيّاه
لو تجرأ فكسر قلب إنسان
ما الفائدة من حَجِّه إلى مكة؟
إن كان عديم الرحمة
فما الغاية من وجوده؟

قلبي هو عرش المحبوب
والمحبوب هو مقصود قلبي
كل من يكسر قلباً لإنسان
فلن يجد طريقاً إلى الله
لا في هذا العالم
ولا في غيره

الذين يعرفون لا يتكلمون إلا نادراً
لكن الضواري منهمكة دوماً بسيل من الكلام
كلمة واحدة تكفي من في قلبه العلم الحق

إن بحثت عن المعنى في الكتب المقدسة فهو ذا:
كل ما كان نافعاً لك تقاسمه مع غيرك

كل من يأتي إلى هذه الدنيا يهاجر منها
وكل من شرب خمر الحب يفهم قولي

يونس! لا تنظر باحتقار إلى هذا العالم

أبق ناظريك مسمرتين على وجه الحبيب
لأنك عندها لن ترى الصراط
في يوم الحساب العظيم

ثقافة و آداب

يوسف إمري

ثــلاث قصائـد لـ يونــس إمــري شاعــر الحـب والوحـدة الإنسانيــة باللـــه بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتـــذللاً تعـــال وانظـــر إلى مـــا نالـــني …

ما برحت “الدار التقدميّة”، ترفعُ رسالة الثقافة والمعرفة والتراث، وتوسّعُ الاختيار ليشمل جميع أبوابِ المعارف. وما زالت تُخرّجُ كتُبَ الفِكر، والسياسة، والأدب، …

لماذا يلهثُ المُدخِّن؟ ولماذا يُقلع البعض ثمَّ يعودون؟كثيراً ما يطرح السؤال: كيف يمكن لأيِّ إنسان عاقل أن يُدخل إلى رئتيه كلَّ يوم …

أعادت الأحداث الأخيرة في المدن الفلسطينية المحتلّة القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد. وتصدرت أخبار الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الإنسانية لشعب فلسطين الصحف …

هل يعقل أن يعرف الطالب طول نهر الميسيسيبي، ولا يعرف شيئاً عن الساقية أو الينبوع في وادي قريته؟ ما هي مسؤوليات المدارس …

في ظلِّ الفراغ الروحي المتعاظم أو الآخذ بظاهر الدين من دون لبِّه وجوهره الحقيقي، لا بُدَّ لـ “مجلة الضُحى” من لعب دور …

في إطار الملف الخاص حول الموحدين الدروز والارض، ننشر هنا مع بعض التصرف فصولاً من دراسة مهمة وحديثة أعدّها مجلس الإنماء والإعمار …

Everyone is looking to lose weight these days, but most people miss the one key to just how easy it really is: eating more fiber! While you need protein, healthy fats, and many vitamins and minerals for overall health, the one food that can help you stay fuller longer and keep your weight down is fiber-rich foods.

بيارق العز هذا نص القصيدة التي ألقاها الدكتور عبدي صياح الأطرش في احتفال جمع بيارق جبل العرب في صرح المغفور له سلطان …