الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

اعتناقُ التَّميّزِ

عندما ننظر بتمعُّن شديد وعبر مراجعة استراتيجيّة لواقع منظّماتنا العربية تحديداً، نجد أنّنا بحاجة لعملية استراتيجية متكاملة من عملية المراجعة الدقيقة للظروف التي توقف عملية التوجّه المتسارع؛ ليس فحسب لمواكبة التطوّرات العالميّة في العلوم والمعارف والنهضة، بل والمنافسة في تلك العملية وصولاً للرّيادة والتّتويج الحضاري.

إنّ من أبرز سمات التطوّرات الرّاهنة الحالية هي تنامي التطورات في المعارف الإنسانيّة، وما ترتب على ذلك من تبنّي ثقافة التغيير المستمر في أساليب أداء الأعمال، لمواجهة الطموحات المتنامية للمؤسسات بأعلى درجات ومعايير الجَوْدة الشاملة، الأمر الذي يستوجب على قيادة المؤسسات العربية أن تقوم بعمليات سريعة من أجل التحليل والتطوير المستمر، وإعادة هندسة نُظُم الأعمال القائمة ونماذجها، إضافة للتنمية المستمرة للموارد البشرية، لمواجهة عمليات التّحسين والتطوير والتكيف مع التحديات الواقعة، ولن يتأتّى ذلك إلا بالتوجّه نحو التميُّز كأسلوب حياة. وهكذا نجد أنّ اعتناق التميُّز ضرورة من ضرورات التطوير الإداري في مؤسساتنا العربية لرفع مستويات الأداء والكفاءة من خلال توافر مقومات عدّة أهمّها توافر الخطط الاستراتيجية، ووجود منظومة متكاملة من السياسات التي تحكم وتنظّم عمل مؤسّساتنا، واعتماد المرونة، والعمل وفق نظام متطوّر للجَوْدة، نظام متطوّر لتنمية الموارد البشرية.
إن تَبنّي التميُّز كأسلوب حياة هو بمثابة منارة الخلاص من كلّ الأزمات والأمراض التي تعصف بمنظّماتنا العربية، لنصل إلى مرحلة النهوض الحقيقية وتخطي الصعوبات وإحداث تفوّق وتطوير في الأداء للوصول إلى القدرة على البقاء والمنافسة في بيئة تتحول فيها الأساليب والاستراتيجيّات وتتطوّر التكنولوجيا وتتغيّر فيها العمليات بسرعة.

عندما ترتقي الأمم وتعتلي منصّات التّتويج الحضاري في مختلف ميادين الحياة؛ نعرف جيداً لحظتها أنّ هناك منظومة عمل متكاملة، أسّست لهذا التميّز كأسلوب حياة، وبذلت جُهداً نوعيّاً احترافيّاً في ميادين العلوم المختلفة وعبر عمل متواصل وجهد مخطّط دقيق. إننا نقصد باعتناق التميّز كأسلوب حياة في المؤسّسات العربيّة هو الوصول لحالة من التفرّد والتفوّق في مجال العمل وظهوره بالصّورة التي تميّز المنظمة وتُبرزها وتُعلي شأنها بالنسبة للمنظّمات الأخرى، وهذا الأمر يحتاج إلى توافر مقوّمات رئيسيّة ضمن هذه العملية الهامّة، حيث إنّ وجود تنظيم فعّال تسوده روح الفريق، والابتكار، والمبادأة، والمنافسة بحيث يشعر كل فرد من الأفراد العاملين بأنّ المنظّمة مُلكًا له. إنّ هذا الشعور يدفع العاملين إلى بذل طاقاتهم وجهودهم كافة وإعطاء كلَّ ما لديهم من أجل تميُّز المؤسّسات وتفوّقها.

إنّ هذا المنظور الشامل يجب أن يدفع مؤسّساتنا العربيّة إلى الارتقاء بمستوى أدائها لتمكينها من مواكبة التطورات المتلاحقة، وتعزيز قدراتها على تطبيق مفاهيم إدارية حديثة تشجع روح الإبداع وإطلاق المَلَكات والقُدرات لبناء ودعم استراتيجية التميّز كأسلوب ومنهج حياة متكامل، حتى يتم إحداث نقلة نوعيّة وحقيقيّة في مستوى أداء تلك المنظمات، من خلال توفير حافز معنوي وظروف عمل تشجّع التعاون البنّاء وروح المنافسة الإيجابيّة في القطاعات المختلفة، ونشر مفاهيم التميّز والإبداع في مختلف النواحي والجوانب، وتحسين الإنتاجية ورفع الكفاءة وترشيد الإنفاق وتقديم خدمات عالية المستوى. عبر هذه الرّؤية تتّجه مؤسساتنا العربية إلى السير على خُطى الرّيادة والمنافسة والنهضة وصولاً إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية عبر فضاءات التميّز والإبداع، كذلك سعيها إلى استكشاف الطاقات الإبداعية، ودعم الأفكار والمشاريع الخلاّقة، وتكريم المتميّزين، وإبراز النماذج المُشَرّفة، ما من شأنه تعميم الفائدة ونشر ثقافة التميّز كأسلوب حياة.

إنّ تبنّي فلسفة التميّز كأسلوب حياة هو استجابة منطقيّة للعديد من التغيّرات الاجتماعية والثقافية والسياسيّة والاقتصاديّة والتقنيّة والتي فرضتها التحدّيات الداخليّة والخارجيّة للواقع المعاصر، حتى يتمّ تعزيز القدرات التنافسيّة ومواكبة المستجدّات والتطوّرات العالميّة في القيادة والتخطيط وتحسين جَوْدة الخدمات والموارد البشريّة، إنّه الاختيار المهمُّ الذي لا بدَّ منه لمواجهة تحدّيات البيئة الرّاهنة.

الانتدابُ الفَرنسيّ وحلُّ المسألة السوريّة

حاول اللّبنانيّون الانفصاليّون، قطع الطريق على أيّ اتّفاق سوري فرنسي يعيد الأقضية الأربعة للسّيادة السوريّة، فبادروا إلى طرح مشروع دستور على المجلس التشريعي، فيه تثبيت لحدود لبنان كما أقرّتها سلطة الانتداب زمن الجنرال غورو، فطلبت الحكومة السوريّة من المفوّض السامي عدم الموافقة على الدستور، لحين انتهاء المفاوضات بين لبنان وسورية حول الحدود المُشترَكة بين البلدين، ولمّا وافق على ذلك الطلب، ثار اللّبنانيون عليه، فتراجع ونشر الدستور اللبناني المُقدَّم في ١٩٢٦.  لقد أدّى نشر الدستور اللبناني إلى استياء السورييِّن، فعادت الثورة واشتدّت في جبل الدروز، وامتدّت إلى باقي المناطق السورية.  استقال وزراء الكتلة الوطنية الثلاثة، فجرى اعتقالهم وإرسالهم إلى المنفى.  لم يستطع المفوّض السامي تقديم تنازلات للحركة الوطنية السورية، بسبب تعنُّت الحكومة اليمينية في فرنسا، التي رفضت الاعتراف بأنَّ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان مؤقَّتاً، فلجأت الكتلة الوطنية مُمثّلة بالأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري إلى تدويل المسألة السورية عن طريق توجيه مذكّرة إلى لجنة الانتداب في جنيف في ٧ حزيران، لم تلقَ تلك المذكّرة استجابة لدى عصبة الأُمم.  غير أنَّ تغيّر المُعطيات الدوليّة بعد ذلك التاريخ نتيجة تداعيات الحرب العالميَّة الأولى على العلاقات الدولية، ومُناخات الأزمة القادمة على أوروبا، جعلت حكومة باريس تقبل التفاوض في جنيف مع الأمير شكيب أرسلان وميشال لطف الله وإحسان الجابري، لوضع حدٍّ للثورة السورية، ولكن المفاوضات ما لبثت أن فشلت بضغط من اللّوبي الاستعماري في فرنسا، فقدَّم المفوض السامي دي جنوفنيل استقالته، وخلفه في منصبه هنري بونسو، الذي كانت في مقدَّمة أولويَّاته القضاء على الثَّورة السوريّة، وإيجاد حل للمسألة السورية في ضوء مصالح فرنسا في سورية ولبنان(١).

وبين عامي (١٩٢٦-١٩٣٦)، كانت السياسة الفرنسيّة يتنازع موقفَها من حلِّ المسألة السورية رؤيتان: الأولى – تُمثِّل وجهة الحكومات اليمينية، والتي عبَّر عنها بوضوح مندوب المفوَّض السامي في دمشق (بيار أليب).  والثانية – وجهة نظر فريق المعتدلين ممثّله بالكولونيل كاترو رئيس دائرة الاستخبارات.  وقد وقف الأوّل موقفا “معارضاً” من السياسة التي كانت الحكومة الفرنسية قد رسمتها، بإقامة نظام ديمقراطي تمثيلي في البلاد، مُعتبِراً أنَّ الشعب السوري الذي خسر الحرب، لا يستحق منحه فرصة لكسب السلام، بل كان يدعو إلى استعمال القوَّة في إخضاع رجال الحركة الوطنية أو كسبهم عن طريق المال والوظائف.  أمّا وجهة نظر الفريق المعتدل فكانت تقول بأنّ فرنسا قد أضاعت على نفسها فرصة نادرة لكسب سورية يوم ميسلون لو أنَّها لم تدخل دمشق حرباً؛ وتبنَّت مواقف الاتّجاه السوري الوحدوي، عندها كان من المُمكن تحقيق الوحدة السوريّة لمصلحة فرنسا، ويكون احتلال دمشق عملاً “تحريريًّا”(٢).

هنري بونسو

تبنَّى المفوّض السامي الجديد بونسو وجهة النّظر الثانية، ونقلها معه إلى باريس. تجاوبت الحكومة الفرنسيّة معها، وفوّضته في أوائل ١٩٢٧، لوضع معاهدة تحالف مع سورية، وكان لتلك المساعي أثر طيِّب لدى السورييِّن فتوقفت الثورة المسلّحة. وكُلِّف الشيخ تاج الدين الحسني (١٥ شباط ١٩٢٨) بتأليف حكومة مؤقَّتة، لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً للبلاد، كما أصدر بونسو عفواً عن بعض السياسيين، وقام بإلغاء حالة الطوارئ، وقد جرت الانتخابات فعلاً، وفاز بها رجال الكتلة الوطنية (٣). وفي ٩ حزيران، اجتمع المجلس التأسيسي السوري، ووضعت اللَّجنة المختصَّة برئاسة إبراهيم هنانو، مشروع الدّستور، مُعْلنة أنَّ سورية دولة مستقلّة وذات نظام جمهوري، وأنّ الأمّة وحدها هي مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية.  وقد نصَّ المشروع على مادّة تؤكّد بأن البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية وحدة سياسية لا تتجزّأ، ولا عبرة لكلّ تجزئة طرأت عليها بعد نهاية الحرب؛ الأمر الذي أثار احتجاج اللبنانييِّن، فاغتنم المفوَّض السامي الفرصة طالباً تعديلها وإلغاء خمس مواد أُخرى تتعارض مع نظام الانتداب، وردَّ أعضاء المجلس بأنّ وضع الدستور هو من حقِّهم وحدهم.

اقترح المفوَّض السامي حلًّا وسطاً على هاشم الأتاسي بالنّص على أنَّ أحكام هذا الدستور لا يجوز أن تخالف التعهُّدات التي قطعتها فرنسا على نفسها، فرفض السوريون هذا الاقتراح، وطلب رجال الكتلة الوطنيَّة الإبقاء على الدستور كما هو عليه، والدخول في مفاوضات حول المعاهدة مع فرنسا.  رفض بونسو هذا الاقتراح، واتَّخذ قراراً في شباط ١٩٢٩ بتعليق اجتماعات المجلس التأسيسي، وقام بمعاونة حكومة الشيخ تاج الدين الحسني بوضع دستور جديد للبلاد جاعلاً من الانتداب السّلطة العليا، فقوبل باستياء شعبي شديد.

حمل الوضع المُضطرب في سورية ولبنان من سياسات الانتداب واقتراب خطر الحرب على أوروبا نتيجة صعود الحكومات الفاشية الحكومة الفرنسية على الطلب من مفوضها السامي دي مارتيل مفاوضة الأحزاب الوطنية في أمر إنهاء الانتداب، والتفاوض على معاهدة حول ذلك.

هاشم الأتاسي

في ٤ نيسان شُكِّل الوفد السوري المفاوض برئاسة هاشم الأتاسي.  كان هناك اتفاق حول كلّ المسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلّا أنّه كان هناك خلاف حول مسألة الأقلِّيّات، إذ أصرّ الفرنسيّون على ادّعاء حمايتها، ورفض السوريون الاعتراف بهذا الحق، وكادت المفاوضات أن تفشل لولا صعود وفوز الجبهة الشعبيَّة وتشكيلها الحكومة الفرنسية الجديدة، والتي قبلت التوقيع على نصّ المعاهدة في أيلول ١٩٣٦.  اعترفت فرنسا بموجبها باستقلال سورية ووحدة أراضيها؛ الأمر الذي شجّع اللبنانييّن على المطالبة بإنهاء الانتداب، بموجب معاهدة مُماثلة مع فرنسا، وانتهت المفاوضات بين الجانبين، بالتوقيع على المعاهدة في بيروت بتاريخ ١٣ تشرين الثاني سنة ١٩٣٦. استغلَّت تركيا مناسبة إعلان فرنسا عزمها على إنهاء الانتداب على سورية لمطالبتها بإعلان استقلال لواء اسكندرون، بمذكّرة صادرة عنها بتاريخ ١٧ تشرين الثاني ١٩٣٦، ولمّا لم تلقَ تجاوباً، لجأت إلى عُصبة الأُمم، وقد لقيت هناك دعم بريطانيا التي كانت حريصة على استرضاء الأتراك مع اقتراب نُذُر الحرب على أوروبا، فتمَّ الضغط من قبلها على الحكومة الفرنسية، لقبول التفاوض مع الأتراك حول لواء اسكندرونة.  كانت مزاعم تركيا باطلة في كل الأوجه، ورغم ذلك رضخت فرنسا لضغوط حليفتها بريطانيا، ووافقت على إعادة تعديل الحدود بين سورية وتركيا (٤).

لم تصادق فرنسا على اتّفاقية ١٩٣٦، لتحلّ المعاهدة محلّ الانتداب برغم مضي مهلة الثلاث سنوات المنصوص عليها في المعاهدة، بسبب المعارضة البرلمانية اليمينية للاتفاقيّة؛ الأمر الذي منع الحكومة الفرنسيَّة من تقديمها إلى البرلمان والمصادقة عليها، وحين فقد الاشتراكي ليون بلوم السلطة سنة ١٩٣٧، هاجم اللوبي الاستعماري الاتفاقية، إذ كانت الرّغبة الفرنسيّة بالبقاء في سورية أقوى من الخروج منها، أوّلاً: حمايةً لمصالحها الاقتصادية، وثانياً؛ لمنع انتشار العروبة إلى شمال أفريقيا.

وبين عامي (١٩٣٦ – ١٩٣٩) أثارت التعديلات التي قبل بها رئيس مجلس الوزراء جميل مردم على معاهدة ١٩٣٦ خلافات شديدة داخل حزب الكتلة الوطنية من ناحية، وأدَّت إلى صراعات حادَّة داخل الحركة الاستقلاليَّة في سورية بين حزب الكتلة الوطنية بقيادة جميل مردم، وحزب الشعب بقيادة عبد الرحمن الشهبندر من ناحية أخرى انتهت باغتيال الدكتور الشهبندر في ٦ تموز ١٩٤٠ بدمشق (٥).

كان لاندلاع الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩ نتائج عميقة على مصير سورية، فالحرب غيّرت البلد، إذ مهَّدت الطريق أمام الاستقلال عن فرنسا.  وقد سمح الحضور البريطاني القوي فيها أثناء الحرب، بترك هامش مناورة أمام الحركة الاستقلاليّة، عدَّل في ميزان الصّراع مع فرنسا لمصلحتها.

أدّت هزيمة فرنسا واحتلال باريس سنة ١٩٤٠ من قِبَل ألمانيا، وتعيين الجنرال إنري دنيتز الموالي لحكومة فيشي مندوباً سامياً على سورية ولبنان، وتقديمه الدّعم لألمانيا أثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني ضدّ بريطانيا في العراق عام ١٩٤١، إلى احتلال سورية من قبل القوّات البريطانيّة بالاشتراك مع قوّات فرنسا الحرّة، الأمر الذي صعَّد العداء بين الطّرفين؛ حيث كانت بريطانيا تصرُّ على أن تمنح فرنسا سورية استقلالها، بينما الجنرال ديغول كان يريد البقاء فيها، واستعادة فرنسا مكانتها العالميّة كقوّة استعماريَّة.

بعد تحرير فرنسا سنة ١٩٤٤، حاولت الضغط على سورية ولبنان للتوقيع على معاهدات معها، فلمّا قوبل طلبها بالرّفض، حرّكت قوَّاتها الخاصة الأمر الذي فجَّر التظاهرات في دمشق وبيروت وانتشرت الأعمال المُناهضة للفرنسييِّن في جميع مناطق سورية، فردَّ الفرنسيُّون على ذلك بقصف مدينة دمشق وتدمير البرلمان السوري في ٢٩ أيار عام ١٩٤٥، ونتيجة الضّغوط الدوليّة على فرنسا، انسحبت القوَّات الفرنسية من سورية في ربيع ١٩٤٦، وما أن حلَّ شهر آب حتى انسحب الفرنسيُّون من لبنان.


المراجع:
  1. ستيفن لونغريغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، دار الحقيقة ص٢١٨ – ٢٢٤.
  2. عادل إسماعيل، السياسات الدوليّة، ج٥، ص117 – ١٢١.
  3. ستفين لونغريغ، تاريخ سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، دار الحقيقة، ص ٢٣٠.
  4. د.حسام النايف، لواء اسكندرون، حكاية وطن سُلِب عنوة، وزارة الثقافة السورية، ص١١٨.
  5. فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، ص٦٢٣ – ٦٤١.

فاجعة ظهر البيدر

حطّت بنا الطائرة القادمة من الرّياض في مطار دمشق، لأنّ مطار بيروت كان قد توقّف عن العمل بعد اجتياح العدوّ الصّهيوني في 5 حزيران عام1982. ركبت في تاكسي Volvo، باتجاه بيتي في رأس المتن – لبنان. وبقيت الأمور عاديّة حتى اقتربنا من الحدود، بعدها صرنا نسير على بساط ثلجي عادي حتى وصلنا شتورة.

كان الشاب السوري السائق لطيفاً معي، فتوقّف في استراحة حيث أكلنا وشربنا. ونحن نصعد سيارة الـ Volvo، توقّف بجانبنا سائق تاكسي لبناني يقود سيارة مرسيدس 180 وقال: «بدأت الطريق في ظهر البيدر مستحيلة على السيارات غير المجهزة بالسلاسل المعدنية… بصعوبة وصلنا.أنا ذاهب إلى الشام… فلنكسب الوقت ونتبادل الركاب». رد الشابّ: «الأخ رفيق مكارم مسؤوليّتي… كما يقرّر هو، يذهب معك، ينام في فندق هنا، أو يعود معي لدمشق». وكان عبد الحليم، صاحب التاكسي اللبناني مُقنعاً بكلامه وصراخه، فأقنعني وسلكنا إلى ظهر البيدر، على أمل الوصول إلى رأس المتن. لكن هدوء السائق السوري عوّضه عبد الحليم بصراخه وأخباره ومسجلته العتيقة الأغاني… كان يبتسم ويقطع الكلام عندما افتح النافذة وأجلب الثلج عن الزجاج، حتى وصلنا ظهر البيدر بصعوبة. آخر «طلوعات ظهر البيدر» كان هناك حاجز للجيش السوري (مكان حاجز الدرك اليوم)، لا وجود للعسكر اللبنانيين يومذاك إلاّ في بيروت الغربية حيث قوات المارينز الأميركيين وقوات متعددة الجنسيات.

ما أن وصلنا الحاجز حتى تباطأ سير السيارات وزادت سماكة الثلج، ورأيت جدراناً بيضاء خلّفتها الجرافة خلفها. وعندما فتح عبد الحليم نافذته عرفنا مدى اشتداد العاصفة. وبطريقته البيروتية، سأل عبد الحليم العسكري على الحاجز: ماذا يحصل؟ أفاده الجندي، أنتم تسيرون خلف الجرافة وهي بطيئة، والعاصفة اشتدت وتتراكم الثلوج بسرعة، عودوا إلى شتورة أفضل. لكنّنا أكملنا حتى توقفت الجرافة. لا نعرف لماذا، وتوقف السير. انتظرنا دون جدوى، ثمّ خرجنا من السيارات لنكتشف أنّنا في الجحيم.

كنّا بصعوبة نتنفّس، ابْيَضَّ شارباي من تراكم الثلج، وتجمّد، رذاذ الثلج كالملح في العيون، والرؤية لا تتعدى المتر الواحد. تمسكت بشاحنة متوقِّفة، كانت العاصفة تسحبني بقوّة فلم أستطع.

بصعوبة أدرنا السيارة باتجاه شتورة لنعود، وكلّمنا الشباب على الأرض ليتبعونا… صعُب عليهم برم السيارات بالاتّجاه المعاكس لسيارتنا المجنزرة

أكملنا… وأمامنا سيارتان فقط… وقبل أن تنعدم الرؤية شاهدت السيارات باتجاه حمّانا إلى مسافة بعيدة خلف الجرافة… كنّا على وشك الخلاص لولا أنّ سيارة جيب تجاوزتنا بسرعة، فجأة توقفنا، وإذا بالجيب المدني ينقلب في عرض الطريق (وصاحبه نجيب من ظهور الشوير). حاولنا مع الشباب إعادته، لكن العاصفة كادت تحملنا ولا قوّة لدينا من شدة البرد، فعدنا إلى السيّارات، وإلى الشوفاج ليخفّف عنّا حدّة البرد. سلّمنا أمرنا لله، لأنّ الثلج، وبسرعة البرق، وخلال دقائق، كان يعلو ويعلو دون توقّف. حاولت فتح الباب عند المساء فلم يفتح، ونصحني عبد الحليم ألَّا أحاول الخروج إلى المجهول لأنّنا لا نعرف أين نحن، وقد ضاعت المعالم بانعدام الرّؤية وسرعة العاصفة وصفيرها، وهذا الملح إنَّه الموت والجحيم في الخارج.

كان الدعاء السبيل الوحيد لي ولعبد الحليم… بعد ما غطى الثلج باب السيارة حتى الزجاج. وبكى العجوز عبد الحليم لمّا أخبرته أنّي قادم لأرى أبي وهو على شفير الموت، وأني طُرِدت من عملي لأجل هذا، وقد توسّطت حتى وجدت مقعداً لي في الطائرة. قال: من اتّكل على الله حق الاتكال فهو حسبه.

كان الثلج يلتصق كالقطن بالزجاج، وكلما أطفأ السائق محرّك السيارة ليوفّر البنزين لأجل الشوفاج كنت أفتحه قليلاً فأسمع الصّفير ولا أحسّ بشيء من الدفء.
فجأة ضرب شيءٌ ما بقوة على الزّجاج. فتحته قليلاً، فإذا الطارق «أخمص كلاشنكوف بيد جندي سوري!». قال وهو يهتزّ من برد وعنف العاصفة: اخرجوا كي لا تموتوا في السيارة. قلت أنا: «إلى أين؟» قال إلى المركز قريب من هنا… هيّا… لا وقت لدينا… ستُطمَرُ السيارات بالثلج قريباً… يلْلَا… وأمرني: افتح الشباك لنسحبك… سحبوني، وبقي عبد الحليم ينتظر الفرج. اقولها للأمانة وللتاريخ، إنّ ركّاباً كُثُر في أكثر من مئة سيارة رفضوا الخروج مع الجيش العربي السوري إلى برِّ الأمان، وخصوصاً ممّن كانوا يصطحبون معهم النساء!

وصلت المركز، وتعرّفت على أشرف إنسان، الضابط رياض من حلب. شكي لي سوء العاصفة وسوء هذا الشّعب اللبناني العنيد. بعد أكثر من ساعة كان الشبح الأبيض يغزو الأرض بسرعة… إلى جانب (الصوبيا) جلس الضابط رياض خلف طاولة يخابر قادته، ومعه جنديّان، لم يلبث أن أمرهما بالخروج إلى السيّارات ليعملا على سحب العالقين من جديد، ولمّا عادا، قالا: «تكاد تتغطى السيارات الصّغيرة… وتختنق الناس». وقف الضابط مستنفَراً، وقال: «خذوا الشباب وجيبوهم بالقوّة…». ولما خرجوا وهو بحالة جنون، وبدا أنّ عنده خبرة بهذا المجال، قال لي: «الحريم الغائبات عن الوعي أنت دلّكهنّ ليوعوا.. ما بسلّمهن للعسكر…». وبدأوا يسحبون العالقين في السيارات، وُضِعت النّساء في الطابق الأرضي والرجال إلى الطابق السفلي، ما عدا السفير الياباني وكان قد فارق الحياة، فقال شوفوه ولكنّه كان قد مات رافضاً المجيء، وجاء سائقه الأرمني مع العسكر…

بعضهم لم يحضروا، سيدة واحدة كانت بوعيها، وأخريات كُنَّ على حافّة الموت بحيث يغفو الشخص المتجلّد ويموت بهدوء… وأحضروا بين من أحضروا رجلاً ميتاً عرفت لاحقاً أنّه من آل شيّا. أمّا النّساءُ فقد كانت الصدمة تعتريهنّ عندما يفِقْنَ… الطفل يصحو بسرعة، ثم المرأة أمّا الشاب الذي أتعبني فكان نجيب صاحب الجَيْب، كذلك أتعبني طفل حتى صَحَت جدّته عرفناه من آل الأعور من بلدة قبَّيْع، والصبايا لم أتعرّف عليهنّ إلّا نايفة الاشتراكيّة من صور… وساعدنا أيضاً والد الطفل، حيث كلّمه الضابط رياض… وفي ليل اليوم التالي أرسلوا الزَّحافة الليبيّة فحملت النّساء، وأنا بعد أن مشيت باتجاه المرَيجات مع اثنين من عناصر الجيش اللبناني… ولحسن الحظ لأني كنت سأنازع الموت على الطريق… لم أتُهْ رغم أنّ المنظر كان واحداً بحيث لا ترى إلّا أمامك ….القِصّة طويلة وأنا اختصر.

لم أعرف مصير الرجال الذين نَجَوْا في المركز، ولمّا قال أحدهم للرّجال: انزلوا، سألته أين نحن قال في المرَيجات. هدأت العاصفة بعد خمسة أيام أمضيتها عند آل المصري. عدت ماشيا مع الناس إلى حمّانا ونقلني إلى رأس المتن جيب لشخص من آل بلّوط فوصلت البيت حاملاً جواز السفر فقط. ولمّا أخبرت الناس أنّني مشيت على سطح الكميونات وأعمدة الهاتف، لا سيما في «المناسف»، لم يصدقوني! وبسرعة انتشرت الأخبار حول ما فعلته العاصفة، وكان ضحاياها نحو المئة… وبعد 23 يوماً عدت لأشكر الجماعة في المرَيجات وكذلك الضابط رياض في ظهر البيدر. كانت الجرافة قد جرفت السيارات على خط واحد إلى الوادي مع الثلوج… وكان فوق سطح البوسطة الكبيرة على الخط الثاني حوالي المتر من الثلوج، ومشينا في خندق بين الثلوج تعلو أكثر من ثلاثة أمتار من كل جانب.

الحمد لله نجونا… وألف شكر للضابط رياض من حلب… إذا وصله شكري وأفراد الجيش من رفاقه… وأهلنا آل المصري في المريجات.

مأثرة الشيخ سعيد هزّاع غانم

كان آل غانم من العائلات التي هجرت لبنان في أعقاب النّصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوطّنت في خربة المشنّف الواقعة على أقصى الكتف الشرقي من مرتفعات جبل حوران المطلة بشموخ إلى الشرق على سهوب بادية الشام المترامية قبالة قممها..
وفي ذات عام من ذلك الزمن الذي يعود إلى نحو مئة سنةٍ ونيِّف؛ كان الشيخ سعيد هزاع غانم وهو أحد أهالي تلك القرية ذات الشتاء القارس البرودة (على ارتفاع 1530 م فوق سطح البحر) يتجوّل في الاراضي الواقعة إلى الغرب من المشنّف، كان همّه جمع ما يمكنه من فروع الأشجار اليابسة والحطب يخزنها للتدفئة في فصل الشتاء.

عند مرور الشيخ هزّاع بجانب رسوم هي بقايا مخيّم ومَراح لبدو مُرتَحلين (موقع كان البدو ينصبون فيه خيامهم ويأوون مواشيهم فيه)، سمع الشيخ الدّرزي أنينًا وبكاءً لأطفال صغار، فأخذته الدّهشة إذ لا أثر ظاهرًا لسكان ما. فتوجّه نحو جهة الصوت، وهو يتلفّت حوله حذرًا، اقترب أكثر، شاهد أطمارًا من قماش رثٍّ ملقًى على ما يبدو أنه أجساد آدمية لأطفال صغار، كان البكاء والأنين الموجع يصدر من تحت الأطمار. ترجّل الرجل عن دابته، واقترب متوجّسًا يتحرّى المكان، رفع الغطاء وإذ بثلاثة أطفال شبه عراة، ولد وابنتان؛ كان ذووهم قد ترحّلوا إلى الحماد الاردنيّة جنوبًا وتركوهم في المراح المهجور.

كان الصغار قد أصيبوا بمرض الجُدَرِي، ومن عادة البدو في تلك الأيّام أن يتركوا المريض الميؤوس من شفائه أكان كبيرًا أم صغيراً في المراح ويهربون بعيدًا خوفًا من العدوى، بعد أن يضعوا لهم ماءً وزادًا، وقد يعهدون بالمريض إذا كان عزيزًا إلى إحدى العجائز لتعنى بأمره ريثما يشفى أو يموت.
كان الصغار بحال متردّية من المرض والهُزال. لم يتريّث الشيخ، بل ترك كلّ ما جمعه من حطب وشيح أرضًا، ولفّ الصّغار بالأطمار، حملهم في عينتي خُرْجْ على الدّابّة وعاد إلى القرية مُسرعًا قبل أن يدركه غروب الشمس في تلك البريّة الموحشة التي قارب أن يدهمها الليل الجبليّ القارس البرد.
وصل الشيخ إلى القرية عند الغروب، ولم يَخْفَ أمره على الجيران القلائل الذين سكنوا القرية حديثًا. لاقته زوجته قائلة: ما هذا، ومن أين أتيت بهم؟، فسرد لها القصة وطلب منها أن تؤمّن للصغار مكانًا مناسبًا في زاوية من الغرفة التي تؤويهم. بحيث لا يكونون على مقربة من ولديهما الصغيرين.
فرشت السيدة للصغار فراشًا مدّدتهم عليه بعدما استعانت بالجيران الذين قدّموا لها ما يلزم من ملابس من حاجات صغارهم لستر عريهم، وأوقدت نارًا لتدفئة الأجساد النّاحلة التي هدّها المرض الوبيل، لكنّ بعض الجيران تخوّفوا من العدوى بعد أن لاحظوا نوع المرض الذي كان يرعب الناس في ذلك الزّمن حيث لا أدوية ناجعة في تلك الفترة.

اصرّ الشيخ سعيد على رعاية الأطفال ومداواتهم ولم يكن هناك من علاج متوفّر سوى النظافة القصوى وغَلْيِ الملابس والقَطِران وزهر الكبريت ورُقى الكتاب الكريم، ولم يلبث الصّغار طويلا حتى رُدَّت العافية إليهم على الرّغم من قلّة الموارد التي كانت تحاصر حياة الناس في بيئة يغلب عليها طابع الحرب وتكاد تكون منقطعة عن الحضارة في ذلك الزمن. مرت أعوام على قصّة الصغار،
وكانوا قد كبروا؛ فالولد بلغ نحو الرابعة عشرة، (كان الشيخ سعيد قد أسماه “زعل”) وحمّله كنية العائلة (زعل غانم) وذلك لشدّة (زعله) من ذويه الذين تركوه والطفلتين فريسة للوحوش والموت لمحتّم لولا أن تداركهم الله برحمته على يده، (اسم “زعل” هو اسم بدوي شائع)، وأعمار البنتين ضحاء وغبون 12 و11 سنة.

مع كرور الأيام تناقلت الرّكبان أخبار قصّة الشيخ سعيد وإنقاذه صغار البدو عبر البوادي، فوصل ذووهم بعد أن علموا بذلك إلى المشنّف. استقبلهم الشيخ سعيد غانم وكانت الديار قد عُمّرَت، والقرية توسّعت، وصارت أكثر أمنا ومنعة، فأنزلهم في مضافته. وبعد مداولة، تمّ التأكّد من وقائع المكان يوم الرحيل عنه ومن علامات العرافة والتحقّق من صلة الصغار بنسب ذويهم، أدرك الشيخ مطلب ضيوفه، فدعا وجهاء أهل القرية ليشهدوا على الفصل في حادثة ندرت مثيلاتها بين بدو وحضر، وبعد مداولة مع أقاربه من آل غانم قال الشيخ سعيد لضيوفه: ” نحن قمنا بواجبنا بما يرضي وجه الله، وما تمليه علينا قيمنا الأخلاقيّة وديننا… بما يخصّ البنتين هما عرضكم، وهما لكم، ومن حقكم ويمكنكم أن تأخذونهما معكم.

أمّا الولد “زعل”، فقد أصبح غُلامًا لديه قدر من الوعي، لذا فله حرّيّة الاختيار، إن أراد الذهاب معكم فبرعاية الله وله الحق بذلك، وإن أراد البقاء بيننا فهو مرحّبٌ به إذ أصبح من أهل البيت”.
وبعد سؤال زعل رأيه في الذهاب مع قومه أو البقاء بين الغوانم قال موجّهًا كلامه الى أهله: ” إنّكم تركتمونا للوحوش في العراء شبه عُراة، أمّا أبي؛ وأشار إلى الشيخ سعيد، فهو الذي أنقذنا وكسانا وأطعمنا وربّانا…”.
بموقفه هذا قرر زعل البقاء بين الأهل في المشنّف، ورضي آل البصيبص ذووه بقراره، ورحلوا حاملين الفتاتين، وبقي زعل في القرية والقليل من ناسها يعرف أنّه زعل البصيبص، بل هو عندهم “زعل غانم”، وعاش عمرًا مديدًا بلغ ستّة وثمانين عامًا، قضاها مع أبناء القرية التي نمت وتوسّعت حتّى أصبحت بلدة ومركز ناحية، وكان مُكَرّمًا كأيّ فرد من أهاليها، وتوفِّي في أوائل سبعينيّات القرن الماضي حيث كان في زيارة لعشيرته.

وعند وفاته ذهب الشيخ المرحوم حسن بن سعيد غانم ابن الشيخ سعيد هزاع غانم إلى عشيرة زعل (البصيبص) برفقة فريق من آل غانم، عزّاهم وشهد بما كان لزعل من صفات ومزايا طيّبة حيث كان مثالًا في حسن المسلك. أمّا ذووه فقد أجابوا بأن صفات زعل ومزاياه هي من زرع آل غانم وطيبهم… وشكروا لهم إنقاذهم للصغار في الماضي، وقد نظم أحد شعراء الجبل هذه القصيدة يصف الحالة كما تخيّلها، يقول:

قــــال الذي بِمْشاهَدِ الحال محــــزونْ

سَعيد بــــنْ هـــزاع المْكنَّـــا بِغانـمْ

بالبرّ رُحنـــا نِقطعِ السّهلْ وحْزونْ(1)

غَــــرْبِ المشنـفْ مَنْبت الشيحْ دايم

أَمْـــــرٍ جرى لَيْعَوّمِ القلب بِغبـُونْ(2)

 لــولا العزيمــة مـا اسْعَفتني القَوايمْ

عَيِّل(3) مْلَـوَّع بالحيــــاة شبه مدفون

 مَـــرمي مــع بنتيـن شبـه الحطايــم

ثـــلاثـةٍ للــرّيـــحْ والـبـــردْ يبـــكـون

 بديـــرةٍ قَـفْرة بـــها الـوحشْ حـــايم

يــــــابُعْد اَهَلْهم يـوم راحوايصرَخون

 فَرْش وغَطا أرض وسما مع سَقايم

وياويل أُمْ وْلادهـــا ما ينـــامـــــــون للطّيــر ويَّا الـــذّيب يغدوا غنـــــايم
حَمّـــــلْتهم بـالحال والدّمــــع مَـهتون  وْضَــمّيتـهم بـالقلـب ضمّ الحمــايـم
واَنـــــا لَحُبِّ الخيـر فاعـــل وممنون

 واَنـا لَــزِيم الحـــق عنـــد اللّزايـــم

 بــــالدار نــحمي كل قاصد ومغبون  نْعَذِّي الدَّخيل اِنْ كان بالـــدَّم عايــم
يـــوم الجمع ما بين طاعن ومطعـون إنْ مـــا حميتي الجـــار كوني هدايم
سَــــــوَّيتهم بَاهْلي وْوِلْـدي والعيـــون بايّام قَشْرَهْ، جُوعْ حَـــربٍ عظايـــم
عاشوا، شفـــاهم ربِّيْ حـــاكم الكــون واْكْسوا خَــوافـي رِيْشْهُـم والقـوايـم
مـــاهمَّني رفــــاقٍ عـليَّ يـــلومــــون رَبّيتـهم مــن خيــر رب الـعــوالـــم
مـــــن بعد مَـــرِّ سنين جونا يطلبـون قُــوْم البْصِيبِـص وِلْــدْهم للتّــــمايـم
اَعطيتهم بنتيـــن وضحا مـــع غْبـون وقلت لْـزَعَل خَلَّك علــى ما يـلايــم
قال زَعلْ والقــــول مــا يقبلْ ظْنــُون ما انتـم هَلِـيْ، أهلي دروز الغوانــم
سعيد غانم والدي يَا اللي تْنبُّـون (4) البْصيبص رماني رمي مثل السوايم
حُبّ الوفا أدعا زعل شبه مَرهــــون

للـــدّار وَاهْل الــدار ســيفٍ يْــقـاوم

وهكذا لم تزل هذه الحادثة أقصوصة خالدة في تراث الجبل الاجتماعي يتداولها الناس في مضافاتهم وبيوتهم …


(1) الحزون: المرتفعات.
(2) الغبون: الخسائر وما يترتب عليها من أحزان.
(3) عَيِّل: الطفل الصغير في لهجة البدو.
(4) تنبُّون: تخاطبون، لهجة بدويّة من نًبّأ، وهي لهجة يتقنها دروز الجبل.

الاقطاع العالمي الجديد ومزاعم الحرية

الاقطاع رقٌ مقنّعٌ يستعبد الناس، فيثورون ضده، فتتحقق لهم انتصارات، يتغنون بها، ويتباهون بها، من جيل إلى جيل، فتدخل إلى مدارس أطفالهم كمجد أورثه الأجداد للأبناء والأحفاد، وعبرة لهم أيضاً كي يثوروا ويكونوا أحراراً.
هذه هي الصورة التي أورثنا إياها عصر العلم والثورة التكنولوجية والرفاهية والترف والكماليات التي لا تعرف حداً عن معنى الثورة على الإقطاع الحرية.

ولكن هل حققت الثورات تلك الحرية للإنسان حقاً؟
هل الإنسان المعاصر اللاهث طوال حياته، مقطّع الأنفاس، حرّ فعلاً؟
وهل هو حرّ الآن ذلك الذي كسر في الماضي قيد الإقطاع؟
بل، هل زال حقاً ذلك الإقطاع المقيت الذي هزمه أباؤنا وأجدادنا؟
وهل نحن، أخيراً، أحرار اليوم أكثر مما كان أباؤنا وأجدادنا؟
باختصار، إن الاقطاع الذي حاربه الانسان في الماضي لا يزال مستمراً، وكلما خسر معركة غيّر من أساليبه، وزاد من قوته، وقسوته، ودهائه، فأعاد استعباد الإنسان الذي ثار عليه من قبل، وسخّره من جديد جندياً يحارب في معسكره ومن دون أن يدري.
الاقطاع القديم الذي كان بسيطاً، محلياً، في القرى والمناطق، يملك الأراضي ويعمل لديه الناس، تحوّا إلى إقطاع عالمي، راسخ، منظّم، بحماية القانون، يأخذ شكل شركات عابرة للقارات واستثمارات مالية كبرى ومصالح دولية وبنوك تفوق ميزانياتها عدة دول فقيرة مجتمعة، وشركات تصنّع السيّارات والطائرات والكومبيوترات والأفلام، فتعلن عن أرباحها الفصلية بالمليارات، فيصفّق الناس لها، وهم الذين يتغنون بمحاربة الاقطاع، ويدافعون عنها، حتى عن حروبها، أولئك الذين يزعمون أنهم أحرار وأنهم ثاروا يوماً على الإقطاع وتخلصوا منه.
هل الناس أحرار حقاً اليوم كما يزعمون، حتى في أرقى البلدان؟
لو ذهبنا إلى ما يسمّى (المول) ونظرنا إلى ما يعرضه من أصناف وأطياف لوجدنا أن ما يتجاوز تسعين بالمئة من المعروضات هي كماليات لا حاجة للناس بها، بينما هم يلهثون للحصول عليها، فيستدينون من البنوك، ويدفعون الفوائد العالية، وكأن الحرية والسعادة والجنة في هذه القشور، التي يمكن الاستغناء عنها بكل بساطة.
أصبح طبيعياً أن نشتري ثياباً جديدة دون أن نحتاج لها، ونبدّل سيارتنا لأجل الحصول على أخرى بها ميزات أكثر أو موديل آخر، وكذلك نبدّل الهاتف والتلفاز وألعاب الأطفال حتى أصبحنا نبدّل شريك حياتنا لأجل التغيير وكسر الملل، ونبدّل وجهنا ومعالمنا التي خلقها الله جلّ وعلا بعمليات جراحية تكلّف الملايينوسخّرنا لها الطب الذي وُجد أساساً لمعالجة المريض، فبتت الشهرة والمال لأطباء التجميل.
وندّعي مع ذلك الحرية والفهم والتطور ونندفع أكثر في ما نحن فيه ونخدم هذا الغول الذي يستهلكنا أكثر فأكثر.
ندّعي أننا نحافظ على البيئة وهذه الكماليات ومصانعها ووسائل نقلها وترويجها تتسبب بتلوث كبير وجهد لا معنى له إلا جمع المال. وهذا الذي أسموه إقتصاداً عالمياً وبورصة واعتمادات بنكية لا هدف أخير لها إلا خدمة شركات عملاقة وبنوك عالمية غدت هي الإقطاع الجديد تسخرنا جنوداً لها وتصوّر لنا عير الضجيج الإعلامي وغسل الأدمغة أن السعادة كلها في منتجاتها، فتسيطر عل عقولنا، وتجعلنا نسير كالقطيع في الاتجاه الذي يريده لنا هذا الاقطاع الجديد نجترّ فيه جهلنا ونتلذذ بطعمه.

وهاكم البنك الدولي، الإقطاعي الأكبر في عالم اليوم، يستعبد ويسترق دزلاً وشعوباً بأكملها تحت إسم المساعدة وحل مشكلاتها، فإذا المساعدات وتبقى المشكلات فتزداد وتتفاقم.
هذا الاقطاع الجديد خاطب غرائزنا وغذّاها، وحطّم عقولنا وأعماها، فسرنا معه على غير هدى، أرقّاء أذلاّء مستعبدين مخدوعين، نظنّ أننا أحرار ونحن عبيد شهواتنا ونزواتنا وغرائزنا ونسينا أننا نفس إنسانية خالدة من نور الله ، وأن هذا الجسد بما فيه من غريزة هو آلة هذه النفس، وجوادها الذي تستخدمه للوصول إلى كمالها، فجمحت بنا هذه الآلة وهذه الغرائز، وأوصلتنا إلى ما نحن فيهمتناسين قول المسيح عليه السلام: من لم تكن نفسه آمرة لجسده فجسده قبرٌ لها.

أما الإقطاع الحقيقي الذي يتحكم بنا والذي مكّن منا الإقطاع الدولي والعالمي فهو ضعفنا تجاه هذه الغرائز المادية وشهواتها التي لا تنتهي لأننا نغذّيها يومياً بالمزيد فيما وعينا نطمسه في كل حين بالإهمال والقطيعة عن الله. ذلك هو ما مكّن هذا الوحش الكبير الذي يسمى المال وهو الإقطاع الإكبر الذي كلما أكثرنا من جمعه كلما أكثر من استعبادنا. فإذا كنّا ثواراً بحق فلتكن الثورة في نفوسنا وعقولنا، فلا تغرننا هذه الحضارة المزيفة ولنبحث لا عن الكماليات التافهة بل عمّا يحرر عقولنا من جهلها، فنستنير بالهداية الحقيقية التي هي خلاصنا.

كميل بوغانم- أبو ظبي

الجريمة الاقتصادية وطابعها العابر للحدود في ظل العولمة والجريمة المعلوماتية

الجريمة الاقتصادية: مفاهيم متعددة وتعريف موحد غائب.
يقصد بالاجرام الاقتصادي والمالي في شكل عام كل وجه للاجرام غير العنفي الذي تكون نتيجته التسبب بخسارة مالية. وهو يغطي ويشمل شريحة واسعة من النشاطات غير القانونية ولا المشروعة بما فيها الغش، التهرب الضريبي وتبييض الاموال.] وهي تشمل الاعمال التالية:
1- الممارسات الاحتيالية القائمة على الغش والتدليس واستغلال الحالة الاقتصادية من قبل الشركات المتعددة الجنسيات.
2- اختلاس الاموال الممنوحة من قبل المنظمات الدولية.
3- جرائم المعلوماتية.
4- المنافسة او المزاحمة غير المشروعة.
5- الجرائم الجمركية.
6- الجرائم الماسة بالعملة والصرف.
7- الجرائم المصرفية والمتصلة بالبورصة.
الطبيعة الجديدة للجريمة الاقتصادية في عصر العولمة:
العولمة ظاهرة متميزة وهي لحظة جديدة في التاريخ البشري. ومن العوامل التي انجبت العولمة، الطفرة في تقنية الاتصالات والمعلومات ووسائل النقل وشبكة الانترنت والتغيرات الجذرية في بنية العلاقات الدولية خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الامر الذي ادى الى تفرد الولايات المتحدة الاميركية بقيادة العالم. هذا بالاضافة الى التركز الشديد لرأس المال في ايدي شركات عملاقة هي الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية، فضلاً عن قيام منظمة التجارة العالمية التي حررت بقواعدها النشاطات الاقتصادية وفتحت الاسواق والغت الحواجز على مستوى العالم. ومن أبرز الجرائم التي انتجتها العولمة جرائم الحساب الآلي الاقتصادية او “جرائم المعلوماتية”.

جرائم الحاسب الآلي الاقتصادية:
يلغ التوسع الكبير باستخدام الكمبيوتر حد أصبحت هذه الادمغة الالكترونية – مع ما تتصل به من اجهزة اتصالات- موجودة في كل المجالات، ويرجح ذلك الى عاملي السرعة والدقة اللذين توفرهما هذه الحاسبات.
لكن سرعة انتشار الكمبيوتر والانترنت واستخدامهما وفر للجناة وسيلة هامة لارتكاب العديد من الجرائم الحديثة التي يطلق عليها تسمية “جرائم المعلوماتية”، وهي تتصل بتقدم المجتمعات، فكلما ازداد اعتماد المجتمع بمؤسساته المختلفة على الحسابات الألية كان ذلك ايذاناً بزيادة معدل هذه الجرائم.
يمكننا الاستنتاج ان جريمة المعلوماتية هي:[كل تلاعب بالحساب الآلي ونظامه من اجل الحصول بطريقة غير مشروعة على مكسب او الحاق الضرر والخسارة بالمجني عليه. وهي النشاط الذي يؤدي فيه نظام الحاسب الآلي دوراً مهماً لإتمامه].
بماذا تتميز الجريمة المعلوماتية عن الجريمة التقليدية؟!
تختلف الجريمة المعلوماتية بصفة عامة عن الجريمة التقليدية بعدة نواح، منها: ارتفاع الفارق بين الحجم الحقيقي للجريمة وما هو مسجل في الاحصائيات، وذلك بسبب عدم تعريفها بالاضافة الى عدم ابلاغ المجني عليه عن الجريمة التي وقعت عليه اما لنقص الخبرة واما حرصه على سمعة مؤسسته المالية.
كما يتمثل الاختلاف بين الجريمة المعلوماتية وتلك التقليدية لناحية الخسائر بحيث تكون نسبتها مرتفعة بصورة كبيرة في الجريمة المعلوماتية بالمقارنة مع غيرها من الجرائم.
اخيراً تتميز الجريمة المعلوماتية بكونها غير عنفية كما تتسم بالسرعة الهائلة التي يتم من خلالها تنفيذها وحجم الاموال والمعلومات المستهدفة والمسافة التي تفصل بين الجاني والمجني عليه.
يرمز إلى المجرم المعلوماتي وفق PARKER، وهو احد اهم الباحثين في الجريمة المعلوماتية، بكلمة SKARM وهي:
(S) وتعني (SKILLS) أي المهارة العالية التي يتطلبها تنفيذ النشاط الاجرامي والتي يكتسبها الجاني عن طريق الدراسة المتخصصة في مجال الكمبيوتر او عن طريق الخبرة المكتسبة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
(K) وتعني (Knowledge) أي المعرفة في التعرف على كافة الظروف التي تحيط بالجريمة المراد تنفيذها وامكانيات نجاحها بحيث يستطيع الجاني ان يكون تصوراً كاملاً لجريمته اذ ان مسرح الجريمة هو الكمبيوتر. فيستطيع ان يطبق جريمته قبل تنفيذها.
(R) وتعني ((Resources أي الوسيلة والامكانيات التي يتزود بها المجرم المعلوماتي لاتمام جريمته.
(A) وتعني (Authority) أي السلطة، والمقصود بها الحقوق والمزايا التي يتمتع بها المجرم المعلوماتي وتتمثل بالشيفرة الخاصة بالدخول الى النظام الذي يحتوي على المعلومات او في الحق باستعمال الكمبيوتر.
(M) وتعني (Motive) أي الباعث وراء ارتكاب الجريمة ونجد ان البواعث الرئيسية لارتكاب جريمة المعلوماتية هي ثلاثة:
– الباعث الاول يتمثل في تحقيق الربح المادي. والمجرم الذي يحركه هذا الدافع ينتمي لطائفة (Career Criminal).
– الباعث الثاني يتمثل في الرغبة في اثبات الخبرة التقنية وينتمي هذا المجرم الى طائفة (Pranksters).
– الباعث الثالث يتمثل في الرغبة بالضرار بانظمة الحسابات الآلية وينتمي الى طائفة (Malicious (Hackers.
وفي النهاية، نجد ان المجتمع الدولي قطع اشواطاً لا يستهان بها من اجل وضع الاتفاقيات الدولية لمكافحة هذه الظاهرة، لكن لا يمكنه التكلم عن تعريف موحد للجرم الاقتصادي ولا عن قضاء دولي في هذا المجال.
لذا على المشترع اللبناني، الى جانب الدور الرائد الذي يلعبه مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية والملكية الفكرية في الحد من هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، الاسراع في التنظيم من خلال اقرار تشريعات خاصة متكاملة من شأنها ان تؤمن للبنان الجهوزية الكاملة للعب دور محوري رائد في محيطه، لا سيما في مجال التسويق لكافة انواع التكنولوجيا وفي مجال التجارة الالكترونية ونقل وتبادل المعلومات عبر الشبكات الدولية.

لينا رعد الحمره – باحثة القانونية

بطاقة هوية

– الضحى تنطلق من بيئة الموحدين الدروز لكن انتماءها والتزامها يقع في الدوحة الأوسع للعروبة والإسلام .

–  الضحى مجلة قضايا وحوار ومبادرات تهم الناس في وعيهم وثقافتهم وعيشهم وليست مجلة للخوض السياسي. فالشأن السياسي له مرجعيته ووسائله المولجة بها.

– نهتم بقضايا مجتمع الموحدين الدروز والجبل لأننا قريبون منها واقدر بالتالي على مواجهتها ولا ننطلق في ذلك من مشاعر الانغلاق الثقافي أو الديني أو الاجتماعي.

– لأن العديد من هذه القضايا ليس خاصا بمنطقة أو بفئة فإن المعالجات قد تحمل ما يمكن البناء عليه من قبل إخواننا في الوطن في مناطق وبيئات مشابهة. أي أن عملنا ينطلق من الخاص ليطال بالفائدة صعيدا أعم وأرحب.

أدب الحرب في وصيتين

الخليفة عمر بن الخطاب

اشتهر عمر بن الخطاب الخليفة الثالث لرسول الله (ص) بصفات القوة في الحق والعدل في الناس، لكن بين إحدى أهم صفات هذا القائد العربي كانت شهامته وتمسكه بأعلى مناقب السلوك في الحرب، وهو الذي كان يؤمن بأن سبيل النصر هو تقوى الله وليس المكائد والخيانة أو الظلم والعدوان كما يحصل اليوم في أكثر حروب البشر وصراعاتهم. في ما يلي وصيتان لـ الخليفة عمر كان يكررهما على اسماع القادة والجند قبل انطلاقهم للجهاد وهما وصيتان زاخرتان بالمعاني التي تكشف سماحة الإسلام وعظمته

وصية عمر لقادة الجند

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على إلقاء هذه الوصية على مسامع قادة الجند عند تسليمهم الأعلام وتأهبهم للفتوحات والجهاد. وتلخّص هذه الوصية البليغة مفهوم الجهاد في الإسلام باعتباره يقوم على تقوى الله وطلب النصر منه عبر اجتناب المعاصي وهنا نص الوصية:
«أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة على الحرب. وآمرك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخْوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعُدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم تجاهدون في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلَّط علينا، فرُب قوم سُلِـط عليهم شرٌّ منهم كما سُلِط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، اسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم.‏

وصية عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح

أوصى عمر بن الخطاب قائده أبا عبيدة بن الجراح لما وجّهه إلى فتح بلاد الشام بما يلي:‏
“بسم الله وعلى عون الله، وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تُمثـِّـلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرِماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حُمّة النهضات، وفي شن الغارات، ولا تَغُلّوا عند الغنائم، ونزِّهوا الجِهاد عن غرض الدنيا، وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم”.‏
أهم ما في هذه الوصية هي تشديد الخليفة عمر على أن يكون الجهاد والسير بالفتح «بسم الله وعلى عون الله»، لأن هذه النية بالذات هي التي تميّز «الجهاد» الحقيقي عن حروب العدوان والتوسّع أو الانتقام أو كسب المجد الدنيوي العابر. كما يؤسس الخليفة عمر لقانون إنساني في الحرب ينسجم مع سماحة الإسلام عندما يوصي قادة جنده بعدم الاعتداء، لأن الله تعالى لا يحب المعتدين كما يوصي بعد ذلك بإظهار الشجاعة عند لقاء العدو ويحذر من المُثلة –أي التمثيل بالجرحى والقتلى- وهو ما نهى عنه الرسول (ص) أيضاً في الحديث الصحيح: «إياكم والمُثلة ولو بكلب عقور».
كما يوصي عمر المسلمين «بألا يسرفوا عند الظهور»، ومعنى هذا ألا يتعدوا حدود التواضع بعد تحقيق النصر، لأن هذا النصر من عند الله من جهة، ولأنه ليس من المصلحة إيغال صدور جند العدو بالتكبر والتعالي والزهو عليهم عند النصر، من جهة ثانية فإن قتل الشيوخ والنساء والأطفال محرم كما يتوجب على المقاتلين أن يبذلوا جهدهم لتجنب إيذاء المدنيين عند اشتداد حدة القتال (إذا التقى الزحفان) أو في حال القيام بالإغارة على معسكرات العدو وتجمعاته.
يوصي عمر جنده بعد ذلك «بألا يغلوا عند الغنائم» أي الاستئثار بجانب من الغنائم وعدم تقديمه إلى القسمة الشرعية ويضيف «وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به». ‏وهو الجهاد المكرس لخدمة الله تعالى ودعوته، والمنزه عن أي هدف من الأهداف الدنيوية وقد اجتمعت الآيات القرآنية والسنة النبوية على فضل وثواب الجهاد في سبيل الله

القواعد الإحدى عشرة للسالكين في طريق الحق

طرق التحقُّق الروحي مبنية على العمل بعدد من القواعد والتمارين الروحية التي بُنيت على اختبار المُرشدين العِظام وتعليمهم وتربيتهم لمريديهم. وقد اشتهر من هذه القواعد التي تأخذ بها بعض الطرق الصوفية ما يعرف بـ «الكلمات الإحدى عشرة»، والتي تلخص بإيجاز بليغ أهم القواعد التي يقتضي على السالك التزامها على طريق المجاهدة واستكشاف الحقائق المستبطنة في ظاهر الوجود وسريانه في الزمان والمكان. وكما سيلاحظ فإنَّ الهدف الأساسي لتلك القواعد هو صرف اهتمام وحواس السالك عن أغراض الدنيا وعن نوازع الهوى، وتوجيه كامل وجوده للعبادة والتقرّب من الله تعالى بالصلاة ومجاهدة النَفس ومداومة الذكر، إلى أن يثمر كل ذلك تطهير القلب من الرذائل ودوام الحضور مع الله تعالى إلى حين تجلِّي نور الحق في القلب وتحقّق الحضور والقرب من المولى وهو قرب يدرك بعين القلب لا بعين الرأس، أي بالبصيرة لا بالبصر.

الكلمات الإحدى عشرة التي تمثِّل قانون سلوك المريد الجاد على صراط الحقِّ، فهي حسب المصطلح الصوفي كالتالي:
اليقظة عند النَفَس – النظر إلى القدم – السفر في الوطن – الخلوة في الجَلوة – الذكر الدائم – العودة من الذكر إلى الذات – حراسة القلب من الغفلات والخواطر، أو الحضور الدائم – حفظ آثار الذكر في القلب – الوقوف الزماني – الوقوف العددي – الوقوف القلبي , وفي ما يلي تفصيلها:

-1 اليقظة عند النفس، أو حفظ الأنفاس

معنى حفظ النَفَس عن الغفلة، أي أن يكون قلب السالك حاضراً مع الله في جميع الأنفاس، فلا تتوزَّع خيالاته على أمور دنيوية. وقال أحد أقطاب التصوّف بهاء الدين نقشبند إنَّ عمل السالك متعلِّق بنفسه، فعليه أن يعلم هل أمر نفسه مع الحضور أو مع الغفلة لكي يبقى في الذكر ولا يتوزّع باله على الماضي أو المستقبل في حال الغفلة. وباختصار تعني هذه الكلمة عند أهل الحقيقة اليقظة والدِقَّة والفكر عند التنفّس، وهو درجة من درجات الترقّي في الطريق، حتى قيل أنَّ السالك إذا أضاع نَفَساً له فكأنه ارتكب ذنباً.

-2 النظر إلى القدم

على الصوفي في حال مشيه في الطريق أن يكون نظره مركَّزاً على موضع قدمه حتى لا يتوزَّع باله وعقله على أنحاء كثيرة، وحتى يكون عقله وفكره مع الله تعالى فلا يغترّ بجمال ومتاع الدنيا، وهذا عمل محمود ولكن الإمام الربَّاني يقول إنَّ معنى النظر على القدم هو كالاستطلاع للسير على القدم لعروج المقامات، وقبل أن يخطو بقدمِه إلى المقام الجديد فعليه أن يتحقَّق فيه ويعرف مكانه، فيخطو إلى المقام الجديد.

-3 السفر في الوطن

وله معنيان: المعنى الأول، هو السفر بالجسد على اعتبار أنَّ السير في الأرض يورث العِبرة في النظر إلى المخلوقات، ويوجِّه أبصار السالك إلى عظمة خالقه. أما المعنى الثاني، فهو البحث عن المُرشد الصالح. إذ أوصى كبار المشايخ بسفر المُريدين للبحث عن مُرشد كامل، وقالوا أيضاً أنَّ السفر في الوطن يُقصد به أخذ السالك لطريق الانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة، وهو سفر من عالم الخلق إلى الحقّ؛ وهو سفر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام أرفع.

-4 الخلوة في الجلوة

ومعناه أنَّ جسده مع الخلق وقلبه مع الخالق. والخلوة نوعان: خلوة مادية، وهي عبارة عن انتقال السالك إلى زاوية معزولة للتعبُّد والتأمُّل، وهذه نافعة للسالك لضبط حواسه وإمكان التركيز على قلبه والانهماك في حال قلبه. ومن المعلوم أنَّه كلَّما استطاع تعطيل الصفات الخارجية من العمل، كلما تزداد الصفات الباطنية نشاطاً وعملاً. وبهذا يقرب من عالم الملكوت. والنوع الثاني، هو خلوة القلب، بحيث لا يغفل عن ذكر ربِّه حتى إذا كان مع الناس ومشغولاً بالكسب والذهاب والإياب، فيبقى قلبه ذاكراً ولا يغفل عن ربِّه، قال تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (النور 37)؛ ويستحسن معظم كبار علماء التصوُّف أن يعود السالك إلى الناس عاملاً بالكسب الحلال بعد أن يستقرَّ ويتقدَّم في سلوكه. وقال الشيخ أبو سعيد الخراز، المتوفى 279 هـ: ليس الكامل من صدر عنه أنواع الكرامات، وإنما الكامل الذي يقعد بين الخلق يبيع ويشتري معهم ويتزوج ويختلط بالناس، ولا يغفل عن الله لحظة واحدة. ويقولون (الصوفي كائن بائن) أي بالظاهر، والجسم كائن مع الخلق والباطن والقلب بائن عنهم.

-5 الذكر الدائم

والذكر بالمعنى العام الذي يشمل ذكر اسم الجلالة والتأمُّل، والصلاة وقراءة القرآن الكريم والدُّعاء هو أساس السلوك الصوفي. والغالب الشائع من معانية هو ذكر اسم الجلالة (الله) والتأمُّل. والذِكرُ قد يكون جهراً وقد يكون سراً جوهره النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله)، وفي الحديث الشريف: «أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلاَّ الله». والمقصود بالذِكر هنا هو مداومة الذكر والتذكُّر، والفائدة في الذِكر القلبي أنه لا يحتاج إلى صوت أو حرف، أي القول باللسان فيستطيع السالك أن يذكر حتى في خِضمِّ العمل. وهذا الذِكر القلبي يتطلَّب المداومة حتى يتحقَّق للذاكر سالك الحضور الدائم مع المذكور، وهو الله سبحانه؟.

-6 العودة من الذكر إلى الذات

 ومعناها رجوع الذاكر من النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله) بعد إطلاق نَفَسه إلى المناجاة بهذه الكلمة الشريفة باللسان أو بالقلب «إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي»، وذلك لطرد كلِّ الخيالات من قلبه حتى يفنى من نظره وجود جميع الخلق.

-7 حراسة القلب من الغفلات أو الحضور الدائم

ومعناه أن يحفظ المُريد قلبه من دخول الخواطر ولو للحظة، فإنَّ خطراً على قلبه شيء حقاً كان أم باطلاً، فعليه أن يوقف ذكره حتى ينتهي من طرد الخواطر، ليبدأ بالذكر من جديد. وهذا التوقّف معناه أنَّ على السالك أن يحافظ على الثمار من البركات التي حصل عليها بمداومة الذِكر، أو على درجة الحضور والمشاهدة التي حصل عليها باستقامته على الذكر، فلا يسمح بتسلُّل الخطرات إلى قلبه. وبهذا فإنَّ على السالك أن يتمرَّن ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً حسب طاقته على حبس ذهنه وفكره القلبي، بحيث لا يخطر في قلبه شيء ولا يبقى في قلبه غير الله سبحانه. لكن ليس المقصود أن لا تمرَّ أيَّةُ خاطر مهما كان في القلب، بل المعنى هو أن لا يستقرَّ ذلك الخاطر فيكون كالأوراق التي تمرّ سريعاً على الماء الجاري ولا تتوقَّف.

-8 المشاهدة

وهي التوجُّه الخاص لمشاهدة أنوار الذات، وتُسمَّى أيضاً عين اليقين والشهود. وقال أحد المشايخ العارفين إنَّ المشاهدة هي حضور القلب مع الله تعالى على الدوام، وفي كل حال من غير تكلف ولا مجاهدة؛ وهذا الحضور في الحقيقة لا يتيسَّر إلاَّ بعد طي مقامات الجذبة وقطع منازل السلوك. وقيل أيضاً أنَّ المشاهدة هي ثمرة عمل السالك، وقد تكون ثمرة الذكر أو المراقبة أو مساعدة المُرشد، ويصلها السالك بعد قطع كل الحواجز.

-9 الوقوف الزماني

وهو المحاسبة القلبية، ومعناه أنه ينبغي على السالك بعد مضي كل ساعتين أو ثلاث أن يلتفت إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث. فإنَّ كانت حالة الحضور مع الله تعالى شكر الله تعالى على هذا التوفيق وإن كانت حالة الغفلة استغفر منها وأناب. وجاء في كتاب “الرشحات” أنَّ بهاء الدين نقشبند قال: «الوقوف الزماني هو أن يكون السالك واعياً لحاله، عارفاً بما هو فيه هل يستحق الشكر عليه، أو يجب عليه الاعتذار فإن كان حسناً شكر الله عليه وإن كان غير ذلك اعتذر. أي أنَّ الوقوف الزماني هو مراقبة الحالين القبض والبسط؛ ويفهم أيضاً أنَّ حالة البسط أساسها اليقظة وحالة القبض أساسها الغفلة.

-10 الوقوف العددي

وهو المحافظة على عدد الِوِتر في النفي والإثبات ثلاثاً أو خمساً (لا إله إلاَّ الله)، ومنهم من يستطيع الذكر 21 مرة بنَفس واحد. فهذه المراقبة العددية تُسمَّى الوقوف العددي. فالسالك واقف متيقِّظ بضبط نفسه على الذكر بالوتر، وهذا الذكر بالقلب وبالباطن وكذلك عدّه بالقلب وبالباطن وليس باللسان. ولهذا الوقوف ثمرة معنوية كبيرة، والحِكمة منه هي معرفة السالك متى وفي أي مرحلة من الذكر تحصل له ثمرته، فإن بلغ في الذكر 21 مرة ولم يشعر بالثمرة المعنوية، فإنَّ علامة واضحة لنقصان شروطه وأنه يراقب العدد ليعرف في ما إذا حصلت له البركة أم لا. فإن لم تحصل البركة من 21 مرّة فعليه أن يبحث عن سرِّ النقص في المجاهدة والعمل.

-11 الوقوف القلبي:

قال الشيخ عبد الله الدهلوي إنَّه عبارة عن تنبُّه السالك لحال قلبه بمراقبته ومحاولة الإطلاع على أنه ذاكر أم لا، أي أنَّ الوقوف القلبي هو حراسة القلب لكي يذكر الله دائماً ولا يغفل عنه، ويكون القصد من الذِكر هو «المذكور» لا الكلمة في حدِّ ذاتها. والوقوف القلبي أفضل من الوقوف الزماني والوقوف العددي، ذلك أنه مع أهمية الوقوفين الزمني والعددي لاستحصال البركات، فإنَّ فقدانهما لا يؤثِّر في السلوك الصوفي، ولكن الوقوف القلبي ضروري لأنَّ السالك الذاكر إن فَقَدَ الوقوف القلبي وأصبح ذكره مجرد حركة اللسان دون الوعي، فإنه لا يحصل على شيء.

تيمور بك جنبلاط ووزير الصحة وائل أبو فاعور

تيمور بك جنبلاط ووزير الصحة وائل أبو فاعور

النائب أكرم شهيب1
النائب أكرم شهيب

«الضّحى» فـي أيـدي الجميــع

مجلة النُّخبة الإجتماعيّة والسياسيّة والشخصيّات والقيادات

للإشتراك ولتأمين وصولها إلى عنوانك، إتصل الآن على الرقم: 81-777612

للنهضة للأرض للمعرفة

اتّصِلوا بنا!

إذا كانت لديكم مساهمة حرة تودّون عرضها للنشر..

إذا كانت لديكم صورٌ أو وثائق تاريخيةٌ تريدون مشاركتِنا بها..

إذا كانت لديكم تعليقات أو آراء أو مقالات مفيدة

إذا كانت لديكم اقتراحات بمواضيع وجيهة ترغبون في تغطيتها..

إذا كان لديكم إبداعات أدبية أو شعريّة

مهما كانت المشاركة التي تودّون المساهمة بها

تواصلوا مع رئيس التحرير
على العنوان التالي:
mail@dhohamagazine.com

كمال جنبلاط

 

 

[su_accordion]

[su_spoiler title=”رئيس التحرير” open=”yes” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

40 سنـــــة حضـــــور

كمال جنبلاظ

قبل 40 سنة سعوا لتغييبه
وهاهو حاضر مهيمن وهم الذين غابوا .
من طبيعة أجساد جميع الآدميين أن تعود إلى التراب
لكن الفكر لا ينزل مع الشهيد إلى التراب.

هو بكل بساطة عصيّ على كل فنون التدمير لأنه لا يسكن مكاناً ولا يُقارب من مكان وليس شيئاً يمكن أن تطاله المكائد والرصاص الجبان، لكنه نور ساطع محفوظ للأجيال في مشكاة العقل الخلاق وذخائر الحضارة وفي تضاعيف الأفئدة والحكايات وفي أعمق طبقات الوعي والهوية وهو شعلة الفخار وهو غذاء البقاء والصمود.
كمال جنبلاط بعد 40 سنة من تغييبه حاضر ويسدّ عليهم الجهات.
بمناسبة مرور 40 سنة على استشهاده تقدم مجلة “الضحى“ لقرائها هذا الملف الخاص ليكون تأكيداً على حضور كمال جنبلاط في الأفكار وفي التحرك وفي الجهاد المستمر من أجل لبنان لا طائفي ديمقراطي لجميع أبنائه، وليكون في الوقت نفسه احتفالاً بأربعين سنة من قيادة وليد جنبلاط الحكيمة والشجاعة للمسيرة الوطنية وكذلك احتفالاً بتقدم تيمور جنبلاط لتسلّم الأمانة الجليلة لمسيرة كمال جنبلاط ومسيرة وليد جنبلاط.

ومـــــا قتلــــوه يقينــــــــــاً

في الصبيحة الباردة للسادس عشر من شهر آذار 1977 أخمدت شعلة كانت ما زالت تعاند الأنواء وترسل بأنوارها الكاشفة فوق بحر الظلمات المتلاطم حولنا في هذه المنطقة التعسة من العالم. كان كمال جنبلاط تلك الشعلة التي تحلقنا حولها جميعاً بحثاً عن الأمل الغارب والصقيع المتسرب إلى أوصال الأمة، وكان هو وسط فوضى النكوص وزحف كائنات الظلام، بمثابة الحصن والملاذ الباقي الذي هرعنا إليه بعزيمة الرجال ليس خوفاً من بشر أو خطر بل تهيؤاً للصمود ولحماية المعلِّم ومشروعه التقدمي الإنساني حتى آخر نفس من أنفاسنا.
كثيرون كانوا يعرفون ما قد كتب، لكننا لم نكن عابئين بكل التحاليل والتنبؤات، فقد كان يكفي أن نجتمع إليه ونتأمل هدوء وجهه النوراني حتى تعترينا طمأنينة عجيبة وشعور يقيني بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ولم نكن لنجتهد من أنفسنا فقد كان هو فكرُنا ومعينُنا ومرآة ذاتِنا، وكنا لذلك لا نرى حاجة لأكثر من أن نجلس في مواجهته في صبيحة كلِّ يومٍ جديد لنستمع مثل الحواريين إلى كل كلمة يقولها ونتابع بأعيننا لغة عينيه وجسده. أما هو فقد كان ينظر إلينا نظرات الحب الطويلة ويتفحص وجوهنا ويصغي إلى أسئلتنا، ثم – وعندما وجد ذلك مناسباً- لم يجد حرجاً في تنبيهنا إلى أن كل انتفاضة على الظلم وكل مشروع تغيير لا يتعدى كونه رهاناً قد يتحقق وقد لا يتحقق، وأن على المجاهد العاقل أن يتقبل النصر كما الخسارة بنفس حالة الرضا، لأنه يعمل بدافع الحب وليس بشهوة الإنتصار وقهر الخصوم.
قليلون كانوا يدركون المعاني البعيدة لهذا التعليم (اغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون) وأكثرنا لم يقرأ فيه تنبيه المعلم لنا بأنه سيكون علينا قبول ما لم نكن مستعدين لقبوله (ولم يكن يدخل حتى في أسوأ تصوراتنا) وهو أن مشروع الإصلاح التاريخي الذي ناضلنا معه لأجله قد لا يكتب له النجاح، وأن المعلم الذي كان قبلة آمالنا في تحقيق ذلك المشروع قد يصبح هو نفسه شهيد تلك الخاتمة الحزينة.
سقط كمال جنبلاط في الموقعة الفاصلة بين الحق المستضعف وبين القوة الغاشمة، وهو سقط وحيداً على منعطف عميق مع رفيقين من أصفيائه وتابعيه الأبرار شهيداً “حسينياً” بكل معنى الكلمة وفي ظروف تجعل ممكناً المقارنة في الكثير من الوجوه بين استشهاد الإمام الحسين (ر) وحيداً ضحية الخذلان وغلبة سلطان القوة وبين سقوط هذا الأمير الرفيع القدر شهيداً مظلوماً في المواجهة مع سلطان غاشم ليس انتصاراً لنفسه بل من أجل إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
وقد كانت معركة كمال جنبلاط مثل معركة الإمام الحسين (ر) انتصاراً لمبدأ العدل وللفقراء والبسطاء المنسيين، وقد خاض الإمام الحسين معركته غير عابئ بالنتيجة أو بالمخاطر غير ملتفتٍ إلى المكاسب التي كان يمكن أن يحصل عليها لو أنه رضخ لأمر كان قد استتب، كذلك رفض كمال جنبلاط منطق المساومة مع ما كان يمكن أن يجلبه له من مكاسب السياسة والزعامة ومجد الدنيا، وقد قدمت له بالفعل إغراءات كثيرة إن هو قبل بقانون السجن الكبير وغض النظر عن أنظمة الأنانية والقهر والإفقار، لكنه أصرّ على التمسك بجانب الحق والعدل والكرامة الإنسانية، ورفض أن يحني الرأس للقوة الغاشمة وقبل بدلاً من ذلك أن يجعل من نفسه مثالاً للأجيال التالية يحبب إليهم الجرأة في الحق وبذل الذات وملاقاة الموت باعتباره خلاصاً وبشارة لا مصيبة.
أما الذين قتلوه، وهم يظنون أنهم يُخمِدون بذلك جذوة فكره ومثاله، فقد أثبتت الأيام أنهم كانوا في ضلال كبير ونحن نسأل: أين هم الآن؟ لقد زالوا واحداً بعد آخر ولن يبقى من أثرهم إلا صفحات سود في السجل الشامل لتاريخ البشر والمدنيات. }ولا يُحيقُ المَكر السيِّئُ إلَّا بأهلِه{ِ (فاطر 43)
أما المعلم، فإن الموت (وهو حقّ الخالق على جميع خلقه) فإنه خلده إلى الأبد في ذاكرة البشرية إرثاً فكرياً وأخلاقياً وسياسياً وغذاء لا ينضب للعقل والقلب والروح.
“وما قتلوه يقيناً” (النساء 157)

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رشيد حسن” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

على العهد باقون
على العهد باقون

كمال جنبلاط: 40 سنة حضور

يوم البيعة والتذكير

إكتسب يوم المختارة في 19 آذار 2017 الماضي، بحشده غير المسبوق منذ ثورة الأرز في العام 2005 صفة حدث وطني كبير من النوع الذي يأخذ مكانه في كتب التاريخ كمحطة مهمة في مسار لبنان وهو حقق ثلاثة أهداف أساسية:
فهو أولاً كان احتفالاً بذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاد المعلم كمال جنبلاط وقد كان إحتفالاً يليق بالزعيم الخالد ومناسبة مشحونة بالعاطفة والإعتزاز في آن بالنسبة الى الوطنيين عموماً وبالنسبة الى أكثر من مئة ألف مواطن ومواطنة تقاطروا بحماس إلى مكان الإحتفال من كل أنحاء لبنان مُتحدِّين المسافات والإزدحام والمشقة. نسبة كبيرة من هؤلاء الذين أحيوا الذكرى بالأمل والفرح لم يكونوا قد ولدوا يوم استشهاده وأكثرهم كانوا يافعين وأحداثاً عندما اختطفته يد الغدر في عزّ عطائه للبنان والعروبة والإنسانية.

بيعة واستمرارية
الحدث الكبير كان – ثانياً- يوم البيعة والولاء لتيمور جنبلاط الذي تسلّم رسميّاً كأس الزعامة المرّ وأمانتها الجسيمة من زعيم تاريخي فاق بحجمه وأثره البعيد الأمد حجم قاعدته الدرزية فهو أحد أبرز القادة الوطنيين الذين عملوا على دحر آثار الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ومعه نظام التمييز والاستئثار، وكان لقيادته ولتضحيات رفاقه في الجيش الشعبي والحزب التقدمي الاشتراكي وصفوف المجاهدين والحلفاء من القوى والأحزاب الوطنية فضل كبير في توفير الظروف لإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني وصولاً إلى اتفاق الطائف، وفضلاً عن دوره المفصلي في الأزمة اللبنانية فإن الدروز مدينون لوليد جنبلاط بقيادته الفذّة والشجاعة لهم وسط الأنواء والأخطار التي شكّلت في وقت معيّن تحدياً كبيراً لوجودهم ذاته. وتمثل مبايعة تيمور جنبلاط تعبيراً عن استمرارية لافتة في قوة وفعالية الزعامة الجنبلاطية على مدى قرنين ونصف قرن من الزمن، وهذه الفعالية التي لم تنقطع في أي من حلقات السلسلة الطويلة مثال نادر يصعب حتى على علم الجينات الحديث تفسيره، لذلك يعزوه الموحدون الدروز إلى كرامة خاصة للطائفة وأوليائها عند خالقهم، كما إنه واقع يُسفِّه بعض المتفلسفين حول “التوريث” إذ لولا استمرار الزعامة في هذه الأسرة الشريفة ودورها الكبير خصوصاً في المنعطفات الخطرة (وتاريخ المنطقة سلسلة لم تنقطع من المنعطفات الخطرة) لكان الوضع مختلفاً بل يصعب حتى مجرد التفكّر بنتائج الإحتمال المعاكس، ولا ننسى التذكير في هذه الذكرى الأربعين لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط بأن الأسرة الجنبلاطية قدّمت معظم كبرائها قرابين شهادة في ذلك الجهاد البطولي الذي لم يفتر في الذود عن وجود الموحدين الدروز وأرضهم وكرامتهم.

وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور
وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور

بالخط العريض
الاحتفال يأتي، ثالثاً ، في ظروف غير عادية بل في سياق أزمة وطنية متمادية ولعب بالمواثيق بل وتحرش طائش وأحقاد ومشاريع فتنة، لذلك يمكن وصف هذه المناسبة الجماهيرية الكبرى أيضاً بـ “يوم التذكير” وقد صمم الإحتفال بالفعل، كما بدا من حجم التعبئة التي سبقته والسيل البشري الذي توافد إليه والتمثيل السياسي الرفيع والرسائل والإشارات التي رافقته، لكي يساعد جميع من يهمهم الأمر على الإستفاقة من الوهم والتنّبه لعواقب ما يدور في المخيّلات الجامحة، فكان الإحتفال بذلك رسالة بالخط العريض مكتوبة بالرجال وبذاكرة التاريخ القريب والبعيد، لكنه كان في الوقت نفسه إخراجاً مشهدياً راقياً ومبدعاً في الشكل والمضمون.
إن لبنان اليوم يعيش فعلياً على دستور معلّق ويغرق في مناورات استنزاف وسطحية تأكل ما تبقى من مرتكزات الإستقرار الهش، وقد أدى الظرف السوري (بدءاً بخروج قوات الردع ثم اندلاع حرب عالمية مصغرة على الأرض السورية) إلى فراغ فتح الباب للعبة لا تضبطها مرجعية، وهناك مناخ في المنطقة يشبه خيال الظل حيث يمكن لكل مشاهد أن يقرأ في الظلال المرتسمة واقعاً افتراضياً لا علاقة له بحقيقة ما يجري، وهو لذلك يعرّض المشاهد المحلل لإحتمالات الخطأ، والمَعنيّ هنا هو الخطأ في الحساب.
تيمور جنبلاط الذي يظهر الكثير من خصائص السياسة الجنبلاطية بصراحتها ونقدها الذاتي وروحها الساخرة وصف في أكثر من مناسبة السياسة اللبنانية بأنها “عصفورية” وهذا وصف مجازي لحالة التخبط واللاعقلانية وصعوبة الحوار وبناء شراكات حول أي شيء يدوم. في العصفورية كثيرون يظنون في أنفسهم القدرة والعبقرية وهم سعداء بما أوتوا ولا يشكلون مشكلة بل ربما كانوا موضوعاً للمرح طالما بقوا في عالمهم الخاص، لكن المصيبة تقع عندما يدخل بعض هؤلاء في التعاطي مع العالم الواقعي، ونحن نسوق هذا المثال كنوع من الوصف المجازي بالطبع.

مشكلة ثقافة سياسية
خلفية مهرجان 19 آذار تتعدى إذاً المناسبة نفسها إلى مستجدات وحوادث وأساليب تعاطي تجعل القائد وليد جنبلاط يقلق على مسار الأمور، وهذا السياسي المحنك الصبور والرابط الجأش لديه الكثير من الخبرة والنصح الثمين الذي يمكن أن يقدمه لساسة هذا الزمن المضطرب، إن هم تواضعوا واستمعوا، لكن مواقف النصح والتهدئة يقرأها البعض ضعفاً، والسياسة العاقلة هي فن الممكن وبناء الشراكة والتسويات، لكن في نظر هذا البعض السياسة هي فن المراوغة أو الأخذ بالتهويل، وهذا التخلّف في التعاطي السياسي يعكس طبيعة القوى نفسها وهي قوى مستحدثة لا تملك خبرة حكم تعدّدي ولم تتربّ في ظل عمليّة تكوّن الوطن بموازينه الدقيقة وثقافة المواثيق وبناء التوافقات. في مكان آخر إلى جانب هذا الكلام يكتب صحافي مخضرم هو الزميل سركيس نعّوم عن هذه العِلّة المتأصِّلة بالقول: “إن المسيحيين لم يفهموا كمال جنبلاط” وهو يقصد من ذلك أنهم لو فهموه لكان لبنان ربّما تمكّن من اجتياز امتحان 1975 بأقل تكلفة ممكنة، ولكان بُنِي على ذلك التفهّم ميثاق جديد للبنان عصري ومنيع للعواصف وللمؤامرات الأجنبية. المسألة الآن، هل سيفهمون وليد جنبلاط أم أن هناك أكثر من مؤلف منهمكون في كتابة سيناريو عبثي جديد؟

جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام
جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام

نهاية الشوط
وجد وليد جنبلاط في الرمزية المتعددة الوجوه لذكرى مرور 40 سنة على اغتيال المعلم الشهيد فرصة استثنائية للتعامل مع مأزق يوشك أن يدخل لبنان أتون محنة جديدة قد تقصر (إن جاءت كلمة السرّ) أو قد تطول، لكن مع فارق كبير هذه المرّة وهو أن لبنان دخل الأزمات السابقة برصيد المناعة الاقتصادية التي توافرت له بسبب ثروته المدّخرة وقوة اقتصاده، كما إنه دخلها في ظروف سورية وعربية ساهمت (وإن بعد عناء) في بلوغ محطة الطائف وإعادة صياغة الميثاق الوطني والنظام السياسي للبلد. وفي كل الأزمات التي تخللت تلك الحقبة الصعبة خصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية واجه لبنان تلك المحن في ظل تضامن عربي ظهر على سبيل المثال في الاستنفار غير المسبوق الذي تبع عدوان 2006 وفي المساعدات السخيّة التي تلقاها في عمليات إعادة البناء ودعم الوضع المالي وفي عمليات الإعمار مع استمرار المواطنين الخليجيين في الاستثمار في لبنان وإحياء موسم الاصطياف وقطاع السياحة.

خطورة العزلة
أما الآن، فإن الوضع مختلف تماماً، إذ إن لبنان استهلك الكثير من مناعته السابقة في توالي الأزمات والنزف وتردّي المالية العامّة وتفاقم الدين العام، وهو يعاني الآن من فقر دم يجعله معرضاً لخطر انهيارات مالية واقتصادية واجتماعية، وهذا الأمر شبه مؤكد في حال نشوب أزمة وطنية أو حصول عدوان إسرائيلي قد لا يوجد من يوقفه هذه المرة. فإن تحققت هذه المخاطر وتهاوت آخر الدفاعات فإن المحذور هو أن لا يجد لبنان الدعم اللازم سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد المالي والاقتصادي، وذلك بسبب فتور مشاعر التضامن العربي، وهناك أربع دول خليجية تمنع مواطنيها الآن من السفر إلى لبنان وهي عموماً لا تنظر إلى لبنان كبلد عربي حليف. أضف إلى ذلك، أن هذه البلدان دخلت بسبب تراجع أسعار النفط مرحلة اقتصاد تقشف وهي تريد الاهتمام بنفسها أولاً وبشعوبها وبمشكلة البطالة لديها.
وليد جنبلاط هو السياسي اللبناني الأبرز الذي يظهر في هذه المرحلة فهماً عميقاً لخطورة استمرار الأزمة السياسية على اقتصاد البلد ومستقبله ومستقبل أجياله المقبلة، وهو يدرك أن الانهيار الذي تمكَّن اللبنانيون من تأجيله أكثر من مرة لن يحصل بالضرورة نتيجة اقتتال اللبنانيين (فهذا مستبعد) بل نتيجة استمرار الشلل والتعطيل وإضاعة الوقت في العبث السياسي غير المسؤول.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رامي الريّس” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أعلام-وحشود-وبوستر----سيبقى-فينا-وينتصر
أعلام-وحشود-وبوستر—-سيبقى-فينا-وينتصر

يست الكتابة عن كمال جنبلاط مهمة سهلة، فهو الفيلسوف والسياسي والمفكر والباحث والشاعر، هو الباحث أبداً عن العدالة الإجتماعية والمناضل في سبيلها وفي سبيل الحرية والديمقراطية والإعتدال، هو المؤمن بعروبة لبنان ووحدته والتصاقه بقضية العرب المركزية، قضية فلسطين، هو المنحاز إلى العمال والفلاحين الذين بسواعدهم سيغيرون هذا العالم.
كمال جنبلاط ناضل في سبيل التحرّر الإقتصادي والإجتماعي “لبناء مجتمع ودولة وحضارة، تنعكس فيها أكثر ما يمكن قيم الإنسان ومقاييس عقله وحقيقة طبيعته البشرية”.
عندما طرح كمال جنبلاط المشروع المرحلي للإصلاح السياسي في آب 1975 إلى جانب كوكبة من المناضلين في الحركة الوطنية اللبنانية، عكس رؤيته لإحداث التغيير السياسي الذي ينطلق من أسس المساواة بين اللبنانيين بعيداً عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. وأن تمرّ كل هذه العقود على البرنامج المرحلي من دون أن يشقّ طريقه إلى التنفيذ، فإن في ذلك مؤشرات في غاية السلبية ودلالات قاطعة على قصور النظام السياسي اللبناني وعدم قدرته على استيلاد آليات التطوير الذاتي والتغيير السلمي الديمقراطي من دون السقوط في دورات من العنف ودورات من الحروب والنزاعات المسلحة.
إن قواعد الإمتيازات الطائفية الموروثة جعلت النظام السياسي في خدمتها وأقفلت كل مجالات التغيير والتطوير والإصلاح الحقيقي، وأفرغت كل البرامج السياسية الإصلاحية من قدرتها على التغيير مما هدّد أسس الديمقراطية اللبنانية، التي رغم هشاشتها ووهنها ومكامن ضعفها، ظلت متنفساً للبنانيين والعرب الذين عانوا من أنظمة القمع والإستبداد والقهر.

القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري
القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري

واليوم، يعود الخطاب الطائفي والمذهبي ليفرض نفسه في مختلف أوجه الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية ويعيد فرز اللبنانيين وفقاً لطوائفهم ومذاهبهم بعيداً عن الإنتماء الوطني وحتى الإنساني. وكما حاول كمال جنبلاط طرح البرنامج المرحلي لتلافي الإنفجار الكبير، وهو ما لم يحصل نتيجة إجهاض البرنامج من أطراف محلية وإقليمية ودولية كما هو معروف؛ فإن ثمة حاجة اليوم لإعادة الإعتبار لما ورد في الدستور تحديداً إلغاء الطائفية السياسية.
إن التحوّل نحو نظام المجلسين، مجلس النواب (المفترض إنتخابه خارج القيد الطائفي) ومجلس الشيوخ (الذي تتمثل فيه الطوائف والعائلات الروحية) من شأنه أن يساعد على الخروج التدريجي من الواقع الطائفي المأزوم الذي يُطوى من خلال التوجّه نحو تفكيك عناصر النظام الطائفي وليس تكريسه كما يطرح من هنا وهناك!
إن تجاوز الصيغة الطائفية والمذهبية المتخلفة للنظام السياسي نحو نظام ديمقراطي عصري قادر على مواجهة التحديات المتنامية من كل حدب وصوب على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بات حاجة ملحة لتلافي الإنهيار الذي تتصاعد المخاوف منه في ضوء التطورات الإقليمية الخطيرة والإنقسام الحاد بين المحاور الذي تشهده المنطقة فضلاً عن استمرار النزاع العربي- الإسرائيلي من دون أي أفق للحل بسبب سياسات الإحتلال الإسرائيلي في التوسع الإستيطاني وقضم الأراضي ورفض حق العودة وإجهاض كل محاولات التسوية السلمية منذ مؤتمر مدريد للسلام (1991) وحتى يومنا هذا.

ولكن، هل سيستطيع لبنان الذي يرتكز النظام السياسي فيه على الطائفية والمذهبية أن يحافظ على إستقراره وسلمه الأهلي في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهل يمكن له أن يشكل نموذجاً في صيغة التعددية والتنوّع والشراكة التي لطالما تميّز بها ولو أنه لم يحسن إدارتها في الكثير من المنعطفات والمحطات؟
إنها تساؤلات مشروعة، لكنها للأسف تبقى من دون إجابة! فلنعد جميعاً إلى كمال جنبلاط!

 

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” سركيس نعوم ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

 سركيس نعوم
سركيس نعوم

شهادة الصحافي والمحلل السياسي سركيس نعوم

كـان صاحــب موقــف وصاحــب رؤيــــــــة وصاحــــــب مشـــــــروع

فتح باباً لإنتقال لبنان من دولة الطوائف إلى دولة مدنية لكن اللبنانيين لم يصغوا إليه والمسيحيين لم يفهموه

قدّم المحلل الصحفي الواسع الاطلاع الأستاذ سركيس نعوم في مقال نشره في صحيفة “النهار” اللبنانية بتاريخ 20 آذار 2017 شهادة منصفة وشاملة في المعلم كمال نقتطف هنا أبرز ما جاء فيها:

أتاح لي العمل الصحافي متابعة أخبار كمال جنبلاط الذي كان يشكِّل وعدداً محدوداً من أقرانه لولب العمل السياسي في لبنان. وأتاح لي أيضاً التعرف عليه وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهلية وغير الأهلية عام 1975، إذ صرت أرابط في منزله أحياناً لمتابعة نشاطاته واجتماعاته ولمحاولة الانفراد بأخبار منه شخصياً، وهنا لا أزعم أنني صرت ملازماً له وموضع ثقته، لكنني أقول وبكل ثقة إنه كان يستلطف هدوئي وتهذيبي وابتعادي عن الاشتراك في التدافع مع الآخرين للحصول على تصريح منه أو خبر! وسمح لي ذلك أكثر من مرة بأن أحظى بلقاء منفرد معه في غرفة قريبة من مطبخ بيته في محلة “فرن الحطب”، حيث كان يرتاح على كرسي طويلة (chaise longue) وكنت أجلس على كرسي بجانبه. كان أحياناً يفكر ويرتاح، وأحياناً يسأل مبدياً رغبته في معرفة مكان ولادتي وعائلتي. طبعاً كنت أسعد بذلك، لكن سعادتي كبرت يوم قال لي: أنت شاب “آدمي” يا سركيس. روح دبّر شي خمسة أو سبعة آلاف ليرة واشتر فيهم أسهماً في شركة سبلين (التي كان يؤسسها حينذاك أو يفكِّر في تأسيسها). ضحكت وقلت له: من أين يا حسرة؟
لم أتمكن من تعميق معرفتي الشخصية به أولاً بسبب الحرب، وثانياً لأن القدر والغدر لم يمهلانه فقضى شهيداً برصاص لم يعتقد يوماً أنه سيُطلق عليه. لكن أقول وبكل صدق ومن متابعتي نشاطه منذ بدايته انه كان مختلفاً عن زعامات لبنانية كثيرة، وكان مميزاً وصاحب موقف وصاحب رؤية وصاحب مشروع، فهو وُلد في عائلة حكمت جبل لبنان أي لبنان الصغير، أو شاركت في حكمه نحو قرنين من الزمن. ودفع ذلك بكثيرين إلى وصفهم بـ “الإقطاعية”. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنه تلقى دروسه في لبنان ثم أنهاها في الخارج، وإلى أنه أصبح من أكثر السياسيين في البلاد ثقافة، وإلى أنه أسس ومنذ بداياته حزباً أراده عابراً للطوائف والمذاهب – وهكذا كان، وأراده عابراً للطبقات وبانياً لجسور في ما بينها، وأراده إصلاحياً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، وأراد بواسطته ومع أحزاب وشخصيات سياسية أخرى بناء دولة مدنية حديثة فيها مواطنون لا رعايا لإقطاعيين وطوائف ومذاهب وعشائر، وفيها الكفاءة والالتزام الوطني هما المعياران الأوّلان لشغل أي موقع أو منصب. أراده مُؤسِّساً مع آخرين لدولة ينتمي مواطنوها إلى وطنهم أولاً، وتسود فيها المساواة بين الناس والحرية للمعتقدات والاحترام لحقوق الإنسان، أراده شريكاً في دولة تحافظ على التنوع الطائفي والمذهبي لشعبها وتعتبره مصدر غنى واعتزاز، وتفتح في الوقت نفسه باباً على مستقبل ينتقل عبره اللبنانيون من دولة حصص طائفية متنوعة إلى دولة أو مزارع مذهبية إلى دولة لا طائفية أو مدنية. وهو لم يتحرَّج من استعمال كلمة علمانية لوصف دولة لبنان المستقبل كما يفعل الكثيرون اليوم خوفاً من اتهامهم بالإلحاد أو بالكفر، بعد تنامي الأصوليات في كل الأديان وفي كل المذاهب.
أحبائي مهما حَكِيت عن كمال جنبلاط لا أفيه حقه، فأنا لست مؤرخاً، لكنني مواطن شعر دائماً بالإعجاب بهذا الزعيم الذي أخذ من إقطاعيَّة عائلته الأصالة والتمسك بالأرض، والذي أخذ من الثقافة الغربية والمسيحية والثقافة العربية والإسلامية ومن الثقافات السياسية والدينية الآسيوية ومن التجربة الشيوعية الاشتراكية الروسية، أخذ منها العناصر التي كوّنت شخصيته وفكره ووعيه وطموحه الى التغيير، وبدلاً من أن يدمّر ذلك شخصيته ويوقعها في التناقض كما يحصل مع الضعفاء وأنصاف المثقفين فإنه صقلها، وجعل مواقفها من كل القضايا منسجمة صغيرة كانت أم كبيرة. فالاهتمام بالفقراء وبالعمال وبالحركة النقابية والتمسك بيسارية تقدمية غير شيوعية تشبه إلى حدّ بعيد اشتراكية دول اسكندنافيا الأوروبية، وإصراره على دولة مدنية علمانية حديثة في لبنان، وتمسكه بإلغاء الطائفية وفي الوقت نفسه بالمحافظة على “أدوار” الطوائف والمذاهب المكِّونة للبنان والعائشة فيه، واعتباره عن حق أن العروبة الحقّة تحمي لبنان أو تساعده على حماية نفسه لا عروبة التسلط والاستبداد، وأن إسرائيل عدو أو شرُّ يجب الانتباه منه، وخوفه من مخططات الدولة الكبرى ومصالحها التي غالباً ما تكون على حساب مصالح الدول والشعوب الصغيرة والفقيرة وأيضاً الغنية والأكبر حجماً، فكل ذلك يؤكد شمولية هذه الشخصية وإحاطتها الواسعة بكل شيء وصفاء صاحبها وقدرته اللامحدودة.
لن أسترسل في هذا الكلام. أودّ أن أقول أمراً واحداً فقط هو أنني كنت دائماً من الذين يلومون الزعامات المسيحية وخصوصاً التي وصلت منها إلى رئاسة الجمهورية والأحزاب المسيحية لأنها لم تبادر بعد تسليم فرنسا دولة لبنان للمسيحيين، وإن مع مشاركة مسلمة، إلى إقامة شراكة وطنية فعلية تضم المسلمين والمسيحيين، وتبني دولة يفتخر مواطنوها بالإنتماء إليها وبالتضحية في سبيلها، وتلغي المخاوف المسيحية من الذوبان في المحيط الإسلامي والغبن المسلم جراء الامتيازات والضمانات المسيحية التي لم تضمن مسيحياً ولم تميّز مسيحياً، ولو حصل ذلك لما كانت كل طائفة سعت ولا تزال تسعى إلى “تحالف” وهمي مع قوة كبرى إقليمية أو دولية من أجل تعزيز موقعها في الداخل وسلطتها على حساب الطوائف الأخرى، ولما كان سيشهد لبنان أول ثورة “بدائية” بعد قليل من الاستقلال عام 1958، ثم أول حرب أهلية ما بين 1975 و1990، بل أول حرب بين قوى إقليمية ودوليّة جنودها ووقودها اللبنانيون.
إنطلاقاً من ذلك، لا بدّ من القول إن الإنصات إلى الشهيد كمال جنبلاط منذ بدئه حياته السياسية كان يمكن أن يجنِّب لبنان الانحدار من نظام الحزبين (كتلويين ودستوريين) اللذين يضمّان مناصرين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق إلى نظام الأحزاب الطائفية، وإن احتفظ بعضها بأسماء وطنية أو عربية أو اجتماعية، وإلى الحرب المسيحية – الإسلامية ما بين 1975– 1990، ثم إلى الحرب السنّية- الشيعية الباردة ما بين 1990 و 2005 التي تحوّلت حامية بعض الشيء بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى أن البرنامج المرحلي “للحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط بمضمونه العملي والدقيق والموضوعي ولاسيما في شِقّ الإصلاح السياسي فيه، كان يمكن أن يجنِّب لبنان الأهوال الماضية والحاضرة والأهوال المستقبلية، ومن يدقق في هذا البرنامج يرى أنه يتقدم حتى على “اتفاق الطائف” في أمور عدة.
ويرى المدقِّق أيضاً أن مثله فتح باباً أمام انتقال لبنان من دولة الطوائف والمذاهب إلى دولة مدنية علمانية أي دولة المواطن.إن وقوع كمال بك جنبلاط ضحية مخططات إقليمية وربما دولية لا يقلِّل من أهميته وحجمه ووعيه المبكر للأخطار التي واجهها لبنان. فضله الدائم أنه حذَّر دائماً وقبل سنوات من الذي حصل، ودعا إلى التسوية الوطنية الشاملة، لكن أحداً لم يصغ إليه والإصغاء كان يجب أن يبدأ قبل 1969 تاريخ أول صدام فلسطيني – لبناني رسمي مسلح، إذ كان الصدام إيذاناً بأن تنفيذ مخطط الاستيلاء على الدولة أو نصفها أو تدميرها قد بدأ.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”طلال سلمان” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

طلال سلمان عن المعلم كمال جنبلاط

قال لي وقد أخذ بحماستي للعـــروبة
يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية!

قال بعد وفاة عبد الناصر : خسرنا بطلاً عربياً عظيماً
لكن لو أن نظامه كان ديمقراطياً لما حصلت النكسة

طلال سلمان
طلال سلمان

كنت يافعاً حين التقيته أول مرة في دار المختارة، فبهرني بداية بتواضعه، سلوكاً ولباساً وصوتاً خفيضاً وابتسامة تلتمع بداية في عينيه قبل أن تضيء وجهه، ثم بقدرته على الجمع في الاهتمام بين بسطاء الناس المحتشدين في القصر ومن حوله الذين شدتهم الشعارات المدوية بوعدها المثير: “وطن حر لشعب سعيد”.. وبين كبار القوم، في الداخل والخارج، من ساسة ومفكرين ودبلوماسيين، يجيئونه للتشاور أو للإستنارة برأيه.
كنا نقطع الطريق إلى قصر الست شمس، متسلقين درج الدار نفسها لنبلغ مدرسة المعارف الإبتدائية الصغيرة تلك التي ألحّ المعلمون المعدودون فيها على تحدي أنفسهم وتحويلها إلى تكميلية، فكافأهم كمال جنبلاط بتقديم القصر ليكون المدرسة.
كنا، نحن الفتية الآتي بعضنا من البعيد إلى مدرستها الرسمية، نعبر متسلقين درج القصر، وقد غطته الشعارات التي لها في قلوبنا رنين: وطن حر شعب سعيد، والعلم الأحمر تتوسطه الكرة الأرضية وقد تقاطع فوقها المعول والقلم.
كان قبو ملحق القصر الذي غدا الآن متحفاً قد تحول إلى “سينما الشعب”، وكانت جريدة “الأنباء” أول طريقنا إلى القراءة السياسية المباشرة، وكانت بالنسبة إليّ أول منبر يتاح لي أن أكتب بتوقيعي، وفي بريد القرّاء، بعض الخواطر الوجدانية التي استولدتها الشعارات والأعلام وموقع القلم عليها، خصوصاً أنني لست على علاقة وطيدة بالمعول.
كنا ننتظره عصر كل خميس وهو قادم من بيروت بسيارته المرسيدس السوداء، ونسمع انه مُنع من قيادتها بنفسه لأن أفكاره قد تشغله عن الطريق.
وكنا نراه في الصباحات المشمسة لأيام الجمعة والسبت أحياناً وهو يضرب أرض الحديقة تحت القصر بمعوله، ووليد الطفل آنذاك يمسك بمعول صغير ويحاول أن يداري الشمس عن عينيه الزرقاوين بكفه اللدنة بينما تطارده مربيته السويسرية بالقبعة.
وكان يأتينا من يهمس في آذاننا أحياناً أن “كمال بك” قد قصد “كوخه” في أعلى المختارة، تحت بطمه مباشرة، ليختلي بكتبه وأوراقه وأفكاره، يقرأ ويفكر ويكتب، فنحرج من رفع أصواتنا، مهابة، بوهم أنها قد تزعجه!
من الصعب أن يتحدث جيلي عن كمال جنبلاط، السياسي والمفكر والكاتب والشاعر أحياناً، بلا عاطفة… حتى بين خصومه كان الإعجاب يخالط الإعتراض، وكان التقدير يحفظ للخصومة كرامتها، ذلك أن كمال جنبلاط كان صريحاً في خصومته أو معارضته السياسية من دون إسفاف، وكان حاداً في رفض ما لا يقتنع به لكنه لم يصل أبداً إلى رفض الآخرين ولم يخطر بباله أن يلجأ إلى غير الكلمة والموقف في حروبه التي نادراً ما هدأت.
في ربيع 1974 وعشية إصدار “السفير” ذهبت إلى كمال جنبلاط في منزله أشرح له تصوري للجريدة الجديدة.
قال لي وقد أخذ بحماستي للعروبة: يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية. شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب فتتكامل مع الديموقراطية. إن الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حكمت غالباً بالقمع فأساءت إلى فكرة العروبة وشوّهتها ونفّرت الناس منها. صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق بإسمها، فنفر منها الناس.
وافقته بطبيعة الحال وذكّرته بتجربة جمال عبد الناصر فقال جنبلاط بشيء من الحسرة:
خسرنا بطلاً عربياً عظيماً، وفي تقديري أن نظامه قد قتله. إن عبد الناصر أرقى من نظامه بكثير، ولكن نظامه كان لسنوات طويلة أقوى منه. لعله لم يتحرر من قيود النظام القمعي إلا بعد النكسة. لو كان نظام عبد الناصر ديموقراطياً لما توفّرت لإسرائيل فرصة ذلك الإنتصار الهائل الذي سيفرض علينا القهر لزمن طويل.
بعد صدور “السفير” إتصلت طالباً موعداً فقال: بل أنا سأجيء لزيارتكم…وجاء كمال جنبلاط فسمعنا منه امتداحاً لاتساع “السفير” للآراء المعارضة لنهجها السياسي. قال: هذه نبرة لبنانية تفيد العرب في تحركهم نحو المستقبل، لا تخافوا ممن يخاصمكم، الضعيف لا يخاصمه أحد.
يمكن القول بإمتياز إن كمال جنبلاط هو شهيد الديموقراطية بإمتياز، كما هو شهيد العروبة بإمتياز، بل إنه شهيد الغلط الذي أوقع التصادم بين شعار العروبة والديموقراطية.
وها نحن بعد أكثر من أربعين عاماً من الغياب نستمر في دفع ضريبة الدم الباهظة، نتيجة الافتراق بين الشعار العربي الذي رفعه الكثير من الأحزاب والحركات السياسية في ظل حدّ أدنى من الديموقراطية كانت تتمتع به في بلدانها ذات الأنظمة المدنية شبه الديموقراطية، وبين الممارسة القمعية التي لجأت إليها حين تسلقت الدبابة إلى السلطة بذريعة حماية العروبة… في حين أن الدبابة التي حمت السلطة قد سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجأة من حلفاء وأصدقاء بل ورفاق في العقيدة، إلى عملاء للإستعمار والإمبريالية والصهيونية.
إن دماء كمال جنبلاط ترسم لنا الطريق إلى الغد: فلا مقاومة للإحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية التي بات لها الآن عنوان ناصع مكتوب بالنجيع العراقي، إلا بإعادة الاعتبار إلى العروبة لتكون حركة بناء الغد…
وإعادة الاعتبار تقضي أول ما تقضي بإنهاء الفصل التعسفي بين الديموقراطية والعروبة.
إن العروبة الآن في المعارضة..معارضة في الشارع لنظم الطغيان، ومعارضة مقاومة للإحتلال الأجنبي، لا فرق بين أن يكون أميركياً أو إسرائيلياً، وليس جديداً الاكتشاف أن الطغيان حليف موضوعي للإحتلال، يمهّد له ويحميه، وأن الاحتلال حليف موضوعي للطغيان يرعاه ويزينه للناس ويحميه.
وبين المزايا النادرة لهذا النظام اللبناني أن بقية من ديموقراطية فيه، بفضل التنوع، قد وفّرت مناخاً صحياً لمقاومة الاحتلال الصهيوني، بالسلاح كما بالعقيدة والصمود الشعبي… وهكذا تضم قوائم الشهداء مجاهدين من حزب الله وحركة أمل كما من الحزب الشيوعي والحزب القومي والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب البعث وتنظيمات أخرى تؤمن بأرضها وبشعبها.
إن كمال جنبلاط يسكن في الديموقراطية وفي العروبة وفي الشعار الذي استذكره بهياً مكتوباً بالأحمر على مدخل “سينما الشعب” في المختارة التي تعرفت فيها وعبر العلم الذي يتقاطع فيه المعول مع القلم، إلى كل لبنان: “وطن حر لشعب سعيد”.
لنواصل المسيرة نحو كمال جنبلاط الذي ينتظرنا في غدنا غد العروبة والديمقراطية والتحرر.

المعلم مع الرئيس عبد الناصر
المعلم مع الرئيس عبد الناصر

الدبابة التي حمت السلطة سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجـأة من رفاق في العقيدة إلى عمـــلاء للإستعمار

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عايدة الجوهري” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class””]

في أن تكون نائباً

الديمقراطية التمثيلية عند كمال جنبلاط

دعا إلى المساواة الطبيعية والجوهرية من دون تمييز
واعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بتساوي البشر أمام الله

سعادة الإنسان وتفتّحه هما الغاية النهائية لكل جهد بشري

كلما تقدّم الزمن تفقد الديمقراطية التمثيلية في الأنظمة العربية معناها، لتتحول إلى خدعة لفظية وبصرية، لم تؤد ما يتوخى منها، ويتكشف فشل هذه الصيغة في التعارض الصارخ بين أداء معظم نواب الأمة في الواقع السياسي الفاسد مع واجباتهم المفترضة أو ما يوزعونه بسخاء من وعود وشعارات عند تقدمهم لنيل أصوات المواطنين. ومن واجبات النائب البديهية وفق تعريف نظامنا التمثيلي العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الناخبين وبمقتضيات الوكالة التي حصل عليها عبر العملية الانتخابية. إن التجربة اللبنانية هي مثال بليغ على تخلف النائب المكلف أو الموكل عن تنفيذ موجبات وكالته، وهذا الفساد في العلاقة بين الناخب والمنتخَب يبلغ أوجه في لبنان بسبب النظام الطائفي والولاءات الشخصية وغياب الأحزاب السياسية الوطنية كما إنه يعود إلى فساد نظام التمثيل نفسه.

هل هناك أمل؟
فما العمل إذاً؟ وهل هناك أمل لبلدنا وغيره من البلدان النامية التي لا تمتلك تجربة سياسية وتاريخاً في النظام التمثيلي؟ هل نرضخ للمثل القائل:”كما تكونوا يولى عليكم” فنحَمِّل بالتالي أنفسنا كمواطنين جزءاً كبيراً من الوزر أو ربما الوزر كله؟ وهل يوجد نظام أفضل؟ ومن سيختاره ويقرّه؟ وهل يكفي النظام القانوني في غياب الوعي المدني وثقافة الشفافية والإفصاح والمساءلة ؟
مثل كثير من الناس شغلني دائماً الزيغ الحاصل في وظيفة النائب والتناقض في أغلب الحالات بين ماهية دوره والتي هي تمثيل مصالح الشعب والعمل للصالح العام، وبين دوره الفعلي على أرض الواقع وآثاره السلبية على المجتمع، وليست غايتنا هنا التعميم بالتأكيد، إذ شهدت الساحة النيابية في لبنان عبر عدة حقب بروز برلمانيين صادقين وقيادات شعبية سعت فعلاً إلى تمثيل المواطن وتوفير التشريع وأسلوب الحكم اللذين يراعيان مصالح الناس ويعبران عن تطلعاتها وتطلعات الأجيال الشابة، لكن وجود الإستثناء لا يلغي صحة القاعدة وظهور مصلحين أفراد لا يلغي الصورة غير المفرحة لطبقة السياسيين المحترفين في أغلبهم، مما يعني أن المشكلة قائمة وطويلة الأمد.
في ضوء هذا الواقع راعني دوماً الإبهام النظري في تعريف دور النائب ومسؤولياته واقتصار التعريف على مسألة التشريع، وتساءلت كيف يمكن لهذا النائب الذي ينتخب على أساس عائلي أو طائفي أو بسلطان المال أو بتدخل الأجنبي أن يقوم حتى بدوره المفترض كمشترع ناهيك بدور المصلح أو “:المنقذ” إلى ما هنالك من الصفات الطنّانة لكن المفتقدة لأي مصداقية في عين المواطن المحبط.

وثيقة تاريخية
خلال بحثي عن بعض أجوبة لهذه الإشكاليات وقعت على كتيّب للمعلم الراحل كمال جنبلاط، وهو كناية عن محاضرة ألقيت يوم 15 آذار 1947 ضمن سلسلة محاضرات الندوة اللبنانية حملت عنوان “رسالتي كنائب”. كان كمال جنبلاط قد انتخب نائباً في البرلمان اللبناني خلفاً لعمه حكمت جنبلاط وعمره لم يكن قد تجاوز الثلاثين عاماً، وقد فوجئت فعلاً بعمق هذا النص وما حمله من تعريفات ومن اقتراحات بشأن دور النائب ومسؤولياته، لذلك ومن أجل تسليط الضوء على ذلك النص القيّم سأورد هنا بعض أهم ما جاء فيه، إذ إنني وجدت في أجوبة كمال جنبلاط السياسي الشاب والمثقف التقدّميّ الذي كان قد تخرج محامياً من جامعة السوربون في باريس ما يساعد على التفكر في الموضوع الشائك للديمقراطية النيابية وأفكاراً جريئة وعملية قد نكون في أمس الحاجة إليها في هذه المرحلة التي نشهد فيها انهيار التقليد البرلماني والحكم المسؤول الذي عرفناه قبل دخول مرحلة التدهور التي دشنتها الحرب الأهلية.

كمال-جنبلاظ1
كمال-جنبلاظ

بين السياسي ..ومحترف السياسة
يبدأ كمال جنبلاط محاضرته في الاتجاه المعاكس، معبراً عن عدم حماسته للموضوع المكلّف بمعالجته، ليس من قبيل الاستخفاف بدور النائب، بل بسبب نفوره ممن يسميهم فئة السياسيين المحترفين أو محترفي السياسة، والكلمة الأخيرة هي ترجمة تقريبية لمصطلح Politique politicienne الفرنسي الذي لا توجد ترجمة عربية له، والذي يمكن أيضاً ترجمته إلى “سياسة سياسوية” والتي تدل في ما تدل على السياسي (رجلاً أو امرأة) الذي يستخدم الجماهير لأغراضه وطموحاته ولا يملك المعرفة ولا الترفع الضروريين لحسن إدارة الشأن العام. ولو قُـيِّض لكمال جنبلاط لكتب على باب الندوة النيابية “لا يقبل محترفو السياسة في هذه الندوة”، مثلما كتب أفلاطون على باب جمهوريته قاصداً الشعراء، فهذه الفئة من محترفي السياسة تستمدّ أساليبها من نفعية مركانتيلية إلى ميكيافلّية خطرة إلى علم ناقص وهو الأشد خطراً، لكن كمال جنبلاط لم يكن ليتشاءم من ديمقراطية ناقصة أو مشوهة حسب ما يعتقد لأن الديمقراطية بطبيعتها نموذج محكوم مثل كل الظواهر بالتطور والإرتقاء بتأثير التعلم من التجارب وحركة التاريخ وجدلية الأضداد مثل الشر والخير، والظلم والحرية، والرأسمالية والعمل، والجهل “والعلم الواعي، والضلال والحقيقة.

مرتكزان أساسيان للديمقراطية
بعد هذه المقدمة ينتقل جنبلاط إلى تعريف مصطلح الديمقراطية ممهداً لتعريف دوره كنائب، فيبدأ بسرد الأخطاء الدموية التي ارتكبت بإسم الديمقراطية أو “حكم الشعب” بدءاً من قادة الثورة الفرنسية وانتهاءً بهتلر وستالين، ليعرض ما يعتقده الأسس الأولية لتجسيد هذا المفهوم ويحصر هذه الأسس بإثنين:
أولاً: حرية الإنسان بالمعنى الفعلي
ثانياً: المساواة الطبيعية والجوهرية بين البشر من دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو ما شابه من التصنيفات، وهو يعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بالمساواة أمام الله، علماً أن المساواة أمام الله لا تقضي بالضرورة بتساوي البشر في الدنيا، ولكن القبول بحتمية وجود الفوارق الاقتصادية بسبب اختلاف الكفاءة والمهارة وغيرهما من العوامل يجب أن لا يغطي الحاجة الأخلاقية لحماية الضعفاء الذين لا يستطيعون مجاراة القوي في المنافسة القاسية التي تحكم أسلوب عمل النظام الرأسمالي.
ويعتبر كمال جنبلاط أن المساواة الجوهرية تجعل الإنسان غاية إزاء أخوانه وإزاء المؤسسات البشرية، والمهنة والدولة والعائلة، لأن الوظيفة الحقيقية لهذه المؤسسات هي خدمة الإنسان بما يتفق وتفتّح شخصيته وتحقيق غاياته الأساسية المادية والمعنوية، متبنياً كنه الفكر الإنساني التنويري الذي يجعل الإنسان وتفتحه وسعادته غاية كل جهد بشري.

“كمال جنبلاط قَبل بحتمية نشوء فوارق اقتصادية لكنه أصرّ على ضرورة حماية الدولة للضعفــاء “

ولا يفوت كمال جنبلاط المثالي الصوفي التوحيدي أن يرهن الديمقراطية بالحب لا الإلزام، إذ لولا هذا الحب الذي يعصف في عقل الفنان والشاعر ورجل العمل والمبدع إلى أي فئة انتسب، لما أمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية. وتركيزه على لزوم المحبة للديمقراطية جعله يعرف فن الحكم كتوفيقٍ وجمع بين “تفهم محب وعمل كريم، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين حالة الحق وحالة الواقع، بين القوة والفعل، وفق مثال يخطه الحاكم لنفسه”.
إلا أن جنبلاط لم يكتف بعامل المحبة في بناء الديمقراطية، فالقانون هو الوجه الآخر لروح المحبة والعدالة، ولروح التفهم العميق لقيم الشخصية والبشرية والمصلحة العامة والحق الطبيعي، وهو الحجر الأساس لترسيخ الديمقراطية وحماية المجتمعات من الاستبداد، لكن سلطة القانون التي تحمي الديمقراطية لن تجدي نفعاً، ما لم يواكب القانون وعي وسلوك عامان، فالحرية “إنما تكون في قلوب النساء والرجال، فإذا ماتت فلا الدستور ولا القانون ولا القضاء يسعه أن يضع شيئاً يذكر لمساعدتها”، أي أنه يراهن على شيوع ثقافة الديمقراطية والحرية أكثر من مراهنته على القوانين الرادعة والناظمة.

ماذا تعني الحرية لكمال جنبلاط؟
لا ينتمي كمال جنبلاط إلى أولئك الذين يقصرون الحرية على حرية التعبير وحرية الفكر والتجمع وحرية السلوك الاجتماعي والاقتصادي، أي الليبرالية بما هي إعلاء لقيم الفردية على حساب الجماعة. فحسب كمال جنبلاط إن الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية التي ينشدها المرء، تفقد معناها إذا اقترنت بفوضى إقتصادية لا تهتم بمصائر البشر، ولا تأخذ بعين الاعتبار مصائر مختلف الشرائح الاجتماعية ولاسيما الضعيفة منها. فإن حصل هذا التجاهل وأصبح كل فرد مهتماً فقط بنفسه وكل جماعة مهتمة بنفسها فإن “الحقوق الطبيعية” التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان مثل الحقّ في الحياة والعمل والكفاية المعيشية والتعليم والتطبيب والراحة والتقاعد تصبح مجرد حقوق نظرية وفارغة من أي معنى، وهو لذلك يتساءل: “وما الفائدة من أن نُقِرّ للمرء حقه في الحياة والعيش عندما يصعب على فئة كبيرة من الشعب أن تعيش؟” و”ما الفائدة من حرية العمل، عندما يتعسر أو يستحيل وجود هذا العمل لملايين من العاطلين عن العمل؟” والقول نفسه يصح في حق الإنسان في الراحة، وحقه في التطبيب، وفي الإعانات العائلية وفي التقاعد وفي السكن وفي التسلية وفي التعليم إلخ….

رؤية سبّاقة
بهذه الطريقة يربط كمال جنبلاط بين الحقوق السياسية من جهة وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ يعتبر هذه الحقوق متلازمة فلا حرية سياسية من دون إكتفاء إقتصادي وفرصة لعمل كريم ورعاية للأسرة وللصحة وفرصة للتعليم ولا معنى للكفاية الاقتصادية أو للعمل إذا كان الثمن الحرمان من الحريات السياسية كما حصل في الأنظمة الشيوعية أو الفاشية الإستبدادية، لذلك فإنه يدعو إلى استيعاب فكرة المساواة الاقتصادية التي تدعم المساواة السياسية أمام القانون، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص في سبيل تنمية مواهب الأفراد وثرواتهم، وهو بذلك يعبّر عن رؤية سبّاقة بكل معنى الكلمة، إذ إن هذه الأفكار التي عبّر عنها في العام 1947 هي التي قامت عليها “شرعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” التي أقرّتها الأمم المتحدة في الستينات كمكمّل لشرعة حقوق الإنسان السياسية والفردية التي ترافقت مع تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

“رسالتي كنائب”
بعد أن يعرّف كمال جنبلاط الديمقراطية، ينتقل إلى تحديد رسالته كنائب منطلقاً من تعريفه السابق للديمقراطية، تلك التي تجمع بين “الحرية” (أي الحريات السياسية) و”الطمأنينة” (أي الأمان الاقتصادي والمعيشي)، ووفق مفهوم خاص لدور النائب، يخرج عن إدعاء مجرد النطق بإسم الجماهير، والإنابة عنها لأنها اختارته، وهو يعرّف دوره كنائب على الشكل التالي:
“إن رسالتي كنائب تشمل في الجوهر تفهم وتفهيم الديمقراطية الصحيحة لمواطنيّ اللبنانيين، هي في أن أعكس لهم في تفكيري وشعوري وفي كتاباتي وفي عملي شيئاً من هذه الروح الإنسانية الخلقية البناءة…. فتجعل منهم جميعاً، أو من أكثريتهم الساحقة على الأقل، مواطنين أكفاء مخلصين لوطنهم، وكتلة واعية فاهمة تقدس الطبيعة الإنسانية”.
ويضيف: “رسالة النائب هي في أن يشع حوله هذا الإكتناه وهذا التكريم للشخصية الإنسانية من حيث هي غاية في حد ذاتها وللحريات العامة التي ترتكز عليها: حرية المناقشة، حرية الاجتماع، حق تكوين الجمعيات، حق العمل وحق العيش، تلك الحريات التي في صيانتها الأساس الوحيد لقيام وبقاء الديمقراطيات”.
وعلى الدولة بالتالي أن تصمم مؤسساتها وقوانينها ونهج الحكم بما يصون الحق الطبيعي في الحياة وفي الحرية وفي السعي وراء السعادة والطمأنينة لا أن تقوم بما يعاكس أو يحبط إمكان التمتع المسؤول بتلك الحقوق.

يوضح هذا العرض مصادر كمال جنبلاط المعرفية في تلك المرحلة المستقاة من الفلسفة الإنسانية Humaniste ومن منطلقات “ديكارت” ومن شرعة حقوق الإنسان ومن أسس الليبرالية الغربية السياسية لا الاقتصادية ومن الأفكار اليسارية الاشتراكية، ومن الروحانيات الشرقية التوحيدية، ومن نظريات برغسون، وفكرة المحبة وارتباطها بالديمقراطية وهو لا يكفّ في رسالته القصيرة هذه عن الاستشهاد بالدستورين الأميركي والانكليزي، وهو يحسم أمره في أن مفاهيم الديمقراطية والحريات العامة والقوانين المطابقة للحق الطبيعي ذات منشأ غربي، مشككاً في الدعوات السلفية، ودعوات الأفغاني ومريديه الذين اعتقدوا بإمكان إحياء مدنية شرقية سياسية مختلفة جوهرياً عن مدنية الغرب، التي هي “مدنية العالم”.

“استهجَن الديمقراطية اللبنانية التي تقوم على تقسيمات جغرافية وفئوية ولا تعير اهتماماً لمؤهلات النائــب الأخلاقية والتزامـه الديمقراطي”

كمال-جنبلاظ
كمال-جنبلاظ

النائب ليس مجرد ناطق بإسم ناخبيه!
ينتقل كمال جنبلاط للتأكيد على أن النائب “ليس محامياً عن مصالح معينة أكانت قومية أم سياسية أم إقليمية، وقبل أن يكون متزعماً لفكرة وممثلاً لصوفية خاصة ولمبدأ ولحزب” فإنّه “باني الديمقراطية ومؤسس الدولة”، مستخفاً بمفهوم “الوكالة” التي تفترض أن يمثل النائب وجهة نظر ناخبيه، أيّاً كانت، وهو الذي شكك في أكثر من مكان بالديمقراطية العددية، وروّج لنظرية النخبة والتفوق العقلي والأخلاقي والثقافي، أي لـ “أرستقراطية عقلية وأخلاقية”، ولكن هذا الطموح المثالي يطرح إشكالية التوفيق بين ضمان قيادة النخبة المتفوقة عقلياً وأخلاقياً ونظام الاقتراع العام حيث لكل شخص وبغض النظر عن مكانته أو تعليمه أو حسن اطلاعه صوت يساوي صوت فرد من النخبة المثقفة أو النخبة السياسية أو الحاكمة مهما كانت مكانته..إلا إذا افترضنا (على سبيل التهكم) أن الجماهير قد توصلت هي الأخرى إلى ثقافة ووعي إستثنائيين؟!.
نستعرض اليوم كيف فهم جنبلاط رسالة النائب، كان من الطبيعي لذلك أن يعرب عن تعجبه أو استهجانه لواقع الديمقراطية اللبنانية التي تحصر التمثيل النيابي في لبنان بتقسيمات جغرافية وتصنيفات فئوية مقنّعة (وإن كان القانون لا يشير إليها صراحة) تحتاج إلى مسّاح Topographe يحصي الكيلومترات، وإحصائي يحصي الأنفار في كل منطقة، مستغرباً أيضاً أن تكون هناك حاجة لاستخدام تعبير “نزاهة الانتخابات” وهي كلها معايير وتصنيفات لا تتصل بوظيفة النائب ولا تعير أي اهتمام لمؤهلاته الأخلاقية والفكرية والتزامه الديمقراطي الفعلي.
كم تبدو الرؤية السبّاقة للنائب الشاب كمال جنبلاط بعيدة اليوم عن واقع التمثيل النيابي في لبنان وواقع دور النائب وقد تدهورت صفة النائب مع الأزمات واندلاع النزاعات الطائفية لتصبح مجردة من أي معنى وبعيدة كل البعد عن التعريف الذي وضعه كمال جنبلاط وتمنّى أن يشهد تطبيقه في الحياة النيابية، مع ذلك، فإن تلك الرؤية التي مرّ عليها الآن سبعون عاماً بالتمام، ما زالت تنبض بالصدق والخيال السياسي للمصلحين الكبار أولئك الذين بذلوا قصارى طاقتهم للإرتقاء بزمنهم وبمجتمعهم والذين حتى عندما لم يتوصلوا إلى تحقيق كل طموحاتهم تركوا على الأقل للأجيال التالية دستوراً وشرعة سلوك واضحة كضوء النهار.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المعلم في صبيحة يومه الأخير يصدح بنشيد «الذات الخالدة»” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

«لست خائفاً من الموت»

حياة كمال جنبلاط المعلم الكامل كانت بصغيرها وكبيرها حياة تجليات لم تتوقف وحياة جِدّة جعلت كل مقالة له وكل موقف إشراقة خاصة وحكمة لا تكرر نفسها إطلاقاً، وقد زخرت حياة كمال جنبلاط بما لا تسعه مجلدات من المواقف والأقوال لكن، قليل منا الذي يدرك أهمية المقال الذي ادخره المعلم لآخر يوم في حياته الحافلة وهو يوم كان متوجهاً فيه إلى ما نسميه نحن الموت والذي أسماه هو بكل بساطة ووضوح في ذلك اليوم بالذات “الخلاص”.
في ذلك اليوم الفاصل، اليوم العظيم، جلس كمال جنبلاط على سريره الخشبي البسيط في المختارة وهو في حال من الغبطة التي يصعب أن توصف. حرص يومها قبل ساعات من موعده الأخير على أن ينشد في حال من السرور والغبطة “نشيد الذات الخالدة” من تأليف فيلسوف التوحيد الهندي الكبير أدي شانكارا الذي يعتبر الشخصية الأبرز في تاريخ الأدفايتا فيدانتا الهندية وهي فلسفة التصوف الهندي الذي نهل منها شعراء العرب والفرس المسلمون وانتقل الكثير من مفاهيمها بل وتعابيرها إلى التصوف الإسلامي وإلى العديد من التيارات الروحية في العالم.
يعود هذا النشيد إلى القرن الثامن الميلادي ويعتبره حكماء الهند من الأناشيد الخالدة لأنه يلخص في ستة أبيات فلسفة التوحيد وخلود الذات الجوهرية في ما يتعدى الجسد وعالم الحواس والمفاهيم والصور. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يصدح المعلم أمام زواره في ذلك الصباح بهذا النشيد قبل ساعات من موعده المرسوم .
فلنتأمل ملياً في هذا النشيد ليس فقط لأنه الرسالة الأخيرة التي حملت تفسير كمال جنبلاط لوهم الجسد وخلود الذات بل لأنه أيضاً من أبلغ الدروس التي تركها لمحبيه وتابعيه والسائرين في طريقه كزاد روحي لا يفنى.

نشيد الذات الخالدة

أنا لست الفكر ولا الذهن ولا الأنا ولا الذاكرة
أنا لست الأذنين ولا الجلد، ولا الأنف ولا العينين
أنا لست الفضاء ولا الأرض ولا النار ولا الريح
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أنا لست النّفّس ولا العناصر الخمس
أنا لست المادة ولا الحجب الخمس للوعي
أنا لست الكلام ولا اليدين ولا القدمين
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس هناك ما أحب أو أكره ولا يأخذني جشع أو انخداع
ليس فيّ ذرة من افتخار أو حسد
لست مقيداً بواجب، ليست لي رغبة بثروة
لست تائقاً لشهوة ولا حتى للخلاص
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً
لا فضيلة هنا أو رذيلة، لا سرور أو ألم
لست في حاجة إلى مانترا أو إلى حج أو كتب مقدسة أو طقوس
لست أنا ما تختبره الحواس ولست أنا الاختبار ذاته
أنا الوعي المطلق بلا شكل، أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس بي خوف من الموت، لا انتماء لي إلى طبقة أو عقيدة
ليس لي أب ولا أم لأنني لم أولدُ أبداً
لست نسيباً لأحد ولا صديقاً ولا معلماً ولا تلميذاً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أصبحت خالياً من كل ثنائية وشكلي لا شكل له
موجود في كل مكان، متخللاً لجميع الحواس
لست متعلقاً ولا حراً ولا أسيراً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

[/su_spoiler]

 

[/su_accordion]

 

الروزانا

“الروزانا” الله يجازيها

الصورة أعلاه مأخوذة في العام 1916 من منطقة البترون اللبنانية إبان الحرب العالمية الأولى وهي صورة نادرة لأنها تؤرخ لحدث تاريخي قام خلاله تجار حلب بتهريب القمح والغذاء إلى سكان جبل لبنان المهددين بالمجاعة.
نجمت المجاعة يومها عن الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء على شواطئ الولايات العثمانية في بلاد الشام فلم يعد يصلها أي مواد غذائية. في الوقت نفسه ومن أجل تخفيف آثار الحصار على جيوشها المشاركة في الحرب وضعت الدولة العثمانية يدها على تجارة السلع والمنتجات الغذائية وسخرت جميع موارد الولايات لتأمين المؤن للجيش العثماني، ثم زادت موجات الجراد مشكلة نقص الغذاء سوءاً فحصلت مجاعة حقيقية تمثّلت بندرة القمح في جبل لبنان واختفاء الخبز وكساد مواسم العنب والتفاح.
ويذكر أن سفينة إيطالية تدعى “روزانا” حاولت كسر هذا الحصار وحملت مادة القمح بهدف إيصالها إلى قرى جبل لبنان إلا أن الباخرة لم تصل إلى الشواطئ اللبنانية بسبب منعها من إكمال رحلتها وتحويلها إلى قوات الحلفاء المتمركزة على الشواطئ الشامية. ومع انتشار الخبر، ورغم القحط الذي كانت تعانيه حلب في تلك الفترة فإن التجار الحلبيين تنادوا إلى نصرة أخوانهم في لبنان وقاموا بتهريب مادة القمح بشكل كبير إليهم وشراء سلعهم من التفاح والعنب قبل كسادها الأمر الذي أنقذ الكثيرين من مجاعة محتملة.
هذه البادرة التاريخية من التضامن تحولت في ما بعد إلى موضوع أغنية (الروزانا) الشعبية التي غنّتها السيدة فيروز والأستاذ صباح فخري والتي تقول في جزء من كلماتها: عالروزانا عالروزانا كل الهنا فيها … شو عملت الروزانا الله يجازيها (بمعنى أنها لم تكمل رحلتها لإغاثة أهل جبل لبنان) يا رايحين عاحلب حبي معاكم راح… يا محمِّلين العنب تحت العنب تفاح” الخ.
(مقتبس بتصرف)

مساهمات حرة